نص السؤال

دعوى تنزيه التوراة والإنجيل عن التحريف والتزييف

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

دعوى تنزيه التوراة والإنجيل عن التحريف والتزييف (*)


مضمون الشبهة: 


يزعم بعض الجاهلين نزاهة التوراة والإنجيل عن التحريف والتزييف، ويتساءلون: إذا كان الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) محرفا، فمتى حرف؟ كيف يكون قبل مجيء محمد - صلى الله عليه وسلم - والله يقول:

(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)

(يونس: 94)

وكيف يكون بعد مجيئه محمد - صلى الله عليه وسلم - والله يقول:

(لا تبديل لكلمات الله)

(يونس: 64)

، ثم أين حدث التحريف؛ هل في أوربا، أم في أفريقيا، أم في آسيا! ثم من الذي أوقع التحريف؛ أهم اليهود، أم النصارى، أم هم جميعا؟ وبأية لغة حرف الكتاب المقدس؟!


وجوه إبطال الشبهة: 


1) اعتراف اليهود والنصارى أنفسهم بتحريف الكتاب المقدس يكفي دليلا على رد هذه النزاهة المدعاة. وقد نص القرآن الكريم على تحريف أهل الكتاب لكتبهم. 
2) إن التفسير الصحيح لآيتي سورة يونس - الذي نصت عليه كتب التفسير قديمها وحديثها - يؤكد زيف التفسيرات التي ذكرها من أثار هذه الشبهة. 
3) إن التساؤلات التي أثارها هؤلاء لا تغير من الحقيقة شيئا، الحقيقة التي تؤكد أن التوارة والإنجيل المتداولين الآن يختلفان عن التوارة والإنجيل السماويين الصحيحين. 


التفصيل: 


أولا. اعتراف اليهود والنصارى أنفسهم بتحريف الكتاب المقدس: 


 ها هم أساتذة المسيحية يعترفون بتحريف الكتاب المقدس، يقول شارل جنيبير - أستاذ المسيحية ورئيس قسم تاريخ الأديان بجامعة باريس - وهو يتحدث عن الصعاب التي تواجه الباحث في تاريخ المسيحية: "وأول الصعاب التي تعترضها، نجدها في النصوص نفسها، التي تمتاز عن سائر النصوص بضعف السند، وبالاضطراب، وعسر التحقيق، وأقدم هذه النصوص وأهمها - لأنها تتناول حياة المسيح، والزمن الأول للعقيدة - هي تلك التي احتواها "العهد الجديد" والتي استلزمت قبل إمكان الاعتماد عليها، تحقيقا نقديا يوشك بعد على الانتهاء" [1].


وحمل د. موريس بوكاي البشر مسئولية المتناقضات التي تضمنتها الأناجيل، وليس الإيمان، فقال: "غير أن وجود هذه الأمور المتناقضة، وتلك التي لا يحتملها التصديق، وتلك الأخرى التي لا تتفق والعلم - لا يبدو لي أنها تستطيع أن تضعف الإيمان بالله، ولا تقع المسئولية فيها إلا على البشر... وأن ما يصدر منا حقا في أيامنا هذه أن نرى المتخصصين في دراسة النصوص، يتجاهلون ذلك التناقض والتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة، أو يكشفون عن بعض نقاط الضعف؛ ليحاولوا بعد ذلك التستر عليها مستعينين في ذلك ببهلوانات جدلية"  [2].


إن الثابت أن الكتاب المقدس كتب بأقلام بشر [3]، وما دعوى أن الرب ألهمهم إياها إلا دعوى لا دليل عليها. يقول موريس بوكاي عن أصل الكتاب المقدس: "كان الكتاب المقدس - قبل أن يكون مجموعة أسفار - تراثا شعبيا، لا سند له إلا الذاكرة" [4].


فكون التوراة والأناجيل المتداولة الآن لم تكن نازلة على موسى وعيسى - عليهما السلام - هذه حقيقة يعرفها علماء اليهود والنصارى، ولكنهم يخفونها عن عوام اليهود والنصارى ليضللوهم. 
لم يسلم الكتاب المقدس من عوامل التحريف والتبديل: 
ما الفائدة المرجوة وراء معرفة الوقت الذي حرف فيه الكتاب المقدس؟ المهم أنه قد حرف، ومن المقطوع به أنه حرف قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الواقع عبر عنه القرآن الكريم فقال فيهم:

(يحرفون الكلم عن مواضعه)

(النساء: 46)،

(ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) (101)

(البقرة)،

وأكد ذلك الباحثون، فقال موريس بوكاي، بعد أن استعرض دراسات أدموند جاكوب للعهد القديم: "بهذا تتضح ضخامة ما أضافه الإنسان إلى العهد القديم، وبهذا أيضا يتبين للقارئ التحولات التي أصابت نص العهد القديم الأول، من نقل إلى نقل آخر، ومن ترجمة إلى ترجمة أخرى، بكل ما ينجم حتما عن ذلك من تصحيحات جاءت على أكثر من ألفي عام [5].


ثانيا. التفسير الصحيح لآيتي سورة يونس: 


وأما عن استدلالهم

بقوله سبحانه وتعالى:

(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)

(يونس: 94)

، فلا تقوم الآية لهم دليلا على استدلالهم، وليس فيها اعتراف من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بصحة الكتاب المقدس، كما يزعمون؛ وذلك لأن الآية تحتكم إلى أهل الكتاب في ثبوت وحي نزل من عند الله جملة؛ نظرا لأنهم يؤمنون بوحي من الله إلى رسله، فالله يقول لنبيه: إن كنت في شك من الوحي الموحى إليك به من عند الله، فاسأل من يعرف ذلك من أهل الكتاب. 


و "إن" في الآية أداة من أدوات الشرط تفيد الشك، أي أن الشك لم يقع في قلب النبي صلى الله عليه وسلم،

كما أن قوله سبحانه وتعالى: (لا تبديل لكلمات الله)

(يونس: ٦٤)

ليس دليلا على حفظ الكتاب المقدس من التحريف كما يزعمون، بل ليس دليلا على حفظ القرآن الكريم أيضا، وإنما جاءت الآية في سياق الحديث عن المؤمنين المتقين الذين وعدهم الله تعالى بأن لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة في

قول تعالى:

(لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64))

(يونس).

يقول القرطبي:

(لا تبديل لكلمات الله)

، أي: لا خلف لوعده. وقيل: لا تبديل لأخباره، أي: لا ينسخها بشيء، ولا تكون إلا كما قال [6].


ثالثا. تساؤلات لا تغير من الحقيقة شيئا: 


لقد أثار هؤلاء تساؤلات لا تغير شيئا من الحقيقة التي تؤكد الاختلاف بين التوارة والإنجيل السماويين الصحيحيين، والتوارة والإنجيل المتداولين في العصر الحديث. 
أما عن مكان التحريف، فهذا أمر لا يعنينا ولا يفيدنا لا من قريب ولا من بعيد، وهم أعرف الناس بمواضع التحريف، وبأماكن وقوعه، وأهدافه والغاية منه، ومن أراد أن يتتبع أطوار كتابة العهد القديم والعهد الجديد، فليرجع إلى كتاب موريس بوكاي "دراسة الكتب المقدسة"، صـ23 وما بعدها، وص 65 وما بعدها. 


وأما عمن فعل التحريف؛ أهم اليهود، أم النصارى، أم هم جميعا تعاونوا على ذلك؟ فإنا نقول: إن اليهود لا يعترفون بالأناجيل، ولا العهد الجديد بكامله، حتى يقتربوا منه بتحريف أو غيره، وكذلك لا يعترفون بالعهد القديم على صورته عند النصارى، وتحريفهم للتوراة - بل كتابتهم لها بالكامل - بعد موت موسى بعدة قرون أمر لا جدال فيه. 


وأما النصارى فقد حرفوا الكتاب المقدس بعهديه، ويكفي دليلا على ذلك أن من نسبت إليهم الأناجيل غير موثوق بالنسبة إليهم، وأن النسخة الأصلية لكل إنجيل غير معروفة، فأين هي؟ ومن الذي قام بترجمتها؟ وكيف تحفظ، مع استحالة نقل جملة واحدة من لغة إلى لغة أخرى حرفيا، بل لا بد من إحداث تغيير؟ ومعرفة اللغة التي تم بها التحريف أمر غير ذي بال، وهذا سؤال يجب أن يسألوه لأنفسهم ولا يسألونا عنه، فهم أعرف بذلك منا، ويكفي أن نعرف أن توالي الترجمات، وكثرة النقل من لغة إلى لغة كفيل بأن يبعد الكتاب المقدس المنقول عن لغته الأصلية، ويحدث به التبديل والتغيير، وكل ذلك بعض عوامل التحريف والتبديل. 


الخلاصة: 


•   إن تحريف الكتاب المقدس - بعهديه - أمر لا جدال فيه، وذلك باعتراف اليهود والنصارى أنفسهم، فضلا عن الأدلة الواضحة في كتبهم الموجودة بين أيديهم الآن. 
•   لا يحمل

قوله عز وجل:

(فإن كنت في شك مما أنزلنا)

(يونس: 94)،

وقوله عز وجل:

(لا تبديل لكلمات الله)

(يونس: 64)

دليلا على صحة الكتاب المقدس؛ فالآية الأولى جاءت في إثبات النبوة أو إمكانية حدوثها، والثانية جاءت في سياق الكلام عن تحقيق الله لوعده على كل حال. 
•   التواتر التاريخي على تحريف الكتاب المقدس يقطع بتحريفه، وتضافر الأدلة على ذلك التحريف لا يترك فرصة للدفاع عن الكتاب المقدس، وإن جاء في القرآن ما يمدح التوراة والإنجيل، فإن المقصود بالتوراة في هذا السياق التوارة التي نزلت على موسى - عليه السلام - من عند الله، وليست التوراة التي كتبها اليهود، وكذلك المقصود بالإنجيل، هو الذي أوحى به الله إلى عيسى - عليه السلام - وليس الإنجيل الذي كتبه الباباوات. 

المراجع

  1. (*) قناة الحياة، زكريا بطرس. [1]. المسيحية: نشأتها وتطورها، شارل جنيبير، ترجمة: د. عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، ط4، 1998م، ص17. 
  2.  [2]. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دائرة المعارف الأمريكية، ص13. 
  3.  [3]. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دائرة المعارف الأمريكية، ص17.
  4.  [4]. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دائرة المعارف الأمريكية، ص20. 
  5.  [5]. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دائرة المعارف الأمريكية، ص19.
  6.  [6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج8، ص359.