نص السؤال
ادعاء أن بنوة المسيح - عليه السلام - لله - سبحانه وتعالى - لا تنافي التوحيد
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
ادعاء أن بنوة المسيح - عليه السلام - لله - سبحانه وتعالى - لا تنافي التوحيد (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن بنوة عيسى لله - سبحانه وتعالى - ليست بنوة جسدية تناسلية، وإنما هي بنوة روحية كبنوة الفكر للعقل، والأبوة عندهم لها معان عدة؛ فهي قد تكون مجازية كقولك "أبوالخير"، وقد تكون شرعية كـ "التبني" في زعمهم، وقد تكون جوهرية كـ "تولد النور من النار"، وقد تكون روحانية كـ "بنوة عيسى من الله"؛ ولذلك فإن بنوة المسيح لا تنافي التوحيد في زعمهم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لو كانت بنوة عيسى - عليه السلام - لله - عز وجل - بنوة روحانية - كما يزعمون - لكان من الأولى أن تكون هذه البنوة لآدم - عليه السلام - فهو أول من خلقه الله من البشر، ونفخ فيه من روحه.
2) محاولة تفسير البنوة بأنها بنوة روحية محاولة باطلة؛ لأن عيسى - عليه السلام - مثل سائر الخلق في ذلك، هذا فضلا عن أن نسبة الولد لله - عز وجل - إنقاص من كمال عظمته.
3) إقرار عيسى - عليه السلام - ببشريته في الكتاب المقدس وبكونه عبدا لله تأكيد منه على أن ادعاء البنوة لله ينافي التوحيد، فضلا عن أنها ذريعة للإشراك بالله.
التفصيل:
أولا. إذا كانت بنوة عيسى - عليه السلام - لله - عز وجل - بنوة روحانية - كما يزعمون - لكان من الأولى أن تكون هذه البنوة لآدم - عليه السلام - فهو أول من خلق الله من البشر، ونفخ فيه من روحه:
لماذا لم يدع المدعون البنوة الروحانية هذه لآدم - عليه السلام - فمعجزة خلقه أعظم في النفوس البشرية من معجزة عيسى - عليه السلام - فقد خلق الله آدم من غير أب ولا أم، ثم نفخ فيه من روحه:
(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)
(الحجر:29)
وأما المسيح عيسى - عليه السلام - فقد خلقه الله من أم بلا أب، فأي المعجزتين أكبر؟! آدم الذي خلق من غير أب ولا أم، أم المسيح الذي خلق من أم بلا أب؟!
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)
(آل عمران:59)
ثم إن البشر جميعا نفخت فيهم الروح،
وجاء في الحديث الصحيح:
«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة»[1].
إذن.. فكل إنسان لا بد أن يوكل به ملك فينفخ فيه الروح:
(فتبارك الله أحسن الخالقين)
(المؤمنون: 14)
(الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8) ثم سواه ونفخ فيه من روحه)
(السجدة)
ومريم وكل بها ملك نفخ فيها روح عيسى - عليه السلام - فجعله الله خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد اعترف النصارى أنفسهم ببشرية المسيح - عليه السلام - وعدم تميزه في الطبيعة عن غيره من البشر، فهذا النجاشي - وكان نصرانيا آنذاك - لما سأل جعفر بن أبي طالب قائلا: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قال له جعفر: هو عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ورحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشي بيده في الأرض فأخذ عودا، ثم قال: والله، ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود. فهذا ملك من ملوك النصارى، يعترف ببشرية المسيح، وصدق القرآن فيما أتى به عن عيسى عليه السلام.
ومن الجدير بالذكر أن الكتاب المقدس ذكر أن أبا عيسى هو يوسف النجار، ومن ذلك: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة". (يوحنا 1: 45). "ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعي المسيح". (متى 1: 55). "وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه، ويقولون: أليس هذا ابن يوسف"؟ (لوقا: 4: 22).
ثانيا. محاولة تفسير البنوة بأنها بنوة روحية محاولة باطلة؛ لأن عيسى - عليه السلام - مثل سائر الخلق في ذلك:
الأبوة الروحية إن قصد بها نفخ الروح، فالبشر جميعا منفوخ فيهم الروح، فلا فرق في ذلك بين سائر البشر وبين المسيح - عليه السلام - وإن قصد بها أنه مخلوق من أم بلا أب بشري، فإن آدم - عليه السلام - مخلوق من غير أب ولا أم، فأيهما أولى بالأبوة لو صحت؟!
وإن قصدتم بالأبوة الروحية أبوة الشيخ لمريديه، فهي أبوة روحية؛ لأنه يربي أرواحهم، وهم يتأثرون به في أخلاقهم، وصفاتهم المعنوية، لا أنهم يستمدون منه أسباب الحياة الجسدية، فلم يخرجوا من صلبه، ولكنهم نتاج عقله وتهذيبه، وتأثيره الروحي، إن قصد ذلك، فليس عيسى وحده ابنا روحيا لله - عز وجل - بل كل المؤمنين الذين تهذبهم وتربيهم تعاليم الإله الواحد أبناء روحانيون لله - عز وجل - بهذا المعنى.
لكن وصف النصارى للأبوة بأنها أبوة روحية، يتعارض مع عقيدتهم في التجسيد، فإنهم يقولون: إن الكلمة تجسدت فصارت إلها، وابنا لله، فكيف تكون روحية، وهي متجسدة وصارت جسد إنسان؟
إن عقيدتهم في يسوع - بإقرارهم - تقضي بأن المسيح - عليه السلام - يجب أن يكون إما مجنونا، أو سيئا، أو إلها[2]، وتعالى الله أن يكون العبد المخلوق إلها.
والأب والابن من الأمور المتلازمة، فإذا وجد أب، وجد ابن، وإذا وجد ابن وجد أب، فلا وجود لأحدهما بدون الآخر، وذلك في غير آدم، وحواء، وعيسى. والبنوة نتاج زوجين متزوجين شرعا، أو بطريقة مشروعة، أقرها الشرع وباركها، وقامت على شروط الشرع.
وأما البنوة بالتبني - كما زعموا - كبنوة زيد بن حارثة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك عرف كان سائدا، وهو عرف فاسد باطل، وليس شريعة متبعة، وما عدا الأبوة الحقيقية التي ذكرناها - الأبوة الشرعية الناتجة عن زواج مشروع - فأبوة وبنوة مجازية، ومن ذلك قولنا: النور ابن النار، أو أبو الخير.
ثالثا. إقرار عيسى - عليه السلام - ببشريته في الكتاب المقدس، وبكونه عبدا لله:
يشير د. عبد المنعم فؤاد إلى أن الكتاب المقدس جاء فيه ما يقرر بشرية المسيح على لسان المسيح نفسه، وأنه ليس إلا عبدا لله، أرسله برسالته ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولكن القوم ضلوا، فعبدوه من دون الله، والمسيح منهم براء، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا.
(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب)
(المائدة:116)
وجاء في سفر أعمال الرسل قول بطرس عن المسيح: "أيها الرجال الإسرائيليون، اسمعوا هذه الأقوال، يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم، كما أنتم أيضا تعلمون". (أعمال الرسل 2: 22)، فلم يقل بطرس: إن المسيح إله، ولا ابن إله، وإنما قال: هو رجل أجرى الله على يده معجزات، وكذلك قال بطرس في السفر نفسه: "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيرا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن الله كان معه". (أعمال الرسل 10: 38)، فقال: إن الله كان معه، كما أن الله مع جميع المرسلين، ولم يقل: إنه إله ولا ابن إله"، وكل هذا يبين لنا أن المسيح - عليه السلام - إنسان بشر، وأنه رسول الله، وأنه ليس إلا نبيا من أنبياء بني إسرائيل.
والمسيح دعا إلى التوحيد الخالص لله رب العالمين، فقد جاء في إنجيل لوقا أنه سأله رئيس المجمع قائلا: "أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله". (لوقا 18: 18، 19).
لقد كان المسيح حريصا على نفي صفة الصلاح عن نفسه، وردها إلى الله وحده، فكيف يقال بعد ذلك: إن المسيح إله، أو ابن إله، ولما جاء رجل من الكتبة، وسمعهم يتحاورون رأى حسن إجابة يسوع، فسأله: "أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد". (مرقس 12: 28، 29)، فلم يدع أنه إله يعبد، ولكن موقفه أمام الله كموقف كل أنبياء بني إسرائيل.
هذه هي اعترافات السيد المسيح - عليه السلام - من كتبهم، فهل بعد ذلك يثبتون للمسيح الألوهية، أو الربوبية أو حتى البنوة؟
(قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)
(الإخلاص)[3].
الخلاصة:
· إنه لو كان أحد يستحق البنوة الروحانية من الله - عز وجل - لكان أحق الناس بذلك آدم - عليه السلام - إذ إنه أول من خلق من البشر، وأول من نفخ فيه الروح من الله عز وجل.
· مثل عيسى - عليه السلام - في البنوة الروحية التي يزعمونها كمثل سائر البشر في ذلك، ولم يتميز عن أحد في ذلك؛ فالطبيعة البشرية طبيعة واحدة.
· أقر عيسى - عليه السلام - ببشريته، وذلك بإخبار الكتاب المقدس، وإقرار المسيح على نفسه من كتبهم، وهذا صريح في كتاب الله سبحانه وتعالى: )وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116)( (المائدة).
المراجع
- (*) مناظرة بين الإسلام والنصرانية لمناقشة العقيدة الدينية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، دار الحديث، القاهرة، ط2، 1412هـ.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: ) وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ( (البقرة: ٣٠) (3154)، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه (6893).
- يعترف موريس وايلز ـ أستاذ الإلهيات، والكتاب المقدس في كلية المسيح، بأكسفورد ـ بأن القساوسة كانوا يعلمونه هذه العبارة في وصف التثبيت للخدمة الكهنوتية انظر: أسطورة تجسد الإله في السيد المسيح، جون هك، ترجمة: نبيل صبحي، دار القلم، الكويت، 1988م، ص31.
- المسيحية بين التوحيد والتثليث وموقف الإسلام منها، د. عبد المنعم فؤاد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1422هـ/ 2002م، ص86 وما بعدها.