نص السؤال
المصدر: شبهات المشككين في الإسلام
الجواب التفصيلي
دعوى اضطراب القرآن في مسألة نبذ يونس - عليه السلام - بالعراء(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين وجود خلل واضطراب في حديث القرآن عن نبذ[1]يونس - عليه السلام - بالعراء[2]، وعدم وجود هذا الاضطراب في نصوص التوراة، مستدلين على ذلك بإقرار القرآن نبذه في
قوله سبحانه وتعالـى:
(فنبذنـاه بالعـراء وهـو سقيـم)
(الصافات:145) [3]
وعدم نبذه في
قوله سبحانه وتعالى:
(لـولا أن تداركـه نعمـة من ربـه لنبـذ بالعـراء وهو مذموم)
(القلم:49)
وهم بهذا الادعاء يشككون في صدق القرآن الكريم في إخباره عن يونس عليه السلام.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم ينكر القرآن الكريم نبذ يونس - عليه السلام - بالعراء سقيما، إنما أنكر نبذه بالعراء مذموما؛ وعليه فلا تعارض بين ما أثبته القرآن وما نفاه.
2) ذكر القرآن هذه القضية في إيجاز محكم، بعكس ما ورد في التوراة من اضطراب في سرد تفاصيل القصة؛ مما يجعلها أقرب ما تكون إلى كتب التاريخ والقصص.
التفصيل:
أولا. ليس في القرآن الكريم اضطراب لا في قصة ذي النون - عليه السلام - ولا في غيرها:
الذي أثبتته آية الصافات أن يونس - عليه السلام - نبذ بالعراء وهو في حالة من السقم والإعياء، بسبب مكثه في بطن الحوت فترة من الزمن. والذي تذكره سورة القلم: أن الله تداركه بنعمة من عنده، ولولا ذلك لنبذ مذموما؛ فالحكم ليس واقعا على النبذ، ولكنه يقع على نبذه مذموما. إن الله - عز وجل - لم يذمه؛ فينبذه مذموما، بل نبذه معافى كريما، وتلقته عناية الله، كما
قال تعالى:
(وأنبتنا عليه شجرة من يقطين)
(الصافات:146) [4]
. والحكم المنطقي يقع على الجملة بكامل توابعها كما لو تم تضمين صفة مع موصوفها، أو معطوف مع معطوف عليه، وهنا لحق بجملة نبذناه الأولى، ونبذ الثانية جملة حالية، فتدخل كل منهما في الحكم.
يقول الزمخشري في تفسير آية القلم: )لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49)( (القلم): وقد اعتمد في جواب لولا على الحال؛ أعني قوله: "وهو مذموم" يعني أن حاله كانت على خلاف الذم حين نبذ بالعراء، ولولا توبته لكان حاله على الذم، ولذا قـال تعالى بعدهمـا: (فاجتبـاه ربـه فجعلـه مـن الصالحيـن (50)( (القلم) [5].
وإذا عرضنا تفسير الآيتين نعرف أنه لا تعارض، ففي الآية الأولى يقول الله تعالى: )فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145)( (الصافات)، روي أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وقال ابن قسيط عن أبي هريرة رضي الله عنه: طرح يونس بالعراء وأنبت الله عليه يقطين، وفي الآية من سورة القلم
يقول الله تعالى:
(لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم)
(القلم:49)
ولولا رحمة الله - عز وجل - لنبذ بالعراء وهو مذموم.
وورد في تفسيـر الطبـري في تفسيـر قولـه تعالـى: )وهو مذموم (49)( (القلم) في موضع الحال من مرفوع نبذ وعليها يعتمد جواب لولا؛ لأن المقصود امتناع نبذه مذموما، وإلا فقد وقع النبذ عليه سقيما؛ فدل على أن حاله كانت على خلاف الذم.
ثانيا. ذكر القرآن هذه القضية في إيجاز محكم بعكس ما ورد في التوراة من اضطراب في سرد تفاصيل القصة؛ مما يجعلها أقرب ما تكون إلى كتب التاريخ والقصص:
إن القصة القرآنية إعجاز رائع من ناحية الجودة والأهمية، وهي وسيلة هامة ومؤثرة من الوسائل القرآنية الكثيرة التي تحقق الأغراض الدينية وتبرز الأصول والرواسخ في العقيدة الإسلامية والتي احتواها القرآن الكريم؛ بحكم كونه الدستور الخالد الذي ينظم حركة الحياة للإنسان في الدنيا والآخرة.
والقرآن الكريم كتاب دعوة إلى الله، وإلى الوحدانية، وإلى الحق.. في المقام الأول، ولما كان هز الوجدان وإثارة العاطفة وربطها بالشعور الديني الفياض الذي هو فطرة عميقة في النفس البشرية أمرا مطلوبا... فإن القصة تصبح في هذا المجال عاملا مثيرا ومؤثرا في نفس الوقت، وتصبح وسيطا تربويا رائعا للتأثير في الذات، وفي تطهير النفس من المشاعر الدخيلة على الفطرة البشرية، ولقد اهتمت القصة القرآنية بإبراز عنصر الأحداث في مجال الدعوة بطريقة لا تستطيع أن تجدها في الكتب السماوية السابقة قبل التحريف، كالتوراة مثلا[6].
إن القصة القرآنية لها طبيعتها الخاصة وبناؤها المتميز، وما وصلت القصة القرآنية لما وصلت إليه من رقي وبلاغة وتميز وبراعة في التأثير الوجداني الفعال إلا بطرائق فنية وجمالية خاصة بها.. وذلك عبر طريقة فذة في العرض والسرد، ذلك العرض القصصي القائم على قانون الانتخاب في اختيار الجزء من القصة الذي يتلاءم والسياق القرآني في الموضع الذي وردت فيه، والغرض الديني العام، ومن ثم يتلاءم أسلوب العرض القرآني مع انتقاء الحدث المسرود، فينحى تماما كل ما لا يمت للحدث بصلة، وما لا يتلاءم مع الهدف الديني، ويخلص إلى التركيز على محور الشخصية وجوهر الدعوة وردود الأفعال[7].
وللقرآن أسلوب في طريقة عرض القصة كما قررنا، لكنا إذا توجهنا إلى نصوص التوراة فسنجد أنها تشبه إلى حد بعيد كتب التاريخ والقصص التي كانت تؤلف قديما للتسلية؛ وذلك بعد أن عبثت بها أيدي البشر وغيروا فيها وحرفوا الكلام عن مواضعه؛ كما ذكر القرآن الكريم؛ لذا أنزل الله كتابا خاتما مهيمنا على ما سبق من كتب ومصدقا لما في التوارة والإنجيل في العديد من الأمور، وتولى الله - عز وجل - حفظه من أي عبث وأي يد تمتد إليه بسـوء
فقـال تعالـى:
(إنـا نحـن نزلنـا الذكـر وإنـا لـه لحافظـون)
(الحجر:9).
وعلى الرغم من تحريف التوراة؛ الذي نتج عنه اضطراب الكتاب المقدس فإننا سنقف على بعض ما ورد في التوراة ونقارن ذلك بما ورد في القرآن، ولك أنت أن تحكم أي الكتابين أحكم وأيهما فيه اضطراب، وأيهما خال منه.
تجد في التوراة أن يونس - عليه السلام - يسمى "يونان بن أمتاي"، على حين يقرر القرآن أن اسمه "يونس" )وإن يونس لمن المرسلين (139)( (الصافات)، وأن "ذا النون" لقب له وليس اسما، وأنا أسألك أيهما أدق وأحكم القرآن أم التوراة؟
تقرر التوراة أن الله كلف يونس - عليه السلام - بالرسالة وأمره بالذهاب إلى أهل نينوي؛ فهرب إلى يافا وركب سفينة تتجه إلى ترشيش يونان: "قم اذهب إلى نينوي المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي. فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب". (يونان1: 2، 3)، وربما يسأل سائل - وهذا من حقه - لماذا هرب يونس - عليه السلام - إلى ترشيش؟ وهل يصح منه - وهو نبي - أن يكلفه الله ويشرفه بالرسالة ويفر؟! وإن كان الأمر كذلك فبما فضله على العديد من البشر ولم اصفاه الله؟ وهل اصطفاه على علم؟
كن واثقا من أنك لن تجد لأسئلتك أي إجابة، وفي ذلك يقول العلامة الألوسي: "زعم اليهود أن الله أمر يونس - عليه السلام - أن يذهب إلى أهل نينوي وينذر أهلها، فهرب إلى ترشيش من ذلك، وانحدر إلى يافا، ونزل في السفينة فعظمت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق... ولا يخفى أن مثل هذا الهرب مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام واليهود قوم بهت"[8].
إن جماهير علماء التفسير عند المسلمين يقررون أن يونس - عليه السلام - كلف وذهب فبلغ ما أمر به، إلا أن قومه لم يستجيبوا له وأمعنوا في العناد ففارقهم، لذا فإن معاقبته إنما كانت لأنه لم ينتظر أمر الله بمفارقتهم.
تقرر التوراة أن يونس - عليه السلام - قد هرب مرتين "يونان"، مرة حين هرب إلى ترشيش، والأخرى حين هرب من المدينة بعد مواعدته لقومه بنزول العذاب، حيث اتخذ لنفسه كنا[9]يكون فيه.
ونحن نسألهم إذا كان الله قد عاقب يونس - عليه السلام - عندما فر في المرة الأولى فلم لم يعاقبه حين فر مرة أخرى؟ أيعاقبه إذا أخطأ ولا يعاقبه على تكرار الخطأ؟! ولماذا فر يونس - عليه السلام - دون أن يأذن الله له؟ وهل يجوز أن يتصرف نبي في أمر كهذا من تلقاء نفسه دون انتظار لأمر الله؟ وهل يقع يونس - عليه السلام - في الخطأ مرتين؟!
إن القرآن لم يذكر أنه هرب إلا مرة واحدة، فأيهما أصدق وأيهما أعقل وأحكم؟
تذكر التوراة أن إنبات الله شجرة من يقطين على يونس - عليه السلام - كان بعد خروجه من المدينة في المرة الأخيرة: "وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة، وصنع لنفسه هناك مظلة وجلس تحتها في الظل، حتى يرى ماذا يحدث في المدينة. فأعد الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان لتكون ظلا على رأسه، لكي يخلصه من غمه. ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحا عظيما". (يونان 3: 5، 6)، في حين يذكر القرآن أن ذلك كان فور خروجه من بطن الحوت إلى الشاطئ؛ لحاجته إلى شيء يظلله من الشمس لظهوره المباشر تحت أشعتها بعد أيام قضاها في الظلمات، كما أنه خرج سقيما لا يستطيع أن يتحمل الشمس، فأنبت الله عليه يقطينة تظلله رحمة منه سبحانه وتعالى.
وقد يسأل سائل: لماذا أنبت الله يقطينة على يونس حين هرب للمدينة ولم يكن في حاجة إليها ولم ينبتها عليه حين خرج من بطن الحوت وهو في حاجة لها؟
إن إنبات يقطينة عليه إثر خروجه - على حد تعبير القرآن - فيه من البلاغة الكثير، حيث يفيد السياق القرآني أن الخروج كان نهارا والشمس ساطعة، على حين لم تحدد التوراة وقت الخروج ليلا كان أم نهارا.
تقرر التوراة أن الله ندم على الشر الذي أخبر أنه سيصنعه بقوم يونس عليه السلام؛ فلم يصنعه: "فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه". (يونان 3: 10)، على حين يقرر القرآن أن الله قدر مقادير الكون قبل أن يخلق الخلق ودون ذلك في اللوح المحفوظ فلا يتجاوز الواقع ما قدره الله وإذا تكلم الله بشيء فهو وفق مشيئته والتي لا تتعارض مع ما قدره الله في اللوح المحفوظ؛ ولذا فلا تعارض لأن الله يتكلم بعلمه، وأنه قدر كل شيء بعلمه، وأن ما يكون وما سيكون قد وقع في علم الله ودونه في اللوح المحفوظ؛ فالكون وما يقع فيه بالنسبة لعلم الله إنما هو تحصيل حاصل، وذلك يقتضي ألا يندم الله؛ لأن ما يقع هو ما قدره، ولأن الله إله والإله كامل لا يعتريه نقص والندم نقص وقدح في علم الله الذي قرر القرآن أنه علم محيط وشامل: )إن الله كان عليما حكيما (30)( (الإنسان)، )إن الله بكل شيء عليم (62)( (العنكبوت)، )وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2)( (الفرقان)، )إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)( (القمر).
التوراة إذن تطعن في الله وفي نبيه في سفر واحد، ويفوتها أن تذكر الكثير الذي ذكره القرآن ولم يرد فيها مثل قوله سبحانه وتعالى: )وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147)( (الصافات).
فأنت تجد في التوراة أن يونس - عليه السلام - فر مرتين لماذا؟ وإذا كان هذا هو شأن الأنبياء - عدم الاستجابة لأوامر الله - فما شأن باقي البشر، وماذا أن تتوقع منهم غير التكذيب والعصيان، أليس هذا تناقضا؟ كيف يصح إثبات الإلوهية لله ثم يتم وصفه بالنقص الذي يتنزه عنه البشر؟
يمكنك أن تسأل كثيرا، كما يمكنني أن أخبرك بأنك لن تجد جوابا؛ لأن العقيدة اليهودية محرفة، والكتاب المقدس - مصدر هذه العقيدة - محرف؛ وبالتالي فهو مليء بالتناقض والاضطراب، الذي يستطيع أي باحث موضوعي أن يقرره فور قراءته لسفر واحد من أسفار الكتاب المقدس.
الخلاصة:
· القرآن محكم بعيد كل البعد عن التعارض والتناقض والاضطراب، ومسألة نبذ يونس - عليه السلام - بالعراء في غاية الإحكام؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: )فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145)( (الصافات). وهذا معناه أنه نبذ بالعراء سقيما، ولم ينبذ بالعراء مذموما، حيث قال سبحانه وتعالى: )لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49)( (القلم)، فهل هناك تعارض في هذا الكلام؟!
· بالمقارنة بين ما ورد في العهد القديم من ذكر لقصة النبي يونان بن أمتاي، وذلك في كتاب يونان (1ـ 4) وبين ما ذكره القرآن من إيجاز محكم في مسألة نبذ يونس - عليه السلام - بالعراء - يثبت عظم إحكام القرآن وبعده كل البعد عن التعارض والتناقض.
المراجع
- (*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.
- النبذ: الإلقاء.
- العراء: المكان الخالي.
- سقيم: ضعيف.
- اليقطين: شجرة القرع.
- الكشاف، الزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت، ج4، ص148.
- القصة في القرآن، محمد قطب، دار قباء، القاهرة، 2001م، ص79: 83 بتصرف يسير.
- القصة في القرآن، محمد قطب، دار قباء، القاهرة، 2001م، ص109: 111 بتصرف.
- قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص421، 422.
- الكن: المكان الذي يستتر فيه.
الجواب التفصيلي
دعوى اضطراب القرآن في مسألة نبذ يونس - عليه السلام - بالعراء(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين وجود خلل واضطراب في حديث القرآن عن نبذ[1]يونس - عليه السلام - بالعراء[2]، وعدم وجود هذا الاضطراب في نصوص التوراة، مستدلين على ذلك بإقرار القرآن نبذه في
قوله سبحانه وتعالـى:
(فنبذنـاه بالعـراء وهـو سقيـم)
(الصافات:145) [3]
وعدم نبذه في
قوله سبحانه وتعالى:
(لـولا أن تداركـه نعمـة من ربـه لنبـذ بالعـراء وهو مذموم)
(القلم:49)
وهم بهذا الادعاء يشككون في صدق القرآن الكريم في إخباره عن يونس عليه السلام.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم ينكر القرآن الكريم نبذ يونس - عليه السلام - بالعراء سقيما، إنما أنكر نبذه بالعراء مذموما؛ وعليه فلا تعارض بين ما أثبته القرآن وما نفاه.
2) ذكر القرآن هذه القضية في إيجاز محكم، بعكس ما ورد في التوراة من اضطراب في سرد تفاصيل القصة؛ مما يجعلها أقرب ما تكون إلى كتب التاريخ والقصص.
التفصيل:
أولا. ليس في القرآن الكريم اضطراب لا في قصة ذي النون - عليه السلام - ولا في غيرها:
الذي أثبتته آية الصافات أن يونس - عليه السلام - نبذ بالعراء وهو في حالة من السقم والإعياء، بسبب مكثه في بطن الحوت فترة من الزمن. والذي تذكره سورة القلم: أن الله تداركه بنعمة من عنده، ولولا ذلك لنبذ مذموما؛ فالحكم ليس واقعا على النبذ، ولكنه يقع على نبذه مذموما. إن الله - عز وجل - لم يذمه؛ فينبذه مذموما، بل نبذه معافى كريما، وتلقته عناية الله، كما
قال تعالى:
(وأنبتنا عليه شجرة من يقطين)
(الصافات:146) [4]
. والحكم المنطقي يقع على الجملة بكامل توابعها كما لو تم تضمين صفة مع موصوفها، أو معطوف مع معطوف عليه، وهنا لحق بجملة نبذناه الأولى، ونبذ الثانية جملة حالية، فتدخل كل منهما في الحكم.
يقول الزمخشري في تفسير آية القلم: )لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49)( (القلم): وقد اعتمد في جواب لولا على الحال؛ أعني قوله: "وهو مذموم" يعني أن حاله كانت على خلاف الذم حين نبذ بالعراء، ولولا توبته لكان حاله على الذم، ولذا قـال تعالى بعدهمـا: (فاجتبـاه ربـه فجعلـه مـن الصالحيـن (50)( (القلم) [5].
وإذا عرضنا تفسير الآيتين نعرف أنه لا تعارض، ففي الآية الأولى يقول الله تعالى: )فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145)( (الصافات)، روي أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وقال ابن قسيط عن أبي هريرة رضي الله عنه: طرح يونس بالعراء وأنبت الله عليه يقطين، وفي الآية من سورة القلم
يقول الله تعالى:
(لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم)
(القلم:49)
ولولا رحمة الله - عز وجل - لنبذ بالعراء وهو مذموم.
وورد في تفسيـر الطبـري في تفسيـر قولـه تعالـى: )وهو مذموم (49)( (القلم) في موضع الحال من مرفوع نبذ وعليها يعتمد جواب لولا؛ لأن المقصود امتناع نبذه مذموما، وإلا فقد وقع النبذ عليه سقيما؛ فدل على أن حاله كانت على خلاف الذم.
ثانيا. ذكر القرآن هذه القضية في إيجاز محكم بعكس ما ورد في التوراة من اضطراب في سرد تفاصيل القصة؛ مما يجعلها أقرب ما تكون إلى كتب التاريخ والقصص:
إن القصة القرآنية إعجاز رائع من ناحية الجودة والأهمية، وهي وسيلة هامة ومؤثرة من الوسائل القرآنية الكثيرة التي تحقق الأغراض الدينية وتبرز الأصول والرواسخ في العقيدة الإسلامية والتي احتواها القرآن الكريم؛ بحكم كونه الدستور الخالد الذي ينظم حركة الحياة للإنسان في الدنيا والآخرة.
والقرآن الكريم كتاب دعوة إلى الله، وإلى الوحدانية، وإلى الحق.. في المقام الأول، ولما كان هز الوجدان وإثارة العاطفة وربطها بالشعور الديني الفياض الذي هو فطرة عميقة في النفس البشرية أمرا مطلوبا... فإن القصة تصبح في هذا المجال عاملا مثيرا ومؤثرا في نفس الوقت، وتصبح وسيطا تربويا رائعا للتأثير في الذات، وفي تطهير النفس من المشاعر الدخيلة على الفطرة البشرية، ولقد اهتمت القصة القرآنية بإبراز عنصر الأحداث في مجال الدعوة بطريقة لا تستطيع أن تجدها في الكتب السماوية السابقة قبل التحريف، كالتوراة مثلا[6].
إن القصة القرآنية لها طبيعتها الخاصة وبناؤها المتميز، وما وصلت القصة القرآنية لما وصلت إليه من رقي وبلاغة وتميز وبراعة في التأثير الوجداني الفعال إلا بطرائق فنية وجمالية خاصة بها.. وذلك عبر طريقة فذة في العرض والسرد، ذلك العرض القصصي القائم على قانون الانتخاب في اختيار الجزء من القصة الذي يتلاءم والسياق القرآني في الموضع الذي وردت فيه، والغرض الديني العام، ومن ثم يتلاءم أسلوب العرض القرآني مع انتقاء الحدث المسرود، فينحى تماما كل ما لا يمت للحدث بصلة، وما لا يتلاءم مع الهدف الديني، ويخلص إلى التركيز على محور الشخصية وجوهر الدعوة وردود الأفعال[7].
وللقرآن أسلوب في طريقة عرض القصة كما قررنا، لكنا إذا توجهنا إلى نصوص التوراة فسنجد أنها تشبه إلى حد بعيد كتب التاريخ والقصص التي كانت تؤلف قديما للتسلية؛ وذلك بعد أن عبثت بها أيدي البشر وغيروا فيها وحرفوا الكلام عن مواضعه؛ كما ذكر القرآن الكريم؛ لذا أنزل الله كتابا خاتما مهيمنا على ما سبق من كتب ومصدقا لما في التوارة والإنجيل في العديد من الأمور، وتولى الله - عز وجل - حفظه من أي عبث وأي يد تمتد إليه بسـوء
فقـال تعالـى:
(إنـا نحـن نزلنـا الذكـر وإنـا لـه لحافظـون)
(الحجر:9).
وعلى الرغم من تحريف التوراة؛ الذي نتج عنه اضطراب الكتاب المقدس فإننا سنقف على بعض ما ورد في التوراة ونقارن ذلك بما ورد في القرآن، ولك أنت أن تحكم أي الكتابين أحكم وأيهما فيه اضطراب، وأيهما خال منه.
تجد في التوراة أن يونس - عليه السلام - يسمى "يونان بن أمتاي"، على حين يقرر القرآن أن اسمه "يونس" )وإن يونس لمن المرسلين (139)( (الصافات)، وأن "ذا النون" لقب له وليس اسما، وأنا أسألك أيهما أدق وأحكم القرآن أم التوراة؟
تقرر التوراة أن الله كلف يونس - عليه السلام - بالرسالة وأمره بالذهاب إلى أهل نينوي؛ فهرب إلى يافا وركب سفينة تتجه إلى ترشيش يونان: "قم اذهب إلى نينوي المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي. فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب". (يونان1: 2، 3)، وربما يسأل سائل - وهذا من حقه - لماذا هرب يونس - عليه السلام - إلى ترشيش؟ وهل يصح منه - وهو نبي - أن يكلفه الله ويشرفه بالرسالة ويفر؟! وإن كان الأمر كذلك فبما فضله على العديد من البشر ولم اصفاه الله؟ وهل اصطفاه على علم؟
كن واثقا من أنك لن تجد لأسئلتك أي إجابة، وفي ذلك يقول العلامة الألوسي: "زعم اليهود أن الله أمر يونس - عليه السلام - أن يذهب إلى أهل نينوي وينذر أهلها، فهرب إلى ترشيش من ذلك، وانحدر إلى يافا، ونزل في السفينة فعظمت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق... ولا يخفى أن مثل هذا الهرب مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام واليهود قوم بهت"[8].
إن جماهير علماء التفسير عند المسلمين يقررون أن يونس - عليه السلام - كلف وذهب فبلغ ما أمر به، إلا أن قومه لم يستجيبوا له وأمعنوا في العناد ففارقهم، لذا فإن معاقبته إنما كانت لأنه لم ينتظر أمر الله بمفارقتهم.
تقرر التوراة أن يونس - عليه السلام - قد هرب مرتين "يونان"، مرة حين هرب إلى ترشيش، والأخرى حين هرب من المدينة بعد مواعدته لقومه بنزول العذاب، حيث اتخذ لنفسه كنا[9]يكون فيه.
ونحن نسألهم إذا كان الله قد عاقب يونس - عليه السلام - عندما فر في المرة الأولى فلم لم يعاقبه حين فر مرة أخرى؟ أيعاقبه إذا أخطأ ولا يعاقبه على تكرار الخطأ؟! ولماذا فر يونس - عليه السلام - دون أن يأذن الله له؟ وهل يجوز أن يتصرف نبي في أمر كهذا من تلقاء نفسه دون انتظار لأمر الله؟ وهل يقع يونس - عليه السلام - في الخطأ مرتين؟!
إن القرآن لم يذكر أنه هرب إلا مرة واحدة، فأيهما أصدق وأيهما أعقل وأحكم؟
تذكر التوراة أن إنبات الله شجرة من يقطين على يونس - عليه السلام - كان بعد خروجه من المدينة في المرة الأخيرة: "وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة، وصنع لنفسه هناك مظلة وجلس تحتها في الظل، حتى يرى ماذا يحدث في المدينة. فأعد الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان لتكون ظلا على رأسه، لكي يخلصه من غمه. ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحا عظيما". (يونان 3: 5، 6)، في حين يذكر القرآن أن ذلك كان فور خروجه من بطن الحوت إلى الشاطئ؛ لحاجته إلى شيء يظلله من الشمس لظهوره المباشر تحت أشعتها بعد أيام قضاها في الظلمات، كما أنه خرج سقيما لا يستطيع أن يتحمل الشمس، فأنبت الله عليه يقطينة تظلله رحمة منه سبحانه وتعالى.
وقد يسأل سائل: لماذا أنبت الله يقطينة على يونس حين هرب للمدينة ولم يكن في حاجة إليها ولم ينبتها عليه حين خرج من بطن الحوت وهو في حاجة لها؟
إن إنبات يقطينة عليه إثر خروجه - على حد تعبير القرآن - فيه من البلاغة الكثير، حيث يفيد السياق القرآني أن الخروج كان نهارا والشمس ساطعة، على حين لم تحدد التوراة وقت الخروج ليلا كان أم نهارا.
تقرر التوراة أن الله ندم على الشر الذي أخبر أنه سيصنعه بقوم يونس عليه السلام؛ فلم يصنعه: "فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه". (يونان 3: 10)، على حين يقرر القرآن أن الله قدر مقادير الكون قبل أن يخلق الخلق ودون ذلك في اللوح المحفوظ فلا يتجاوز الواقع ما قدره الله وإذا تكلم الله بشيء فهو وفق مشيئته والتي لا تتعارض مع ما قدره الله في اللوح المحفوظ؛ ولذا فلا تعارض لأن الله يتكلم بعلمه، وأنه قدر كل شيء بعلمه، وأن ما يكون وما سيكون قد وقع في علم الله ودونه في اللوح المحفوظ؛ فالكون وما يقع فيه بالنسبة لعلم الله إنما هو تحصيل حاصل، وذلك يقتضي ألا يندم الله؛ لأن ما يقع هو ما قدره، ولأن الله إله والإله كامل لا يعتريه نقص والندم نقص وقدح في علم الله الذي قرر القرآن أنه علم محيط وشامل: )إن الله كان عليما حكيما (30)( (الإنسان)، )إن الله بكل شيء عليم (62)( (العنكبوت)، )وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2)( (الفرقان)، )إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)( (القمر).
التوراة إذن تطعن في الله وفي نبيه في سفر واحد، ويفوتها أن تذكر الكثير الذي ذكره القرآن ولم يرد فيها مثل قوله سبحانه وتعالى: )وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147)( (الصافات).
فأنت تجد في التوراة أن يونس - عليه السلام - فر مرتين لماذا؟ وإذا كان هذا هو شأن الأنبياء - عدم الاستجابة لأوامر الله - فما شأن باقي البشر، وماذا أن تتوقع منهم غير التكذيب والعصيان، أليس هذا تناقضا؟ كيف يصح إثبات الإلوهية لله ثم يتم وصفه بالنقص الذي يتنزه عنه البشر؟
يمكنك أن تسأل كثيرا، كما يمكنني أن أخبرك بأنك لن تجد جوابا؛ لأن العقيدة اليهودية محرفة، والكتاب المقدس - مصدر هذه العقيدة - محرف؛ وبالتالي فهو مليء بالتناقض والاضطراب، الذي يستطيع أي باحث موضوعي أن يقرره فور قراءته لسفر واحد من أسفار الكتاب المقدس.
الخلاصة:
· القرآن محكم بعيد كل البعد عن التعارض والتناقض والاضطراب، ومسألة نبذ يونس - عليه السلام - بالعراء في غاية الإحكام؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: )فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145)( (الصافات). وهذا معناه أنه نبذ بالعراء سقيما، ولم ينبذ بالعراء مذموما، حيث قال سبحانه وتعالى: )لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49)( (القلم)، فهل هناك تعارض في هذا الكلام؟!
· بالمقارنة بين ما ورد في العهد القديم من ذكر لقصة النبي يونان بن أمتاي، وذلك في كتاب يونان (1ـ 4) وبين ما ذكره القرآن من إيجاز محكم في مسألة نبذ يونس - عليه السلام - بالعراء - يثبت عظم إحكام القرآن وبعده كل البعد عن التعارض والتناقض.
المراجع
- (*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.
- النبذ: الإلقاء.
- العراء: المكان الخالي.
- سقيم: ضعيف.
- اليقطين: شجرة القرع.
- الكشاف، الزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت، ج4، ص148.
- القصة في القرآن، محمد قطب، دار قباء، القاهرة، 2001م، ص79: 83 بتصرف يسير.
- القصة في القرآن، محمد قطب، دار قباء، القاهرة، 2001م، ص109: 111 بتصرف.
- قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص421، 422.
- الكن: المكان الذي يستتر فيه.