نص السؤال
ادعاء اليهود أن عدم إيمانهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، سببه نزول جبريل - عليه السلام - بها
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
ادعاء اليهود أن عدم إيمانهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، سببه نزول جبريل - عليه السلام - بها(*)
مضمون الشبهة:
يزعم اليهود أن جبريل عدو لهم وأن ميكائيل ولي لهم، والسبب في ذلك أنهم سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الملك الذي يأتيه فأخبرهم بأنه جبريل فقالوا له: لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لصدقناك، أما جبريل فينزل بالحرب والقتال والعذاب، فهو عدو لنا؛ فلا نؤمن بوحي جاء به.
قال تعالى:
(من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين)
(البقرة:98)
وجوه إبطال الشبهة:
1) سبب عداوة اليهود لجبريل - عليه السلام - ظنهم أنه ينزل بالحرب والعذاب، وهو ظن باطل وفاسد؛ لأن جبريل هو الروح الأمين الذي ينزل على جميع رسل الله، وهو ملك الوحي.
2) من عادى رسولا عادى جميع الرسل؛ لأنهم جميعا يتنزلون بأمر الله، فلا وجه للتفرقة بين عداوة جبريل وميكائيل.
3) العاقل ينظر في كنه ما ينزل وحقيقة ما يقال على لسان الأنبياء إذا رغب في تقبل الهداية والحق، أما من يتعلل بأن الأمر نزل به ملك دون آخر ويعلق تصديقه وإيمانه على ذلك، فهذا محض غباء وضيق أفق.
التفصيل:
أولا. سبب عداوة اليهود لجبريل ظنهم أنه ينزل بالحرب والعذاب:
سبب مقولة اليهود السابقة هو المناظرة التي جرت بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر نبوته، حيث سألوه عن أسئلة لا يعلمها إلا نبي، ومن هذه الأسئلة أنهم سألوه عن وليه من الملائكة، فقال: إن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه، فعند ذلك قالوا: نفارقك، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك، وصدقناك. وفي رواية أنهم قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فقال لهم: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا،
فأنزل الله سبحانه وتعالى:
(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين)
(البقرة:97)
فيؤخذ مما سبق أن اليهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجاهرون بعداوتهم لجبريل - عليه السلام - وأن هذه المجاهرة بالعداوة، قد تكررت منهم في مواقف متعددة بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الذي حملهم على ذلك هو حسدهم له، وغيظهم من جبريل؛ لأنه ينزل بالوحي عليه.
قال الشيخ الطاهر ابن عاشور: "ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله، ومع ذلك يبغضونه، وهذا أحط درجات الانحطاط في العقل والعقيدة، ولا شك أن الاضطراب في العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة؛ لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام"[1].
ثانيا. من عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل؛ لأنهم جميعا يتنزلون بأمر الله، فلا وجه للتفرقة بين عداوة جبريل وميكائيل - عليهماالسلام -:
يرد الله - عز وجل - على هؤلاء اليهود مقالتهم الحاقدة، وعداوتهم لجبريل - عليه السلام - ويقيم الحجج الواضحة على حماقتهم وسخفهم وفساد علتهم في دعوى عداوة جبريل، مؤكدا أن من عادى جبريل، فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلب النبي من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله من الملائكة، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل،
قال سبحانه وتعالى:
(إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)
(النساء)
فحكم الله عليهم بالكفر المحقق إذ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم،
وقال - سبحانه وتعالى - أيضا:
(وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية)
(الفرقان: ٣٧)
وإنما أرسل إليهم نوح فقط،
وقال - سبحانه وتعالى - أيضا:
(كذبت عاد المرسلين)
(الشعراء:123)
وإنما أرسل إليهم هود فقط،
وقال - سبحانه وتعالى -:
(كذبت ثمود المرسلين)
(الشعراء:141)
وقال سبحانه وتعالى:
(كذبت قوم لوط بالنذر)
(القمر:33)
فمن كفر برسول وكذبه فقد كفر بالرسل جميعا وكذبهم، وكذلك من عادى جبريل - عليه السلام - فإنه عدو لله؛ لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال عز وجل:
(وما نتنزل إلا بأمر ربك)
(مريم: 64)
وقال سبحانه وتعالى:
(قل نزله روح القدس من ربك بالحق)
(النحل: 102)
وقال:
(وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194)
(الشعراء).
ثم بين - عز وجل - حقيقة الأمر فيمن يعادي جبريل وأن عداوته عداوة الله - عز وجل - فإنه أمين وحيه إلى رسله، ليس له في ذلك شيء إلا أن يبلغ ما أمر به
فقال تعالى:
(من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين)
(البقرة:98)
والمعنى: أن عداوة جبريل عداوة لله، وأن عداوة محمد عداوة لله - أيضا - فالإيمان بالله وملائكته ورسله وحدة لا تتجزأ فمن كفر بواحد منهم فهو كافر بالجميع.
ومعنى عداوة العبد لله: كفره به ومخالفته لأوامره ونواهيه، ومعنى عداوته لملائكته: إنكار فضلهم ووصفهم بما ينافي عصمتهم ورفعة منزلتهم، ومعنى عداوته لرسله: تكذيبه لهم وتعمده إلحاق الأذى بهم، ومعنى عداوة الله لعبده: غضبه - سبحانه وتعالى - عليه، ومجازاته له على كفره. وصدر - عز وجل - الكلام باسمه الجليل؛ تفخيما لشأن ملائكته ورسله وإشعارا بأن عداوتهم إنما هي عداوة له عز وجل.
وأفرد - عز وجل - جبريل وميكال بالذكر، مع اندراجهما تحت عموم ملائكته، لتصريح اليهود بعداوة جبريل وتعظيم ميكائيل، فأفردهما بالذكر للتنبيه على أن المعاداة لأحدهما معاداة للجميع، وأن الكفر بأحدهما كفر بالآخر.
قال ابن جرير: "فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟ قيل بلى، فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟ قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن اليهود لما قالت جبريل عدونا وميكائيل ولينا، وزعمت أنها كفرت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أجل أن جبريل صاحبه، أعلمهم الله - عز وجل - أن من كان لجبريل عدوا فإن الله عدو له وأنه من الكافرين، فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدوا لله وملائكته ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته، ولا لرسله أعداء، لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه، وكذلك قوله ورسله فلست يا محمد داخلا فيهم، فنص الله - عز وجل - على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ليقلع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويهم أمورهم على ضعاف الإيمان".
وقال - عز وجل - في ختام الآية الكريمة: (فإن الله عدو للكافرين) (البقرة:98)، ولم يقل: فإن الله عدو له أو لهم؛ ليدل على أن عداوة كل واحد ممن اشتملت الآية الكريمة على ذكرهم كفر وجحود، وليكون اندراجهم تحت هذا الحكم العام من باب إثبات الحكم بالدليل، وللإشعار بأن عداوة الله لهم سببها كفرهم، فإن الله لن يعادي قوما لذواتهم ولا لأنسابهم، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو.
قال صاحب المنار: "فهذه الآية الكريمة وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها، فهم لم يدعوا عداوة لهؤلاء كلهم، لكنهم كذلك في نفس الأمر، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقع، وهي أنهم أعداء الحق وأعداء كل من يمثله ويدعو إليه، فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكائيل الذي يزعمون أنهم يحبونه. وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان هو الذي ينزل بالوحي عليه، ومعاداة القرآن الكريم كمعاداة سائر الكتب الإلهية لأن المقصود من الجميع واحد، فقولهم السابق وحالهم يدلان على معاداة كل من ذكر، وهذا من ضروب إيجاز القرآن الكريم التي انفرد بها"[2].
ثالثا. العاقل يتفحص طبيعة ما يقال على لسان الأنبياء إذا رغب في تقبل الهداية، أما التعلل بملك دون الآخر للإيمان من عدمه فهو محض غباء:
مقولة اليهود هذه هي من تعلاتهم واعتذاراتهم عن الإيمان بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تعلة غريبة، ومرادهم منها أن يقولوا: إن جبريل ينزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان هو عدوهم فهم إذا لن يؤمنوا بوحي يجيء به، وهذا في الحقيقة من غبائهم وشدة جهلهم، فإن العاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه من الضلال الذي هو فيه، فإن دعوى عداوة جبريل لا يصح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله، فمن كان عدوا لجبريل فإنه عدو الحق، وعدو كل من يمثله وينقله ويدعو إليه، فالتصريح بعداوة جبريل هو تصريح بعداوة ميكائيل، ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب، ومعاداة محمد - صلى الله عليه وسلم - كمعاداة سائر رسل الله، فوظيفتهم جميعا واحدة، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي انفرد بها، وهكذا أبان لهم فساد العلة التي جاءوا بها.
الخلاصة:
·سمع اليهود أن جبريل - عليه السلام - ينزل بالوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كان عداؤهم لرسولنا قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة، فيزعموا أن جبريل عدوهم، لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب؛ وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من جراء صاحبه جبريل! ولو كان الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا، فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب.
·مسألة الإيمان ليست مجزأة، ولكنها قضية واحدة، فمن كان عدوا للملائكة وجبريل وميكائيل ورسل الله؛ فهو أولا عدو لله؛ لأنه لا انقسام بينهم فكلهم دائرون حول الحق، والحق الواحد لا عدوان فيه، وإنما العدوان ينشأ من تصادم الأهواء والشهوات وهذا ما حدث مع اليهود في موقفهم من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
المراجع
- (*) الآيتان اللتان ورد فيهما الرد على الشبهة: (البقرة/ 97، 98).
- التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط3، 1987م، ج1، ص283.
- التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط3، 1987م، ج، ص285، 286.