نص السؤال

دعوى أن الله - عز وجل - هجر نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقلاه

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

دعوى أن الله - عز وجل - هجر نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقلاه (*)

مضمون الشبهة:

لما أبطأ جبريل - عليه السلام - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي أياما، زعم المشركون أن رب محمد قلاه وأبغضه وتركه، وقالوا: لو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء!

وجوه إبطال الشبهة:

1)    القسم على نفي هجر الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم.

2)    دلائل محبة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.

3)    موجبات شكر النعمة.

التفصيل:

أولا. القسم على نفي كون الله - عز وجل - قلى نبيه صلى الله عليه وسلم:

يرد الله - عز وجل - على المشركين زعمهم أن رب محمد قلاه وهجره، بأن أقسم سبحانه بالضحى وما جعل فيه من الضياء، وبالليل إذا سكن فأظلم واد لهم، على أنه - عز وجل - ما ترك حبيبه ولا أبغضه منذ أحبه،

قال سبحانه وتعالى:

(والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3)

(الضحى).

فهذا قسم بهذين الآنين الرائقين الموحيين. يربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس. ويوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة مع هذا الوجود الجميل الحي، المتعاطف مع كل حي. فيعيش ذلك القلب في أنس من هذا الوجود، غير موحش ولا غريب فيه فريد.. وفي هذه السورة بالذات يكون لهذا الأنس وقعه. فظل الأنس هو المراد مده. وكأنما يوحي الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - منذ مطلع السورة أن ربه أفاض من حوله الأنس في هذا الوجود، وأنه من ثم غير مجفو فيه ولا فريد!

وبعد هذا الإيحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر:

(ما ودعك ربك وما قلى)

(الضحى:3)

أي: ما تركك ربك ولا جفاك كما زعم من يريدون إيذاء روحك وإيجاع قلبك وإقلاق خاطرك، وهو ربك وأنت عبده المنسوب إليه، المضاف إلى ربوبيته، وهو راعيك وكافلك[1].

وجاء القسم لتأكيد الخبر ردا على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه لم يقم الليل بالقرآن بضع ليال. فالتأكيد منصب على التعريض المعرض به لإبطال دعوى المشركين. فالتأكيد تعريض بالمشركين، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه.

ومناسبة القسم بـ: (والضحى (1) والليل) أن الضحى وقت انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن، وهو الوقت الذي كان يسمع فيه المشركون قراءته من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام.

ولذلك قيد (والليل) بظرف (إذا سجى)، فلعل ذلك وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم،

قال سبحانه وتعالى:

(قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3)

(المزمل).

والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر، فعن ابن عباس وابن جريج: "احتبس الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر يوما أو نحوها، فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، فنزلت الآية".

واحتباس الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع مرتين:

أولاهما: قبل نزول سورة المدثر أو المزمل، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر، وتلك الفترة هي التي خشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون قد انقطع عنه الوحي، وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض، وقد قيل: إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوما، ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدأ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه، وقبل أن يقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن ليلا.

وثانيتهما: فترة بعد نزول نحو من ثمان سور؛ أي: السور التي نزلت بعد الفترة الأولى، فتكون بعد تجمع عشر سور، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة، فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور.

والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوما، وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كي تستجم نفسه، وتعتاد قوته تحمل أعباء الوحي؛ إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوما، ثم كانت الثانية اثني عشر يوما أو نحوها، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة؛ ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثا، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر[2].

ثانيا. محبة الله لنبيه:

ثم بين الله لنبيه برهان ذلك الحب، وعلامته، وما اختصه به من الخصائص والكرامات التي هي دلائل ذلك الحب لا كما يدعي هؤلاء المبغضون،

فقال سبحانه وتعالى:

(وللآخرة خير لك من الأولى (4) ولسوف يعطيك ربك فترضى (5)

(الضحى)

أي: ما عندي في مرجعك إلي يا محمد خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا، وسوف يعطيك ربك في الدنيا الفلاح، وفي الآخرة الثواب، والحوض والمقام المحمود.

وما غاض معين فضله وفيض عطائه. فإن لك عنده في الآخرة من الحسنى خيرا مما يعطيك منها في الدنيا:

(وللآخرة خير لك من الأولى)

(الضحى:4)

فهو الخير أولا وأخيرا.. وإنه ليدخر لك ما يرضيك من التوفيق في دعوتك، وإزاحة العقبات من طريقك، وغلبة منهجك، وظهور حقك.. وهي الأمور التي كانت تشغل باله - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه العناد والتكذيب والأذى والكيد.. والشماتة[3].

وقوله: (وللآخرة خير لك من الأولى) (الضحى:4) عطف على جملة: (والضحى) (الضحى:1)، فهو كلام مبتدأ به، والجملة معطوفة على الجمل الابتدائية، وليست معطوفة على جملة جواب القسم، بل هي ابتدائية فلما نفي القلى بشر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد أعطاه في الدنيا وفي الآخرة.

وما في تعريف (وللآخرة) و (الأولى) من التعميم يجعل معنى هذه الجملة في معنى التذييل الشامل لاستمرار الوحي وغير ذلك من الخير. والآخرة: مؤنث الآخر، والأولى: مؤنث الأول، وغلب لفظ الآخرة في اصطلاح القرآن على الحياة الآخرة وعلى الدار الآخرة كما غلب لفظ الأولى على حياة الناس التي قبل انخرام هذا العالم، فيجوز أن يكون المراد هنا من كلا اللفظين كلا معنييه، فيفيد أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة تبشيرا له بالخيرات الأبدية، ويفيد أن حالاته تجري على الانتقال من حالة إلى أحسن منها، فيكون تأنيث الوصفين جاريا على حالتي التغليب وحالتي التوصيف، ويكون التأنيث في هذا المعنى الثاني لمراعاة معنى الحالة.

ويوميء ذلك إلى أن عودة نزول الوحي عليه هذه المرة خير من العودة التي سبقت، أي تكفل الله بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد، فاللام في:(وللآخرة) و (الأولى) لام الجنس، أي كل آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى.

واللام في قوله: (لك) لام الاختصاص، أي خير مختص بك وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذاته وفي دينه وفي أمته، فهذا وعد من الله بأن ينشر دين الإسلام وأن يمكن أمته من الخيرات التي يأملها النبي صلى الله عليه وسلم. فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرض علي ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني، فأنزل الله سبحانه وتعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى) (الضحى:4)» [4].

وقوله:

(ولسوف يعطيك ربك فترضى)

(الضحى:5)

هو كذلك عطف على جملة القسم كلها وحرف الاستقبال؛ لإفادة أن هذا العطاء الموعود به مستمر لا ينقطع

كما في قوله سبحانه وتعالى:

(قال سوف أستغفر لكم ربي)

(يوسف: 98)

وقوله سبحانه وتعالى:

(ولسوف يرضى)

(الليل:12)

وحذف المفعول الثاني لـ (يعطيك) ليعم كل ما يرجوه - صلى الله عليه وسلم - من خير لنفسه ولأمته، فكان مفاد هذه الجملة تعميم العطاء كما أفادت الجملة قبلها تعميم الأزمنة. وجيء بفاء التعقيب في (فترضى) لإفادة كون العطاء عاجل النفع، بحيث يحصل به رضى المعطى عند العطاء، فلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تربص. وتعريف (ربك) بالإضافة دون اسم الله العلم لما يؤذن به لفظ "رب" من الرأفة واللطف، وللتوسل إلى إضافته إلى ضمير المخاطب؛ لما في ذلك من الإشعار بعنايته برسوله وتشريفه بإضافة "رب" إلى ضميره.

وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من النصر والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا وما فتح على الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أقطار الأرض شرقا وغربا[5].

ثم يذكر الله - عز وجل - فضله على حبيبه،

كما قال سبحانه وتعالى:

(وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما)

(النساء:13)

ويعدد - سبحانه وتعالى - مننه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول له: ألم تكن يتيما لا أب لك فآويتك عند عمك أبي طالب فكفلك، وآويتك بأصحاب ينصرونك ويحوطونك ويحفظونك، وكل هذا من حفظ الله له وعنايته به، ثم ألم تكن ضالا أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة فهديتك وأرشدتك، ولم تكن تدري ما القرآن ولا الشرائع ولا الإيمان، ثم ألم تكن عائلا فقيرا ذا عيال فأغنيتك عمن سواي، وجمعت لك بين مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر، صلوات الله وسلامه عليه،

فهذا قول الله سبحانه وتعالى:

(ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8)

(الضحى).

فهل بعد هذه المنن العظيمة والنعم الجزيلة يعقل أن يبغض الله حبيبه، لقد كذب المشركون فيما زعموا؛ ولذا ختم الله حديثه إلى نبيه

بقوله:

(وأما بنعمة ربك فحدث)

(الضحى:11)

وقوله سبحانه وتعالى:

(ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8)

(الضحى)

استئناف مسوق مساق الدليل على تحقق الوعد؛ أي: هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد، بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف؛ لأن شأن الصدف ألا تتكرر، فقد علم أن اطراد ذلك مراد لله تعالى.

والمقصود من هذا إيقاع اليقين في قلوب المشركين بأن ما وعده الله به محقق الوقوع قياسا على ما ذكره به من ملازمة لطفه به فيما مضى، وهم لا يجهلون ذلك، عسى أن يقلعوا عن العناد ويسرعوا إلى الإيمان، وإلا فإن ذلك مساءة تبقى في نفوسهم وأشباح رعب تخالج خواطرهم. ويحصل مع هذا المقصود امتنان على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقوية لاطمئنان نفسه بوعد الله تعالى إياه.

والاستفهام في قوله:

(ألم يجدك يتيما فآوى)

(الضحى:6)

استفهام تقريري، والإيواء: كفاية الحاجة مجازا أو استعارة، فالمعنى: أنشأك على كمال الإدراك والاستقامة وكنت على تربية كاملة، مع أن شأن الأيتام أن ينشأوا على نقائص؛ لأنهم لا يجدون من يعنى بتهذيبهم وتعهد أحوالهم الخلقية، فكان تكوين نفسه الزكية على الكمال خيرا من تربية الأبوين.

والضلال: عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى مكان مقصود سواء سلك السائر طريقا آخر يبلغ إلى غير المقصود أم وقف حائرا لا يعرف أي طريق يسلك، وهو المقصود هنا لأن المعنى: أنك كنت في حيرة من حال أهل الشرك من قومك فأراكه الله غير محمود وكرهه إليك ولا تدري ماذا تتبع من الحق، فإن الله لما أنشأ رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما أراد من إعداده لتلقي الرسالة في الإبان، ألهمه أن ما عليه قومه من الشرك خطأ، وألقى في نفسه طلب الوصول إلى الحق؛ ليتهيأ بذلك لقبول الرسالة عن الله تعالى.

وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل؛ فإن الأنبياء معصومون من الإشراك قبل النبوءة باتفاق علمائنا، وإنما اختلفوا في عصمتهم من نوع الذنوب الفواحش التي لا تختلف الشرائع في كونها فواحش، وبقطع النظر عن التنافي بين اعتبار الفعل فاحشة وبين الخلو عن وجود شريعة قبل النبوءة، فإن المحققين من أصحابنا نزهوهم عن ذلك، والمعتزلة منعوا ذلك بناء على اعتبار دليل العقل كافيا في قبح الفواحش على إرسال كلامهم في ضابط دلالة العقل.

ولم يختلف أصحابنا أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لم يصدر منه ما ينافي أصول الدين قبل رسالته ولم يزل علماؤنا يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوءته دليلا من جملة الأدلة على رسالته، بل قد شافه القرآن به المشركين بقوله:

(فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون)

(يونس:16)

وقوله:

(أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون)

(المؤمنون:69)

ولأنه لم يؤثر أن المشركين أفحموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أنكر عليهم من مساوي أعمالهم بأن يقولوا فقد كنت تفعل ذلك معنا[6].

ثالثا. موجبات شكر النعمة:

وقد جعل الشكر هنا مناسبا للنعمة المشكور عليها وإنما اعتبر تقدير: إذا أردت الشكر؛ لأن شكر النعمة تنساق إليه النفوس بدافع المروءة في عرف الناس، وصدر الكلام في سورة الضحى بـ "أما" التفصيلية؛ لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة.

وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها، فيجوز أن يكون هذا التفصيل على طريقة اللف والنشر المرتب. وذلك ما درج عليه الطيبي، ويجري على تفسير سفيان بن عيينة (السائل) (الضحى: ١٠) بالسائل عن الدين والهدي،

فقوله:

(فأما اليتيم فلا تقهر)

(الضحى:9)

مقابل لقوله:

(ألم يجدك يتيما فآوى)

(الضحى:6)

لا محالة؛ أي: فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليتم، فكن أنت مكرما للأيتام رفيقا بهم، فجمع ذلك في النهي عن قهره؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يقهرون الأيتام؛ ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم مع كثرة الأسباب لقهره؛ لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته فإن فلتات اللسان سريعة الحصول

كما قال سبحانه وتعالى:

(فلا تقل لهما أف)

(الإسراء: 23)

وقال:

(وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا)

(الإسراء:28)

وليس المراد بنعمة ربك نعمة خاصة وإنما أريد الجنس فيفيد عموما في المقام الخطابي؛ أي: حدث ما أنعم الله به عليك من النعم، فحصل في ذلك الأمر شكر نعمة الإغناء، وحصل الأمر بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلا جامعا.

ويقول الشيخ سيد قطب: "ويمضي سياق السورة يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان من شأن ربه معه منذ أول الطريق. ليستحضر في خاطره جميل صنع ربه به، ومودته له، وفيضه عليه، ويستمتع باستعادة مواقع الرحمة والود والإيناس الإلهي. وهو متاع فائق تحييه الذكرى على هذا النحو البديع:

(ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8)

(الضحى).

انظر في واقع حالك، وماضي حياتك.. هل ودعك ربك؟ وهل قلاك حتى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟ ألم تحط يتمك رعايته؟ ألم تدرك حيرتك هدايته؟ ألم يغمر فقرك عطاؤه؟

لقد ولدت يتيما فآواك إليه، وعطف عليك القلوب حتى قلب عمك أبي طالب وهو على غير دينك! ولقد كنت فقيرا فأغنى الله نفسك بالقناعة، كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك خديجة - رضي الله عنها - عن أن تحس الفقر، أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء!

ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد، منحرفة السلوك والأوضاع، فلم تطمئن روحك إليها. ولكنك لم تكن تجد لك طريقا واضحا مطمئنا. لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا.. ثم هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك، وبالمنهج الذي يصلك به.

والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنة الكبرى، التي لا تعدلها منة؛ وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق؛ ومن التعب الذي لا يعدله تعب، ولعلها كانت بسبب مما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعانيه في هذه الفترة من انقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب من الحبيب، فجاءت هذه تذكره وتطمئنه إلى أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه، وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه!

وبمناسبة ما ذكره ربه بإيوائه من اليتم، وهدايته من الحيرة وإغنائه من العيلة.. يوجهه ويوجه المسلمين من ورائه إلى رعاية كل يتيم، وإلى كفاية كل سائل، وإلى التحدث بنعمة الله الكبرى عليه، وفي أولها: الهداية إلى هذا الدين:

(فأما اليتيم فلا تقهر (9) وأما السائل فلا تنهر (10) وأما بنعمة ربك فحدث (11)

(الضحى).

وهذه التوجيهات إلى إكرام اليتيم والنهي عن قهره وكسر خاطره وإذلاله، وإلى إغناء السائل مع الرفق به والكرامة، كانت كما ذكرنا مرارا من أهم إيحاءات الواقع في البيئة الجاحدة المتكالبة، التي لا ترعى حق ضعيف، غير قادر على حماية حقه بسيفه! حيث رفع الإسلام هذه البيئة بشرعة الله إلى الحق والعدل والتقوى، والوقوف عند حدود الله الذي يحرس حدوده ويغار عليها ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعاف الذين لا يملكون سيفا يذودون به عن هذه الحقوق.

وأما التحدث بنعمة الله وبخاصة نعمة الهدى والإيمان فهو صورة من صور الشكر للمنعم. يكملها البر بعباده، وهو المظهر العملي للشكر، والحديث الصامت النافع الكريم[7].

الخلاصة:

·زعم المشركون أن رب محمد - صلى الله عليه وسلم - هجره وقلاه باطل جاءت سورة الضحى وفيها إبطال قول المشركين.

·جاءت سورة الضحى مبشرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الآخرة خير له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى. وأنه سيعطيه ربه ما فيه رضاه. وذلك يغيظ المشركين.

· ذكره الله بما حفه به من ألطافه وعنايته في صباه وفي فتوته وفي وقت اكتهاله، وأمره بالشكر على تلك النعم بما يناسبها من نفع لعبيده وثناء على الله بما هو أهله.

المراجع

  1. (*) الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (الضحى/ 3: 5). 
  2.  في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3926، 3927. 
  3.  التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج15، ج30، ص394: 396 بتصرف. 
  4.  في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3927. 
  5.  صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (2/ 82) برقم (583)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2790). 
  6.  التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج15، ج30، ص398، 399. 
  7.  التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت،مج15،ج30، ص399 وما بعدها. 
  8.  في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3927، 3928.