نص السؤال
المؤلف: مجموعة مؤلفي بيان الإسلام
المصدر: موسوعة بيان الإسلام
الجواب التفصيلي
دعوى أن القصص القرآني قصص فني غير واقعي (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القصص القرآني نمط من أنماط القصة الفنية، التي لا يلتزم فيها المبدع الصدق أو نقل الواقع، بل له أن يبدع ما يشاء ويبدل ما يريد وفق الحبكة الفنية، ومن ثم فقد جاء القصص القرآني في ظنهم للعظة والتسلية، ولا يلزم منه تقرير حقيقة تاريخية، ويستدلون على ذلك بقصة أصحاب الفيل التي ينكرون حدوثها؛ وذلك بغية التشكيك في وقوع الحقائق التاريخية التي ينقلها القصص القرآني، ونسبته للأسطورية والخيالية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن المتأمل المنصف لما عليه القصص القرآني من التصوير الصادق والتعبير الواقعي - ليدرك خلوه مما يسمونه بالخيال الفني أو عدم الواقعية في السرد. ناهيك عن أن هذا الزعم لا يستند إلى دليل يدعمه.
2) قصة أصحاب الفيل واقعة تاريخية ثابتة، روتها كتب التاريخ، وأرخ بها العرب أحداثهم في تلك الحقبة.
3) ثمة فارق كبير بين القصص القرآني والقصص الأدبي في الطبيعة والأهداف، كما أن الخيال فيهما مختلف تماما؛ فهو خيال فني في القصص الأدبي، تعبيري في القرآن.
التفصيل:
أولا. القصص القرآني واقعي حقيقي يتناول ما هو ثابت تاريخيا، ولا دور للخيال أو الأسطورة فيه:
زعم المشركون قديما أن القصص القرآني - بوجه عام - إن هو إلا أساطير الأولين، وردد هذا الزعم - في ثوب عصري - المستشرقون المغالطون وتلامذتهم من المستغربين، الذين كان من روادهم في هذا المضمار "د. محمد أحمد خلف الله" في دراسته للدكتوراه بعنوان "الفن القصصي في القرآن" التي دارت حول فكرة أن القصص القرآني خيال أسطوري، وليس له ظل من الواقعية التاريخية بالضرورة، أي أنه أوهام تناقلتها الرواية القرآنية، كما تناقلتها الذاكرة البشرية، وليس من الضروري أن تكون أحداثها قد جرت على أرض الواقع بالفعل.
وقد تصدى لتفنيد هذه المزاعم مفكرون كثيرون، فعلى سبيل المثال، تحت عنوان "الميثولوجيا (الأسطورة) والعلم والقرآن" كتب د. محمد سعيد رمضان البوطي يقول: "فما الأسطورة إذن، وقبل كل شيء؟ هي حصيلة الأخيلة الشعبية التي تروى غالبا على شكل قصص وحكايات، ولما كان الإنسان بفطرته الأصيلة يتمتع بخيال يتسع اتساع الطبيعة التي يعيش ويتقلب فيها، مقابل الواقع المحدود الذي يعيش محاصرا في أقطاره، فقد كان من شأن هذا الخيال أن يجمح بصاحبه إلى ما وراء ذلك الواقع المحدود، سابحا في أرجاء الطبيعة كلها دون أن تقيده شروط أو تصده حدود؛ ليكون ذلك عزاء وتعويضا له عن واقعه الضيق الذي حبس في داخله، ولولا إطلالة الإنسان من داخل واقعه الذي يعيش فيه على الطبيعة المحيطة به، من خلال نوافذ الخيال الذي متعه الله به، لتحول الواقع إلى سجن ضيق خانق، لا يورث صاحبه إلا الكمد والشقاء، مهما كان شأنه، ومهما كان نوع الحياة التي يعيشها.
إذن، فالأسطورة نسيج خيال تصاغ في داخله، وتروى على أساسه، ويتلقاها الناس جيلا بعد جيل، على هذا الأصل وبهذه الهوية، وما من شعب من الشعوب إلا يحافظ من ثمرات خياله على قسط وافر من الحكايات والقصص الأسطورية المتنوعة، تأخذ لون الحضارة والثقافة اللتين تميز بهما، وقد ظلت هذه الحكايات معروفة محتفظة بطابعها الأسطوري، وتروى بدءا من مصدرها الأول موسومة بهذا الطابع، ولم نسمع قط في تاريخ الأدب الأسطوري، أو ما يسمى بأدب الشعوب أن أسطورة من الأساطير انفصلت عن نسبها الموصول إلى جذور الأخيلة والوهم، ثم تسربت إلى قناة الأحداث والوقائع التاريخية، واتخذت طابع الحقيقة الراسخة.
لماذا يكون خبر الله الموحى به إلى رسله وأنبيائه عن كيفية نشأة الإنسان وتكاثره، وعن كيفية خلق الله - عز وجل - لآدم - أسطورة من الأساطير، ولا يكون خبر مارك وداروين عن الموضوع نفسه هو الآخر أسطورة من الأساطير؟ لماذا؟ وما الفرق؟ لماذا يعد خبر الله الموحى به إلى كثير من رسله وأنبيائه عن طوفان نوح وسفينته أسطورة من أساطير التاريخ، ولا يكون خبر علماء التاريخ الطبيعي عن الانفجار العظيم أسطورة من أساطير التاريخ أيضا؟ إن كان الفرق أن في الناس من لا يصدق الوحي الإلهي ولا يلقي إليه بالا، فإن في الناس كثيرين ممن لا يصدقون تصورات داروين، ولا يقيمون وزنا لقصة "الانفجار العظيم" أو "النظرية السديمية" كتفسير لكيفية تشكل الكون والأرض أو ما يشبههما.
ومع ذلك، فإننا لا نسمي - من الناحية العلمية - شيئا من نظريات التطور أو نظريات الباحثين في التاريخ الطبيعي أسطورة، مهما كانت بعيدة عن المنطق أو العلم؛ لأن مقومات هذه التسمية غير موجودة، ومن أهمها أن تكون موضوعة من قبل أصحابها على أنها أسطورة، فلماذا لا يفقه كثير من أدعياء الثقافة والعلم هذه الحقيقة العلمية الواضحة بصدد نظرتهم إلى أخبار الوحي الإلهي؟
إن لهم ولغيرهم أن يصدقوا أو لا يصدقوا شيئا من أخبار الوحي الإلهي، بل لهم أن لا يؤمنوا بحقيقة الوحي ذاته، غير أن عليهم أن يعلموا أن عدم فهمهم أو تصديقهم لذلك ليس هو برهان كونه أسطورة وهمية كاذبة [1].
يؤكد المعنى نفسه مفرقا بين القصص القرآني الواقعي، وبين القصص الروائي الأدبي الفني الخيالي - الشيخ محمد الغزالي حين يقول: "إن القصص القرآني سرد واع موجه للتاريخ الإنساني، ليس الغرض منه الإلهاء والتشويق، بل الغرض منه التربية والتوعية، وتجديد المعاني بعد انتهاء أهلها لتكون عظة دائمة، وقد شاع أدب القصة في عصرنا شيوعا يستحق الدهشة، وامتلأت الأيدي بروايات يقرؤها حاملوها ليقطعوا الوقت أو يتلذذوا بحسن العرض، وجملة هذه الروايات من نسج الخيال، وقد تكون ذات مغزى جيد، وقد تكون إثارة وضيعة، والبون شاسع بين هذه الأقاصيص، وبين التاريخ الذي يجسده القرآن الكريم، ويغزو به الألباب والبصائر؛ ليمحو الغفلة، ويرفع المستوى، ويضيء السبل، البون بعيد بعيد.
عندما يقول الله لنبيه:
(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (120))
(هود)
، فهو يقول ذلك في أعقاب سرد لواقع لا ريب فيه، فقد ذكر في هذه السورة قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى، مع أممهم التي ظهرت في عصور متعاقبة، وانتظمتها أدواء التكذيب والمكابرة، حتى أهلكتهم أمة بعد أخرى، وهو يحكي ذلك إرهابا للعرب المستكبرين وتسلية للنبي وتسرية له - صلى الله عليه وسلم - وفي موضع آخر يقول له:
(ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين (34))
(الأنعام)
، فأين موضع الخيال في هذه الوقائع؟
وبعد أن قص الله - عز وجل - قصة يوسف، وشرح أطوار حياته منذ اختطف إلى أن صار ملك مصر، قال عنه وعن غيره من المسلمين: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (111))
(يوسف)،
فأين موضع الخيال هنا؟
إن اتهام القرآن بأنه يعرض خيالات فنية أو يمزج في سياقه بين الواقع والخيال - اتهام لا مسوغ له، وهو في نظرنا بلاهة نشأت عن اتباع المستشرقين، والمستشرقون يحسون ما في كتبهم من غثاثة وعوج وبعد عن الحق، ويريدون الإيهام بأن القرآن لا يزيد على غيره! وهذا كذب لا يروج عند عاقل" [2].
بعد هذا الدفع النظري العام لشبهة أسطورية القصص القرآني وخياليتها ربما لزم هنا - زيادة في التوكيد على هذه المعاني - التوضيح بمثال تطبيقي تحليلي على بعض من قصص القرآن لإظهار مدى واقعيتها التاريخية من أسطوريتها الخيالية.
في مناقشة لآراء د. خلف الله وأمثاله يقول د. عبد الجواد المحص في تحليله لقصة أهل الكهف: "لقد كان حريا بالدكتور خلف الله ومن جرى مجراه أن يكونوا موضوعيين في دراساتهم وبحوثهم، فلا يدعون اشتمال القرآن الكريم على القصص الأدبي الأسطوري؛ لأن الأساطير هي الأحاديث التي لا نظام لها، وهي الأباطيل والأحاديث العجيبة التي لم تقع في التاريخ ولا يقبلها العقل، حتى إن الناس اليوم إذا أرادوا نفي وجود شيء قالوا: إنه أسطوري، يعنون بذلك: أنه من الخيال المحض القائم على التلفيق والاختراع.
فالأساطير قصص خيالية صرفة تبعد عن التاريخ أكثر مما يبعد الوهم عن الحقيقة، وكل ذلك لم يشتمل عليه القرآن الكريم - كتاب العربية الأكبر؛ لأنه كتاب لا مكان للخيال القصصي فيه، ولا صلة للأساطير والخرافات به، بل إنه كان حريصا على نفي الخيال القصصي عن قصصه؛ فقرر في مواضع عديدة منه أن قصصه ينبئ عن الحق، وأن هذا القصص ليس حديثا يفترى، وأنه من وحي الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومن هذه المواضع قول الحق - سبحانه وتعالى - عن أهل الكهف:
(نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13))
(الكهف).
إننا إذا رحنا نبحث - مثلا - عن الأسطورة في هذه القصة القرآنية لم نجد لشيء من ذلك أثرا، وإنما نجد هذه الآية القرآنية التي تنص نصا صريحا وحاسما على أن القصة من واقع التاريخ الحق، لا صلة للأساطير بها، فمن المدهش حقا أن يصف القرآن الكريم هذه القصة بهذا الوصف الصريح الحاسم، ثم يظهر في البيئة العربية الإسلامية من يتجاهل ويتعامى عن هذه الحقيقة، ويسلم قياده للمستشرقين فيدعي ما يدعون، ويزعم أن القرآن الكريم في ذلك قد سلك سبيل الآداب العالمية والأديان الكبرى، وأن القرآن الكريم لا يعيبه أن يشتمل على الأساطير؛ لأنه بذلك قد قعد القواعد وسن السنن.
لقد اشتملت قصة أهل الكهف - بالذات - على أمور تدل دلالة قوية على عدم صلتها بالأسطورة:
أولها: التقديم القرآني الرائع الذي يسبقها في السورة القرآنية التي احتوتها:
(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9))
(الكهف)
، فنجد أن المولى - عز وجل - يقول لمن يتعجب من هذه القصة، ويستبعد عقله وقوعها، ويرى فيها لونا من الاعتماد على الأسطورة في الوصول على قلوب الناس وعقولهم، يقول لهؤلاء ومن جرى مجراهم: إن آية أصحاب الكهف والرقيم ليست بأغرب ولا أعجب من صنع الله في الأرض، وتزيينه لها ولأهلها بما أوجد فيها من أسباب الحياة ومظاهر النعم، ثم تحويل ذلك كله إلى حال أخرى يتبدل فيه منظر الأرض حين تصبح صعيدا جرزا، وأرضا بيضاء لا نبات فيها ولا شجر، ولا حيوان ولا ثمر، فلو أن عاقلا تفكر في هذا الذي يطرأ على الأرض وتراه العيون فيها يوما بعد يوم، لما وجد في قصة أصحاب الكهف عجبا، ولما وصل به التعجب إلى اعتقاد أنه أمام قصة مخترعة، يتخذ من الأسطورة متكأ.
وثاني هذه الأمور: أن الحق - سبحانه وتعالى - لم يذكر أن أصحابها قد بعثوا من موت - وإن كان البعث من الموت ليس على الله بمستغرب، كما في قصة العزير وحماره مثلا - وإنما الذي أوضحته القصة أنهم بعثوا من نوم عميق طويل غشي عيونهم، بعد أن سلبوا أسباب التنبه والاستيقاظ، وضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، وفضلا عن هذا، فإن القرآن الكريم قد أشار إلى أمر آخر مهم، هو أنهم قد أحيطوا بسائر أسباب الحفظ والصون، بحيث لم يتسرب إلى أجسادهم شيء من المتلفات أو المنبهات، من ذلك ما جاء في
قوله تعالى: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17))
(الكهف).
وكان الحق - سبحانه وتعالى - يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، حتى ليحسبهم الإنسان أيقاظا وهم رقود، ولو اطلع عليهم لولى منهم فرارا ولملئ منهم رعبا، إلى آخر ما تحتويه هذه القصة من وقائع وأحداث تؤكد - بما لا يدع مجالا لشك - أنها تقوم على الحقائق، وترد على المستشرقين ومن نحا نحوهم مزاعمهم الكاذبة، من الواقع الفني الذي يعززه الإعلان والتنبيه.
وثالث ما يلفت النظر ويؤكد صدق هذه القصة: أننا نراها في كل جزئية من جزئياتها تصور الأمر كأنه مرئي بالحس، لا مذكورا بالخبر وحده، فالقصة وإن كانت تتناول موضوعا ماضيا، فإنها تذكره في القرآن الكريم بطريقة معجزة فريدة، تجعل الإنسان - حين يقرؤها أو يستمع إليها - يشعر كأنه يعاين وقائعها، فيفهم مغزاها بدون التباس وبغير ارتياب.
لقد استهل القرآن الكريم القصة
بقوله سبحانه وتعالى:
(نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13))
(الكهف)،
فهذا الاستهلال الرائع يجمع في لفظة واحدة بين الإيغال في الماضي والحضور في الذهن؛ لأن الابتداء بضمير الغائب في (إنهم) يشدنا من أقصى الحاضر إلى الماضي، فإذا بنا نرى هؤلاء المتحدث عنهم في حالتهم التي هم عليها:
(إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13))
وبعد هذا الاستهلال الرائع يعرض القرآن الكريم القصة في مشاهد تتوالى كأنها ترى، فهؤلاء هم أصحاب الكهف قد آووا إلى الكهف راجين الرحمة والرشاد، مبتعدين عن الوثنية وآثامها، وساروا في غيبوبة كأنهم الموتى، وليسوا أمواتا، وتحسبهم أيقاظا وهم رقود، ويقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، وترى الشمس إذا طلعت تزاور [3] عن كهفهم ذات اليمين وذات الشمال، وهم في فجوة من الجبل الذي فيه الكهف، وها هم بعد ثلاثمائة وتسع سنين يستيقظون من سباتهم العميق، ويتساءلون: كم قضوا من العمر في هذا الكهف؟ إلى آخر ما تضمنته القصة من أحداث، صورها القرآن الكريم تصويرا محكما، نلحظ - ونحن نقرؤه - كأنه ماثل أمام أبصارنا في مشاهد واضحة بينة، تدل على عظمة القرآن الكريم في عرضه القصصي الفريد.
ورابع ما يلفت النظر في هذه القصة: أنها كانت مظهرا واقعيا لصورة من صور التحدي القرآني لأعداء سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقص على العرب ما ينزل الله - عز وجل - عليه من غير اقتراح ولا طلب من أحد، ثم حدث أن طلب المشركون - بإغراء من اليهود - أن يقص عليهم الرسول نبأ أهل الكهف وما انتهي إليه أمرهم، وكذلك نبأ رجل طاف العالم وأظهر فيه بعض العجائب في قومه ومظهره وهدايته، فكان هذا الطلب من المشركين بمثابة امتحان للنبي - صلى الله عليه وسلم - نجح فيه النبي نجاحا باهرا، وكان برهانا صادقا على أنه نبي صادق لا يقص عليهم إلا ما يوحى إليه من الله عز وجل.
فقد قص عليهم ما طلبوا بأدق تفاصيل وأصدق بيان، ودل على تمام صدقه أنه كان قد وعدهم بأنه سيجيبهم غدا؛ ثقة منه بأن الله الذي يعلمه كل شيء سيوحي إليه سريعا، لكن الوحي أبطأ عليه حتى شق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذبته قريش، ثم نزل الوحي بقصة أهل الكهف وقصة ذي القرنين، وفي ثنايا القصة الأولى
قول الله سبحانه وتعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا (23) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا (24))
(الكهف)
، وقبل القصة الثانية جاء ذكر قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح في تصوير قرآني محكم دقيق.
وخامس ما يلفت النظر في قصة أصحاب الكهف: أن القرآن قد اتبع في عرضها طريقة التلخيص الإجمالي أولا، ثم العرض التفصيلي أخيرا، فهي تبدأ هكذا:
(أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9) إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا (10) فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11) ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12))
(الكهف).
فهذه الآيات الكريمة تلخيص يجمل القصة، ويرسم خطوطها الرئيسة العريضة، ويشير إلى أنها آية عجيبة من آيات الله، لكنها - مع غرابتها - ليست بأعجب آيات الله، ففي صفحات كونه الممتد من العجائب والغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف.
وبعد هذا التلخيص المشوق للقصة، يجيء التفصيل مبتدئا ببيان أن ما سيقصه الله منها هو فصل الخطاب في الروايات المتضاربة في عددهم ومدة نومهم، وغير ذلك من الحق اليقين في أحداثهم، ثم يعقب القرآن الكريم على القصة بإعلان الوحدانية ظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها:
(ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا (26))
(الكهف)،
وبتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تلاوة ما أوحاه ربه إليه، وفيه فصل الخطاب - وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل - والاتجاه إلى الله وحده، فليس من حمى إلا حماه، وقد فر إليه أصحاب الكهف؛ فشملهم برحمته وهدايته:
(واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا (27))
(الكهف) [4].
وهكذا تنتهي القصة، تسبقها وتتخللها وتعقبها أمور عديدة تشهد بأنها قصة واقعية لا صلة للأساطير بها، فكيف يدعي المستشرقون ومن نحا نحوهم من العرب المستغربين أنها قصة أسطورية؟
وقد أشار د. عبد الله العمراني في مقال له بعنوان "النيام السبعة وأهل الكهف" إلى أن دائرة الآثار الأردنية قد اكتشتف في عام 1962 موقع كهف أهل الرقيم في قرية أردنية تسمى الرميم على بعد سبع كيلو مترات جنوب العاصمة الأردنية عمان؛ إذ تم العثور داخل الكهف على نقوش وحلي ونقود بيزنطية تعود للقرن الثالث الميلادي، مصداقا
لقول الله سبحانه وتعالى:
(فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة)
(الكهف: ١٩)،
كما تم العثور على سبع جماجم بشرية في سبعة قبور بداخل الكهف، وعلى جمجمة كلب، وتم العثور أيضا على أعمدة المسجد الذي أقيم فوق الكهف، وكذلك على الفجوة التي بداخل الكهف، وتبلغ مساحتها على وجه التقريب نحو أربعة أمتار في ثلاث، بل ثبت أن الشمس تمر فعلا عند طلوعها أمام الكهف، وتنحرف عنه عند غروبها، فأشعتها لا تنفذ داخل الكهف، كما أخبر القرآن الكريم قبل هذا الاكتشاف العصري.
ويقول د. عبد العليم خضر في شأن
قول الله سبحانه وتعالى:
(ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25))
(الكهف)،
هذا خبر من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أن أرقدهم الله إلى أن بعثهم الله، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة وازدادوا تسعا.
هكذا أخبرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الفرق بين التقويم الشمسي والتقويم القمري، فالشمسي ما كان يسير عليه الناس زمن حكم الرومان، وهو زمن وقوع القصة، والقمري ما سار عليه العرب، وكانت الهجرة فيما بعد عليه دليلا، وكأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: أيها الناس، هذا النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يدرس علم الحساب ولا الهندسة ولا الفلك من أين جاء له أن كل مائة سنة شمسية تزاد ثلاث سنين قمرية، وكل ثلاث وثلاثين سنة شمسية تزيد سنة قمرية وكل سنة شمسية تزيد نحو أحد عشر يوما؟ ليس لذلك أي معنى سوى الإعجاز القرآني، وحسبنا في الرد على المستشرقين ود. خلف الله هذا القدر من الردود الداحضة لمزاعمهم الباطلة [5].
ولأن من يثيرون مثل هذه الشبهة التي نحن بصددها - أسطورية القصص القرآني - لا دليل لديهم سوى التمسح بالعلم، وادعاء أن الاعتقاد بواقعية مثل هذا القصص والإيمان به تتنافى مع روح العلم الحديث وتنكب طريقه، ولا تساير مقتضياته، نقول لأن هذا هو دليلهم التعميمي اليتيم المبهم، فإننا نورد هنا تحليلا علميا إعجازيا للقصة نفسها من قبل أحد المختصين يدحض كلام هؤلاء المتفلسفين المتحذلقين بغير علم ولا يقين، يقول د. عبد الحافظ سلامة: وفي قصة أهل الكهف - على سبيل المثال - أوحى اليهود لمشركي قريش أن يسألوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الكهف لمعرفة إن كان صادقا أم كاذبا، والقصة ملخصة أن مجموعة من الفتية المؤمنين بالله هربوا بدينهم من ملك كافر طاغية ومتسلط، خوفا من القتل، فأنامهم الله في الكهف لمدة ثلاثمائة سنة، ثم أيقظهم بقدرته وجعلهم آية للناس على مر العصور، تشهد بقدرة الله - عز وجل - وفي القرآن لا تسرد هذه الحكاية فقط، لكنها احتوت العديد من الآيات العلمية التي لا يمكن أن يصوغها بشر بهذه الكيفية.
فقد ذكر في القصة العوامل التي تؤثر على الإنسان النائم الحي وليس الميت، وهذه العوامل هي أثر الصوت - وليس الضوء - على النائم، والتهوية الجيدة، والتعقيم وقتل الميكروبات التي تحلل الجسم وتقليب جسم الإنسان، وأخيرا الفرق بين السنة الشمسية والقمرية حسابيا، وهذه الآيات هي:
1. تأثير الصوت على الإنسان النائم:
(إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا (10) فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11))
(الكهف)
أول أثر على النائم لإيقاظه هو الصوت وليس الضوء، ولذلك أول آية في هذه القصة ذكر فيها أنه ضرب على آذانهم بمعنى جعلهم صما لا يحسون بأية أصوات خارج الكهف، كصوت الريح والرعد وخلافه، حتى لا يستيقظوا من نومهم.
فالإنسان لا يستيقظ عند إنارة النور وهو نائم، ولكن يستيقظ عند حدوث صوت كجرس الساعة مثلا، أو النداء عليه بصوت مرتفع، أو أية ضوضاء خارجية، ولذلك
قال الله - سبحانه وتعالى - في آية علمية:
(فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11))
(الكهف).
2. أثر التهوية وأشعة الشمس على تنظيف الكهف من الميكروبات:
(وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17))
(الكهف).
سبحان الله، لإثبات أن الضوء لا يؤثر على النائم ذكر الله - سبحانه وتعالى - أن الشمس تدخل الكهف في الشروق: (وترى الشمس إذا طلعت)، وتمر عليهم عند الغروب (تقرضهم) أي: تمر عليهم مبينا عدم تأثير الضوء على النائم، وكما نعلم في علم الميكروبولوجيا أن أشعة الشمس في الشروق وفي الغروب تحتوي على الأشعة فوق البنفسجية التي تؤدي إلى قتل الميكروبات، ليس هذا فحسب؛ فقد فتح الله - سبحانه وتعالى - طاقة أو فجوة في الكهف للآتي:
• إحداث تيار هوائي لتجديد الهواء الملاصق لهم وهم نائمون.
• دخول أشعة الشمس في الشروق والغروب لقتلها الميكروبات وتعقيم المكان ومن فيه، ومما يدعونا إلى تهوية المساكن وتعريض الفرش لأشعة الشمس، علاوة على أثر أشعة الشمس على الإنسان، حيث إنها مفيدة في تكوين فيتامين (د) للجلد، وكذلك حتى يتقي الإنسان كثيرا من الأمراض، وأشد الأمراض اتصالا بعدم التهوية وعدم وجود الشمس هو مرض السل مثلا:
(وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17))
(الكهف)
سبحان الله! ذكر التهوية ودخول أشعة الشمس من آيات الله فعلا، فهي من آيات الله العلمية في القرآن الدالة على صدق رسوله، وأنه مبلغ هذا الكتاب، وليس مؤلفا، فكيف عرف أثر أشعة الشمس عند الشروق وعند الغروب في التعقيم وقتل الميكروبات، وكذلك أثر التهوية على صحة الإنسان، إذ إنهم نيام وليسوا أمواتا.
3. تقليب أجسادهم حتى لا يصابوا بقرحة الفراش: (
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18))
(الكهف).
لاحظ
(ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال)
مع الآية رقم 17، حيث ذكر أن الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهم في فجوة منه؛ حتى يتعرض الجانب من الجسم الملاصق للأرض أثناء الليل ذات اليمين إلى أشعة الشمس التي تزاور عن كهفهم ذات اليمين، فيحدث تهوية وتعقيم لهذا الجانب، ثم يقلبهم الله - سبحانه وتعالى - بقدرته إلى الشمال عند الغروب، حتى يتعرض جانب الجسم الملاصق للأرض أثناء النهار إلى أشعة الشمس التي تقرضهم ذات الشمال عند الغروب، وكذلك للتهوية حتى لا يحدث لهم التقرحات في أجسامهم، نتيجة نمو الميكروبات اللاهوائية عند عدم تقليب الجسد، وهو ما عرف حديثا بقرحة الفراش، والتي لم تعرف من قبل، وحتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
فكيف عرف هذه المعلومات من أثر التهوية وأشعة الشمس وقرحة الفراش على الإنسان النائم منذ هذا الزمن - أربعة عشر قرنا - وفي بيئة صحراوية، وحتى لو كان أعلم علماء عصره، وقرأ العهد القديم والجديد، وجمع جميع المعلومات الموجودة في عصره، وكلها آيات علمية في قصة واحدة؟
4. الفرق بين السنة الشمسية والسنة القمرية:
(ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25))
(الكهف)
عندما نكتب مثلا 309 سنة بالحروف العربية تكون ثلاثمائة وتسع سنين، ولكن أن يكتب ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا شيء آخر؛ لأنه ربط السنين الشمسية بالسنين القمرية، فإذا أردت أن تحسب زمن نومهم بالسنين الشمسية فهي ثلاثمائة سنة شمسية، وعند حساب نفس المدة بالسنين القمرية تكون ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا؛ لأن الفرق بين السنة الشمسية والقمرية أحد عشر يوما تقريبا، فعندما نضربها في عدد 300 سنة، نجد الفرق هو تسع سنوات بالضبط، ومن ثم يصبح محمد - صلى الله عليه وسلم - عالما في الصوتيات والطب وفي الفلك، ويضع هذه العوامل جميعها أثناء كتابة قصة مجموعة من الفتيان نامت مدة ثلاثمائة سنة ثم أيقظهم الله.
5. اختلاف عدد الفتية:
قال سبحانه وتعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22))
(الكهف)،
فإذا عرفت أن السائلين هم اليهود وهم أهل جدال، وقد عرف الله - عز وجل - أنهم سيكذبون رسوله مهما قال لهم الحقيقة، ولقد أبلغهم الله بما كانوا متفقين عليه، ولذلك قال سبحانه وتعالى: (سيقولون) ويختلفون في أعدادهم؛ لأنهم لا يعرفون الحقيقة، فقالوا: إن قال محمد: ثلاثة ورابعهم كلبهم، نقول: لا ليس صحيحا هم خمسة وسادسهم كلبهم، وهكذا... ولذلك أمر الله رسوله أن لا يجادلهم إلا فيما قالوا هم، ولا يدخل في التفاصيل، ولا يناقش، ولا يسأل أحدا منهم [6].
المراجع
- (*) نظرات شرعية في فكر منحرف، سليمان بن صالح الخراشي، مكتبة التوحيد، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2007م. [1]. هذه مشكلاتهم، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1990م، ص 115: 113 بتصرف.
- مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2004م، ص 156،155.
- تزاور: تطلع على كهفهم ذات اليمين وذات الشمال فلا تصيبهم.
- الملتحد: الملجأ؛ لأن اللاجئ يميل إليه.
- أباطيل الخصوم حول القصص القرآني، د. عبد الجود المحص، الدار المصرية، الإسكندرية، 2000م، ص146: 152.
- يقولون عن الإسلام، د. عبد الحافظ سلامة، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط 1، 2007م، ص52: 56.
الجواب التفصيلي
دعوى أن القصص القرآني قصص فني غير واقعي (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القصص القرآني نمط من أنماط القصة الفنية، التي لا يلتزم فيها المبدع الصدق أو نقل الواقع، بل له أن يبدع ما يشاء ويبدل ما يريد وفق الحبكة الفنية، ومن ثم فقد جاء القصص القرآني في ظنهم للعظة والتسلية، ولا يلزم منه تقرير حقيقة تاريخية، ويستدلون على ذلك بقصة أصحاب الفيل التي ينكرون حدوثها؛ وذلك بغية التشكيك في وقوع الحقائق التاريخية التي ينقلها القصص القرآني، ونسبته للأسطورية والخيالية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن المتأمل المنصف لما عليه القصص القرآني من التصوير الصادق والتعبير الواقعي - ليدرك خلوه مما يسمونه بالخيال الفني أو عدم الواقعية في السرد. ناهيك عن أن هذا الزعم لا يستند إلى دليل يدعمه.
2) قصة أصحاب الفيل واقعة تاريخية ثابتة، روتها كتب التاريخ، وأرخ بها العرب أحداثهم في تلك الحقبة.
3) ثمة فارق كبير بين القصص القرآني والقصص الأدبي في الطبيعة والأهداف، كما أن الخيال فيهما مختلف تماما؛ فهو خيال فني في القصص الأدبي، تعبيري في القرآن.
التفصيل:
أولا. القصص القرآني واقعي حقيقي يتناول ما هو ثابت تاريخيا، ولا دور للخيال أو الأسطورة فيه:
زعم المشركون قديما أن القصص القرآني - بوجه عام - إن هو إلا أساطير الأولين، وردد هذا الزعم - في ثوب عصري - المستشرقون المغالطون وتلامذتهم من المستغربين، الذين كان من روادهم في هذا المضمار "د. محمد أحمد خلف الله" في دراسته للدكتوراه بعنوان "الفن القصصي في القرآن" التي دارت حول فكرة أن القصص القرآني خيال أسطوري، وليس له ظل من الواقعية التاريخية بالضرورة، أي أنه أوهام تناقلتها الرواية القرآنية، كما تناقلتها الذاكرة البشرية، وليس من الضروري أن تكون أحداثها قد جرت على أرض الواقع بالفعل.
وقد تصدى لتفنيد هذه المزاعم مفكرون كثيرون، فعلى سبيل المثال، تحت عنوان "الميثولوجيا (الأسطورة) والعلم والقرآن" كتب د. محمد سعيد رمضان البوطي يقول: "فما الأسطورة إذن، وقبل كل شيء؟ هي حصيلة الأخيلة الشعبية التي تروى غالبا على شكل قصص وحكايات، ولما كان الإنسان بفطرته الأصيلة يتمتع بخيال يتسع اتساع الطبيعة التي يعيش ويتقلب فيها، مقابل الواقع المحدود الذي يعيش محاصرا في أقطاره، فقد كان من شأن هذا الخيال أن يجمح بصاحبه إلى ما وراء ذلك الواقع المحدود، سابحا في أرجاء الطبيعة كلها دون أن تقيده شروط أو تصده حدود؛ ليكون ذلك عزاء وتعويضا له عن واقعه الضيق الذي حبس في داخله، ولولا إطلالة الإنسان من داخل واقعه الذي يعيش فيه على الطبيعة المحيطة به، من خلال نوافذ الخيال الذي متعه الله به، لتحول الواقع إلى سجن ضيق خانق، لا يورث صاحبه إلا الكمد والشقاء، مهما كان شأنه، ومهما كان نوع الحياة التي يعيشها.
إذن، فالأسطورة نسيج خيال تصاغ في داخله، وتروى على أساسه، ويتلقاها الناس جيلا بعد جيل، على هذا الأصل وبهذه الهوية، وما من شعب من الشعوب إلا يحافظ من ثمرات خياله على قسط وافر من الحكايات والقصص الأسطورية المتنوعة، تأخذ لون الحضارة والثقافة اللتين تميز بهما، وقد ظلت هذه الحكايات معروفة محتفظة بطابعها الأسطوري، وتروى بدءا من مصدرها الأول موسومة بهذا الطابع، ولم نسمع قط في تاريخ الأدب الأسطوري، أو ما يسمى بأدب الشعوب أن أسطورة من الأساطير انفصلت عن نسبها الموصول إلى جذور الأخيلة والوهم، ثم تسربت إلى قناة الأحداث والوقائع التاريخية، واتخذت طابع الحقيقة الراسخة.
لماذا يكون خبر الله الموحى به إلى رسله وأنبيائه عن كيفية نشأة الإنسان وتكاثره، وعن كيفية خلق الله - عز وجل - لآدم - أسطورة من الأساطير، ولا يكون خبر مارك وداروين عن الموضوع نفسه هو الآخر أسطورة من الأساطير؟ لماذا؟ وما الفرق؟ لماذا يعد خبر الله الموحى به إلى كثير من رسله وأنبيائه عن طوفان نوح وسفينته أسطورة من أساطير التاريخ، ولا يكون خبر علماء التاريخ الطبيعي عن الانفجار العظيم أسطورة من أساطير التاريخ أيضا؟ إن كان الفرق أن في الناس من لا يصدق الوحي الإلهي ولا يلقي إليه بالا، فإن في الناس كثيرين ممن لا يصدقون تصورات داروين، ولا يقيمون وزنا لقصة "الانفجار العظيم" أو "النظرية السديمية" كتفسير لكيفية تشكل الكون والأرض أو ما يشبههما.
ومع ذلك، فإننا لا نسمي - من الناحية العلمية - شيئا من نظريات التطور أو نظريات الباحثين في التاريخ الطبيعي أسطورة، مهما كانت بعيدة عن المنطق أو العلم؛ لأن مقومات هذه التسمية غير موجودة، ومن أهمها أن تكون موضوعة من قبل أصحابها على أنها أسطورة، فلماذا لا يفقه كثير من أدعياء الثقافة والعلم هذه الحقيقة العلمية الواضحة بصدد نظرتهم إلى أخبار الوحي الإلهي؟
إن لهم ولغيرهم أن يصدقوا أو لا يصدقوا شيئا من أخبار الوحي الإلهي، بل لهم أن لا يؤمنوا بحقيقة الوحي ذاته، غير أن عليهم أن يعلموا أن عدم فهمهم أو تصديقهم لذلك ليس هو برهان كونه أسطورة وهمية كاذبة [1].
يؤكد المعنى نفسه مفرقا بين القصص القرآني الواقعي، وبين القصص الروائي الأدبي الفني الخيالي - الشيخ محمد الغزالي حين يقول: "إن القصص القرآني سرد واع موجه للتاريخ الإنساني، ليس الغرض منه الإلهاء والتشويق، بل الغرض منه التربية والتوعية، وتجديد المعاني بعد انتهاء أهلها لتكون عظة دائمة، وقد شاع أدب القصة في عصرنا شيوعا يستحق الدهشة، وامتلأت الأيدي بروايات يقرؤها حاملوها ليقطعوا الوقت أو يتلذذوا بحسن العرض، وجملة هذه الروايات من نسج الخيال، وقد تكون ذات مغزى جيد، وقد تكون إثارة وضيعة، والبون شاسع بين هذه الأقاصيص، وبين التاريخ الذي يجسده القرآن الكريم، ويغزو به الألباب والبصائر؛ ليمحو الغفلة، ويرفع المستوى، ويضيء السبل، البون بعيد بعيد.
عندما يقول الله لنبيه:
(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (120))
(هود)
، فهو يقول ذلك في أعقاب سرد لواقع لا ريب فيه، فقد ذكر في هذه السورة قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى، مع أممهم التي ظهرت في عصور متعاقبة، وانتظمتها أدواء التكذيب والمكابرة، حتى أهلكتهم أمة بعد أخرى، وهو يحكي ذلك إرهابا للعرب المستكبرين وتسلية للنبي وتسرية له - صلى الله عليه وسلم - وفي موضع آخر يقول له:
(ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين (34))
(الأنعام)
، فأين موضع الخيال في هذه الوقائع؟
وبعد أن قص الله - عز وجل - قصة يوسف، وشرح أطوار حياته منذ اختطف إلى أن صار ملك مصر، قال عنه وعن غيره من المسلمين: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (111))
(يوسف)،
فأين موضع الخيال هنا؟
إن اتهام القرآن بأنه يعرض خيالات فنية أو يمزج في سياقه بين الواقع والخيال - اتهام لا مسوغ له، وهو في نظرنا بلاهة نشأت عن اتباع المستشرقين، والمستشرقون يحسون ما في كتبهم من غثاثة وعوج وبعد عن الحق، ويريدون الإيهام بأن القرآن لا يزيد على غيره! وهذا كذب لا يروج عند عاقل" [2].
بعد هذا الدفع النظري العام لشبهة أسطورية القصص القرآني وخياليتها ربما لزم هنا - زيادة في التوكيد على هذه المعاني - التوضيح بمثال تطبيقي تحليلي على بعض من قصص القرآن لإظهار مدى واقعيتها التاريخية من أسطوريتها الخيالية.
في مناقشة لآراء د. خلف الله وأمثاله يقول د. عبد الجواد المحص في تحليله لقصة أهل الكهف: "لقد كان حريا بالدكتور خلف الله ومن جرى مجراه أن يكونوا موضوعيين في دراساتهم وبحوثهم، فلا يدعون اشتمال القرآن الكريم على القصص الأدبي الأسطوري؛ لأن الأساطير هي الأحاديث التي لا نظام لها، وهي الأباطيل والأحاديث العجيبة التي لم تقع في التاريخ ولا يقبلها العقل، حتى إن الناس اليوم إذا أرادوا نفي وجود شيء قالوا: إنه أسطوري، يعنون بذلك: أنه من الخيال المحض القائم على التلفيق والاختراع.
فالأساطير قصص خيالية صرفة تبعد عن التاريخ أكثر مما يبعد الوهم عن الحقيقة، وكل ذلك لم يشتمل عليه القرآن الكريم - كتاب العربية الأكبر؛ لأنه كتاب لا مكان للخيال القصصي فيه، ولا صلة للأساطير والخرافات به، بل إنه كان حريصا على نفي الخيال القصصي عن قصصه؛ فقرر في مواضع عديدة منه أن قصصه ينبئ عن الحق، وأن هذا القصص ليس حديثا يفترى، وأنه من وحي الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومن هذه المواضع قول الحق - سبحانه وتعالى - عن أهل الكهف:
(نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13))
(الكهف).
إننا إذا رحنا نبحث - مثلا - عن الأسطورة في هذه القصة القرآنية لم نجد لشيء من ذلك أثرا، وإنما نجد هذه الآية القرآنية التي تنص نصا صريحا وحاسما على أن القصة من واقع التاريخ الحق، لا صلة للأساطير بها، فمن المدهش حقا أن يصف القرآن الكريم هذه القصة بهذا الوصف الصريح الحاسم، ثم يظهر في البيئة العربية الإسلامية من يتجاهل ويتعامى عن هذه الحقيقة، ويسلم قياده للمستشرقين فيدعي ما يدعون، ويزعم أن القرآن الكريم في ذلك قد سلك سبيل الآداب العالمية والأديان الكبرى، وأن القرآن الكريم لا يعيبه أن يشتمل على الأساطير؛ لأنه بذلك قد قعد القواعد وسن السنن.
لقد اشتملت قصة أهل الكهف - بالذات - على أمور تدل دلالة قوية على عدم صلتها بالأسطورة:
أولها: التقديم القرآني الرائع الذي يسبقها في السورة القرآنية التي احتوتها:
(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9))
(الكهف)
، فنجد أن المولى - عز وجل - يقول لمن يتعجب من هذه القصة، ويستبعد عقله وقوعها، ويرى فيها لونا من الاعتماد على الأسطورة في الوصول على قلوب الناس وعقولهم، يقول لهؤلاء ومن جرى مجراهم: إن آية أصحاب الكهف والرقيم ليست بأغرب ولا أعجب من صنع الله في الأرض، وتزيينه لها ولأهلها بما أوجد فيها من أسباب الحياة ومظاهر النعم، ثم تحويل ذلك كله إلى حال أخرى يتبدل فيه منظر الأرض حين تصبح صعيدا جرزا، وأرضا بيضاء لا نبات فيها ولا شجر، ولا حيوان ولا ثمر، فلو أن عاقلا تفكر في هذا الذي يطرأ على الأرض وتراه العيون فيها يوما بعد يوم، لما وجد في قصة أصحاب الكهف عجبا، ولما وصل به التعجب إلى اعتقاد أنه أمام قصة مخترعة، يتخذ من الأسطورة متكأ.
وثاني هذه الأمور: أن الحق - سبحانه وتعالى - لم يذكر أن أصحابها قد بعثوا من موت - وإن كان البعث من الموت ليس على الله بمستغرب، كما في قصة العزير وحماره مثلا - وإنما الذي أوضحته القصة أنهم بعثوا من نوم عميق طويل غشي عيونهم، بعد أن سلبوا أسباب التنبه والاستيقاظ، وضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، وفضلا عن هذا، فإن القرآن الكريم قد أشار إلى أمر آخر مهم، هو أنهم قد أحيطوا بسائر أسباب الحفظ والصون، بحيث لم يتسرب إلى أجسادهم شيء من المتلفات أو المنبهات، من ذلك ما جاء في
قوله تعالى: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17))
(الكهف).
وكان الحق - سبحانه وتعالى - يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، حتى ليحسبهم الإنسان أيقاظا وهم رقود، ولو اطلع عليهم لولى منهم فرارا ولملئ منهم رعبا، إلى آخر ما تحتويه هذه القصة من وقائع وأحداث تؤكد - بما لا يدع مجالا لشك - أنها تقوم على الحقائق، وترد على المستشرقين ومن نحا نحوهم مزاعمهم الكاذبة، من الواقع الفني الذي يعززه الإعلان والتنبيه.
وثالث ما يلفت النظر ويؤكد صدق هذه القصة: أننا نراها في كل جزئية من جزئياتها تصور الأمر كأنه مرئي بالحس، لا مذكورا بالخبر وحده، فالقصة وإن كانت تتناول موضوعا ماضيا، فإنها تذكره في القرآن الكريم بطريقة معجزة فريدة، تجعل الإنسان - حين يقرؤها أو يستمع إليها - يشعر كأنه يعاين وقائعها، فيفهم مغزاها بدون التباس وبغير ارتياب.
لقد استهل القرآن الكريم القصة
بقوله سبحانه وتعالى:
(نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13))
(الكهف)،
فهذا الاستهلال الرائع يجمع في لفظة واحدة بين الإيغال في الماضي والحضور في الذهن؛ لأن الابتداء بضمير الغائب في (إنهم) يشدنا من أقصى الحاضر إلى الماضي، فإذا بنا نرى هؤلاء المتحدث عنهم في حالتهم التي هم عليها:
(إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13))
وبعد هذا الاستهلال الرائع يعرض القرآن الكريم القصة في مشاهد تتوالى كأنها ترى، فهؤلاء هم أصحاب الكهف قد آووا إلى الكهف راجين الرحمة والرشاد، مبتعدين عن الوثنية وآثامها، وساروا في غيبوبة كأنهم الموتى، وليسوا أمواتا، وتحسبهم أيقاظا وهم رقود، ويقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، وترى الشمس إذا طلعت تزاور [3] عن كهفهم ذات اليمين وذات الشمال، وهم في فجوة من الجبل الذي فيه الكهف، وها هم بعد ثلاثمائة وتسع سنين يستيقظون من سباتهم العميق، ويتساءلون: كم قضوا من العمر في هذا الكهف؟ إلى آخر ما تضمنته القصة من أحداث، صورها القرآن الكريم تصويرا محكما، نلحظ - ونحن نقرؤه - كأنه ماثل أمام أبصارنا في مشاهد واضحة بينة، تدل على عظمة القرآن الكريم في عرضه القصصي الفريد.
ورابع ما يلفت النظر في هذه القصة: أنها كانت مظهرا واقعيا لصورة من صور التحدي القرآني لأعداء سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقص على العرب ما ينزل الله - عز وجل - عليه من غير اقتراح ولا طلب من أحد، ثم حدث أن طلب المشركون - بإغراء من اليهود - أن يقص عليهم الرسول نبأ أهل الكهف وما انتهي إليه أمرهم، وكذلك نبأ رجل طاف العالم وأظهر فيه بعض العجائب في قومه ومظهره وهدايته، فكان هذا الطلب من المشركين بمثابة امتحان للنبي - صلى الله عليه وسلم - نجح فيه النبي نجاحا باهرا، وكان برهانا صادقا على أنه نبي صادق لا يقص عليهم إلا ما يوحى إليه من الله عز وجل.
فقد قص عليهم ما طلبوا بأدق تفاصيل وأصدق بيان، ودل على تمام صدقه أنه كان قد وعدهم بأنه سيجيبهم غدا؛ ثقة منه بأن الله الذي يعلمه كل شيء سيوحي إليه سريعا، لكن الوحي أبطأ عليه حتى شق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذبته قريش، ثم نزل الوحي بقصة أهل الكهف وقصة ذي القرنين، وفي ثنايا القصة الأولى
قول الله سبحانه وتعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا (23) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا (24))
(الكهف)
، وقبل القصة الثانية جاء ذكر قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح في تصوير قرآني محكم دقيق.
وخامس ما يلفت النظر في قصة أصحاب الكهف: أن القرآن قد اتبع في عرضها طريقة التلخيص الإجمالي أولا، ثم العرض التفصيلي أخيرا، فهي تبدأ هكذا:
(أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9) إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا (10) فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11) ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12))
(الكهف).
فهذه الآيات الكريمة تلخيص يجمل القصة، ويرسم خطوطها الرئيسة العريضة، ويشير إلى أنها آية عجيبة من آيات الله، لكنها - مع غرابتها - ليست بأعجب آيات الله، ففي صفحات كونه الممتد من العجائب والغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف.
وبعد هذا التلخيص المشوق للقصة، يجيء التفصيل مبتدئا ببيان أن ما سيقصه الله منها هو فصل الخطاب في الروايات المتضاربة في عددهم ومدة نومهم، وغير ذلك من الحق اليقين في أحداثهم، ثم يعقب القرآن الكريم على القصة بإعلان الوحدانية ظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها:
(ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا (26))
(الكهف)،
وبتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تلاوة ما أوحاه ربه إليه، وفيه فصل الخطاب - وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل - والاتجاه إلى الله وحده، فليس من حمى إلا حماه، وقد فر إليه أصحاب الكهف؛ فشملهم برحمته وهدايته:
(واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا (27))
(الكهف) [4].
وهكذا تنتهي القصة، تسبقها وتتخللها وتعقبها أمور عديدة تشهد بأنها قصة واقعية لا صلة للأساطير بها، فكيف يدعي المستشرقون ومن نحا نحوهم من العرب المستغربين أنها قصة أسطورية؟
وقد أشار د. عبد الله العمراني في مقال له بعنوان "النيام السبعة وأهل الكهف" إلى أن دائرة الآثار الأردنية قد اكتشتف في عام 1962 موقع كهف أهل الرقيم في قرية أردنية تسمى الرميم على بعد سبع كيلو مترات جنوب العاصمة الأردنية عمان؛ إذ تم العثور داخل الكهف على نقوش وحلي ونقود بيزنطية تعود للقرن الثالث الميلادي، مصداقا
لقول الله سبحانه وتعالى:
(فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة)
(الكهف: ١٩)،
كما تم العثور على سبع جماجم بشرية في سبعة قبور بداخل الكهف، وعلى جمجمة كلب، وتم العثور أيضا على أعمدة المسجد الذي أقيم فوق الكهف، وكذلك على الفجوة التي بداخل الكهف، وتبلغ مساحتها على وجه التقريب نحو أربعة أمتار في ثلاث، بل ثبت أن الشمس تمر فعلا عند طلوعها أمام الكهف، وتنحرف عنه عند غروبها، فأشعتها لا تنفذ داخل الكهف، كما أخبر القرآن الكريم قبل هذا الاكتشاف العصري.
ويقول د. عبد العليم خضر في شأن
قول الله سبحانه وتعالى:
(ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25))
(الكهف)،
هذا خبر من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أن أرقدهم الله إلى أن بعثهم الله، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة وازدادوا تسعا.
هكذا أخبرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الفرق بين التقويم الشمسي والتقويم القمري، فالشمسي ما كان يسير عليه الناس زمن حكم الرومان، وهو زمن وقوع القصة، والقمري ما سار عليه العرب، وكانت الهجرة فيما بعد عليه دليلا، وكأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: أيها الناس، هذا النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يدرس علم الحساب ولا الهندسة ولا الفلك من أين جاء له أن كل مائة سنة شمسية تزاد ثلاث سنين قمرية، وكل ثلاث وثلاثين سنة شمسية تزيد سنة قمرية وكل سنة شمسية تزيد نحو أحد عشر يوما؟ ليس لذلك أي معنى سوى الإعجاز القرآني، وحسبنا في الرد على المستشرقين ود. خلف الله هذا القدر من الردود الداحضة لمزاعمهم الباطلة [5].
ولأن من يثيرون مثل هذه الشبهة التي نحن بصددها - أسطورية القصص القرآني - لا دليل لديهم سوى التمسح بالعلم، وادعاء أن الاعتقاد بواقعية مثل هذا القصص والإيمان به تتنافى مع روح العلم الحديث وتنكب طريقه، ولا تساير مقتضياته، نقول لأن هذا هو دليلهم التعميمي اليتيم المبهم، فإننا نورد هنا تحليلا علميا إعجازيا للقصة نفسها من قبل أحد المختصين يدحض كلام هؤلاء المتفلسفين المتحذلقين بغير علم ولا يقين، يقول د. عبد الحافظ سلامة: وفي قصة أهل الكهف - على سبيل المثال - أوحى اليهود لمشركي قريش أن يسألوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الكهف لمعرفة إن كان صادقا أم كاذبا، والقصة ملخصة أن مجموعة من الفتية المؤمنين بالله هربوا بدينهم من ملك كافر طاغية ومتسلط، خوفا من القتل، فأنامهم الله في الكهف لمدة ثلاثمائة سنة، ثم أيقظهم بقدرته وجعلهم آية للناس على مر العصور، تشهد بقدرة الله - عز وجل - وفي القرآن لا تسرد هذه الحكاية فقط، لكنها احتوت العديد من الآيات العلمية التي لا يمكن أن يصوغها بشر بهذه الكيفية.
فقد ذكر في القصة العوامل التي تؤثر على الإنسان النائم الحي وليس الميت، وهذه العوامل هي أثر الصوت - وليس الضوء - على النائم، والتهوية الجيدة، والتعقيم وقتل الميكروبات التي تحلل الجسم وتقليب جسم الإنسان، وأخيرا الفرق بين السنة الشمسية والقمرية حسابيا، وهذه الآيات هي:
1. تأثير الصوت على الإنسان النائم:
(إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا (10) فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11))
(الكهف)
أول أثر على النائم لإيقاظه هو الصوت وليس الضوء، ولذلك أول آية في هذه القصة ذكر فيها أنه ضرب على آذانهم بمعنى جعلهم صما لا يحسون بأية أصوات خارج الكهف، كصوت الريح والرعد وخلافه، حتى لا يستيقظوا من نومهم.
فالإنسان لا يستيقظ عند إنارة النور وهو نائم، ولكن يستيقظ عند حدوث صوت كجرس الساعة مثلا، أو النداء عليه بصوت مرتفع، أو أية ضوضاء خارجية، ولذلك
قال الله - سبحانه وتعالى - في آية علمية:
(فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11))
(الكهف).
2. أثر التهوية وأشعة الشمس على تنظيف الكهف من الميكروبات:
(وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17))
(الكهف).
سبحان الله، لإثبات أن الضوء لا يؤثر على النائم ذكر الله - سبحانه وتعالى - أن الشمس تدخل الكهف في الشروق: (وترى الشمس إذا طلعت)، وتمر عليهم عند الغروب (تقرضهم) أي: تمر عليهم مبينا عدم تأثير الضوء على النائم، وكما نعلم في علم الميكروبولوجيا أن أشعة الشمس في الشروق وفي الغروب تحتوي على الأشعة فوق البنفسجية التي تؤدي إلى قتل الميكروبات، ليس هذا فحسب؛ فقد فتح الله - سبحانه وتعالى - طاقة أو فجوة في الكهف للآتي:
• إحداث تيار هوائي لتجديد الهواء الملاصق لهم وهم نائمون.
• دخول أشعة الشمس في الشروق والغروب لقتلها الميكروبات وتعقيم المكان ومن فيه، ومما يدعونا إلى تهوية المساكن وتعريض الفرش لأشعة الشمس، علاوة على أثر أشعة الشمس على الإنسان، حيث إنها مفيدة في تكوين فيتامين (د) للجلد، وكذلك حتى يتقي الإنسان كثيرا من الأمراض، وأشد الأمراض اتصالا بعدم التهوية وعدم وجود الشمس هو مرض السل مثلا:
(وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17))
(الكهف)
سبحان الله! ذكر التهوية ودخول أشعة الشمس من آيات الله فعلا، فهي من آيات الله العلمية في القرآن الدالة على صدق رسوله، وأنه مبلغ هذا الكتاب، وليس مؤلفا، فكيف عرف أثر أشعة الشمس عند الشروق وعند الغروب في التعقيم وقتل الميكروبات، وكذلك أثر التهوية على صحة الإنسان، إذ إنهم نيام وليسوا أمواتا.
3. تقليب أجسادهم حتى لا يصابوا بقرحة الفراش: (
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18))
(الكهف).
لاحظ
(ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال)
مع الآية رقم 17، حيث ذكر أن الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهم في فجوة منه؛ حتى يتعرض الجانب من الجسم الملاصق للأرض أثناء الليل ذات اليمين إلى أشعة الشمس التي تزاور عن كهفهم ذات اليمين، فيحدث تهوية وتعقيم لهذا الجانب، ثم يقلبهم الله - سبحانه وتعالى - بقدرته إلى الشمال عند الغروب، حتى يتعرض جانب الجسم الملاصق للأرض أثناء النهار إلى أشعة الشمس التي تقرضهم ذات الشمال عند الغروب، وكذلك للتهوية حتى لا يحدث لهم التقرحات في أجسامهم، نتيجة نمو الميكروبات اللاهوائية عند عدم تقليب الجسد، وهو ما عرف حديثا بقرحة الفراش، والتي لم تعرف من قبل، وحتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
فكيف عرف هذه المعلومات من أثر التهوية وأشعة الشمس وقرحة الفراش على الإنسان النائم منذ هذا الزمن - أربعة عشر قرنا - وفي بيئة صحراوية، وحتى لو كان أعلم علماء عصره، وقرأ العهد القديم والجديد، وجمع جميع المعلومات الموجودة في عصره، وكلها آيات علمية في قصة واحدة؟
4. الفرق بين السنة الشمسية والسنة القمرية:
(ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25))
(الكهف)
عندما نكتب مثلا 309 سنة بالحروف العربية تكون ثلاثمائة وتسع سنين، ولكن أن يكتب ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا شيء آخر؛ لأنه ربط السنين الشمسية بالسنين القمرية، فإذا أردت أن تحسب زمن نومهم بالسنين الشمسية فهي ثلاثمائة سنة شمسية، وعند حساب نفس المدة بالسنين القمرية تكون ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا؛ لأن الفرق بين السنة الشمسية والقمرية أحد عشر يوما تقريبا، فعندما نضربها في عدد 300 سنة، نجد الفرق هو تسع سنوات بالضبط، ومن ثم يصبح محمد - صلى الله عليه وسلم - عالما في الصوتيات والطب وفي الفلك، ويضع هذه العوامل جميعها أثناء كتابة قصة مجموعة من الفتيان نامت مدة ثلاثمائة سنة ثم أيقظهم الله.
5. اختلاف عدد الفتية:
قال سبحانه وتعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22))
(الكهف)،
فإذا عرفت أن السائلين هم اليهود وهم أهل جدال، وقد عرف الله - عز وجل - أنهم سيكذبون رسوله مهما قال لهم الحقيقة، ولقد أبلغهم الله بما كانوا متفقين عليه، ولذلك قال سبحانه وتعالى: (سيقولون) ويختلفون في أعدادهم؛ لأنهم لا يعرفون الحقيقة، فقالوا: إن قال محمد: ثلاثة ورابعهم كلبهم، نقول: لا ليس صحيحا هم خمسة وسادسهم كلبهم، وهكذا... ولذلك أمر الله رسوله أن لا يجادلهم إلا فيما قالوا هم، ولا يدخل في التفاصيل، ولا يناقش، ولا يسأل أحدا منهم [6].
المراجع
- (*) نظرات شرعية في فكر منحرف، سليمان بن صالح الخراشي، مكتبة التوحيد، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2007م. [1]. هذه مشكلاتهم، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1990م، ص 115: 113 بتصرف.
- مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2004م، ص 156،155.
- تزاور: تطلع على كهفهم ذات اليمين وذات الشمال فلا تصيبهم.
- الملتحد: الملجأ؛ لأن اللاجئ يميل إليه.
- أباطيل الخصوم حول القصص القرآني، د. عبد الجود المحص، الدار المصرية، الإسكندرية، 2000م، ص146: 152.
- يقولون عن الإسلام، د. عبد الحافظ سلامة، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط 1، 2007م، ص52: 56.