نص السؤال
المؤلف: مجموعة مؤلفي بيان الإسلام
المصدر: موسوعة بيان الإسلام
الجواب التفصيلي
دعوى تفرد القرآن بالنسخ دون غيره من الكتب السماوية الأخرى(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن حكم النسخ جرى فقط على القرآن الكريم دون سواه من الكتب السماوية، ويستدلون على هذا
بقوله سبحانه وتعالى:
(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106))
(البقرة)،
ويتوهمون أن النسخ لا يجوز في كلام الله الحق؛ لأنه يتعارض مع حكمته تعالى وصدقه وعلمه، ويعللون ما في القرآن من ناسخ ومنسوخ بأنه من فعل محمد - صلى الله عليه وسلم - وفقا لهواه وأطماعه الشخصية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) النسخ ليس قاصرا على القرآن الكريم وحده، وإنما وقع في الكتب الدينية السابقة، فقد جاء في التوراة بين أحكامها، ووقع في الإنجيل بين أحكامه.
2) ليس في النسخ منافاة لحكمة الله - عز وجل - وصدقه وعلمه، بل فيه تحقيق لكل ذلك، فهو بيان بالنسبة لله - عز وجل - ورفع بالنسبة لنا لأنه تعالى سبق علمه بأن هذا الحكم مؤقت لا مؤبد.
3) إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت صدقه قبل أن تنزل عليه الأحكام، ثم ثبت صدقه فيما بلغ من الوحي، فهل ينتفي عنه الصدق في النسخ؟! أي إذا صدق في الأصل فهل يكذب في الفرع؟!
4) اللوح المحفوظ جامع لكل من الناسخ والمنسوخ، فلا يهمل اللوح المحفوظ شيئا ولا يزول منه شيء.
5) إن الآيات التي تضمنت النسخ، سواء أكانت متضمنة الحكم الناسخ أم المنسوخ، فهي قرآن يأخذ خصائص القرآن كلها من إعجاز وتعبد بتلاوته.
6) الله - عز وجل - يقلب الأحكام على المكلفين بوجوه النسخ الثلاثة؛ ليختبرهم في إيمانهم به وعبوديتهم وامتثالهم له، كما يبتلي الله عباده بالمحن والمنح، والرخاء والشدة.
7) الأمثلة التي ذكروها للنسخ لا تمت للنسخ بصلة، وما ذلك إلا نوع من التشويش على القرآن الكريم.
التفصيل:
أولا. وقوع النسخ في الشرائع السماوية السابقة للإسلام:
وأمثلة ذلك كثيرة، نقتصر منها هنا على بعض ما ورد في العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل)؛ حتى يكون ذلك حجة على ما نقوله.
أمثلة ما وقع من النسخ في العهد القديم (التوراة):
• تزوج الإخوة بالأخوات في عهد آدم عليه السلام، وسارة زوجة إبراهيم - عليه السلام - كانت أختا علانية له كما يفهم من قوله في حقها، يقول سفر التكوين: "وبالحقيقة أيضا هي أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي، فصارت لي زوجة". (التكوين 20: 12)، والنكاح بالأخت حرام مطلقا في الشريعة الموسوية، سواء كانت الأخت أو علانية، أو خفية، ومساو للزنا، والناكح ملعون، وقتل الزوجين واجب، ففي سفر اللاويين: "عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك، المولودة في البيت أو المولودة خارجا، لا تكشف عورتها". (اللاويين 18: 9)، وفي تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح هذه الفقرة: "مثل هذا النكاح مساو للزنا". وفي سفر اللاويين أيضا: "وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه، ورأى عورتها ورأت هي عورته، فذلك عار. يقطعان أمام أعين بني شعبهما. قد كشف عورة أخته. يحمل ذنبه". (اللاويين 20: 17)، وفي سفر التثنية: "ملعون من يضطجع مع أخته بنت أبيه أو بنت أمه. ويقول جميع الشعب: آمين". (التثنية 27: 22).
فلو لم يكن هذا النكاح جائزا في شريعة آدم، وإبراهيم - عليهما السلام - للزم أن يكون الناس كلهم أولاد الزنا، والناكحون زانين، وواجبي القتل وملعونين، فكيف يظن هذا في حق الأنبياء - عليهم السلام - فلا بد من الاعتراف بأنه كان جائزا في شريعتهما ثم نسخ.
• خطاب نوح وأولاده في سفر التكوين: "كل دابة حية تكون لكم طعاما. كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع". (التكوين 9: 3)؛ فكان جميع الحيوانات حلالا في شريعة نوح كالبقولات، وحرمت في شريعة موسى الحيوانات الكثيرة، منها الخنزير أيضا، كما هو مصرح في سفر التثنية الذي جاء فيه: "لا تأكل رجسا ما. هذه هي البهائم التي تأكلونها: البقر والضأن والمعز والإيل والظبي واليحمور والوعل والرئم والثيتل والمهاة. وكل بهيمة من البهائم تشق ظلفا وتقسمه ظلفين وتجتر فإياها تأكلون. إلا هذه فلا تأكلوها، مما يجتر ومما يشق الظلف المنقسم: الجمل والأرنب والوبر، لأنها تجتر لكنها لا تشق ظلفا، فهي نجسة لكم. والخنزير لأنه يشق الظلف لكنه لا يجتر فهو نجس لكم. فمن لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا. وهذا تأكلونه من كل ما في المياه: كل ما له زعانف وحرشف تأكلونه. لكن كل ما ليس له زعانف وحرشف لا تأكلوه. إنه نجس لكم. كل طير طاهر تأكلون. وهذا ما لا تأكلون منه: النسر والأنوق والعقاب والحدأة والباشق والشاهين على أجناسه، وكل غراب على أجناسه، والنعامة والظليم والسأف والباز على أجناسه، والبوم والكركي والبجع والقوق والرخم والغواص واللقلق والببغاء على أجناسه، والهدهد والخفاش. وكل دبيب الطير نجس لكم. لا يؤكل. كل طير طاهر تأكلون".
• جمع يعقوب بين الأختين ليئة وراحيل ابنتي خالة كما هو مصرح به في سفر التكوين: "ثم قال لابان ليعقوب: «ألأنك أخي تخدمني مجانا؟ أخبرني ما أجرتك». وكان للابان ابنتان، اسم الكبرى ليئة واسم الصغرى راحيل. وكانت عينا ليئة ضعيفتين، وأما راحيل فكانت حسنة الصورة وحسنة المنظر. وأحب يعقوب راحيل، فقال: «أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى». فقال لابان: «أن أعطيك إياها أحسن من أن أعطيها لرجل آخر. أقم عندي». فخدم يعقوب براحيل سبع سنين، وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها. ثم قال يعقوب للابان: «أعطني امرأتي لأن أيامي قد كملت، فأدخل عليها». فجمع لابان جميع أهل المكان وصنع وليمة. وكان في المساء أنه أخذ ليئة ابنته وأتى بها إليه، فدخل عليها. وأعطى لابان زلفة جاريته لليئة ابنته جارية. وفي الصباح إذا هي ليئة، فقال للابان: «ما هذا الذي صنعت بي؟ أليس براحيل خدمت عندك؟ فلماذا خدعتني؟». فقال لابان: «لا يفعل هكذا في مكاننا أن تعطي الصغيرة قبل البكر. أكمل أسبوع هذه، فنعطيك تلك أيضا بالخدمة التي تخدمني أيضا سبع سنين أخر». ففعل يعقوب هكذا. فأكمل أسبوع هذه، فأعطاه راحيل ابنته زوجة له. وأعطى لابان راحيل ابنته بلهة جاريته جارية لها. فدخل على راحيل أيضا، وأحب أيضا راحيل أكثر من ليئة. وعاد فخدم عنده سبع سنين أخر". (التكوين 29: 15 - 30)، وهذا الجمع حرام في شريعة موسى عليه السلام؛ ففي سفر اللاويين: "ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها". (اللاويين 18: 18)، فلو لم يكن الجمع بين الأختين جائزا في شريعة يعقوب للزم أن يكون أولادهما أولاد زنا.
• جاء في الكتاب المقدس أن زوجة عمران كانت عمته: "وأخذ عمرام يوكابد عمته زوجة له. فولدت له هارون وموسى". (الخروج 6: 20)، وقد حرف المترجمون للترجمة العربية تحريفا قصديا لإخفاء العيب، وهذا النكاح حرام في شريعة موسى عليه السلام؛ ففي سفر اللاويين: "عورة أخت أبيك لا تكشف. إنها قريبة أبيك". (اللاويين 18: 12)، وجاء فىه أيضا: "عورة أخت أمك، أو أخت أبيك لا تكشف. إنه قد عرى قريبته. يحملان ذنبهما". (اللاويين 20: 19)، فلو لم يكن هذا النكاح جائزا قبل شريعة موسى، لزم أن يكون موسى وهارون ومريم أختهما من أولاد الزنا، ولزم ألا يدخلوا جماعة الرب إلى عشرة أحقاب، كما هو مصرح به في سفرالتثنية: "لا يدخل ابن زنا في جماعة الرب حتى الجيل العاشر". (التثنية 23: 2)، ولو كانوا هم قابلين للإخراج عن جماعة الرب فمن يكون صالحا لدخولها.
• في سفر إرميا: "ها أيام تأتي، يقول الرب، وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا. ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، حين نقضوا عهدي فرفضتهم، يقول الرب". (إرميا 31: 31، 32). والمراد من العهد الجديد الشريعة الجديدة. فيفهم أن هذه الشريعة الجديدة تكون ناسخة للشريعة الموسوية. وادعى بولس في رسالته إلى العبرانيين أن هذه الشريعة شريعة عيسى، فعلى اعترافه هذا تكون شريعة عيسى - عليه السلام - ناسخة لشريعة موسى عليه السلام.
وهذه الأمثلة الخمسة لإلزام اليهود والمسيحيين جميعا، ولإلزام المسيحيين أمثلة أخرى منها:
• يجوز في الشريعة الموسوية أن يطلق الرجل امرأته بكل علة، وأن يتزوج رجل آخر بتلك المطلقة بعد ما خرجت من بيت الأول، كما هو مصرح به في سفر التثنية: "إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست. لأن ذلك رجس لدى الرب. فلا تجلب خطية على الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبا". (التثنية 24: 1 - 4)، ولا يجوز الطلاق في الشريعة العيسوية إلا بعلة الزنا، هكذا لا يجوز لرجل آخر نكاح المطلقة، بل هو بمنزلة الزنا، كما جاء في إنجيل متى، ولما اعترض الفريسيون على عيسى - عليه السلام - في هذه المسألة قال في جوابهم: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وقيل: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني". (متى 5: 27 - 32، متى 19: 7 - 9)؛ نعلم من جوابه أنه ثبت النسخ في هذا الحكم مرتين، مرة في الشريعة الموسوية ومرة في شريعته، وأنه قد ينزل الحكم تارة موافقا لحال المكلفين وإن لم يكن حسنا في نفس الأمر.
• كانت الحيوانات الكثيرة محرمة في الشريعة الموسوية، ونسخت حرمتها في الشريعة العيسوية وثبتت الإباحة العامة بفتوى بولس؛ ففي رسالة بولس إلى أهل الرومية: "إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته، إلا من يحسب شيئا نجسا، فله هو نجس". (رسالة بولس إلى أهل رومية 14: 14)، وفي رسالته إلى تيطس هكذا: "كل شيء طاهر للطاهرين، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرا، بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضميرهم". (رسالة بولس إلى أهل تيطس 1: 15).
إن كل شيء نجس لم يحسبه نجسا، وجميع الأشياء طاهرة للطاهرين، عجيبتان في الظاهرة، لعل بني إسرائيل لم يكونوا طاهرين فلم تحصل لهم هذه الإباحة العامة، ولما كان المسيحيون طاهرين حصل لهم الإباحة العامة، وصار كل شيء طاهرا لهم، وكان مقدسهم جاهدا في إشاعة حكم الإباحة العامة، ولذلك كتب إلى تيموثاوس في الإصحاح الرابع من رسالته الأولى: "لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر، لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة. إن فكرت الإخوة بهذا، تكون خادما صالحا ليسوع المسيح، متربيا بكلام الإيمان والتعليم الحسن الذي تتبعته". (رسالة بولس الأولى إلى أهل تيموثاوس 4: 4 - 6).
• كان تعظيم السبت حكما أبديا في الشريعة الموسوية، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل، وكان من عمل فيه عملا ومن لم يحافظه واجبي القتل، وقد تكرر بيان هذا الحكم والتأكيد عليه في كتب العهد القديم في مواضع كثيرة، منها: "بارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا". (التكوين 2: 3)، "اذكر يوم السبت لتقدسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك. لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه". (الخروج 20: 8 - 11)، وكذا في: (الخروج 23: 2، الخروج 34: 21، إشعياء 58: 13).
وفي سفر الخروج هكذا: "وكلم الرب موسى قائلا: وأنت تكلم بني إسرائيل قائلا: سبوتي تحفظونها، لأنه علامة بيني وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم، فتحفظون السبت لأنه مقدس لكم. من دنسه يقتل قتلا. إن كل من صنع فيه عملا تقطع تلك النفس من بين شعبها. ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة مقدس للرب. كل من صنع عملا في يوم السبت يقتل قتلا. فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدا أبديا. هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى الأبد. لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفس". (الخروج 31: 12ـ 17).
وفي سفر الخروج: "ستة أيام يعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب. كل من يعمل فيه عملا يقتل. لا تشعلوا نارا في جميع مساكنكم يوم السبت ". (الخروج 35: 2، 3)، وفي سفر العدد: "ولما كان بنو إسرائيل في البرية وجدوا رجلا يحتطب حطبا في يوم السبت. فقدمه الذين وجدوه يحتطب حطبا إلى موسى وهارون وكل الجماعة. فوضعوه في المحرس لأنه لم يعلن ماذا يفعل به. فقال الرب لموسى: «قتلا يقتل الرجل. يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة». فأخرجه كل الجماعة إلى خارج المحلة ورجموه بحجارة، فمات كما أمر الرب موسى". (العدد 15: 32 - 36).
وكان اليهود المعاصرون للمسيح - عليه السلام - يؤذونه ويريدون قتله لأجل عدم تعظيم السبت، ففي إنجيل يوحنا: "فقال قوم من الفريسيين: هذا الإنسان ليس من الله، لأنه لا يحفظ السبت". (يوحنا 9: 16). وإذا علمت هذا أقول: إن مقدسهم بولس نسخ هذه الأحكام، وبين أن هذه الأشياء كلها كانت إضلالا، وذلك في رسالته إلى أهل كولوسي: "فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب، أو من جهة عيد أو هلال أو سبت، التي هي ظل الأمور العتيدة، وأما الجسد فللمسيح". (رسالة بولس إلى أهل كولوسي 2: 16، 17). وفي تفسير دوالي ورجرد مينت ذيل شرح الفقرة السادسة عشرة هكذا: "قال بركت وداكتروت بي" كانت - أي الأعياد - في اليهود على ثلاثة أقسام في كل سنة، وفي كل شهر شهر وفي كل أسبوع أسبوع، فنسخت هذه كلها، بل يوم السبت أيضا، وأقيم سبت المسيحيين مقامه.
وقال بشب هارسلي ذيل شرح الفقرة المذكورة: "زال سبت كنيسة اليهود وما مشي المسيحيون في عمل سبتهم على رسوم طفولية الفريسيين". وفي تفسير هنري واسكات: "إذ نسخ عيسى شريعة الرسومات، ليس لأحد أن يلزم الأقوال الأجنبية بسبب عدم لحاظها". قال ياسونر وليا: "فإنه لو كانت محافظة يوم السبت واجبة على جميع الناس، وعلى جميع أقوام الدنيا، لما أمكن نسخها قط، كما نسخت الآن حقيقة، ولكان يلزم على المسيحيين أن يحافظوه طبقة بعد طبقة، كما فعلوا في الابتداء لأجل تعظيم اليهود ورضاهم"، وما ادعى مقدسهم بولس من كون الأشياء المذكورة إضلالا لا يناسب عبادة التوراة؛ لأن الله بين علة حرمة الحيوانات: "لا تدنسوا نفوسكم بالبهائم والطيور، ولا بكل ما يدب على الأرض مما ميزته لكم ليكون نجسا. وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب، وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي". (اللاويين 20: 25، 26)، وبين علة عيد الفطير "بأني أخرج جيوشكم من أرض مصر فاحفظوا هذا اليوم إلى أجيالكم سنة إلى الدهر" كما هو مصرح به في الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج، وبين علة عيد الخيام هكذا: "لتعلم أجيالكم أني أجلست بني إسرائيل في الخيام إذ أخرجتهم من أرض مصر" كما هو مصرح به في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الأخبار، وبين في مواضع متعددة علة تعظيم السبت: "فأكملت السماوات والأرض وكل جندها. وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالق". (التكوين 2: 1 - 3).
• حكم الختان كان أبديا في شريعة إبراهيم - عليه السلام - كما هو مصرح به في سفر التكوين: "وقال الله لإبراهيم: «وأما أنت فتحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم: وليد البيت، والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. يختن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك، فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي»". (التكوين 17: 9 - 14)، ولذلك بقي هذا الحكم في أولاد إسماعيل وإسحاق - عليهما السلام - وبقي في شريعة موسى عليه السلام؛ ففي سفر اللاويين: "وكلم الرب موسى قائلا: كلم بني إسرائيل قائلا: إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا، تكون نجسة سبعة أيام. كما في أيام طمث علتها تكون نجسة. وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته". (اللاويين 12: 1ـ 3)، وختن عيسى - عليه السلام - أيضا كما هو مصرح به في إنجيل لوقا: "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع، كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن". (لوقا 2: 21). وفي المسيحيين إلى هذا الحين صلاة معينة يؤدونها في يوم ختان عيسى - عليه السلام - تذكرة لهذا اليوم، وكان هذا الحكم باقيا إلى عروج عيسى - عليه السلام - وما نسخ، بل نسخه الحواريون في عهدهم كما هو مشروح في الإصحاح الخامس عشر من أعمال الحواريين، ويشدد مقدسهم بولس في نسخ هذا الحكم تشديدا بليغا في رسالته إلى أهل غلاطية هكذا: "ها أنا بولس أقول لكم: إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئا! لكن أشهد أيضا لكل إنسان مختتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس. قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس. سقطتم من النعمة. فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بر. لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة [1]، بل الإيمان العامل بالمحبة". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 5: 2 - 6)، وفيها أيضا: "لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئا ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 6: 15).
• أحكام الذبائح كانت كثيرة وأبدية في شريعة موسى، وقد نسخت كلها في الشريعة العيسوية.
• الأحكام الكثيرة المختصة بآل هارون من الكهانة واللباس وقت الحضور للخدمة، وغيرها كانت أبدية، وقد نسخت كلها في الشريعة العيسوية.
• نسخ الحواريون بعد المشاورة التامة جميع الأحكام العملية للتوراة إلا أربعة: ذبيحة الصنم والدم والمخنوق والزنا فأبقوا حرمتها وأرسلوا كتابا إلى الكنائس، وهو منقول في أعمال الرسل هكذا: "إذ قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال، مقلبين أنفسكم، وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم. رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا وبولس، رجلين قد بذلا نفسيهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح. فقد أرسلنا يهوذا وسيلا، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها. لأنه قد رأى الروح القدس ونحن، أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة: أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا، التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون. كونوا معافين". (أعمال الرسل 15: 24ـ 29). وإنما أبقوا حرمة هذه الأربعة لئلا يتنفر اليهود الذين دخلوا في الملة المسيحية عن قريب - وكانوا يحبون أحكام التوراة ورسومها - تنفرا تاما، ثم لما رأى مقدسهم بولس بعد هذا الزمان أن هذه الرعاية ليست بضرورية نسخ حرمة الثلاثة الأولى بفتوى الإباحة العامة، وعليه اتفاق جمهور البروتستانت، فما بقي من أحكام التوراة العملية إلا الزنا، ولما لم يكن فيه حد في الشريعة العيسوية، فهو منسوخ من هذا الوجه أيضا، فقد حصل الفراغ من هذه الشريعة من نسخ جميع الأحكام العملية التي كانت في الشريعة الموسوية أبدية كانت أو غير أبدية.
• في رسالة بولس إلى أهل غلاطية: "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي. لست أبطل نعمة الله. لأنه إن كان بالناموس بر، فالمسيح إذا مات بلا سبب!". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 2: 20، 21). قال داكتر همند في ذيل شرح الفقرة العشرين: "خلصني ببذل روحه لأجلي عن شريعة موسى"، وقال في شرح الفقرة الحادية والعشرين: "استعمل هذا العتق لأجل ذلك، ولا أعتمد في النجاة على شريعة موسى، ولا أفهم أن أحكام موسى ضرورية؛ لأنه يجعل إنجيل المسيح كأنه بلا فائدة"، وقال داكتروت بي في ذيل شرح الفقرة الحادية والعشرين: "ولو كان كذا فاشترى النجاة بموته ما كان ضروريا، وما كان في موته حس ما"، وقال يايل: "لو كان شريعة اليهود تعصمنا وتنجينا فأية ضرورة كانت لموت المسيح، ولو كانت الشريعة جزاء لنجاتنا فلا يكون موت المسيح لها كافيا"، فهذه الأقوال كلها ناطقة بحصول الفراغ من شريعة موسى ونسخها.
• في رسالة بولس إلى أهل غلاطية: "لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة، لأنه مكتوب: «ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به». ولكن أن ليس أحد يتبرر بالناموس عند الله فظاهر، لأن «البار بالإيمان يحيا». ولكن الناموس ليس من الإيمان، بل «الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها». المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: «ملعون كل من علق على خشبة»". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3: 10ـ 13)، وقد قال لارد معلقا على هذه الفقرات: "الظن أن مراد الحواري ههنا المعنى الذي يعلمه كثير، يعني: نسخت الشريعة أو صارت بلا فائدة بموت المسيح وصلبه"، ثم قال أيضا: "بين الحواري صراحة في هذه المواضع أن منسوخية أحكام الشريعة الرسومية نتيجة موت عيسى".
وجاء في هذه الرسالة أيضا: "ولكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس، مغلقا علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن. إذا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح، لكي نتبرر بالإيمان. ولكن بعد ما جاء الإيمان، لسنا بعد تحت مؤدب". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3: 23ـ 25)، فصرح مقدسهم "أنه لا طاعة لأحكام التوراة بعد الإيمان بعيسى عليه السلام". وفي تفسير دوالي ورجرد مينت قول دين استان هوب هكذا: "نسخ رسومات الشريعة بموت عيسى وشيوع إنجيله".
• في رسالة بولس إلى أهل أفسس: "أي العداوة. مبطلا بجسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانا واحدا جديدا، صانعا سلاما". (رسالة بولس إلى أهل أفسس 2: 15).
• جاء في الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه إن تغير الكهنوت، فبالضرورة يصير تغيرا للناموس أيضا". (الرسالة إلى العبرانيين 7: 12)، ففي هذه الفقرة إثبات التلازم بين تبدل الإمامة وتبدل الشريعة، فإن قال المسلمون أيضا - نظرا إلى هذا التلازم - بنسخ الشريعة العيسوية فهم مصيبون في قولهم لا مخطئون، في تفسير دوالي ورجرد مينت ذيل شرح هذه الفقرة قول داكتر سيكنائت هكذا: "بدلت الشريعة قطعا بالنسبة إلى أحكام الذبائح والطهارة وغيرها"؛ أي: رفعت.
• جاء في الرسالة السابقة أيضا: "فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها". (الرسالة إلى العبرانيين 7: 18)، فهذه الفقرة تصرح بأن نسخ أحكام التورة لأجل أنها كانت ضعيفة بلا فائدة في تفسير هنري واسكات: "رفعت الشريعة والكهانة اللتان لا يحصل منها التكميل، وقام كاهن وعفو جديد يكمل منهما المصدقون الصادقون".
• وجاء فىها أيضا: "لأني أكون صفوحا عن آثامهم، ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد». فإذ قال «جديدا» عتق الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال". (الرسالة إلى العبرانيين 8: 12، 13)، ففي هذا القول تصريح بأن أحكام التوراة كانت معيبة، وقابلة للنسخ لكونها عتيقة بالية، في تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح الفقرة الثالثة عشرة قول يايل هكذا: "هذا ظاهر جدا أن الله - عز وجل - يريد أن ينسخ العتيق الأقصر بالرسالة الجديدة الحسنى، فلذلك يرفع المذهب الرسومي اليهودي ويقوم المذهب المسيحي مقامه".
• وجاء فىها أيضا: "ثم قال: «هنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله». ينزع الأول لكي يثبت الثاني". (الرسالة إلى العبرانيين 10: 9). وفي تفسير دوالي ورجرد مينت في شرح الفقرة الثامنة والتاسعة قول يايل هكذا: "استدل الحواري في هاتين الفقرتين وفيهما إشعار بكون ذبائح اليهود غير كافية؛ ولذا تحمل المسيح على نفسه الموت ليجبر نقصانها، ونسخ بفعل أحدهما استعمال الآخر".
فظهر للبيب من الأمثلة المذكورة أمور هي:
1. نسخ بعض الأحكام في الشريعة اللاحقة ليس مختصا بشريعتنا، بل وجد في الشرائع السابقة أيضا.
2. أن الأحكام العملية للتوراة كلها، أبدية كانت أو غير أبدية - نسخت في الشريعة العيسوية.
3. أن لفظ النسخ أيضا موجود في كلام مقدسهم بالنسبة إلى التوراة وأحكامها.
4. أن مقدسهم أثبت الملازمة بين تبدل الإمامة وتبدل الشريعة.
5. أن مقدسهم يدعي أن الشيء العتيق البالي قريب من الفناء، فأقول لما كانت الشريعة العيسوية بالنسبة إلى الشريعة المحمدية عتيقة فلا استبعاد في نسخها، بل هو ضروري على وفق الأمر الرابع.
وقد عرفت في الأمثلة السابقة أن مقدسهم ومفسريهم استعملوا ألفاظا غير ملائمة بالنسبة إلى التوراة بالمعنى المصطلح عندنا، إلا في الأحكام التي صرح فيها أنها أبدية، أو يجب رعايتها دائما طبقة بعد طبقة، لكن هذا الإشكال لا يرد علينا؛ لأنا لا نسلم أولا أن هذه التوراة هي التوراة المنزلة أو تصنيف موسى، ولا نسلم ثانيا أنها غير مصونة عن التحريف، ونقول ثالثا إلزاما بأن الله قد يظهر له بدءا وندامة عما أمر أو فعل فيرجع عنه، كذلك يعد وعدا دائما ثم يخلف وعده، وهذا الأمر الثالث نقوله إلزاما فقط؛ لأنه يفهم من كتب العهد العتيق هكذا من مواضع كما ستعرف عن قرب.
ونحن وجميع علماء أهل السنة بريئون ومتبرئون من هذه العقيدة الفاسدة، نعم يرد هذا الإشكال عن المسيحيين الذين يعترفون بأن هذه التوراة كلام الله، ومن تصنيف موسى ولم تحرف، والندامة والبدء محالان في حق الله، والتأويل الذي يذكرونه في الألفاظ المذكورة بعيد عن الإنصاف وركيك جدا؛ لأن المراد بهذه الألفاظ في كل شيء يكون بالمعنى الذي يناسبه، مثلا: إذا قيل لشخص معين إنه دائما يكون كذا، فلا يكون المراد بالدوام ههنا، إلا المدة الممتدة إلى آخر عمره؛ لأنا نعلم بديهة أنه لا يبقى إلى فناء العالم وقيام القيامة، وإذا قيل لقوم عظيم يبقى إلى فناء العالم، ولو تبدلت أشخاصه، في كل طبقة بعد طبقة، أنهم لا بد أن يفعلوا كذا دائما طبقة بعد طبقة أو إلى الأبد، أو إلى آخر الدهر، فيفهم منه الدوام إلى فناء العالم بلا شبهة، وقياس أحدهما على الآخر مستبعد جدا، ولذلك علماء اليهود يستبعدون تأويلهم سلفا وخلفا، وينسبون الاعتساف والغواية إليهم.
المراجع
- (*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات www.Eslameyat.com. [1]. الغرلة: جلدة الصبي التي يقطع في الختان، والجمع غرل.
الجواب التفصيلي
دعوى تفرد القرآن بالنسخ دون غيره من الكتب السماوية الأخرى(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن حكم النسخ جرى فقط على القرآن الكريم دون سواه من الكتب السماوية، ويستدلون على هذا
بقوله سبحانه وتعالى:
(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106))
(البقرة)،
ويتوهمون أن النسخ لا يجوز في كلام الله الحق؛ لأنه يتعارض مع حكمته تعالى وصدقه وعلمه، ويعللون ما في القرآن من ناسخ ومنسوخ بأنه من فعل محمد - صلى الله عليه وسلم - وفقا لهواه وأطماعه الشخصية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) النسخ ليس قاصرا على القرآن الكريم وحده، وإنما وقع في الكتب الدينية السابقة، فقد جاء في التوراة بين أحكامها، ووقع في الإنجيل بين أحكامه.
2) ليس في النسخ منافاة لحكمة الله - عز وجل - وصدقه وعلمه، بل فيه تحقيق لكل ذلك، فهو بيان بالنسبة لله - عز وجل - ورفع بالنسبة لنا لأنه تعالى سبق علمه بأن هذا الحكم مؤقت لا مؤبد.
3) إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت صدقه قبل أن تنزل عليه الأحكام، ثم ثبت صدقه فيما بلغ من الوحي، فهل ينتفي عنه الصدق في النسخ؟! أي إذا صدق في الأصل فهل يكذب في الفرع؟!
4) اللوح المحفوظ جامع لكل من الناسخ والمنسوخ، فلا يهمل اللوح المحفوظ شيئا ولا يزول منه شيء.
5) إن الآيات التي تضمنت النسخ، سواء أكانت متضمنة الحكم الناسخ أم المنسوخ، فهي قرآن يأخذ خصائص القرآن كلها من إعجاز وتعبد بتلاوته.
6) الله - عز وجل - يقلب الأحكام على المكلفين بوجوه النسخ الثلاثة؛ ليختبرهم في إيمانهم به وعبوديتهم وامتثالهم له، كما يبتلي الله عباده بالمحن والمنح، والرخاء والشدة.
7) الأمثلة التي ذكروها للنسخ لا تمت للنسخ بصلة، وما ذلك إلا نوع من التشويش على القرآن الكريم.
التفصيل:
أولا. وقوع النسخ في الشرائع السماوية السابقة للإسلام:
وأمثلة ذلك كثيرة، نقتصر منها هنا على بعض ما ورد في العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل)؛ حتى يكون ذلك حجة على ما نقوله.
أمثلة ما وقع من النسخ في العهد القديم (التوراة):
• تزوج الإخوة بالأخوات في عهد آدم عليه السلام، وسارة زوجة إبراهيم - عليه السلام - كانت أختا علانية له كما يفهم من قوله في حقها، يقول سفر التكوين: "وبالحقيقة أيضا هي أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي، فصارت لي زوجة". (التكوين 20: 12)، والنكاح بالأخت حرام مطلقا في الشريعة الموسوية، سواء كانت الأخت أو علانية، أو خفية، ومساو للزنا، والناكح ملعون، وقتل الزوجين واجب، ففي سفر اللاويين: "عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك، المولودة في البيت أو المولودة خارجا، لا تكشف عورتها". (اللاويين 18: 9)، وفي تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح هذه الفقرة: "مثل هذا النكاح مساو للزنا". وفي سفر اللاويين أيضا: "وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه، ورأى عورتها ورأت هي عورته، فذلك عار. يقطعان أمام أعين بني شعبهما. قد كشف عورة أخته. يحمل ذنبه". (اللاويين 20: 17)، وفي سفر التثنية: "ملعون من يضطجع مع أخته بنت أبيه أو بنت أمه. ويقول جميع الشعب: آمين". (التثنية 27: 22).
فلو لم يكن هذا النكاح جائزا في شريعة آدم، وإبراهيم - عليهما السلام - للزم أن يكون الناس كلهم أولاد الزنا، والناكحون زانين، وواجبي القتل وملعونين، فكيف يظن هذا في حق الأنبياء - عليهم السلام - فلا بد من الاعتراف بأنه كان جائزا في شريعتهما ثم نسخ.
• خطاب نوح وأولاده في سفر التكوين: "كل دابة حية تكون لكم طعاما. كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع". (التكوين 9: 3)؛ فكان جميع الحيوانات حلالا في شريعة نوح كالبقولات، وحرمت في شريعة موسى الحيوانات الكثيرة، منها الخنزير أيضا، كما هو مصرح في سفر التثنية الذي جاء فيه: "لا تأكل رجسا ما. هذه هي البهائم التي تأكلونها: البقر والضأن والمعز والإيل والظبي واليحمور والوعل والرئم والثيتل والمهاة. وكل بهيمة من البهائم تشق ظلفا وتقسمه ظلفين وتجتر فإياها تأكلون. إلا هذه فلا تأكلوها، مما يجتر ومما يشق الظلف المنقسم: الجمل والأرنب والوبر، لأنها تجتر لكنها لا تشق ظلفا، فهي نجسة لكم. والخنزير لأنه يشق الظلف لكنه لا يجتر فهو نجس لكم. فمن لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا. وهذا تأكلونه من كل ما في المياه: كل ما له زعانف وحرشف تأكلونه. لكن كل ما ليس له زعانف وحرشف لا تأكلوه. إنه نجس لكم. كل طير طاهر تأكلون. وهذا ما لا تأكلون منه: النسر والأنوق والعقاب والحدأة والباشق والشاهين على أجناسه، وكل غراب على أجناسه، والنعامة والظليم والسأف والباز على أجناسه، والبوم والكركي والبجع والقوق والرخم والغواص واللقلق والببغاء على أجناسه، والهدهد والخفاش. وكل دبيب الطير نجس لكم. لا يؤكل. كل طير طاهر تأكلون".
• جمع يعقوب بين الأختين ليئة وراحيل ابنتي خالة كما هو مصرح به في سفر التكوين: "ثم قال لابان ليعقوب: «ألأنك أخي تخدمني مجانا؟ أخبرني ما أجرتك». وكان للابان ابنتان، اسم الكبرى ليئة واسم الصغرى راحيل. وكانت عينا ليئة ضعيفتين، وأما راحيل فكانت حسنة الصورة وحسنة المنظر. وأحب يعقوب راحيل، فقال: «أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى». فقال لابان: «أن أعطيك إياها أحسن من أن أعطيها لرجل آخر. أقم عندي». فخدم يعقوب براحيل سبع سنين، وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها. ثم قال يعقوب للابان: «أعطني امرأتي لأن أيامي قد كملت، فأدخل عليها». فجمع لابان جميع أهل المكان وصنع وليمة. وكان في المساء أنه أخذ ليئة ابنته وأتى بها إليه، فدخل عليها. وأعطى لابان زلفة جاريته لليئة ابنته جارية. وفي الصباح إذا هي ليئة، فقال للابان: «ما هذا الذي صنعت بي؟ أليس براحيل خدمت عندك؟ فلماذا خدعتني؟». فقال لابان: «لا يفعل هكذا في مكاننا أن تعطي الصغيرة قبل البكر. أكمل أسبوع هذه، فنعطيك تلك أيضا بالخدمة التي تخدمني أيضا سبع سنين أخر». ففعل يعقوب هكذا. فأكمل أسبوع هذه، فأعطاه راحيل ابنته زوجة له. وأعطى لابان راحيل ابنته بلهة جاريته جارية لها. فدخل على راحيل أيضا، وأحب أيضا راحيل أكثر من ليئة. وعاد فخدم عنده سبع سنين أخر". (التكوين 29: 15 - 30)، وهذا الجمع حرام في شريعة موسى عليه السلام؛ ففي سفر اللاويين: "ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها". (اللاويين 18: 18)، فلو لم يكن الجمع بين الأختين جائزا في شريعة يعقوب للزم أن يكون أولادهما أولاد زنا.
• جاء في الكتاب المقدس أن زوجة عمران كانت عمته: "وأخذ عمرام يوكابد عمته زوجة له. فولدت له هارون وموسى". (الخروج 6: 20)، وقد حرف المترجمون للترجمة العربية تحريفا قصديا لإخفاء العيب، وهذا النكاح حرام في شريعة موسى عليه السلام؛ ففي سفر اللاويين: "عورة أخت أبيك لا تكشف. إنها قريبة أبيك". (اللاويين 18: 12)، وجاء فىه أيضا: "عورة أخت أمك، أو أخت أبيك لا تكشف. إنه قد عرى قريبته. يحملان ذنبهما". (اللاويين 20: 19)، فلو لم يكن هذا النكاح جائزا قبل شريعة موسى، لزم أن يكون موسى وهارون ومريم أختهما من أولاد الزنا، ولزم ألا يدخلوا جماعة الرب إلى عشرة أحقاب، كما هو مصرح به في سفرالتثنية: "لا يدخل ابن زنا في جماعة الرب حتى الجيل العاشر". (التثنية 23: 2)، ولو كانوا هم قابلين للإخراج عن جماعة الرب فمن يكون صالحا لدخولها.
• في سفر إرميا: "ها أيام تأتي، يقول الرب، وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا. ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، حين نقضوا عهدي فرفضتهم، يقول الرب". (إرميا 31: 31، 32). والمراد من العهد الجديد الشريعة الجديدة. فيفهم أن هذه الشريعة الجديدة تكون ناسخة للشريعة الموسوية. وادعى بولس في رسالته إلى العبرانيين أن هذه الشريعة شريعة عيسى، فعلى اعترافه هذا تكون شريعة عيسى - عليه السلام - ناسخة لشريعة موسى عليه السلام.
وهذه الأمثلة الخمسة لإلزام اليهود والمسيحيين جميعا، ولإلزام المسيحيين أمثلة أخرى منها:
• يجوز في الشريعة الموسوية أن يطلق الرجل امرأته بكل علة، وأن يتزوج رجل آخر بتلك المطلقة بعد ما خرجت من بيت الأول، كما هو مصرح به في سفر التثنية: "إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست. لأن ذلك رجس لدى الرب. فلا تجلب خطية على الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبا". (التثنية 24: 1 - 4)، ولا يجوز الطلاق في الشريعة العيسوية إلا بعلة الزنا، هكذا لا يجوز لرجل آخر نكاح المطلقة، بل هو بمنزلة الزنا، كما جاء في إنجيل متى، ولما اعترض الفريسيون على عيسى - عليه السلام - في هذه المسألة قال في جوابهم: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وقيل: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني". (متى 5: 27 - 32، متى 19: 7 - 9)؛ نعلم من جوابه أنه ثبت النسخ في هذا الحكم مرتين، مرة في الشريعة الموسوية ومرة في شريعته، وأنه قد ينزل الحكم تارة موافقا لحال المكلفين وإن لم يكن حسنا في نفس الأمر.
• كانت الحيوانات الكثيرة محرمة في الشريعة الموسوية، ونسخت حرمتها في الشريعة العيسوية وثبتت الإباحة العامة بفتوى بولس؛ ففي رسالة بولس إلى أهل الرومية: "إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته، إلا من يحسب شيئا نجسا، فله هو نجس". (رسالة بولس إلى أهل رومية 14: 14)، وفي رسالته إلى تيطس هكذا: "كل شيء طاهر للطاهرين، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرا، بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضميرهم". (رسالة بولس إلى أهل تيطس 1: 15).
إن كل شيء نجس لم يحسبه نجسا، وجميع الأشياء طاهرة للطاهرين، عجيبتان في الظاهرة، لعل بني إسرائيل لم يكونوا طاهرين فلم تحصل لهم هذه الإباحة العامة، ولما كان المسيحيون طاهرين حصل لهم الإباحة العامة، وصار كل شيء طاهرا لهم، وكان مقدسهم جاهدا في إشاعة حكم الإباحة العامة، ولذلك كتب إلى تيموثاوس في الإصحاح الرابع من رسالته الأولى: "لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر، لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة. إن فكرت الإخوة بهذا، تكون خادما صالحا ليسوع المسيح، متربيا بكلام الإيمان والتعليم الحسن الذي تتبعته". (رسالة بولس الأولى إلى أهل تيموثاوس 4: 4 - 6).
• كان تعظيم السبت حكما أبديا في الشريعة الموسوية، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل، وكان من عمل فيه عملا ومن لم يحافظه واجبي القتل، وقد تكرر بيان هذا الحكم والتأكيد عليه في كتب العهد القديم في مواضع كثيرة، منها: "بارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا". (التكوين 2: 3)، "اذكر يوم السبت لتقدسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك. لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه". (الخروج 20: 8 - 11)، وكذا في: (الخروج 23: 2، الخروج 34: 21، إشعياء 58: 13).
وفي سفر الخروج هكذا: "وكلم الرب موسى قائلا: وأنت تكلم بني إسرائيل قائلا: سبوتي تحفظونها، لأنه علامة بيني وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم، فتحفظون السبت لأنه مقدس لكم. من دنسه يقتل قتلا. إن كل من صنع فيه عملا تقطع تلك النفس من بين شعبها. ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة مقدس للرب. كل من صنع عملا في يوم السبت يقتل قتلا. فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدا أبديا. هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى الأبد. لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفس". (الخروج 31: 12ـ 17).
وفي سفر الخروج: "ستة أيام يعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب. كل من يعمل فيه عملا يقتل. لا تشعلوا نارا في جميع مساكنكم يوم السبت ". (الخروج 35: 2، 3)، وفي سفر العدد: "ولما كان بنو إسرائيل في البرية وجدوا رجلا يحتطب حطبا في يوم السبت. فقدمه الذين وجدوه يحتطب حطبا إلى موسى وهارون وكل الجماعة. فوضعوه في المحرس لأنه لم يعلن ماذا يفعل به. فقال الرب لموسى: «قتلا يقتل الرجل. يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة». فأخرجه كل الجماعة إلى خارج المحلة ورجموه بحجارة، فمات كما أمر الرب موسى". (العدد 15: 32 - 36).
وكان اليهود المعاصرون للمسيح - عليه السلام - يؤذونه ويريدون قتله لأجل عدم تعظيم السبت، ففي إنجيل يوحنا: "فقال قوم من الفريسيين: هذا الإنسان ليس من الله، لأنه لا يحفظ السبت". (يوحنا 9: 16). وإذا علمت هذا أقول: إن مقدسهم بولس نسخ هذه الأحكام، وبين أن هذه الأشياء كلها كانت إضلالا، وذلك في رسالته إلى أهل كولوسي: "فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب، أو من جهة عيد أو هلال أو سبت، التي هي ظل الأمور العتيدة، وأما الجسد فللمسيح". (رسالة بولس إلى أهل كولوسي 2: 16، 17). وفي تفسير دوالي ورجرد مينت ذيل شرح الفقرة السادسة عشرة هكذا: "قال بركت وداكتروت بي" كانت - أي الأعياد - في اليهود على ثلاثة أقسام في كل سنة، وفي كل شهر شهر وفي كل أسبوع أسبوع، فنسخت هذه كلها، بل يوم السبت أيضا، وأقيم سبت المسيحيين مقامه.
وقال بشب هارسلي ذيل شرح الفقرة المذكورة: "زال سبت كنيسة اليهود وما مشي المسيحيون في عمل سبتهم على رسوم طفولية الفريسيين". وفي تفسير هنري واسكات: "إذ نسخ عيسى شريعة الرسومات، ليس لأحد أن يلزم الأقوال الأجنبية بسبب عدم لحاظها". قال ياسونر وليا: "فإنه لو كانت محافظة يوم السبت واجبة على جميع الناس، وعلى جميع أقوام الدنيا، لما أمكن نسخها قط، كما نسخت الآن حقيقة، ولكان يلزم على المسيحيين أن يحافظوه طبقة بعد طبقة، كما فعلوا في الابتداء لأجل تعظيم اليهود ورضاهم"، وما ادعى مقدسهم بولس من كون الأشياء المذكورة إضلالا لا يناسب عبادة التوراة؛ لأن الله بين علة حرمة الحيوانات: "لا تدنسوا نفوسكم بالبهائم والطيور، ولا بكل ما يدب على الأرض مما ميزته لكم ليكون نجسا. وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب، وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي". (اللاويين 20: 25، 26)، وبين علة عيد الفطير "بأني أخرج جيوشكم من أرض مصر فاحفظوا هذا اليوم إلى أجيالكم سنة إلى الدهر" كما هو مصرح به في الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج، وبين علة عيد الخيام هكذا: "لتعلم أجيالكم أني أجلست بني إسرائيل في الخيام إذ أخرجتهم من أرض مصر" كما هو مصرح به في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الأخبار، وبين في مواضع متعددة علة تعظيم السبت: "فأكملت السماوات والأرض وكل جندها. وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالق". (التكوين 2: 1 - 3).
• حكم الختان كان أبديا في شريعة إبراهيم - عليه السلام - كما هو مصرح به في سفر التكوين: "وقال الله لإبراهيم: «وأما أنت فتحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم: وليد البيت، والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. يختن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك، فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي»". (التكوين 17: 9 - 14)، ولذلك بقي هذا الحكم في أولاد إسماعيل وإسحاق - عليهما السلام - وبقي في شريعة موسى عليه السلام؛ ففي سفر اللاويين: "وكلم الرب موسى قائلا: كلم بني إسرائيل قائلا: إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا، تكون نجسة سبعة أيام. كما في أيام طمث علتها تكون نجسة. وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته". (اللاويين 12: 1ـ 3)، وختن عيسى - عليه السلام - أيضا كما هو مصرح به في إنجيل لوقا: "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع، كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن". (لوقا 2: 21). وفي المسيحيين إلى هذا الحين صلاة معينة يؤدونها في يوم ختان عيسى - عليه السلام - تذكرة لهذا اليوم، وكان هذا الحكم باقيا إلى عروج عيسى - عليه السلام - وما نسخ، بل نسخه الحواريون في عهدهم كما هو مشروح في الإصحاح الخامس عشر من أعمال الحواريين، ويشدد مقدسهم بولس في نسخ هذا الحكم تشديدا بليغا في رسالته إلى أهل غلاطية هكذا: "ها أنا بولس أقول لكم: إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئا! لكن أشهد أيضا لكل إنسان مختتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس. قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس. سقطتم من النعمة. فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بر. لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة [1]، بل الإيمان العامل بالمحبة". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 5: 2 - 6)، وفيها أيضا: "لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئا ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 6: 15).
• أحكام الذبائح كانت كثيرة وأبدية في شريعة موسى، وقد نسخت كلها في الشريعة العيسوية.
• الأحكام الكثيرة المختصة بآل هارون من الكهانة واللباس وقت الحضور للخدمة، وغيرها كانت أبدية، وقد نسخت كلها في الشريعة العيسوية.
• نسخ الحواريون بعد المشاورة التامة جميع الأحكام العملية للتوراة إلا أربعة: ذبيحة الصنم والدم والمخنوق والزنا فأبقوا حرمتها وأرسلوا كتابا إلى الكنائس، وهو منقول في أعمال الرسل هكذا: "إذ قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال، مقلبين أنفسكم، وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم. رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا وبولس، رجلين قد بذلا نفسيهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح. فقد أرسلنا يهوذا وسيلا، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها. لأنه قد رأى الروح القدس ونحن، أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة: أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا، التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون. كونوا معافين". (أعمال الرسل 15: 24ـ 29). وإنما أبقوا حرمة هذه الأربعة لئلا يتنفر اليهود الذين دخلوا في الملة المسيحية عن قريب - وكانوا يحبون أحكام التوراة ورسومها - تنفرا تاما، ثم لما رأى مقدسهم بولس بعد هذا الزمان أن هذه الرعاية ليست بضرورية نسخ حرمة الثلاثة الأولى بفتوى الإباحة العامة، وعليه اتفاق جمهور البروتستانت، فما بقي من أحكام التوراة العملية إلا الزنا، ولما لم يكن فيه حد في الشريعة العيسوية، فهو منسوخ من هذا الوجه أيضا، فقد حصل الفراغ من هذه الشريعة من نسخ جميع الأحكام العملية التي كانت في الشريعة الموسوية أبدية كانت أو غير أبدية.
• في رسالة بولس إلى أهل غلاطية: "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي. لست أبطل نعمة الله. لأنه إن كان بالناموس بر، فالمسيح إذا مات بلا سبب!". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 2: 20، 21). قال داكتر همند في ذيل شرح الفقرة العشرين: "خلصني ببذل روحه لأجلي عن شريعة موسى"، وقال في شرح الفقرة الحادية والعشرين: "استعمل هذا العتق لأجل ذلك، ولا أعتمد في النجاة على شريعة موسى، ولا أفهم أن أحكام موسى ضرورية؛ لأنه يجعل إنجيل المسيح كأنه بلا فائدة"، وقال داكتروت بي في ذيل شرح الفقرة الحادية والعشرين: "ولو كان كذا فاشترى النجاة بموته ما كان ضروريا، وما كان في موته حس ما"، وقال يايل: "لو كان شريعة اليهود تعصمنا وتنجينا فأية ضرورة كانت لموت المسيح، ولو كانت الشريعة جزاء لنجاتنا فلا يكون موت المسيح لها كافيا"، فهذه الأقوال كلها ناطقة بحصول الفراغ من شريعة موسى ونسخها.
• في رسالة بولس إلى أهل غلاطية: "لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة، لأنه مكتوب: «ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به». ولكن أن ليس أحد يتبرر بالناموس عند الله فظاهر، لأن «البار بالإيمان يحيا». ولكن الناموس ليس من الإيمان، بل «الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها». المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: «ملعون كل من علق على خشبة»". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3: 10ـ 13)، وقد قال لارد معلقا على هذه الفقرات: "الظن أن مراد الحواري ههنا المعنى الذي يعلمه كثير، يعني: نسخت الشريعة أو صارت بلا فائدة بموت المسيح وصلبه"، ثم قال أيضا: "بين الحواري صراحة في هذه المواضع أن منسوخية أحكام الشريعة الرسومية نتيجة موت عيسى".
وجاء في هذه الرسالة أيضا: "ولكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس، مغلقا علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن. إذا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح، لكي نتبرر بالإيمان. ولكن بعد ما جاء الإيمان، لسنا بعد تحت مؤدب". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3: 23ـ 25)، فصرح مقدسهم "أنه لا طاعة لأحكام التوراة بعد الإيمان بعيسى عليه السلام". وفي تفسير دوالي ورجرد مينت قول دين استان هوب هكذا: "نسخ رسومات الشريعة بموت عيسى وشيوع إنجيله".
• في رسالة بولس إلى أهل أفسس: "أي العداوة. مبطلا بجسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانا واحدا جديدا، صانعا سلاما". (رسالة بولس إلى أهل أفسس 2: 15).
• جاء في الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه إن تغير الكهنوت، فبالضرورة يصير تغيرا للناموس أيضا". (الرسالة إلى العبرانيين 7: 12)، ففي هذه الفقرة إثبات التلازم بين تبدل الإمامة وتبدل الشريعة، فإن قال المسلمون أيضا - نظرا إلى هذا التلازم - بنسخ الشريعة العيسوية فهم مصيبون في قولهم لا مخطئون، في تفسير دوالي ورجرد مينت ذيل شرح هذه الفقرة قول داكتر سيكنائت هكذا: "بدلت الشريعة قطعا بالنسبة إلى أحكام الذبائح والطهارة وغيرها"؛ أي: رفعت.
• جاء في الرسالة السابقة أيضا: "فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها". (الرسالة إلى العبرانيين 7: 18)، فهذه الفقرة تصرح بأن نسخ أحكام التورة لأجل أنها كانت ضعيفة بلا فائدة في تفسير هنري واسكات: "رفعت الشريعة والكهانة اللتان لا يحصل منها التكميل، وقام كاهن وعفو جديد يكمل منهما المصدقون الصادقون".
• وجاء فىها أيضا: "لأني أكون صفوحا عن آثامهم، ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد». فإذ قال «جديدا» عتق الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال". (الرسالة إلى العبرانيين 8: 12، 13)، ففي هذا القول تصريح بأن أحكام التوراة كانت معيبة، وقابلة للنسخ لكونها عتيقة بالية، في تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح الفقرة الثالثة عشرة قول يايل هكذا: "هذا ظاهر جدا أن الله - عز وجل - يريد أن ينسخ العتيق الأقصر بالرسالة الجديدة الحسنى، فلذلك يرفع المذهب الرسومي اليهودي ويقوم المذهب المسيحي مقامه".
• وجاء فىها أيضا: "ثم قال: «هنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله». ينزع الأول لكي يثبت الثاني". (الرسالة إلى العبرانيين 10: 9). وفي تفسير دوالي ورجرد مينت في شرح الفقرة الثامنة والتاسعة قول يايل هكذا: "استدل الحواري في هاتين الفقرتين وفيهما إشعار بكون ذبائح اليهود غير كافية؛ ولذا تحمل المسيح على نفسه الموت ليجبر نقصانها، ونسخ بفعل أحدهما استعمال الآخر".
فظهر للبيب من الأمثلة المذكورة أمور هي:
1. نسخ بعض الأحكام في الشريعة اللاحقة ليس مختصا بشريعتنا، بل وجد في الشرائع السابقة أيضا.
2. أن الأحكام العملية للتوراة كلها، أبدية كانت أو غير أبدية - نسخت في الشريعة العيسوية.
3. أن لفظ النسخ أيضا موجود في كلام مقدسهم بالنسبة إلى التوراة وأحكامها.
4. أن مقدسهم أثبت الملازمة بين تبدل الإمامة وتبدل الشريعة.
5. أن مقدسهم يدعي أن الشيء العتيق البالي قريب من الفناء، فأقول لما كانت الشريعة العيسوية بالنسبة إلى الشريعة المحمدية عتيقة فلا استبعاد في نسخها، بل هو ضروري على وفق الأمر الرابع.
وقد عرفت في الأمثلة السابقة أن مقدسهم ومفسريهم استعملوا ألفاظا غير ملائمة بالنسبة إلى التوراة بالمعنى المصطلح عندنا، إلا في الأحكام التي صرح فيها أنها أبدية، أو يجب رعايتها دائما طبقة بعد طبقة، لكن هذا الإشكال لا يرد علينا؛ لأنا لا نسلم أولا أن هذه التوراة هي التوراة المنزلة أو تصنيف موسى، ولا نسلم ثانيا أنها غير مصونة عن التحريف، ونقول ثالثا إلزاما بأن الله قد يظهر له بدءا وندامة عما أمر أو فعل فيرجع عنه، كذلك يعد وعدا دائما ثم يخلف وعده، وهذا الأمر الثالث نقوله إلزاما فقط؛ لأنه يفهم من كتب العهد العتيق هكذا من مواضع كما ستعرف عن قرب.
ونحن وجميع علماء أهل السنة بريئون ومتبرئون من هذه العقيدة الفاسدة، نعم يرد هذا الإشكال عن المسيحيين الذين يعترفون بأن هذه التوراة كلام الله، ومن تصنيف موسى ولم تحرف، والندامة والبدء محالان في حق الله، والتأويل الذي يذكرونه في الألفاظ المذكورة بعيد عن الإنصاف وركيك جدا؛ لأن المراد بهذه الألفاظ في كل شيء يكون بالمعنى الذي يناسبه، مثلا: إذا قيل لشخص معين إنه دائما يكون كذا، فلا يكون المراد بالدوام ههنا، إلا المدة الممتدة إلى آخر عمره؛ لأنا نعلم بديهة أنه لا يبقى إلى فناء العالم وقيام القيامة، وإذا قيل لقوم عظيم يبقى إلى فناء العالم، ولو تبدلت أشخاصه، في كل طبقة بعد طبقة، أنهم لا بد أن يفعلوا كذا دائما طبقة بعد طبقة أو إلى الأبد، أو إلى آخر الدهر، فيفهم منه الدوام إلى فناء العالم بلا شبهة، وقياس أحدهما على الآخر مستبعد جدا، ولذلك علماء اليهود يستبعدون تأويلهم سلفا وخلفا، وينسبون الاعتساف والغواية إليهم.
المراجع
- (*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات www.Eslameyat.com. [1]. الغرلة: جلدة الصبي التي يقطع في الختان، والجمع غرل.