نص السؤال

هل كان الشيطانُ يُلْقي وساوِسَهُ على النبيِّ ﷺ، فيتلُوها النبيُّ على أنها قرآنٌ؛ كما حدَثَ في قصَّةِ الغَرَانيق؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

القرآنُ الكريم.

النبيُّ ^.

قصَّةُ الغَرَانيق.

الجواب التفصيلي

للعلماءِ موقِفانِ مِن هذه القصَّةِ، وتفسيرِ آيةِ الحجِّ:

الموقفُ الأوَّلُ: ما عليه معظَمُ المفسِّرين، وكثيرٌ مِن العلماءِ المتأخِّرين: وهو الطعنُ في قصَّةِ الغرانيقِ مِن جهةِ السنَدِ والمتن، ومِن جهةِ معارَضتِها للقرآن، أو الجوابُ عنها وتأويلُها على فرضِ صحَّتِها والتسليمِ بثبوتِها؛ ويقولون: قبل البناءِ على دعوَى مَا؛ فإنه يجبُ التأكُّدُ مِن ثباتِ ما بُنِيَتْ عليه؛ ولهذا قالوا قديمًا: «ثَبِّتِ العَرْشَ، ثُمَّ انقُشْ»، وإلا فإنه سينهارُ جميعُ ما بُنِيَتْ عليه، ومِن ذلك هذه الدعوى، والتي يُمكِنُ إجمالُ الجوابِ عنها في النقاطِ التالية:

أوَّلًا: أهلُ العلمِ بالحديثِ يَعلَمون ضعفَ قصَّةِ الغَرَانيقِ:

والتي تقولُ: إن رسولَ اللهِ ﷺ كان يصلِّي بالناسِ بسورةِ النَّجْمِ، وإنه لما قرَأَ قولَهُ تعالى:

{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}

[النجم: 19-20]

سجَدَ النبيُّ ﷺ ومَن خلفَهُ، وسجَدَ المشرِكون، وقالوا: ما ذُكِرَت آلهتُنا بخيرٍ قبل اليوم، وزعَموا أن النبيَّ ﷺ قال حينئذٍ: «تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى»، وقد أنكَرَ هذه القصَّةَ الكثيرُ مِن علماءِ الإسلامِ السابِقين والمُحدَثِين، نقلًا وعقلًا؛ فهي لا تثبُتُ سندًا، وتتنافى مع عِصْمةِ الرسولِ ﷺ؛ كما أنها تتهاوى أمامَ البحثِ العلميِّ التاريخيِّ والاجتماعيِّ؛ (كالنظَرِ في الآثارِ المفترِضةِ لها لو كانت صحيحةً ...)؛ فهي قصَّةٌ ساقطةٌ نقلًا، وعقلًا، ولغةً أيضًا.

وقد ذكَرَ بعضُ المفسِّرين قصَّةَ الغَرَانيقِ، ولكنَّها مِن طُرُقٍ كلُّها ضعيفةٌ، وهي مرسَلةٌ ليست مسنَدةً مِن وجهٍ صحيح، وإيرادُ بعضِ العلماءِ لها، ليس بقصدِ تصحيحِها، ولكنها مِن بابِ: «جَمْعِ ما قيل في البابِ»، ونحوِ ذلك.

ثانيًا: بطلانُ القصَّةِ مِن جهةِ النقل:

ومِن أدلَّةِ ذلك: أن اللهَ تعالى أخبَرَ أنه يَحفَظُ القرآنَ مِن أن يدخُلَ عليه ما ليس منه، أو ينقُصَ منه شيءٌ، أو يُحرَّفَ عن مواضعِهِ؛ قال تعالى:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

[الحجر: 9]

ولو صَحَّ أن الرسولَ ﷺ قد نطَقَ أثناءَ قراءتِهِ بالكلمتَيْنِ المذكورتَيْن، لدخَلَ في القرآنِ ما ليس منه، فلا يكونُ هناك حفظٌ؛ وهذا مخالِفٌ لنصِّ القرآن.

وقال اللهُ تعالى:

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

[النحل: 99]

وهل هناك بَشَرٌ أصدَقُ إيمانًا، وأشَدُّ توكُّلًا على اللهِ مِن الأنبياء، ولا سيَّما خيرُهم وأفضَلُهم ﷺ؟!

وقد أَقَرَّ الشيطانُ بأنه لا سلطانَ له على عبادِ اللهِ المخلَصينَ؛ فقال تعالى:

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}

[ص: 82-83]

ومَن أحقُّ مِن الأنبياءِ بالاصطفاء؟! أو مَن أشدُّ إخلاصًا منهم لله؟! ونبيُّنا محمَّدٌ ﷺ على رأسِ المصطَفَيْنَ الأخيارِ، وفي الذِّرْوةِ منهم إخلاصًا لله.

ثالثًا: بطلانُ القصَّةِ مِن جهةِ العقل:

فقد أجمَعتِ الأُمَّةُ على عصمةِ النبيِّ ﷺ مِن مثلِ ذلك؛ إذْ لو جاز هذا مِن الرسولِ، لَجَازَ تكذيبُهُ، والكذبُ على الرسولِ محالٌ؛ إذ صدورُ مثلِ هذه القصَّةِ عن الرسولِ محالٌ، ولو قاله عمدًا أو سهوًا، لم يكن هناك عصمةٌ، وهو مردودٌ؛ كما أن القصَّةَ تخالِفُ عقيدةَ التوحيدِ التي مِن أَجْلِها بعَثَ اللهُ نبيَّه ﷺ.

والأصلُ أن الشيطانَ لا يُوسوِسُ بآياتٍ تذُمُّه، وتحذِّرُ البشَريَّةَ مِن إغوائِه، أو أن الجنَّ يُوحُون بشيءٍ، ثم يَدْعُون قومَهم للإيمانِ به؛ كما قال تعالى في سورةِ الأحقاف:

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}

[الأحقاف: 29]

ثمَّ إن المتأمِّلَ للتعاليمِ والتوجيهاتِ التي تمتلئُ بها سُوَرُ القرآنِ الكريم، يَجِدُ أن خيريَّةَ هذه التعاليمِ وفوائدَها للبَشَرِ لا يُمكِنُ أن يكونَ مصدرُها الشيطانَ الرجيمَ، رأسَ الغِوايةِ والضلال، ومَصدَرَ كلِّ شرّ.

رابعًا: بطلانُ القصَّةِ مِن جهةِ اللغة:

فإنه لم يَرِدْ قَطُّ عن العرَبِ: أنهم وصَفوا آلهتَهم بـ «الغَرَانيقِ»، لا في الشِّعْرِ ولا في النثرِ، والذي تَعرِفُهُ اللغةُ: أن «الغُرْنُوقَ، والغُرْنَيْقَ»: اسمٌ لطائرٍ مائيٍّ أسودَ أو أبيضَ، ومِن معانيهِ: الشابُّ الأبيضُ الجميلُ، ولا شيءَ مِن معانيهِ اللغويَّةِ يلائِمُ معنى الآلهةِ والأصنام؛ حتى يُطلَقَ عليهما في فصيحِ الكلامِ الذي يُعرَضُ على أمراءِ الفصاحةِ والبيان؛ فكيف يَفرَحُ به المشرِكون، ويعتبِرون ذلك ذِكرًا لآلهتِهم بالخير؟!

الموقفُ الثاني في الجوابِ عن حادثةِ الغرانيقِ: موقفُ فريقٍ مِن العلماء، وقد جلَّاهُ ابنُ تيميَّةَ رحمه الله؛ فقد تكلَّم عن قصَّةِ الغرانيقِ، وتفسيرِ آيةِ الحجِّ، وذكَرَ: أن الأنبياءَ عليهم السلامُ معصومون في تبليغِ الرسالةِ؛ فلا يستقِرُّ في ذلك شيءٌ مِن الخطأِ باتفاقِ المسلِمين، ولكنْ وقَعَ الخلافُ في مسألةٍ، وهي: هل يجوزُ أن يَسبِقَ على لسانِ النبيِّ ^ ما يستدرِكُهُ اللهُ تعالي، ويبيِّنُهُ له؛ بحيثُ لا يُقِرُّهُ على الخطأِ، أم لا يجوزُ؟:

وقد بيَّن الشيخُ أن الناسَ صاروا في ذلك على قولَيْن:

الأوَّلُ: قولُ بعضِ المتأخِّرين؛ حيثُ لم يجوِّزوا ذلك؛ لظنِّهم أن في ذلك خطأً في التبليغِ - والنبيُّ معصومٌ مِن ذلك - وطعَنوا في حادثةِ الغرانيقِ، وقالوا: «إنها لم تثبُتْ»، وهؤلاءِ أوَّلوا التمنِّيَ في آيةِ الحجِّ بتمنِّي القلبِ وحديثِ النفسِ، ولكنَّ الشيخَ ضعَّف هذا التأويلَ؛ وذلك لأن السلَفَ اتَّفَقوا على أن التمنِّيَ هو التلاوةُ والقرآنُ؛ كما في قولِهِ تعالي:

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}

[البقرة: 78]

واستدَلَّ أيضًا على تفسيرِ التمنِّي بالتلاوةِ: بأن اللهَ تعالى أخبَرَ أنه جعَلَ ما ألقَى الشيطانُ فتنةً للذين في قلوبِهم مرَضٌ، والقاسيةِ قلوبُهم؛ وهذا إنما يكونُ إذا كان ذلك ظاهرًا يَسمَعُهُ الناسُ، لا باطنًا في النفسِ؛ يقولُ: «لكنَّ الأوَّلَ - يريدُ: تفسيرَ التمنِّي بالتلاوةِ والقرآنِ - هو المعروفُ في التفسيرِ، وهو ظاهرُ القرآنِ، ومرادُ الآيةِ قطعًا؛ لقولِهِ بعد ذلك:

{فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}

[الحج: 52-53]

وهذا كلُّه لا يكونُ في مجرَّدِ القلبِ إذا لم يتكلَّمْ به النبيُّ».

وذكَرَ رحمه الله: أن فريقًا مِن المتأخِّرين رأى ثبوتَ ما جاء مِن الآثارِ في حادثةِ الغرانيقِ، ولكنه منَعَ جوازَ الإلقاءِ في كلامِ النبيِّ ^، وذهَبَ إلى أن الإلقاءَ هو في سمعِ المستمِعين، ولم يتكلَّمْ به الرسولُ ^.

وبيَّن الشيخُ: أن المحذورَ الذي فَرَّ منه هذا الفريقُ واردٌ على هذا التقديرِ أيضًا؛ يقولُ: «ومَن عَلِمَ أنه ثبَتَ - أي: ما نُقِلَ مِن الزيادةِ في سورةِ النجمِ - قال: «هذا ألقاهُ الشيطانُ في مسامعِهِ، ولم يَلفِظْ به الرسولُ ^»، ولكنَّ السؤالَ واردٌ على هذا التقديرِ أيضًا».

الثاني: القولُ الذي عليه عامَّةُ السلَفِ ومَن اتَّبَعهم، وهو: أن الإلقاءَ كان في نفسِ التلاوةِ؛ كما دلَّت عليه الآيةُ وسياقُها مِن غيرِ وجهٍ، وكما ورَدتْ به الآثارُ عن السلَفِ؛ ولا محذورَ في ذلك، إلا إذا أُقِرَّ عليه، فأما إذا نسَخَ اللهُ ما ألقى الشيطانُ، وأحكَمَ آياتِهِ، فلا محذورَ في ذلك، وليس هو خطأً وغلَطًا في تبليغِ الرسالةِ، إلا إذا أُقِرَّ عليه، وهو ^ معصومٌ في تبليغِ الرسالةِ: أن يُقَرَّ على خطأٍ.

وذكَرَ الشيخُ: أن كونَ النبيِّ ^ رسولًا لله، يقتضي أنه صادقٌ فيما يُخبِرُ به عن الله، ولولا ذلك، ما قامتِ الحجَّةُ به، والصدقُ يتضمَّنُ نفيَ الكذبِ، ونفيَ الخطأِ، فلو جاز عليه الخطأُ فيما يُخبِرُ به عن اللهِ، وأُقِرَّ عليه، لم يكن كلُّ ما يُخبِرُ به: عن اللهِ، وبيَّن رحمه الله: أن الذين منَعوا أن يقَعَ الإلقاءُ في تبليغِهِ، فرُّوا مِن هذا، وقصَدوا خيرًا، وأحسَنوا في ذلك، لكنْ يقالُ لهم: «ألقَى، ثم أحكَمَ»؛ فلا محذورَ في ذلك؛ فإن هذا يُشبِهُ النسخَ لمَن بلَغهُ الأمرُ والنهيُ؛ قال رحمه الله: «وهذا مما اتفَقَ عليه جميعُ الناسِ مِن المسلِمينَ واليهودِ والنصارى وغيرِهم، لم يتنازَعوا: أنه لا يجوزُ أن يستقِرَّ في خبرِهِ عن اللهِ خطأٌ، وإنما تنازَعوا: هل يجوزُ أن يقَعَ مِن الغلطِ ما يستدرِكُهُ ويبيِّنُهُ، فلا ينافي مقصودَ الرسالةِ، كما نُقِلَ مِن ذكرِ: «تلك الغرانيقُ العُلَا، وإن شفاعَتَها لتُرْتَجَى»؛ هذا فيه قولانِ للناس:

منهم: مَن منَعَ ذلك أيضًا، وطعَنَ في وقوعِ ذلك.

ومِن هؤلاءِ مَن قال: إنهم سَمِعوا ما لم يقُلْهُ؛ فكان الخطأُ في سمعِهم، والشيطانُ ألقَى في سمعِهم.

ومَن جوَّز ذلك، قال: «إذا حصَلَ البيانُ، ونسَخَ ما ألقَى الشيطانُ»، لم يكن في ذلك محذورٌ، وكان ذلك دليلًا على صدقِهِ وأمانتِهِ وديانتِه، وأنه غيرُ متَّبِعٍ هواهُ، ولا مُصِرٍّ على غيرِ الحقِّ؛ كفعلِ طالبِ الرياسةِ المصِرِّ على خطئِه، وإذا كان نسخُ ما جُزِمَ بأن اللهَ أنزَلهُ، لا محذورَ فيه، فنسخُ مثلِ هذا أَوْلى ألا يكونَ فيه محذورٌ؛ واستدَلَّ على ذلك بقولِهِ:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ...}

[الحج: 52]

وقال أيضًا: «وإذا كان التمنِّي لا بدَّ أن يدخُلَ فيه القولُ، ففيه قولان:

الأوَّلُ: أن الإلقاءَ هو في سمعِ المستمِعين، ولم يتكلَّمْ به الرسولُ؛ وهذا قولُ مَن تأوَّل الآيةَ بمنعِ جوازِ الإلقاءِ في كلامِه.

والثاني - وهو الذي عليه عامَّةُ السلَفِ ومَن اتَّبَعهم -: أن الإلقاءَ في نفسِ التلاوةِ، كما دلَّت عليه الآيةُ وسياقُها مِن غيرِ وجهٍ، كما ورَدتْ به الآثارُ المتعدِّدةُ؛ ولا محذورَ في ذلك إلا إذا أُقِرَّ عليه، فأما إذا نسَخَ اللهُ ما ألقى الشيطانُ، وأحكَمَ آياتِهِ، فلا محذورَ في ذلك، وليس هو خطأً وغلَطًا في تبليغِ الرسالةِ إلا إذا أُقِرَّ عليه ...».

وقال أيضًا: «والعِصْمةُ فيما يبلِّغونه عن الله ثابتةٌ، فلا يستقِرُّ في ذلك خطأٌ باتِّفاقِ المسلِمين، ولكنْ هل يصدُرُ ما يستدرِكُهُ اللهُ، فيَنسَخُ ما يُلقِي الشيطانُ، ويُحكِمُ اللهُ آياتِه؟ هذا فيه قولانِ:

والمأثورُ عن السلَفِ: يوافِقُ القرآنَ بذلك.

والذين منَعوا ذلك مِن المتأخِّرين: طعَنوا فيما يُنقَلُ مِن الزيادةِ في سورةِ النجمِ بقولِه: «تلك الغرانيقُ العُلَا، وإن شفاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى»، وقالوا: «إن هذا لم يثبُتْ»، ومَن عَلِمَ أنه ثبَتَ، قال: «هذا ألقاهُ الشيطانُ في مَسامِعهم، ولم يَلفِظْ به الرسول ^»، ولكنَّ السؤالَ واردٌ على هذا التقديرِ أيضًا ...

وأما الذين قرَّروا ما نُقِلَ عن السلَفِ، فقالوا: «هذا منقولٌ نقلًا ثابتًا لا يُمكِنُ القدحُ فيه، والقرآنُ يدُلُّ عليه بقولِهِ:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى قولِهِ: {وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

[الحج: 52-54]

فقالوا: «الآثارُ في تفسيرِ هذه الآيةِ معروفةٌ ثابتةٌ في كتبِ التفسيرِ والحديثِ، والقرآنُ يوافِقُ ذلك؛ فإن نسخَ اللِه لما يُلقِي الشيطانُ، وإحكامَهُ آياتِهِ، إنما يكونُ لرفعِ ما وقَعَ في آياتِه، وتمييزِ الحقِّ مِن الباطلِ؛ حتى لا تختلِطَ آياتُهُ بغيرِها، وجَعْلُ ما ألقى الشيطانُ فتنةً للذين في قلوبِهم مرَضٌ، والقاسيةِ قلوبُهم، إنما يكونُ إذا كان ذلك ظاهرًا يَسمَعُهُ الناس، لا باطنًا في النفس، والفتنةُ التي تحصُلُ بهذا النوعِ مِن النسخِ مِن جنسِ الفتنةِ التي تحصُلُ بالنوعِ الآخَرِ مِن النسخ.

وهذا النوعُ أدَلُّ على صدقِ الرسولِ ^ وبُعْدِهِ عن الهوى مِن ذلك النوعِ؛ فإنه إذا كان يأمُرُ بأمرٍ، ثم يأمُرُ بخلافِهِ - وكلاهما مِن عند الله، وهو مصدَّقٌ في ذلك - فإذا قال عن نفسِهِ: «إن الثانيَ هو الذي مِن عندِ الله، وهو الناسخُ، وإن ذلك المرفوعَ الذي نسَخهُ اللهُ ليس كذلك» -: كان أدَلَّ على اعتمادِهِ للصدقِ، وقولِهِ الحقّ، وهذا كما قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: «لو كان محمَّدٌ كاتمًا شيئًا مِن الوحيِ، لكتَمَ هذه الآية:

{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}

[الأحزاب: 37]

ألا تَرَى أن الذي يعظِّمُ نفسَهُ بالباطلِ، يريدُ أن ينصُرَ كلَّ ما قاله ولو كان خطأً؟! فبيانُ الرسولِ ^ أن اللهَ أحكَمَ آياتِهِ، ونسَخَ ما ألقاه الشيطانُ، هو أدَلُّ على تحرِّيهِ للصدقِ، وبراءتِهِ مِن الكذبِ، وهذا هو المقصودُ بالرسالة؛ فإنه الصادقُ المصدوقُ ^؛ ولهذا كان تكذيبُهُ كفرًا محضًا بلا ريب».

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يدورُ السؤالُ حول حقيقةِ قصَّةِ الغَرَانيقِ، وهل حصَلَتْ للنبيِّ ﷺ أم لا، وما يترتَّبُ على ذلك.

مختصَرُ الإجابة:

لهذا الإشكالِ موقِفانِ في الجوابِ:

أصحابُ الموقفِ الأوَّلِ يقولون: القصَّةُ لم تثبُتْ بدليلٍ يُحتَجُّ به، والرواياتُ فيها متعارِضةٌ؛ وقد ضعَّف هؤلاءِ قصَّةَ الغَرَانيق.

ثم هي عندهم تخالِفُ المعلومَ مِن الشرعِ والعقل، والتاريخِ واللغة.

وهي تتضمَّنُ أدلَّةً تضعِّفُها.

والاستدلالُ في الشريعةِ إنما يكونُ بدليلٍ صحيحٍ، لا بضعيفٍ؛ فضلًا عن باطل.

وأما أصحابُ الموقفِ الثاني، فيقولون: إن الأنبياءَ عليهم السلامُ معصومون في تبليغِ الرسالةِ؛ فلا يستقِرُّ في ذلك شيءٌ مِن الخطأِ باتفاقِ المسلِمين، ولكنْ وقَعَ الخلافُ في مسألةٍ، وهي: هل يجوزُ أن يَسبِقَ على لسانِ النبيِّ ^ ما يستدرِكُهُ اللهُ تعالي، ويبيِّنُهُ له؛ بحيثُ لا يُقِرُّهُ على الخطأِ، أم لا يجوزُ؟:

وقد ذكَروا أن الناسَ صاروا في ذلك على قولَيْن:

الأوَّلُ: قولُ بعضِ المتأخِّرين؛ حيثُ لم يجوِّزوا ذلك؛ لظنِّهم أن في ذلك خطأً في التبليغِ - والنبيُّ معصومٌ مِن ذلك - وطعَنوا في حادثةِ الغرانيقِ، وقالوا: «إنها لم تثبُتْ»، وهؤلاءِ أوَّلوا التمنِّيَ في آيةِ الحجِّ بتمنِّي القلبِ وحديثِ النفسِ، وهو عندهم تأويلٌ ضعيفٌ؛ لوجوهٍ.

ومِن هؤلاءِ المتأخِّرين: مَن رأى ثبوتَ ما جاء مِن الآثارِ في حادثةِ الغرانيقِ، ولكنه منَعَ جوازَ الإلقاءِ في كلامِ النبيِّ ^، وذهَبَ إلى أن الإلقاءَ هو في سمعِ المستمِعين، ولم يتكلَّمْ به الرسولُ ^؛ لكنَّ المحذورَ واردٌ أيضًا على هذا التقدير.

القولُ الثاني: قولُ عامَّةِ السلَفِ ومَن اتَّبَعهم، وهو: أن الإلقاءَ كان في نفسِ التلاوةِ؛ كما دلَّت عليه الآيةُ وسياقُها مِن غيرِ وجهٍ، وكما ورَدتْ به الآثارُ عن السلَفِ؛ ولا محذورَ في ذلك، إلا إذا أُقِرَّ عليه، فأما إذا نسَخَ اللهُ ما ألقى الشيطانُ، وأحكَمَ آياتِهِ، فلا محذورَ في ذلك، وليس هو خطأً وغلَطًا في تبليغِ الرسالةِ، إلا إذا أُقِرَّ عليه، وهو ^ معصومٌ في تبليغِ الرسالةِ: أن يُقَرَّ على خطأٍ؛ فهذا القولُ الذي قرَّروه نقلًا عن السلَفِ، قالوا فيه: «هذا منقولٌ نقلًا ثابتًا لا يُمكِنُ القدحُ فيه، والقرآنُ يدُلُّ عليه بقولِهِ:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى قولِهِ: {وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

[الحج: 52: 54]

وقالوا: «الآثارُ في تفسيرِ هذه الآيةِ معروفةٌ ثابتةٌ في كتبِ التفسيرِ والحديثِ، والقرآنُ يوافِقُ ذلك؛ فإن نسخَ اللِه لما يُلقِي الشيطانُ، وإحكامَهُ آياتِهِ، إنما يكونُ لرفعِ ما وقَعَ في آياتِه، وتمييزِ الحقِّ مِن الباطلِ؛ حتى لا تختلِطَ آياتُهُ بغيرِها، وجَعْلُ ما ألقى الشيطانُ فتنةً للذين في قلوبِهم مرَضٌ، والقاسيةِ قلوبُهم، إنما يكونُ إذا كان ذلك ظاهرًا يَسمَعُهُ الناس، لا باطنًا في النفس، والفتنةُ التي تحصُلُ بهذا النوعِ مِن النسخِ مِن جنسِ الفتنةِ التي تحصُلُ بالنوعِ الآخَرِ مِن النسخ.

وهذا النوعُ أدَلُّ على صدقِ الرسولِ ^ وبُعْدِهِ عن الهوى مِن ذلك النوعِ؛ فإنه إذا كان يأمُرُ بأمرٍ، ثم يأمُرُ بخلافِهِ - وكلاهما مِن عند الله، وهو مصدَّقٌ في ذلك - فإذا قال عن نفسِهِ: «إن الثانيَ هو الذي مِن عندِ الله، وهو الناسخُ، وإن ذلك المرفوعَ الذي نسَخهُ اللهُ ليس كذلك» -: كان أدَلَّ على اعتمادِهِ للصدقِ، وقولِهِ الحقّ، وهذا كما قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: «لو كان محمَّدٌ كاتمًا شيئًا مِن الوحيِ، لكتَمَ هذه الآية:

{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}

[الأحزاب: 37]

ألا تَرَى أن الذي يعظِّمُ نفسَهُ بالباطلِ، يريدُ أن ينصُرَ كلَّ ما قاله ولو كان خطأً؟! فبيانُ الرسولِ ^ أن اللهَ أحكَمَ آياتِهِ، ونسَخَ ما ألقاه الشيطانُ، هو أدَلُّ على تحرِّيهِ للصدقِ، وبراءتِهِ مِن الكذبِ، وهذا هو المقصودُ بالرسالة؛ فإنه الصادقُ المصدوقُ ^؛ ولهذا كان تكذيبُهُ كفرًا محضًا بلا ريب».


مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يدورُ السؤالُ حول حقيقةِ قصَّةِ الغَرَانيقِ، وهل حصَلَتْ للنبيِّ ﷺ أم لا، وما يترتَّبُ على ذلك.

مختصَرُ الإجابة:

لهذا الإشكالِ موقِفانِ في الجوابِ:

أصحابُ الموقفِ الأوَّلِ يقولون: القصَّةُ لم تثبُتْ بدليلٍ يُحتَجُّ به، والرواياتُ فيها متعارِضةٌ؛ وقد ضعَّف هؤلاءِ قصَّةَ الغَرَانيق.

ثم هي عندهم تخالِفُ المعلومَ مِن الشرعِ والعقل، والتاريخِ واللغة.

وهي تتضمَّنُ أدلَّةً تضعِّفُها.

والاستدلالُ في الشريعةِ إنما يكونُ بدليلٍ صحيحٍ، لا بضعيفٍ؛ فضلًا عن باطل.

وأما أصحابُ الموقفِ الثاني، فيقولون: إن الأنبياءَ عليهم السلامُ معصومون في تبليغِ الرسالةِ؛ فلا يستقِرُّ في ذلك شيءٌ مِن الخطأِ باتفاقِ المسلِمين، ولكنْ وقَعَ الخلافُ في مسألةٍ، وهي: هل يجوزُ أن يَسبِقَ على لسانِ النبيِّ ^ ما يستدرِكُهُ اللهُ تعالي، ويبيِّنُهُ له؛ بحيثُ لا يُقِرُّهُ على الخطأِ، أم لا يجوزُ؟:

وقد ذكَروا أن الناسَ صاروا في ذلك على قولَيْن:

الأوَّلُ: قولُ بعضِ المتأخِّرين؛ حيثُ لم يجوِّزوا ذلك؛ لظنِّهم أن في ذلك خطأً في التبليغِ - والنبيُّ معصومٌ مِن ذلك - وطعَنوا في حادثةِ الغرانيقِ، وقالوا: «إنها لم تثبُتْ»، وهؤلاءِ أوَّلوا التمنِّيَ في آيةِ الحجِّ بتمنِّي القلبِ وحديثِ النفسِ، وهو عندهم تأويلٌ ضعيفٌ؛ لوجوهٍ.

ومِن هؤلاءِ المتأخِّرين: مَن رأى ثبوتَ ما جاء مِن الآثارِ في حادثةِ الغرانيقِ، ولكنه منَعَ جوازَ الإلقاءِ في كلامِ النبيِّ ^، وذهَبَ إلى أن الإلقاءَ هو في سمعِ المستمِعين، ولم يتكلَّمْ به الرسولُ ^؛ لكنَّ المحذورَ واردٌ أيضًا على هذا التقدير.

القولُ الثاني: قولُ عامَّةِ السلَفِ ومَن اتَّبَعهم، وهو: أن الإلقاءَ كان في نفسِ التلاوةِ؛ كما دلَّت عليه الآيةُ وسياقُها مِن غيرِ وجهٍ، وكما ورَدتْ به الآثارُ عن السلَفِ؛ ولا محذورَ في ذلك، إلا إذا أُقِرَّ عليه، فأما إذا نسَخَ اللهُ ما ألقى الشيطانُ، وأحكَمَ آياتِهِ، فلا محذورَ في ذلك، وليس هو خطأً وغلَطًا في تبليغِ الرسالةِ، إلا إذا أُقِرَّ عليه، وهو ^ معصومٌ في تبليغِ الرسالةِ: أن يُقَرَّ على خطأٍ؛ فهذا القولُ الذي قرَّروه نقلًا عن السلَفِ، قالوا فيه: «هذا منقولٌ نقلًا ثابتًا لا يُمكِنُ القدحُ فيه، والقرآنُ يدُلُّ عليه بقولِهِ:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى قولِهِ: {وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

[الحج: 52: 54]

وقالوا: «الآثارُ في تفسيرِ هذه الآيةِ معروفةٌ ثابتةٌ في كتبِ التفسيرِ والحديثِ، والقرآنُ يوافِقُ ذلك؛ فإن نسخَ اللِه لما يُلقِي الشيطانُ، وإحكامَهُ آياتِهِ، إنما يكونُ لرفعِ ما وقَعَ في آياتِه، وتمييزِ الحقِّ مِن الباطلِ؛ حتى لا تختلِطَ آياتُهُ بغيرِها، وجَعْلُ ما ألقى الشيطانُ فتنةً للذين في قلوبِهم مرَضٌ، والقاسيةِ قلوبُهم، إنما يكونُ إذا كان ذلك ظاهرًا يَسمَعُهُ الناس، لا باطنًا في النفس، والفتنةُ التي تحصُلُ بهذا النوعِ مِن النسخِ مِن جنسِ الفتنةِ التي تحصُلُ بالنوعِ الآخَرِ مِن النسخ.

وهذا النوعُ أدَلُّ على صدقِ الرسولِ ^ وبُعْدِهِ عن الهوى مِن ذلك النوعِ؛ فإنه إذا كان يأمُرُ بأمرٍ، ثم يأمُرُ بخلافِهِ - وكلاهما مِن عند الله، وهو مصدَّقٌ في ذلك - فإذا قال عن نفسِهِ: «إن الثانيَ هو الذي مِن عندِ الله، وهو الناسخُ، وإن ذلك المرفوعَ الذي نسَخهُ اللهُ ليس كذلك» -: كان أدَلَّ على اعتمادِهِ للصدقِ، وقولِهِ الحقّ، وهذا كما قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: «لو كان محمَّدٌ كاتمًا شيئًا مِن الوحيِ، لكتَمَ هذه الآية:

{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}

[الأحزاب: 37]

ألا تَرَى أن الذي يعظِّمُ نفسَهُ بالباطلِ، يريدُ أن ينصُرَ كلَّ ما قاله ولو كان خطأً؟! فبيانُ الرسولِ ^ أن اللهَ أحكَمَ آياتِهِ، ونسَخَ ما ألقاه الشيطانُ، هو أدَلُّ على تحرِّيهِ للصدقِ، وبراءتِهِ مِن الكذبِ، وهذا هو المقصودُ بالرسالة؛ فإنه الصادقُ المصدوقُ ^؛ ولهذا كان تكذيبُهُ كفرًا محضًا بلا ريب».


الجواب التفصيلي

للعلماءِ موقِفانِ مِن هذه القصَّةِ، وتفسيرِ آيةِ الحجِّ:

الموقفُ الأوَّلُ: ما عليه معظَمُ المفسِّرين، وكثيرٌ مِن العلماءِ المتأخِّرين: وهو الطعنُ في قصَّةِ الغرانيقِ مِن جهةِ السنَدِ والمتن، ومِن جهةِ معارَضتِها للقرآن، أو الجوابُ عنها وتأويلُها على فرضِ صحَّتِها والتسليمِ بثبوتِها؛ ويقولون: قبل البناءِ على دعوَى مَا؛ فإنه يجبُ التأكُّدُ مِن ثباتِ ما بُنِيَتْ عليه؛ ولهذا قالوا قديمًا: «ثَبِّتِ العَرْشَ، ثُمَّ انقُشْ»، وإلا فإنه سينهارُ جميعُ ما بُنِيَتْ عليه، ومِن ذلك هذه الدعوى، والتي يُمكِنُ إجمالُ الجوابِ عنها في النقاطِ التالية:

أوَّلًا: أهلُ العلمِ بالحديثِ يَعلَمون ضعفَ قصَّةِ الغَرَانيقِ:

والتي تقولُ: إن رسولَ اللهِ ﷺ كان يصلِّي بالناسِ بسورةِ النَّجْمِ، وإنه لما قرَأَ قولَهُ تعالى:

{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}

[النجم: 19-20]

سجَدَ النبيُّ ﷺ ومَن خلفَهُ، وسجَدَ المشرِكون، وقالوا: ما ذُكِرَت آلهتُنا بخيرٍ قبل اليوم، وزعَموا أن النبيَّ ﷺ قال حينئذٍ: «تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى»، وقد أنكَرَ هذه القصَّةَ الكثيرُ مِن علماءِ الإسلامِ السابِقين والمُحدَثِين، نقلًا وعقلًا؛ فهي لا تثبُتُ سندًا، وتتنافى مع عِصْمةِ الرسولِ ﷺ؛ كما أنها تتهاوى أمامَ البحثِ العلميِّ التاريخيِّ والاجتماعيِّ؛ (كالنظَرِ في الآثارِ المفترِضةِ لها لو كانت صحيحةً ...)؛ فهي قصَّةٌ ساقطةٌ نقلًا، وعقلًا، ولغةً أيضًا.

وقد ذكَرَ بعضُ المفسِّرين قصَّةَ الغَرَانيقِ، ولكنَّها مِن طُرُقٍ كلُّها ضعيفةٌ، وهي مرسَلةٌ ليست مسنَدةً مِن وجهٍ صحيح، وإيرادُ بعضِ العلماءِ لها، ليس بقصدِ تصحيحِها، ولكنها مِن بابِ: «جَمْعِ ما قيل في البابِ»، ونحوِ ذلك.

ثانيًا: بطلانُ القصَّةِ مِن جهةِ النقل:

ومِن أدلَّةِ ذلك: أن اللهَ تعالى أخبَرَ أنه يَحفَظُ القرآنَ مِن أن يدخُلَ عليه ما ليس منه، أو ينقُصَ منه شيءٌ، أو يُحرَّفَ عن مواضعِهِ؛ قال تعالى:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

[الحجر: 9]

ولو صَحَّ أن الرسولَ ﷺ قد نطَقَ أثناءَ قراءتِهِ بالكلمتَيْنِ المذكورتَيْن، لدخَلَ في القرآنِ ما ليس منه، فلا يكونُ هناك حفظٌ؛ وهذا مخالِفٌ لنصِّ القرآن.

وقال اللهُ تعالى:

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

[النحل: 99]

وهل هناك بَشَرٌ أصدَقُ إيمانًا، وأشَدُّ توكُّلًا على اللهِ مِن الأنبياء، ولا سيَّما خيرُهم وأفضَلُهم ﷺ؟!

وقد أَقَرَّ الشيطانُ بأنه لا سلطانَ له على عبادِ اللهِ المخلَصينَ؛ فقال تعالى:

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}

[ص: 82-83]

ومَن أحقُّ مِن الأنبياءِ بالاصطفاء؟! أو مَن أشدُّ إخلاصًا منهم لله؟! ونبيُّنا محمَّدٌ ﷺ على رأسِ المصطَفَيْنَ الأخيارِ، وفي الذِّرْوةِ منهم إخلاصًا لله.

ثالثًا: بطلانُ القصَّةِ مِن جهةِ العقل:

فقد أجمَعتِ الأُمَّةُ على عصمةِ النبيِّ ﷺ مِن مثلِ ذلك؛ إذْ لو جاز هذا مِن الرسولِ، لَجَازَ تكذيبُهُ، والكذبُ على الرسولِ محالٌ؛ إذ صدورُ مثلِ هذه القصَّةِ عن الرسولِ محالٌ، ولو قاله عمدًا أو سهوًا، لم يكن هناك عصمةٌ، وهو مردودٌ؛ كما أن القصَّةَ تخالِفُ عقيدةَ التوحيدِ التي مِن أَجْلِها بعَثَ اللهُ نبيَّه ﷺ.

والأصلُ أن الشيطانَ لا يُوسوِسُ بآياتٍ تذُمُّه، وتحذِّرُ البشَريَّةَ مِن إغوائِه، أو أن الجنَّ يُوحُون بشيءٍ، ثم يَدْعُون قومَهم للإيمانِ به؛ كما قال تعالى في سورةِ الأحقاف:

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}

[الأحقاف: 29]

ثمَّ إن المتأمِّلَ للتعاليمِ والتوجيهاتِ التي تمتلئُ بها سُوَرُ القرآنِ الكريم، يَجِدُ أن خيريَّةَ هذه التعاليمِ وفوائدَها للبَشَرِ لا يُمكِنُ أن يكونَ مصدرُها الشيطانَ الرجيمَ، رأسَ الغِوايةِ والضلال، ومَصدَرَ كلِّ شرّ.

رابعًا: بطلانُ القصَّةِ مِن جهةِ اللغة:

فإنه لم يَرِدْ قَطُّ عن العرَبِ: أنهم وصَفوا آلهتَهم بـ «الغَرَانيقِ»، لا في الشِّعْرِ ولا في النثرِ، والذي تَعرِفُهُ اللغةُ: أن «الغُرْنُوقَ، والغُرْنَيْقَ»: اسمٌ لطائرٍ مائيٍّ أسودَ أو أبيضَ، ومِن معانيهِ: الشابُّ الأبيضُ الجميلُ، ولا شيءَ مِن معانيهِ اللغويَّةِ يلائِمُ معنى الآلهةِ والأصنام؛ حتى يُطلَقَ عليهما في فصيحِ الكلامِ الذي يُعرَضُ على أمراءِ الفصاحةِ والبيان؛ فكيف يَفرَحُ به المشرِكون، ويعتبِرون ذلك ذِكرًا لآلهتِهم بالخير؟!

الموقفُ الثاني في الجوابِ عن حادثةِ الغرانيقِ: موقفُ فريقٍ مِن العلماء، وقد جلَّاهُ ابنُ تيميَّةَ رحمه الله؛ فقد تكلَّم عن قصَّةِ الغرانيقِ، وتفسيرِ آيةِ الحجِّ، وذكَرَ: أن الأنبياءَ عليهم السلامُ معصومون في تبليغِ الرسالةِ؛ فلا يستقِرُّ في ذلك شيءٌ مِن الخطأِ باتفاقِ المسلِمين، ولكنْ وقَعَ الخلافُ في مسألةٍ، وهي: هل يجوزُ أن يَسبِقَ على لسانِ النبيِّ ^ ما يستدرِكُهُ اللهُ تعالي، ويبيِّنُهُ له؛ بحيثُ لا يُقِرُّهُ على الخطأِ، أم لا يجوزُ؟:

وقد بيَّن الشيخُ أن الناسَ صاروا في ذلك على قولَيْن:

الأوَّلُ: قولُ بعضِ المتأخِّرين؛ حيثُ لم يجوِّزوا ذلك؛ لظنِّهم أن في ذلك خطأً في التبليغِ - والنبيُّ معصومٌ مِن ذلك - وطعَنوا في حادثةِ الغرانيقِ، وقالوا: «إنها لم تثبُتْ»، وهؤلاءِ أوَّلوا التمنِّيَ في آيةِ الحجِّ بتمنِّي القلبِ وحديثِ النفسِ، ولكنَّ الشيخَ ضعَّف هذا التأويلَ؛ وذلك لأن السلَفَ اتَّفَقوا على أن التمنِّيَ هو التلاوةُ والقرآنُ؛ كما في قولِهِ تعالي:

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}

[البقرة: 78]

واستدَلَّ أيضًا على تفسيرِ التمنِّي بالتلاوةِ: بأن اللهَ تعالى أخبَرَ أنه جعَلَ ما ألقَى الشيطانُ فتنةً للذين في قلوبِهم مرَضٌ، والقاسيةِ قلوبُهم؛ وهذا إنما يكونُ إذا كان ذلك ظاهرًا يَسمَعُهُ الناسُ، لا باطنًا في النفسِ؛ يقولُ: «لكنَّ الأوَّلَ - يريدُ: تفسيرَ التمنِّي بالتلاوةِ والقرآنِ - هو المعروفُ في التفسيرِ، وهو ظاهرُ القرآنِ، ومرادُ الآيةِ قطعًا؛ لقولِهِ بعد ذلك:

{فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}

[الحج: 52-53]

وهذا كلُّه لا يكونُ في مجرَّدِ القلبِ إذا لم يتكلَّمْ به النبيُّ».

وذكَرَ رحمه الله: أن فريقًا مِن المتأخِّرين رأى ثبوتَ ما جاء مِن الآثارِ في حادثةِ الغرانيقِ، ولكنه منَعَ جوازَ الإلقاءِ في كلامِ النبيِّ ^، وذهَبَ إلى أن الإلقاءَ هو في سمعِ المستمِعين، ولم يتكلَّمْ به الرسولُ ^.

وبيَّن الشيخُ: أن المحذورَ الذي فَرَّ منه هذا الفريقُ واردٌ على هذا التقديرِ أيضًا؛ يقولُ: «ومَن عَلِمَ أنه ثبَتَ - أي: ما نُقِلَ مِن الزيادةِ في سورةِ النجمِ - قال: «هذا ألقاهُ الشيطانُ في مسامعِهِ، ولم يَلفِظْ به الرسولُ ^»، ولكنَّ السؤالَ واردٌ على هذا التقديرِ أيضًا».

الثاني: القولُ الذي عليه عامَّةُ السلَفِ ومَن اتَّبَعهم، وهو: أن الإلقاءَ كان في نفسِ التلاوةِ؛ كما دلَّت عليه الآيةُ وسياقُها مِن غيرِ وجهٍ، وكما ورَدتْ به الآثارُ عن السلَفِ؛ ولا محذورَ في ذلك، إلا إذا أُقِرَّ عليه، فأما إذا نسَخَ اللهُ ما ألقى الشيطانُ، وأحكَمَ آياتِهِ، فلا محذورَ في ذلك، وليس هو خطأً وغلَطًا في تبليغِ الرسالةِ، إلا إذا أُقِرَّ عليه، وهو ^ معصومٌ في تبليغِ الرسالةِ: أن يُقَرَّ على خطأٍ.

وذكَرَ الشيخُ: أن كونَ النبيِّ ^ رسولًا لله، يقتضي أنه صادقٌ فيما يُخبِرُ به عن الله، ولولا ذلك، ما قامتِ الحجَّةُ به، والصدقُ يتضمَّنُ نفيَ الكذبِ، ونفيَ الخطأِ، فلو جاز عليه الخطأُ فيما يُخبِرُ به عن اللهِ، وأُقِرَّ عليه، لم يكن كلُّ ما يُخبِرُ به: عن اللهِ، وبيَّن رحمه الله: أن الذين منَعوا أن يقَعَ الإلقاءُ في تبليغِهِ، فرُّوا مِن هذا، وقصَدوا خيرًا، وأحسَنوا في ذلك، لكنْ يقالُ لهم: «ألقَى، ثم أحكَمَ»؛ فلا محذورَ في ذلك؛ فإن هذا يُشبِهُ النسخَ لمَن بلَغهُ الأمرُ والنهيُ؛ قال رحمه الله: «وهذا مما اتفَقَ عليه جميعُ الناسِ مِن المسلِمينَ واليهودِ والنصارى وغيرِهم، لم يتنازَعوا: أنه لا يجوزُ أن يستقِرَّ في خبرِهِ عن اللهِ خطأٌ، وإنما تنازَعوا: هل يجوزُ أن يقَعَ مِن الغلطِ ما يستدرِكُهُ ويبيِّنُهُ، فلا ينافي مقصودَ الرسالةِ، كما نُقِلَ مِن ذكرِ: «تلك الغرانيقُ العُلَا، وإن شفاعَتَها لتُرْتَجَى»؛ هذا فيه قولانِ للناس:

منهم: مَن منَعَ ذلك أيضًا، وطعَنَ في وقوعِ ذلك.

ومِن هؤلاءِ مَن قال: إنهم سَمِعوا ما لم يقُلْهُ؛ فكان الخطأُ في سمعِهم، والشيطانُ ألقَى في سمعِهم.

ومَن جوَّز ذلك، قال: «إذا حصَلَ البيانُ، ونسَخَ ما ألقَى الشيطانُ»، لم يكن في ذلك محذورٌ، وكان ذلك دليلًا على صدقِهِ وأمانتِهِ وديانتِه، وأنه غيرُ متَّبِعٍ هواهُ، ولا مُصِرٍّ على غيرِ الحقِّ؛ كفعلِ طالبِ الرياسةِ المصِرِّ على خطئِه، وإذا كان نسخُ ما جُزِمَ بأن اللهَ أنزَلهُ، لا محذورَ فيه، فنسخُ مثلِ هذا أَوْلى ألا يكونَ فيه محذورٌ؛ واستدَلَّ على ذلك بقولِهِ:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ...}

[الحج: 52]

وقال أيضًا: «وإذا كان التمنِّي لا بدَّ أن يدخُلَ فيه القولُ، ففيه قولان:

الأوَّلُ: أن الإلقاءَ هو في سمعِ المستمِعين، ولم يتكلَّمْ به الرسولُ؛ وهذا قولُ مَن تأوَّل الآيةَ بمنعِ جوازِ الإلقاءِ في كلامِه.

والثاني - وهو الذي عليه عامَّةُ السلَفِ ومَن اتَّبَعهم -: أن الإلقاءَ في نفسِ التلاوةِ، كما دلَّت عليه الآيةُ وسياقُها مِن غيرِ وجهٍ، كما ورَدتْ به الآثارُ المتعدِّدةُ؛ ولا محذورَ في ذلك إلا إذا أُقِرَّ عليه، فأما إذا نسَخَ اللهُ ما ألقى الشيطانُ، وأحكَمَ آياتِهِ، فلا محذورَ في ذلك، وليس هو خطأً وغلَطًا في تبليغِ الرسالةِ إلا إذا أُقِرَّ عليه ...».

وقال أيضًا: «والعِصْمةُ فيما يبلِّغونه عن الله ثابتةٌ، فلا يستقِرُّ في ذلك خطأٌ باتِّفاقِ المسلِمين، ولكنْ هل يصدُرُ ما يستدرِكُهُ اللهُ، فيَنسَخُ ما يُلقِي الشيطانُ، ويُحكِمُ اللهُ آياتِه؟ هذا فيه قولانِ:

والمأثورُ عن السلَفِ: يوافِقُ القرآنَ بذلك.

والذين منَعوا ذلك مِن المتأخِّرين: طعَنوا فيما يُنقَلُ مِن الزيادةِ في سورةِ النجمِ بقولِه: «تلك الغرانيقُ العُلَا، وإن شفاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى»، وقالوا: «إن هذا لم يثبُتْ»، ومَن عَلِمَ أنه ثبَتَ، قال: «هذا ألقاهُ الشيطانُ في مَسامِعهم، ولم يَلفِظْ به الرسول ^»، ولكنَّ السؤالَ واردٌ على هذا التقديرِ أيضًا ...

وأما الذين قرَّروا ما نُقِلَ عن السلَفِ، فقالوا: «هذا منقولٌ نقلًا ثابتًا لا يُمكِنُ القدحُ فيه، والقرآنُ يدُلُّ عليه بقولِهِ:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى قولِهِ: {وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

[الحج: 52-54]

فقالوا: «الآثارُ في تفسيرِ هذه الآيةِ معروفةٌ ثابتةٌ في كتبِ التفسيرِ والحديثِ، والقرآنُ يوافِقُ ذلك؛ فإن نسخَ اللِه لما يُلقِي الشيطانُ، وإحكامَهُ آياتِهِ، إنما يكونُ لرفعِ ما وقَعَ في آياتِه، وتمييزِ الحقِّ مِن الباطلِ؛ حتى لا تختلِطَ آياتُهُ بغيرِها، وجَعْلُ ما ألقى الشيطانُ فتنةً للذين في قلوبِهم مرَضٌ، والقاسيةِ قلوبُهم، إنما يكونُ إذا كان ذلك ظاهرًا يَسمَعُهُ الناس، لا باطنًا في النفس، والفتنةُ التي تحصُلُ بهذا النوعِ مِن النسخِ مِن جنسِ الفتنةِ التي تحصُلُ بالنوعِ الآخَرِ مِن النسخ.

وهذا النوعُ أدَلُّ على صدقِ الرسولِ ^ وبُعْدِهِ عن الهوى مِن ذلك النوعِ؛ فإنه إذا كان يأمُرُ بأمرٍ، ثم يأمُرُ بخلافِهِ - وكلاهما مِن عند الله، وهو مصدَّقٌ في ذلك - فإذا قال عن نفسِهِ: «إن الثانيَ هو الذي مِن عندِ الله، وهو الناسخُ، وإن ذلك المرفوعَ الذي نسَخهُ اللهُ ليس كذلك» -: كان أدَلَّ على اعتمادِهِ للصدقِ، وقولِهِ الحقّ، وهذا كما قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: «لو كان محمَّدٌ كاتمًا شيئًا مِن الوحيِ، لكتَمَ هذه الآية:

{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}

[الأحزاب: 37]

ألا تَرَى أن الذي يعظِّمُ نفسَهُ بالباطلِ، يريدُ أن ينصُرَ كلَّ ما قاله ولو كان خطأً؟! فبيانُ الرسولِ ^ أن اللهَ أحكَمَ آياتِهِ، ونسَخَ ما ألقاه الشيطانُ، هو أدَلُّ على تحرِّيهِ للصدقِ، وبراءتِهِ مِن الكذبِ، وهذا هو المقصودُ بالرسالة؛ فإنه الصادقُ المصدوقُ ^؛ ولهذا كان تكذيبُهُ كفرًا محضًا بلا ريب».