نص السؤال
المؤلف: مجموعة مؤلفي بيان الإسلام
المصدر: موسوعة بيان الإسلام
الجواب التفصيلي
التشكيك في تواتر القرآن الكريم (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن القرآن الكريم ليس متواترا بصورة يمكن الاطمئنان إليها، ويرون أن رواية القرآن كرواية الحديث، والحديث منه المتواتر، والآحاد، والضعيف، والموضوع، ويستدلون على ذلك بما يأتي:
• وجود آيات لم ترد إلا برواية رجل أو رجلين.
• اختلاف المسلمين حول البسملة: هل هي من القرآن أم لا.
• عدم موافقة عبد الله بن مسعود على مصحف عثمان رضي الله عنهما.
ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في سلامة القرآن والتشكيك في تواتر نصه.
وجوه إبطال الشبهة:
1) للقراءة الصحيحة ضوابط وأركان، وضعها العلماء وهي متحققه في القراءات العشر.
2) لقد تكفل الله - عز وجل - بحفظ الوحي - قرآنا وسنة -، فأما القرآن فقد حفظ في الصدور وجمع في المصحف والرسول على قيد الحياة، ثم جمع في مصحف واحد في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - ثم وحد المسلمون على مصحف واحد في عهد عثمان - رضي الله عنه - فحفظ كما أنزل من عند الله - عز وجل - ولم ينقص منه حرف أو يزاد فيه حرف حتى ينقح صحيحه من ضعيفه. وأما السنة النبوية فقد قيض الله لها جهابذة قاموا بغربلتها وتصفيتها وتنقيحها فميزوا الصحيح من غيره.
3) اختلاف الروايات المكتوبة، والروايات المحفوظة للقرآن في درجة التواتر، فالآيات التي وردت برواية رجل أو رجلين كانت مكتوبة بالإضافة إلى حفظها، وهذا يقوي روايتها.
4) الخلاف حول البسملة لا يطعن في صحة تواتر القرآن؛ لأنها من الأمور الاجتهادية التي لا يكفر مثبتها ولا منكرها.
5) رواية ابن مسعود لا تطعن في صحة تواتر المصحف العثماني، وقد رجع ابن مسعود ومدح صنيع عثمان بعد ذلك.
التفصيل:
أولا. ضوابط وشروط القراءة المقبولة الصحيحة:
• التواتر، ومعناه: نقل جماعة عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب من أول السند إلى منتهاه.
• موافقة أحد المصاحف العثمانية.
• موافقة وجه من أوجه اللغة العربية.
والشروط الثلاثة متحققة في قراءات الأئمة العشرة الذين نسبت إليهم وجوه اختلاف ألفاظ القرآن الكريم، نقلا عن التابعين عن الصحابة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - عن رب العزة عز وجل.
إن هذه القراءات أبعاض القرآن وأجزاؤه، وقد ثبت القرآن كله بجميع أبعاضه وأجزائه بطريق التواتر، فيكون كل جزء منه ثابتا بطريق التواتر، ضرورة ثبوت الأجزاء بثبوت الكل، فمثلا قراءة لفظ "الصراط" بالصاد بعض من القرآن، وقراءته بالسين بعض آخر منه، فكلتا القراءتين متواترة، إذ الطريق الذي وصلت إلينا منه إحدى القراءتين هو الطريق نفسه الذي وصلت إلينا منه القراءة الأخرى، فيكون كل منهما قرآنا، وإلا لو قلنا: إن إحدى القراءتين متواترة دون الأخرى - وطريق ورودهما واحدة - لكان ذلك تحكما باطلا، وترجيحا لإحدى المتساويتين على الأخرى دون مرجح، وهو باطل، فحينئذ تكون القراءتان متواترتين وهو المطلوب.
على أنه إذا انتفى التواتر عن القرآن كله يستلزم ذلك ضرورة انتفاء الكل بانتفاء جزء منه، وانتفاء التواتر عن القرآن باطل، فبطل ما أدى إليه انتفاء التواتر عن بعض القراءات، وثبت نقيضه وهو ثبوت التواتر في الجميع - كما ترى - وهو المطلوب [1].
ثانيا. تكفل الله تعالى بحفظ القرآن:
لقد نزل القرآن الكريم من قبل الله - عز وجل - على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة أمين السماء جبريل - عليه السلام - ولم ينزل من القرآن شيء بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه شيء من الوحي يقرؤه على الصحابة - رضي الله عنهم - وكان الصحابة يحفظون ما يسمعونه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفظا وأحكاما، وقد جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يسمع العشر آيات من القرآن فلا يتعداها إلى غيرها إلا إذا عرف كل ما يتعلق بهذه الآيات، فكان حفظ الصحابة للقرآن حفظا سليما، ومتواترا جيلا بعد جيل.
وهكذا تكفل الله - عز وجل - بحفظ آيات القرآن الكريم من الضياع أو التحريف أو النسيان، ولم يترك هذه المهمة لأحد من البشر، حتى ولو كان رسولا في مكانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل
قال عز وجل:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))
(الحجر)
، وقال في آية أخرى:
(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82))
(النساء)،
وغير ذلك من الآيات التي تؤكد حفظ القرآن الكريم من قبل الله - عز وجل - وعدم سقوط أي جزء من أجزائه أو آية من آياته أو كلمة من كلماته.
وقد احتاط النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - لهذا الكتاب غاية الاحتياط، فلم يكتفوا بحفظه في الصدور وعلى صفحات القلوب، وإنما جمعوا إلى الحفظ الكتابة على ما أتيح لهم حينذاك، وبذلك اجتمع للقرآن الوجودان: الوجود في الأذهان والصدور، والوجود في الكتابة والسطور [2].
وحول ثبوت النص القرآني بالتواتر المفيد للقطع واليقين - مما يؤكد حفظ الله التام له، وعدم المساس به من قبل يد التحريف والتبديل - يقول د. محمد بن محمد أبو شهبة: لم يعرف التاريخ في عمره الطويل كتابا أحيط بسياجات من العناية والرعاية مثل ما عرف ذلك للقرآن الكريم، ولا كتابا ثبت في جملته وتفصيله بالتواتر المفيد للقطع واليقين مثل ما عرف ذلك للقرآن الكريم، ولا كتابا أوجب الله حفظه على الأمة كلها غير القرآن الكريم، ولا كتابا سلم من التحريف والتبديل غير القرآن الكريم.
ولم يكن المعول عليه في حفظ القرآن وتلقيه، الأخذ من الرقاع والصحف والمصاحف، وإنما كان المعول عليه الأول: التلقي الشفاهي، والأخذ بالسماع، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ عن أمين الوحي جبريل - عليه السلام - وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ كثير من الصحابة النجباء العدول الضابطين الأمناء، وعن الصحابة أخذ الآلاف من التابعين الفضلاء، وهكذا نقله العدد الكثير عن العدد الكثير، حتى وصل إلينا كما أنزله الله من غير زيادة ولا نقصان، ولا تغيير ولا تحريف، مصداقا
لقول الحق سبحانه وتعالى:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))
(الحجر)،
وقد كان من أسباب توثيق النص القرآني حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن، وحفظ الصحابة له.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد العناية بحفظ القرآن، وحريصا على تلقفه من جبريل - عليه السلام - حتى بلغ من شدة عنايته به وحرصه عليه أنه كان يحرك به لسانه أكثر من المعتاد عند قراءته، ويعالجه أشد المعالجة حتى كان يجد في ذلك شدة، يقصد بذلك استعجال حفظه خشية أن تفلت منه كلمة، أو يعزب عنه حرف حتى طمأنه ربه، ووعده أن يحفظه له في صدره، وأن يقرئه لفظه، وأن يفهمه معناه،
فأنزل - سبحانه وتعالى - قوله:
(لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19))
(القيامة)،
أي: جمعه لك في صدرك، وإقراره لك بواسطة أمين الوحي جبريل، فإذا قرأه جبريل فأنصت، حتى إذا فرغ فاقرأ عليه ما سمعت منه.
ثم إنا سنتكفل لك أيضا ببيان تفسيره، وتوضيح ما أجمل منه وإزالة إشكال ما عسى أن يستشكل منه، وهو ضمان من الله - عز وجل - أن يحفظ القرآن في قلب نبيه، فلا تتفلت منه كلمة أو حرف، وقد ورد تفسير هذه الآيات عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وكان من الدواعي القوية لحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن وتثبيته في قلبه الشريف - معارضة جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن، أي عرضه عليه في رمضان من كل عام، وقد جاء عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة». [3] "فكان جبريل - عليه السلام - يقرأ والنبي يسمع حينا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وجبريل - عليه السلام - يسمع، حتى كان العام الذي توفي فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعارضه جبريل - عليه السلام - بالقرآن مرتين، وقد شهد العرضة الأخيرة أحد مشاهير كتاب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه" [4].
وكان القرآن شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشاغل في صلاته، وتهجده، وفي سره وعلانيته، وفي حضره وسفره، وفي وحدته وبين صحابته، وفي عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، لا يغيب عن قلبه، ولا يألو جهدا في تعهده وتكراره والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والاعتبار بمواعظه وقصصه، والتأثر بأمثاله وحكمه، والتأدب بآدابه وأخلاقه، وتبليغه للناس كافة.
كما كان أعلم الناس بأسباب نزوله ومواقع تنزلاته، ومدلول خطاباته، وأحكامه وآدابه، وحدوده ومعالمه وظاهره وباطنه، فمن ثم كان أشد الناس حفظا له، وإجادة لقراءته ومعرفة لحروفه وقراءاته، وكان المرجع الأول للمسلمين في حفظ القرآن وفهمه، والوقوف على معانيه وأسراره ومراميه، والتثبت من نصوصه وحروفه وقراءاته.
ومن خصائص هذا الكتاب السماوي الكريم أن الله - عز وجل - كلف الأمة الإسلامية بحفظه كله، بحيث يحفظه عدد كثير يثبت بهم التواتر المفيد للقطع واليقين على هذا الوضع، وبهذا الترتيب الذي وجد، ويوجد في المصاحف العثمانية من لدن الصحابة إلى اليوم، فإن لم يحفظه عدد يثبت بهم التواتر أثمت الأمة كلها.
بخلاف التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى - عليهما السلام - وغيرها مما أنزله الله - عز وجل - فلم تكلف أممها بحفظها عن ظهر قلب، بل ترك ذلك لاختيار من يريد، فمن شاء حفظ ما شاء، واعتمد في القراءة على المكتوب، وهذا الأخير هو الأعم الأغلب من شأن بني إسرائيل وغيرهم، ولم تتوافر الدواعي لحفظ هذه الكتب والصحف كما توافرت للقرآن الكريم.
فمن ثم لم يكن لها من ثبوت النص القطعي الموثوق به مثل ما للقرآن العظيم، ومن هنا سهل التحريف والتبديل في التوراة والإنجيل من الأحبار والرهبان والقسس، وبعضها كالصحف ضاع بمرور الزمن ولم يبق له وجود.
والسبب في أن الله - سبحانه وتعالى - كلف الأمة المحمدية بحفظ القرآن العظيم، ولم يكلف الأمم السابقة بحفظ كتبها وصحفها، أن هذه الكتب لم تكن معجزة بلفظها، ولم يشأ الله ذلك لحكمة يعلمها، بخلاف القرآن الكريم، فقد شاء الله - عز وجل - وله الحكمة البالغة - أن يكون معجزا بلفظه، فضلا عن معانيه، فكان من الضروري المحافظة على النص بالطريق المفيدة للقطع واليقين، وليس ذلك إلا بأن يحفظه عدد كثير من كل جيل وعصر، يستحيل على مجموعهم الكذب والغلط والسهو، وهو ما يعرف في علم الرواية بـ "التواتر"، وقد وفر الله له من الدواعي إلى حفظه ما لم يتوافر لغيره من الكتب السماوية، بل الأرضية.
وأيضا من الحكم أن القرآن هو الأصل الأصيل للدين العام الخالد الباقي ما بقي إنسان على وجه هذه الأرض، وهو الإسلام، فكان لا بد من المحافظة على كتابه، ليخلد خلود هذا الدين الذي يعتبر القرآن أصلا له، بخلاف التوراة والإنجيل، فقد كانا كتابين لدينين يمثلان طورين خاصين محدودين بحدود الزمان والمكان، من الأطوار التي مرت بها الأديان السماوية، حتى وصلت إلى الاكتمال في دين الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: «وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة» [5].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت عليه الآية أو الآيتان، أو الخمس أو العشر، أو السورة يقرؤها على أصحابه ويحفظهم إياها ويفقههم بها، ويبين لهم طريقة أدائها وآداب تلاوتها؛ كي يحفظوا اللفظ، ويفقهوا المعنى، ويلتزموا ما نزل عملا وسلوكا ويستقيموا عليه.
وقد أحل الصحابة - رضي الله عنهم - القرآن المحل الأول من نفوسهم وأنزلوه المنزلة اللائقة به، يتنافسون في حفظ لفظه، ويتسابقون في فقه معناه، وجعلوه متعبدهم في ليلهم، وصاحبهم في أسفارهم، وأنيسهم في وحدتهم، وصديقهم الصدوق في منشطهم ومكرههم، ومستشارهم الأمين في شئون دينهم ودنياهم، وما ظنك بكتاب تلاوته عبادة، والاشتغال به من أعظم القربات إلى الله، وعزهم لا يكون إلا به، وسعادتهم في الدنيا والآخرة لا تتحقق إلا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه؟!
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على قوم يقدم أكثرهم قراءة للقرآن، وإذا بعث بعثا جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم قراءة للقرآن، بل إذا جمع بين اثنين أو أكثر في قبر لضرورة - كما حدث في شهداء أحد - سأل: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير إليه قدمه في اللحد.
ولم يكن همهم من القراءة مجرد الحفظ من غير تدبر وفهم، وإنما المراد الحفظ والفهم، والعلم والعمل بما حفظوه وعلموه، جاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن؛ كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم والعمل جميعا، فالقراء في الصدر الأول كانوا فقهاء فاهمين، وعلماء عاملين، اعتمادهم في الحفظ على التلقي الشفاهي.
وكان اعتمادهم - رضي الله عنهم - في الحفظ على التلقي والسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ممن سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة، لا سيما القارئين المجيدين منهم: كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - وأمثالهم.. وما كانوا يعتمدون في حفظه على المكتوب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على النقل من الصحف والمصاحف بعد كتابتها في عهد ذي النورين عثمان رضي الله عنهم.
وكذلك من جاء بعد الصحابة من التابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم، كان اعتمادهم على التلقي الشفاهي من الشيوخ أو العرض، والقراءة عليهم، وهذا هو الغالب من شأنهم، ولا تزال هذه السنة في حفظ القرآن متبعة وملتزمة لدى القراء المجيدين إلى عصرنا هذا، وبذلك بقيت سلسلة الإسناد متصلة بالقرآن، وستبقى بإذن الله حتى يرث الله الأرض ومن عليها [6].
ثالثا. التواتر بين المحفوظ والمكتوب:
أما من قال: كيف يكون القرآن متواترا كله مع أن زيد بن ثابت قال في حديثه عن جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره» [7].
وقال عند ذكره لكتابة المصحف في عهد عثمان رضي الله عنه:«ففقدت آية من الأحزاب كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري، فألحقناها في سورتها في المصحف». [8] فهاتان الروايتان - في ظنهم - تدلان على اعتماده - رضي الله عنه - في جمع القرآن على الروايات الأحادية.
والجواب: إن هذا الذي ورد في الروايتين لا ينفي تواتر القرآن؛ لأن الاعتماد في جمع القرآن كان على الحفظ والكتابة، وكان غرضهم من ذلك زيادة التوثق والاطمئنان، وأن ما كتبوه إنما هو من عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: لم أجدهما، أي: لم أجدهما مكتوبتين، وهذا لا ينافي أنهما كانتا محفوظتين عند جمع يثبت بهم التواتر، والتواتر إنما هو في الحفظ لا في الكتابة، يدل على ذلك قول زيد في الرواية الثانية "ففقدت آية من الأحزاب كنت أسمع رسول الله يقرأ بها " فهو إذن كان حافظا لها ومتيقنا لقرآنيتها - وكذلك من كانوا معه يحفظونها - ولكن كان يبحث عن أصلها المكتوب" [9].
إن كلام زيد بن ثابت هذا لا ينفي التواتر ولا يبطله؛ إذ إن الآيتين ختام سورة التوبة لم تثبت قرآنيتهما بقول أبي خزيمة وحده، بل تثبت بأخبار كثرة غامرة من الصحابة عن حفظهم في صدورهم، وإن لم يكونوا كتبوه في أوراقهم، فالذي انفرد به أبو خزيمة هو كتابة الآيتين لاحفظهما، وليست الكتابة شرطا في التواتر، بل المشروط فيه أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، ولو لم يكتبه واحد منهم، فكتابه أبي خزيمة الأنصاري كانت توثقا واحتياطا فوق ما يطلبه التواتر ويقتضيه، فكيف نقدح في التواتر بانفراده بها؟
كما أن كلام زيد فيما مضى من ختام سورة التوبة وآية الأحزاب - لا يدل على عدم تواترهما - حتى على فرض أنه يريد انفراد أبي خزيمة بذكرهما من حفظهما، غاية ما يدل عليه كلامه - أنهما انفردا بذكرهما ابتداء، ثم تذكر الصحابة ما ذكراه، وكان هؤلاء الصحابة جمعا يؤمن تواطؤهم على الكذب، فدونت تلك الآيات في الصحف والمصحف بعد قيام هذا التواتر فيها [10].
رابعا. الخلاف في البسملة خلاف اجتهادي سائغ:
إن اختلاف المسلمين حول قرآنية البسملة - التي تأتي في أوائل السور - أو عدم قرآنيتها - لا يستدعي أن يكفر بعضهم بعضا؛ لأن مثل هذه الخلافات من الأمور الاجتهادية المختلف فيها بين العلماء، ومثل هذه الأمور الاجتهادية لا يكفر منكرها أو مثبتها، إنما يكفر من أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة، ومن ذلك فرضية الصلاة والزكاة والصوم والحج، وتوحيد الله تعالى، والإيمان بالملائكة والرسل والكتب والقدر... إلخ، فهذه الأمور هي التي يحكم على منكرها بالكفر، وعلى مثبتها بالإيمان.
أما قرآنية البسملة التي جاءت في سورة النمل على لسان سليمان - عليه السلام - فهذا أمر ثابت ولا يقبل أي خلاف حوله، ومثل هذه الآية يحكم على منكرها بالكفر وعلى مثبتها بالإيمان؛ لأن هذه الآية متواترة عن كل المسلمين في كل عصر من عصور الدعوة الإسلامية، ونص هذه الآية هو
قوله سبحانه وتعالى:
(إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30))
(النمل).
خامسا. رواية ابن مسعود لا تطعن في التواتر من أي وجه:
ادعاء أن ابن مسعود - رضي الله عنه - لم يوافق على مصحف عثمان - رضي الله عنه - ادعاء باطل؛ لأن غاية ما ورد عنه قوله - إن صحت هذه الرواية -: " يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ المصاحف، ويتولاه رجل - والله - لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر؟" يقصد زيد بن ثابت.
وكلام ابن مسعود - رضي الله عنه - إن صحت هذه الرواية عنه - لا يدل على الطعن في جمع القرآن، إنما يدل على أنه كان يرى في نفسه أنه هو الأولى أن يسند إليه هذا الجمع، وذلك لا ينافي أنه كان يرى في زيد الأهلية والكفاية للنهوض بما أسند إليه، وإن كان هو في نظر نفسه أكفأ وأجدر، غير أن المسألة تقديرية، ولا ريب أن تقدير أبي بكر وعمر وعثمان لزيد أصدق من تقدير ابن مسعود له؛إذ توافرت في زيد مجموعة من المؤهلات والمزايا جعلته جديرا بتنفيذ هذه الغاية السامية.
وخلاصة القول أن اعتراض ابن مسعود - على فرض صحة هذه الرواية - كان منصبا على طريقة تأليف لجنة الجمع، لا على صحة الجمع نفسه، مع أن كلمة ابن مسعود السالفة لا تدل على أكثر من أنه كان يكبر زيدا بزمن طويل؛ إذ كان عبد الله مسلما وزيد لا يزال ضميرا مستترا في صلب أبيه، وليس هذا بمطعن في زيد، فكم ترك الأول للآخر، ولو كان الأمر بالسن؛ لاختل نظام الكون.
ثم إننا لو سلمنا بصحة ما نقل عن ابن مسعود، وسلمنا أنه أراد الطعن في صحة جمع القرآن، لا نسلم أنه دام على هذا الطعن والإنكار، بدليل ما صح عنه أنه رجع إلى ما في مصحف عثمان، وحرق مصحفه في آخر أمره، حين تبين له أن هذا هو الحق.
وغير هذا وذاك أن كلام ابن مسعود - على فرض صحته وأنه أراد به الطعن في جمع القرآن، وأنه دام ولم يرجع عنه - لا يدل على إبطال تواتر القرآن؛ لأن التواتر يكفي في القطع بصحة مرويه أن ينقل عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب بشروطه، وليس من شروطه ألا يخالف فيه مخالف، حتى يقدح في تواتر القرآن أن يخالف فيه ابن مسعود - رضي الله عنه - أو غيره، ما دام جمع غفير من الصحابة قد أقروا جمع القرآن على هذا النحو في عهد أبي بكر مرة، وفي عهد عثمان - رضي الله عنهما - مرة أخرى [11].
وبذلك اتحدت الصفوف واتفقت الكلمة، وتم الاتفاق على صحة تواتر مصحف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - دون غيره من المصاحف الأخرى.
الخلاصة:
• وضع العلماء ضوابط للقراءة الصحيحة المقبولة، هي: التواتر، وموافقة أحد المصاحف العثمانية، وموافقة وجه من أوجه اللغة العربية، والشروط الثلاثة متحققة في قراءات الآئمة العشرة الذين نسبت إليهم وجوه اختلاف ألفاظ القرآن الكريم، نقلا عن التابعين عن الصحابة عن رسول الله عن جبريل عن رب العزة عز وجل.
• لقد تكفل الله - عز وجل - بحفظ كتابه من الضياع أو التحريف أو النقص؛ لذلك هيأ - عز وجل - أسباب توثيق النص القرآني وسلامة تواتره، فحفظه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ثم تابعت الأمة السير على هذا المنهج في تبليغ القرآن وحفظه في الصدور قبل السطور جيلا بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
وصدق الله إذ يقول:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))
(الحجر).
• الآيات التي وردت برواية رجل أو رجلين كانت آيات محفوظة في صدور الصحابة، والعبرة في التواتر بالحفظ لا بالكتابة.
• الخلاف الذي وقع بين المسلمين في البسملة لا يطعن في صحة تواتر القرآن؛ لأن هذا من الأمور الاجتهادية غير القطعية السائغ فيها الخلاف والتي لا يكفر مثبتها، أو منكرها.
• اعتراض ابن مسعود - رضي الله عنه - على مصحف عثمان - رضي الله عنهـ على فرض صحة الرواية التي تزعم ذلك - لا ينفي صحة تواتر مصحف الإمام؛ لأن شروط التواتر الصحيح متوافرة في هذا المصحف، وهي اجتماع عدد من المسلمين في كل طبقة على صحة هذا المصحف بحيث يؤمن تواطؤهم على الكذب.
المراجع
- (*) مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م. بلاد العرب، ديفيد جورج هوجارت، ترجمة: صبري محمد حسن، دار الأهرام، القاهرة، د. ت. موسوعة القرآن العظيم، عبد المنعم الحنفي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2004م. [1]. دراسات حول القرآن والسنة، د. شعبان محمد إسماعيل، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط1، 1407هـ / 1987م، ص26، 27 بتصرف.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص386 بتصرف.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (6)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب كان النبي أجود الناس بالخير من الريح المرسلة (6149).
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (4712) بلفظ: كان يعرض على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن كل عام مرة.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب المساجد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" (427)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب منه (1191) بلفظ: كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص 386: 393 بتصرف يسير.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن (4701)، وفي مواضع أخرى.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن (4702)، وفي موضع آخر.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م،ص285، 286.
- مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م، ص233، 234 بتصرف يسير.
- مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م، ص232، 233 بتصرف يسير.
الجواب التفصيلي
التشكيك في تواتر القرآن الكريم (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن القرآن الكريم ليس متواترا بصورة يمكن الاطمئنان إليها، ويرون أن رواية القرآن كرواية الحديث، والحديث منه المتواتر، والآحاد، والضعيف، والموضوع، ويستدلون على ذلك بما يأتي:
• وجود آيات لم ترد إلا برواية رجل أو رجلين.
• اختلاف المسلمين حول البسملة: هل هي من القرآن أم لا.
• عدم موافقة عبد الله بن مسعود على مصحف عثمان رضي الله عنهما.
ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في سلامة القرآن والتشكيك في تواتر نصه.
وجوه إبطال الشبهة:
1) للقراءة الصحيحة ضوابط وأركان، وضعها العلماء وهي متحققه في القراءات العشر.
2) لقد تكفل الله - عز وجل - بحفظ الوحي - قرآنا وسنة -، فأما القرآن فقد حفظ في الصدور وجمع في المصحف والرسول على قيد الحياة، ثم جمع في مصحف واحد في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - ثم وحد المسلمون على مصحف واحد في عهد عثمان - رضي الله عنه - فحفظ كما أنزل من عند الله - عز وجل - ولم ينقص منه حرف أو يزاد فيه حرف حتى ينقح صحيحه من ضعيفه. وأما السنة النبوية فقد قيض الله لها جهابذة قاموا بغربلتها وتصفيتها وتنقيحها فميزوا الصحيح من غيره.
3) اختلاف الروايات المكتوبة، والروايات المحفوظة للقرآن في درجة التواتر، فالآيات التي وردت برواية رجل أو رجلين كانت مكتوبة بالإضافة إلى حفظها، وهذا يقوي روايتها.
4) الخلاف حول البسملة لا يطعن في صحة تواتر القرآن؛ لأنها من الأمور الاجتهادية التي لا يكفر مثبتها ولا منكرها.
5) رواية ابن مسعود لا تطعن في صحة تواتر المصحف العثماني، وقد رجع ابن مسعود ومدح صنيع عثمان بعد ذلك.
التفصيل:
أولا. ضوابط وشروط القراءة المقبولة الصحيحة:
• التواتر، ومعناه: نقل جماعة عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب من أول السند إلى منتهاه.
• موافقة أحد المصاحف العثمانية.
• موافقة وجه من أوجه اللغة العربية.
والشروط الثلاثة متحققة في قراءات الأئمة العشرة الذين نسبت إليهم وجوه اختلاف ألفاظ القرآن الكريم، نقلا عن التابعين عن الصحابة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - عن رب العزة عز وجل.
إن هذه القراءات أبعاض القرآن وأجزاؤه، وقد ثبت القرآن كله بجميع أبعاضه وأجزائه بطريق التواتر، فيكون كل جزء منه ثابتا بطريق التواتر، ضرورة ثبوت الأجزاء بثبوت الكل، فمثلا قراءة لفظ "الصراط" بالصاد بعض من القرآن، وقراءته بالسين بعض آخر منه، فكلتا القراءتين متواترة، إذ الطريق الذي وصلت إلينا منه إحدى القراءتين هو الطريق نفسه الذي وصلت إلينا منه القراءة الأخرى، فيكون كل منهما قرآنا، وإلا لو قلنا: إن إحدى القراءتين متواترة دون الأخرى - وطريق ورودهما واحدة - لكان ذلك تحكما باطلا، وترجيحا لإحدى المتساويتين على الأخرى دون مرجح، وهو باطل، فحينئذ تكون القراءتان متواترتين وهو المطلوب.
على أنه إذا انتفى التواتر عن القرآن كله يستلزم ذلك ضرورة انتفاء الكل بانتفاء جزء منه، وانتفاء التواتر عن القرآن باطل، فبطل ما أدى إليه انتفاء التواتر عن بعض القراءات، وثبت نقيضه وهو ثبوت التواتر في الجميع - كما ترى - وهو المطلوب [1].
ثانيا. تكفل الله تعالى بحفظ القرآن:
لقد نزل القرآن الكريم من قبل الله - عز وجل - على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة أمين السماء جبريل - عليه السلام - ولم ينزل من القرآن شيء بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه شيء من الوحي يقرؤه على الصحابة - رضي الله عنهم - وكان الصحابة يحفظون ما يسمعونه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفظا وأحكاما، وقد جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يسمع العشر آيات من القرآن فلا يتعداها إلى غيرها إلا إذا عرف كل ما يتعلق بهذه الآيات، فكان حفظ الصحابة للقرآن حفظا سليما، ومتواترا جيلا بعد جيل.
وهكذا تكفل الله - عز وجل - بحفظ آيات القرآن الكريم من الضياع أو التحريف أو النسيان، ولم يترك هذه المهمة لأحد من البشر، حتى ولو كان رسولا في مكانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل
قال عز وجل:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))
(الحجر)
، وقال في آية أخرى:
(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82))
(النساء)،
وغير ذلك من الآيات التي تؤكد حفظ القرآن الكريم من قبل الله - عز وجل - وعدم سقوط أي جزء من أجزائه أو آية من آياته أو كلمة من كلماته.
وقد احتاط النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - لهذا الكتاب غاية الاحتياط، فلم يكتفوا بحفظه في الصدور وعلى صفحات القلوب، وإنما جمعوا إلى الحفظ الكتابة على ما أتيح لهم حينذاك، وبذلك اجتمع للقرآن الوجودان: الوجود في الأذهان والصدور، والوجود في الكتابة والسطور [2].
وحول ثبوت النص القرآني بالتواتر المفيد للقطع واليقين - مما يؤكد حفظ الله التام له، وعدم المساس به من قبل يد التحريف والتبديل - يقول د. محمد بن محمد أبو شهبة: لم يعرف التاريخ في عمره الطويل كتابا أحيط بسياجات من العناية والرعاية مثل ما عرف ذلك للقرآن الكريم، ولا كتابا ثبت في جملته وتفصيله بالتواتر المفيد للقطع واليقين مثل ما عرف ذلك للقرآن الكريم، ولا كتابا أوجب الله حفظه على الأمة كلها غير القرآن الكريم، ولا كتابا سلم من التحريف والتبديل غير القرآن الكريم.
ولم يكن المعول عليه في حفظ القرآن وتلقيه، الأخذ من الرقاع والصحف والمصاحف، وإنما كان المعول عليه الأول: التلقي الشفاهي، والأخذ بالسماع، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ عن أمين الوحي جبريل - عليه السلام - وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ كثير من الصحابة النجباء العدول الضابطين الأمناء، وعن الصحابة أخذ الآلاف من التابعين الفضلاء، وهكذا نقله العدد الكثير عن العدد الكثير، حتى وصل إلينا كما أنزله الله من غير زيادة ولا نقصان، ولا تغيير ولا تحريف، مصداقا
لقول الحق سبحانه وتعالى:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))
(الحجر)،
وقد كان من أسباب توثيق النص القرآني حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن، وحفظ الصحابة له.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد العناية بحفظ القرآن، وحريصا على تلقفه من جبريل - عليه السلام - حتى بلغ من شدة عنايته به وحرصه عليه أنه كان يحرك به لسانه أكثر من المعتاد عند قراءته، ويعالجه أشد المعالجة حتى كان يجد في ذلك شدة، يقصد بذلك استعجال حفظه خشية أن تفلت منه كلمة، أو يعزب عنه حرف حتى طمأنه ربه، ووعده أن يحفظه له في صدره، وأن يقرئه لفظه، وأن يفهمه معناه،
فأنزل - سبحانه وتعالى - قوله:
(لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19))
(القيامة)،
أي: جمعه لك في صدرك، وإقراره لك بواسطة أمين الوحي جبريل، فإذا قرأه جبريل فأنصت، حتى إذا فرغ فاقرأ عليه ما سمعت منه.
ثم إنا سنتكفل لك أيضا ببيان تفسيره، وتوضيح ما أجمل منه وإزالة إشكال ما عسى أن يستشكل منه، وهو ضمان من الله - عز وجل - أن يحفظ القرآن في قلب نبيه، فلا تتفلت منه كلمة أو حرف، وقد ورد تفسير هذه الآيات عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وكان من الدواعي القوية لحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن وتثبيته في قلبه الشريف - معارضة جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن، أي عرضه عليه في رمضان من كل عام، وقد جاء عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة». [3] "فكان جبريل - عليه السلام - يقرأ والنبي يسمع حينا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وجبريل - عليه السلام - يسمع، حتى كان العام الذي توفي فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعارضه جبريل - عليه السلام - بالقرآن مرتين، وقد شهد العرضة الأخيرة أحد مشاهير كتاب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه" [4].
وكان القرآن شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشاغل في صلاته، وتهجده، وفي سره وعلانيته، وفي حضره وسفره، وفي وحدته وبين صحابته، وفي عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، لا يغيب عن قلبه، ولا يألو جهدا في تعهده وتكراره والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والاعتبار بمواعظه وقصصه، والتأثر بأمثاله وحكمه، والتأدب بآدابه وأخلاقه، وتبليغه للناس كافة.
كما كان أعلم الناس بأسباب نزوله ومواقع تنزلاته، ومدلول خطاباته، وأحكامه وآدابه، وحدوده ومعالمه وظاهره وباطنه، فمن ثم كان أشد الناس حفظا له، وإجادة لقراءته ومعرفة لحروفه وقراءاته، وكان المرجع الأول للمسلمين في حفظ القرآن وفهمه، والوقوف على معانيه وأسراره ومراميه، والتثبت من نصوصه وحروفه وقراءاته.
ومن خصائص هذا الكتاب السماوي الكريم أن الله - عز وجل - كلف الأمة الإسلامية بحفظه كله، بحيث يحفظه عدد كثير يثبت بهم التواتر المفيد للقطع واليقين على هذا الوضع، وبهذا الترتيب الذي وجد، ويوجد في المصاحف العثمانية من لدن الصحابة إلى اليوم، فإن لم يحفظه عدد يثبت بهم التواتر أثمت الأمة كلها.
بخلاف التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى - عليهما السلام - وغيرها مما أنزله الله - عز وجل - فلم تكلف أممها بحفظها عن ظهر قلب، بل ترك ذلك لاختيار من يريد، فمن شاء حفظ ما شاء، واعتمد في القراءة على المكتوب، وهذا الأخير هو الأعم الأغلب من شأن بني إسرائيل وغيرهم، ولم تتوافر الدواعي لحفظ هذه الكتب والصحف كما توافرت للقرآن الكريم.
فمن ثم لم يكن لها من ثبوت النص القطعي الموثوق به مثل ما للقرآن العظيم، ومن هنا سهل التحريف والتبديل في التوراة والإنجيل من الأحبار والرهبان والقسس، وبعضها كالصحف ضاع بمرور الزمن ولم يبق له وجود.
والسبب في أن الله - سبحانه وتعالى - كلف الأمة المحمدية بحفظ القرآن العظيم، ولم يكلف الأمم السابقة بحفظ كتبها وصحفها، أن هذه الكتب لم تكن معجزة بلفظها، ولم يشأ الله ذلك لحكمة يعلمها، بخلاف القرآن الكريم، فقد شاء الله - عز وجل - وله الحكمة البالغة - أن يكون معجزا بلفظه، فضلا عن معانيه، فكان من الضروري المحافظة على النص بالطريق المفيدة للقطع واليقين، وليس ذلك إلا بأن يحفظه عدد كثير من كل جيل وعصر، يستحيل على مجموعهم الكذب والغلط والسهو، وهو ما يعرف في علم الرواية بـ "التواتر"، وقد وفر الله له من الدواعي إلى حفظه ما لم يتوافر لغيره من الكتب السماوية، بل الأرضية.
وأيضا من الحكم أن القرآن هو الأصل الأصيل للدين العام الخالد الباقي ما بقي إنسان على وجه هذه الأرض، وهو الإسلام، فكان لا بد من المحافظة على كتابه، ليخلد خلود هذا الدين الذي يعتبر القرآن أصلا له، بخلاف التوراة والإنجيل، فقد كانا كتابين لدينين يمثلان طورين خاصين محدودين بحدود الزمان والمكان، من الأطوار التي مرت بها الأديان السماوية، حتى وصلت إلى الاكتمال في دين الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: «وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة» [5].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت عليه الآية أو الآيتان، أو الخمس أو العشر، أو السورة يقرؤها على أصحابه ويحفظهم إياها ويفقههم بها، ويبين لهم طريقة أدائها وآداب تلاوتها؛ كي يحفظوا اللفظ، ويفقهوا المعنى، ويلتزموا ما نزل عملا وسلوكا ويستقيموا عليه.
وقد أحل الصحابة - رضي الله عنهم - القرآن المحل الأول من نفوسهم وأنزلوه المنزلة اللائقة به، يتنافسون في حفظ لفظه، ويتسابقون في فقه معناه، وجعلوه متعبدهم في ليلهم، وصاحبهم في أسفارهم، وأنيسهم في وحدتهم، وصديقهم الصدوق في منشطهم ومكرههم، ومستشارهم الأمين في شئون دينهم ودنياهم، وما ظنك بكتاب تلاوته عبادة، والاشتغال به من أعظم القربات إلى الله، وعزهم لا يكون إلا به، وسعادتهم في الدنيا والآخرة لا تتحقق إلا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه؟!
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على قوم يقدم أكثرهم قراءة للقرآن، وإذا بعث بعثا جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم قراءة للقرآن، بل إذا جمع بين اثنين أو أكثر في قبر لضرورة - كما حدث في شهداء أحد - سأل: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير إليه قدمه في اللحد.
ولم يكن همهم من القراءة مجرد الحفظ من غير تدبر وفهم، وإنما المراد الحفظ والفهم، والعلم والعمل بما حفظوه وعلموه، جاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن؛ كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم والعمل جميعا، فالقراء في الصدر الأول كانوا فقهاء فاهمين، وعلماء عاملين، اعتمادهم في الحفظ على التلقي الشفاهي.
وكان اعتمادهم - رضي الله عنهم - في الحفظ على التلقي والسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ممن سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة، لا سيما القارئين المجيدين منهم: كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - وأمثالهم.. وما كانوا يعتمدون في حفظه على المكتوب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على النقل من الصحف والمصاحف بعد كتابتها في عهد ذي النورين عثمان رضي الله عنهم.
وكذلك من جاء بعد الصحابة من التابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم، كان اعتمادهم على التلقي الشفاهي من الشيوخ أو العرض، والقراءة عليهم، وهذا هو الغالب من شأنهم، ولا تزال هذه السنة في حفظ القرآن متبعة وملتزمة لدى القراء المجيدين إلى عصرنا هذا، وبذلك بقيت سلسلة الإسناد متصلة بالقرآن، وستبقى بإذن الله حتى يرث الله الأرض ومن عليها [6].
ثالثا. التواتر بين المحفوظ والمكتوب:
أما من قال: كيف يكون القرآن متواترا كله مع أن زيد بن ثابت قال في حديثه عن جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره» [7].
وقال عند ذكره لكتابة المصحف في عهد عثمان رضي الله عنه:«ففقدت آية من الأحزاب كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري، فألحقناها في سورتها في المصحف». [8] فهاتان الروايتان - في ظنهم - تدلان على اعتماده - رضي الله عنه - في جمع القرآن على الروايات الأحادية.
والجواب: إن هذا الذي ورد في الروايتين لا ينفي تواتر القرآن؛ لأن الاعتماد في جمع القرآن كان على الحفظ والكتابة، وكان غرضهم من ذلك زيادة التوثق والاطمئنان، وأن ما كتبوه إنما هو من عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: لم أجدهما، أي: لم أجدهما مكتوبتين، وهذا لا ينافي أنهما كانتا محفوظتين عند جمع يثبت بهم التواتر، والتواتر إنما هو في الحفظ لا في الكتابة، يدل على ذلك قول زيد في الرواية الثانية "ففقدت آية من الأحزاب كنت أسمع رسول الله يقرأ بها " فهو إذن كان حافظا لها ومتيقنا لقرآنيتها - وكذلك من كانوا معه يحفظونها - ولكن كان يبحث عن أصلها المكتوب" [9].
إن كلام زيد بن ثابت هذا لا ينفي التواتر ولا يبطله؛ إذ إن الآيتين ختام سورة التوبة لم تثبت قرآنيتهما بقول أبي خزيمة وحده، بل تثبت بأخبار كثرة غامرة من الصحابة عن حفظهم في صدورهم، وإن لم يكونوا كتبوه في أوراقهم، فالذي انفرد به أبو خزيمة هو كتابة الآيتين لاحفظهما، وليست الكتابة شرطا في التواتر، بل المشروط فيه أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، ولو لم يكتبه واحد منهم، فكتابه أبي خزيمة الأنصاري كانت توثقا واحتياطا فوق ما يطلبه التواتر ويقتضيه، فكيف نقدح في التواتر بانفراده بها؟
كما أن كلام زيد فيما مضى من ختام سورة التوبة وآية الأحزاب - لا يدل على عدم تواترهما - حتى على فرض أنه يريد انفراد أبي خزيمة بذكرهما من حفظهما، غاية ما يدل عليه كلامه - أنهما انفردا بذكرهما ابتداء، ثم تذكر الصحابة ما ذكراه، وكان هؤلاء الصحابة جمعا يؤمن تواطؤهم على الكذب، فدونت تلك الآيات في الصحف والمصحف بعد قيام هذا التواتر فيها [10].
رابعا. الخلاف في البسملة خلاف اجتهادي سائغ:
إن اختلاف المسلمين حول قرآنية البسملة - التي تأتي في أوائل السور - أو عدم قرآنيتها - لا يستدعي أن يكفر بعضهم بعضا؛ لأن مثل هذه الخلافات من الأمور الاجتهادية المختلف فيها بين العلماء، ومثل هذه الأمور الاجتهادية لا يكفر منكرها أو مثبتها، إنما يكفر من أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة، ومن ذلك فرضية الصلاة والزكاة والصوم والحج، وتوحيد الله تعالى، والإيمان بالملائكة والرسل والكتب والقدر... إلخ، فهذه الأمور هي التي يحكم على منكرها بالكفر، وعلى مثبتها بالإيمان.
أما قرآنية البسملة التي جاءت في سورة النمل على لسان سليمان - عليه السلام - فهذا أمر ثابت ولا يقبل أي خلاف حوله، ومثل هذه الآية يحكم على منكرها بالكفر وعلى مثبتها بالإيمان؛ لأن هذه الآية متواترة عن كل المسلمين في كل عصر من عصور الدعوة الإسلامية، ونص هذه الآية هو
قوله سبحانه وتعالى:
(إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30))
(النمل).
خامسا. رواية ابن مسعود لا تطعن في التواتر من أي وجه:
ادعاء أن ابن مسعود - رضي الله عنه - لم يوافق على مصحف عثمان - رضي الله عنه - ادعاء باطل؛ لأن غاية ما ورد عنه قوله - إن صحت هذه الرواية -: " يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ المصاحف، ويتولاه رجل - والله - لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر؟" يقصد زيد بن ثابت.
وكلام ابن مسعود - رضي الله عنه - إن صحت هذه الرواية عنه - لا يدل على الطعن في جمع القرآن، إنما يدل على أنه كان يرى في نفسه أنه هو الأولى أن يسند إليه هذا الجمع، وذلك لا ينافي أنه كان يرى في زيد الأهلية والكفاية للنهوض بما أسند إليه، وإن كان هو في نظر نفسه أكفأ وأجدر، غير أن المسألة تقديرية، ولا ريب أن تقدير أبي بكر وعمر وعثمان لزيد أصدق من تقدير ابن مسعود له؛إذ توافرت في زيد مجموعة من المؤهلات والمزايا جعلته جديرا بتنفيذ هذه الغاية السامية.
وخلاصة القول أن اعتراض ابن مسعود - على فرض صحة هذه الرواية - كان منصبا على طريقة تأليف لجنة الجمع، لا على صحة الجمع نفسه، مع أن كلمة ابن مسعود السالفة لا تدل على أكثر من أنه كان يكبر زيدا بزمن طويل؛ إذ كان عبد الله مسلما وزيد لا يزال ضميرا مستترا في صلب أبيه، وليس هذا بمطعن في زيد، فكم ترك الأول للآخر، ولو كان الأمر بالسن؛ لاختل نظام الكون.
ثم إننا لو سلمنا بصحة ما نقل عن ابن مسعود، وسلمنا أنه أراد الطعن في صحة جمع القرآن، لا نسلم أنه دام على هذا الطعن والإنكار، بدليل ما صح عنه أنه رجع إلى ما في مصحف عثمان، وحرق مصحفه في آخر أمره، حين تبين له أن هذا هو الحق.
وغير هذا وذاك أن كلام ابن مسعود - على فرض صحته وأنه أراد به الطعن في جمع القرآن، وأنه دام ولم يرجع عنه - لا يدل على إبطال تواتر القرآن؛ لأن التواتر يكفي في القطع بصحة مرويه أن ينقل عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب بشروطه، وليس من شروطه ألا يخالف فيه مخالف، حتى يقدح في تواتر القرآن أن يخالف فيه ابن مسعود - رضي الله عنه - أو غيره، ما دام جمع غفير من الصحابة قد أقروا جمع القرآن على هذا النحو في عهد أبي بكر مرة، وفي عهد عثمان - رضي الله عنهما - مرة أخرى [11].
وبذلك اتحدت الصفوف واتفقت الكلمة، وتم الاتفاق على صحة تواتر مصحف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - دون غيره من المصاحف الأخرى.
الخلاصة:
• وضع العلماء ضوابط للقراءة الصحيحة المقبولة، هي: التواتر، وموافقة أحد المصاحف العثمانية، وموافقة وجه من أوجه اللغة العربية، والشروط الثلاثة متحققة في قراءات الآئمة العشرة الذين نسبت إليهم وجوه اختلاف ألفاظ القرآن الكريم، نقلا عن التابعين عن الصحابة عن رسول الله عن جبريل عن رب العزة عز وجل.
• لقد تكفل الله - عز وجل - بحفظ كتابه من الضياع أو التحريف أو النقص؛ لذلك هيأ - عز وجل - أسباب توثيق النص القرآني وسلامة تواتره، فحفظه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ثم تابعت الأمة السير على هذا المنهج في تبليغ القرآن وحفظه في الصدور قبل السطور جيلا بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
وصدق الله إذ يقول:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))
(الحجر).
• الآيات التي وردت برواية رجل أو رجلين كانت آيات محفوظة في صدور الصحابة، والعبرة في التواتر بالحفظ لا بالكتابة.
• الخلاف الذي وقع بين المسلمين في البسملة لا يطعن في صحة تواتر القرآن؛ لأن هذا من الأمور الاجتهادية غير القطعية السائغ فيها الخلاف والتي لا يكفر مثبتها، أو منكرها.
• اعتراض ابن مسعود - رضي الله عنه - على مصحف عثمان - رضي الله عنهـ على فرض صحة الرواية التي تزعم ذلك - لا ينفي صحة تواتر مصحف الإمام؛ لأن شروط التواتر الصحيح متوافرة في هذا المصحف، وهي اجتماع عدد من المسلمين في كل طبقة على صحة هذا المصحف بحيث يؤمن تواطؤهم على الكذب.
المراجع
- (*) مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م. بلاد العرب، ديفيد جورج هوجارت، ترجمة: صبري محمد حسن، دار الأهرام، القاهرة، د. ت. موسوعة القرآن العظيم، عبد المنعم الحنفي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2004م. [1]. دراسات حول القرآن والسنة، د. شعبان محمد إسماعيل، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط1، 1407هـ / 1987م، ص26، 27 بتصرف.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص386 بتصرف.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (6)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب كان النبي أجود الناس بالخير من الريح المرسلة (6149).
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (4712) بلفظ: كان يعرض على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن كل عام مرة.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب المساجد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" (427)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب منه (1191) بلفظ: كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص 386: 393 بتصرف يسير.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن (4701)، وفي مواضع أخرى.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن (4702)، وفي موضع آخر.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م،ص285، 286.
- مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م، ص233، 234 بتصرف يسير.
- مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م، ص232، 233 بتصرف يسير.