نص السؤال

إنكار نبوة آدم عليه السلام

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

إنكار نبوة آدم عليه السلام (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن نوحا - عليه السلام - أول الأنبياء وليس آدم عليه السلام، ويستدلون على ذلك بأن القرآن لم يذكره - أي آدم عليه السلام - باعتباره نبيا أو رسولا، ويهدفون من وراء ذلك إلى إنكار نبوته عليه السلام.


وجه إبطال الشبهة:

النبوة: هي الوحي، والنبي هو ما نزل عليه هذا الوحي وأمر بتبليغه للناس وهذا متحقق في آدم عليه السلام، والقرآن أشار إلى نبوته إذ اجتباه ربه.

التفصيل([1]):

أشار القرآن الكريم إلى نبوة آدم عليه السلام؛

إذ قال عزوجل:

(ثم اجتباه ربه فتاب عليه)

(طه:122)

والاجتباء هنا: النبوة؛ بدليل قوله تعالى في سورة مريم عليها السلام،

(وممن هدينا واجتبينا)

(مريم: 58)

يعني من النبيين، وقال في قصة يونس - عليه السلام - بعد قصة الحوت:

(فاجتباه ربه)

(القلم: 50)

كما أشارت السنة النبوية إلى نبوة آدم عليه السلام؛

فعن أبي ذر قال:

«قلت: يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم، قلت: يا رسول الله ونبي كان؟ قال: "نعم نبي مكلم". قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضع عشر جما غفيرا»

وفي رواية عن أبي أمامة قال أبو ذر: «قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا»


ولقد اهتم القرآن في حياة كل نبي بموطن العبرة والعظة وصولات الصراع وجولاته([6]) بين الأنبياء وأقوامهم، بيد أن الصراع في حياة آدم - عليه السلام - كان مع الشيطان، وكذلك كانت العبرة في كيفية نشأته ووجوده أكثر من الصراع في حياته باعتباره نبيا؛ فركز القرآن على ذلك، ومن الأدلة أيضا على نبوة آدم

قوله عزوجل:

(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)

(آل عمران:33)

وقد ثبت أنه تعالى اختار هؤلاء لدينهم وإسلامهم وهؤلاء كلهم أنبياء، فكيف يقال: إن الله لم يذكر آدم - عليه السلام - ضمن الأنبياء وهو مذكور معهم بل وفي مقدمتهم؟

وإذا كان القرآن لم يذكر آدم - عليه السلام - كما ذكر غيره من الأنبياء، بالتفصيل في حياته باعتباره نبيا، فإنه ذكر أن الله خاطبه بلا واسطة، فأحل وحرم، وأمر ونهي، دون أن يرسل إليه رسولا، وهذا هو معنى النبوة:

ويتجلى ذلك في العديد من الأمور منها:

1. تعليمه الأسماء - وحيا - دون الملائكة، وتفضيله وذريته بالعلم:

فبعد أن تغلغلت الروح في جسده، كساه الله من نور جلاله، وجماله، فظهر نور الكرامة على وجهه، وألبسه من حلل الجنة، وعلمه من لدنه علما. وأظهر فضله على الملائكة.

قال عزوجل:

(وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون(33)

(البقرة)

قال الطبري فيما يرويه عن الحسن وقتادة: "علمه الله اسم كل شيء: هذه الجبال، والبغال، والإبل، والجن، والوحش"([7]).

وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه كل أمة([8])؛ حتى يستطيع أن يتعامل مع مجريات الأحداث في الكون. فآدم - عليه السلام - لو لم يكن قد تعلم الأسماء كلها لما استطاع أن يتحدث مع ولد من أولاده قائلا - مثلا -: انظر هل أشرقت الشمس أم لا؟

إذن كان لآدم - عليه السلام ـأن يتعلم الأسماء كلها، وكان لا بد من معلم يعلمه إياها، والملائكة لا تدري ذلك فقد قالت:

(قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)

(البقرة:32)

لذا علمه الحكيم الخبير عن طريق الوحي والإلهام، فقذف في قلبه ووجدانه وإدراكه الأسماء، والمسميات. فهذا يدل على نبوته واصطفاء الله له، واللغة بنت المحاكاة فلا أحد يستطيع أن يتكلم إلا بعد أن يكون قد سمع من الآباء، والآباء سمعوا من الأجداد، وهكذا حتى تنتهي السلسلة إلى سيدنا آدم عليه السلام.

فممن سمع آدم - عليه السلام - حتى يتكلم؟! ومن أسمعه وعلمه الأسماء كلها وهو أول البشر؟ إنها قدرة الله الذي يوحي إلى من يشاء من عباده.. فهي مسألة يجب أن يعترف بها كل عاقل، والدليل على صدق ذلك هو أن المسميات قد تم عرضها على الملائكة فلم تعرف أسماءها ولم تتعرف على المسميات، وذلك من طلاقة قدرة الله تعالى.

وإدراك آدم - عليه السلام - كان إدراكا توفيقيا، أي أنه عرف كل اسم لكل مسمى كما خلقه الله تعالى، ثم نزل إلى الأرض لتتطور هذه المسميات ويعمل العقل الإنساني لتطوير وتحديد الأشياء مما استدعى أن يضع لها أسماء مشتقة مما تلقاه آدم - عليه السلام - من الحق عز وجل([9]).

وبعد أن علمه الله تعالى الأسماء كلها أورث الله - عزوجل - هذا العلم لذريته من بعده، وبهذا العلم ونشأت المجتمعات، وتطورت الحياة، وظهرت المخترعات.

2. استخلافه في الأرض واختصاصه بالعديد من التشريعات والتكاليف التي يجب أن يبلغها البشر:

قال الحق عزوجل:

(إني جاعل في الأرض خليفة)

(البقرة: 30)

فالمتأمل لكلمة "خليفة" يجد أن الخليفة هو من استخلفه الله تعالى في الأرض، وجعل الأشياء تتفاعل له؛ يوقد النار فتشتعل، ويزرع الأرض فتنبت، ويستأنس الحيوان فيأنس له، ويستخدم الأنعام في الطعام والتنقل ويأخذ منها اللبن ليشربه، والصوف ليغزله، وغيرها العديد من النعم التي لا تعد ولا تحصى.

كل ذلك ما كان للإنسان أن يعيه لولا أن من عليه خالقه - سبحانه وتعالى - بوحيه ذلك لعبده آدم - عليه السلام - حتى يعلم ذريته من بعده؛ تتمة لسلسلة الفضائل والتكريمات والنعم.

وإمعانا في ترابط البشر، وتعايشهم في أمن ونظام.. كانت التشريعات والتكاليف التي أمر الله آدم - عليه السلام - أن يقعدها من أجل سعادة البشر، واستقرارهم، ومن هذه التشريعات:

 شريعة الزواج:

فلا يكون النسل المشروع الذي يباركه الله إلا من زوجين سلكا الطريق الصحيح في التزاوج. هذا ما جرت عليه طبيعة الحياة التي اقتضتها حكمة الله.

قال تعالى:

(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)

(الروم:21)

وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الزواج قال صلى الله عليه وسلم:

"من استطاع الباءة ([10]) فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء([11]). )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (النساء:1)

إن هذا تعبير عن خلق جديد مستقل وليس من قبيل الصدفة فهو أمر محكوم بنظام دقيق وقوانين محكمة... حيث يختلف النوعان وينشأ عن التقائهما جنين قد يكون ذكرا وقد يكون أنثى بعد مدة زمنية... هل هذا الأمر المنظم بدقة يمكن أن يكون صدفة؟!

إن هذا النظام الدقيق الذي أوجد اللقاء بين الرجل والمرأة على لذة ومتعة واشتهاء؛ ليكون به عمارة الكون على أسس وقواعد محسوبة من التكليف([12]). عن طريق الوحي، والله لا يوحي إلا إلى الأنبياء، فكيف تنكر نبوة آدم - عليه السلام - وقد أوحي إليه بهذه التكاليف وتلك الشرائع؟!

وعلى هذا فقد أمر آدم - عليه السلام - بتكليف من ربه - عزوجل - أن يتزوج كل من ولديه توأم أخيه فقد كانت السيدة حواء - عليها السلام - تلد اثنين في كل بطن... ولذلك أمر آدم - عليه السلام - ابنيه قابيل وهابيل، أن يتزوج كل منهما توأم أخيه، وألا يتزوج الأخت التي ولدت له، وسوف يتضح لنا بعد عرض أحداث قصة قابيل وهابيل أن الأخ القاتل قد فعل هذا ليبرأ من عصيان أمر أبيه الذي هو وحي سماوي لنطمئن إلى نبوه آدم عليه السلام، أما رسالته فالأمر فيها مختلف وشأنه أن نفوض ([13]) علم ذلك إلى الله تعالى([14]).

النهي عن القتل وسفك الدماء:

وإذا عدنا أدراجنا ([15]) إلى المشهد السابق من قصة قابيل وهابيل، فإننا نجد التكليفات والشرائع التي بلغها آدم - عليه السلام - لأبنائه تشهد بنبوته؛ فامرأة هابيل التي هي توأم قابيل كانت أجمل من توأم هابيل، فأباها قابيل على أخيه، وأرادها لنفسه، ثم اتفقا على أن يحتكما إلى الله - عزوجل - وذلك بأن يقدم كل منهما قربانا([16]) إليه سبحانه، فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل الذي ظل على موقفه العنادي، وعداء أخيه، وعصيان الله، وهداه شيطانه وسلطان الهوى إلى قتل أخيه الذي حكى عنه القرآن خشيته من الله، وتقواه له، وملاطفته لأخيه

قال عزوجل:

(لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)

(المائدة:28)

  إن الذي حمل قابيل على ارتكاب هذه الجريمة في حق أخيه وأبيه - بل في انتهاك حرمات الله، فقد قتل نفسا بغير وجه حق - إنما هو الحسد، الذي بسببه طرد إبليس من الجنة، وبسببه ألقي يوسف في الجب([17])، وبسببه كفر من كفر.

وقوله عزوجل:

(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين)

(المائدة:27)

 دعوة من الأخ الصالح إلى أخيه بالهدى والتقوى. فهو يخبره أن رضا الله تعالى مقرون بطاعته واتباع أوامره، فلو كان تقيا مثله لقبل قربانه، ولكنه يتمادى في غيه ويصر على قتله. بينما يستمر التقي في دعوته إلى الهدى، ويكشف له معالم الطريق إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويلقاه ملاطفا موادعا.

فمن أين عرفت هذه الأخلاق وتلك التشريعات من الحلال والحرام؟ ومن أين عرف ما يرضي الله وما يغضبه إلا أن يكون وحيا يوحي؟ وإذا كان القرآن لم يذكر آدم - عليه السلام - بالنبوة صراحة فقد أشار إلى ذلك كما سبق في الآيات وذكره مع من اصطفاهم بالنبوة وأوحى إليه كما أوحى إلى أنبيائه. فكيف يأتي بعد ذلك من ينكر نبوة آدم - عليه السلام - ويزعم أنه لم يكن نبيا.

الخلاصة:

· لم يذكر القرآن الكريم نبوة آدم - عليه السلام - كما ذكر غيره من الأنبياء، ولكن ذكر أن الله خاطبه بلا واسطة، فأحل، وحرم، وأمر، ونهي، دون أن يرسل إليه رسولا. وهذا معنى النبوة.

· ومن دلائل نبوة آدم عليه السلام:

 أن الله تعالى أوحى إليه بتعليم الأسماء دون الملائكة، إذ لم تعرف عندما عرض الله عليهم الأسماء والمسميات، إذن كان هناك إلهام ووحي؛ وعلى هذا فسيدنا آدم ليس بشرا عاديا بل هو نبي موحى إليه.

 كذلك فقد أراد الله تعالى بعد خلق آدم - عليه السلام - خلق ذرية تكون خليفته في الأرض تعمرها ويتحقق مراد الله من وجودها.. وكان لزاما أن تعي البشرية العديد من التشريعات والأحكام الإلهية التي تساعدها على الاستقرار وتحمل مغبة ([18]) هذه الحياة التي لم يجربوها من قبل، فكان إرشادهم تكريما من الله - عزوجل - وفضلا. ومن هذه التشريعات شريعة الزواج، والنهي عن القتل وسفك الدماء... إلخ. ومن ثم فلا يصح أن يدعي الواهمون عدم نبوة آدم عليه السلام. 

المراجع

  1. (*) المفترون: خطاب التطرف العلماني في الميزان، فهمي هويدي، دار الشروق، مصر، 1416هـ/ 1996م.
  2. انظر: الموسوعة الإسلامية العامة، إشراف: د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1424هـ/ 2003م. 
  3.  تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء، أبو الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، 1999م، ص78. 
  4.  جما غفيرا: جمع كثير. 
  5.  صحيح: أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، أحاديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه (478)، وأحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث المشايخ عن أبي بن كعب رضي الله عنه (21586)، وصححه الألباني في المشكاة (5737).
  6.  صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث أبي أمامة رضي الله عنه (22342)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 217)، باب الصاد: صدي بن عجلان أبو أمامة رضي الله عنه (7871)، وصححه الألباني في المشكاة (5737). 
  7. . صولات الصراع وجولاته: مراحله المتعددة.
  8.  أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 485)، تفسير سورة البقرة، آية 31، برقم (657).
  9.  سلسلة القصص القرآني، د. حمزة النشرتي وآخرون، مؤسسة الأهرام، د. ت، القاهرة، ج1، ص19. 
  10. . قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص11، 12 بتصرف. 
  11.  الباءة: الجماع. 
  12.  بث: نشر. 
  13.  قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص10: 12.
  14.  نفوض: نسلم. 
  15.  للمزيد انظر: قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص24 وما بعدها. 
  16.  أدراجنا: رجعنا. 
  17. القربان: ما يتقرب به إلى الله. 
  18.  الجب: البئر. 
  19.  مغبة: عاقبة.

الجواب التفصيلي

إنكار نبوة آدم عليه السلام (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن نوحا - عليه السلام - أول الأنبياء وليس آدم عليه السلام، ويستدلون على ذلك بأن القرآن لم يذكره - أي آدم عليه السلام - باعتباره نبيا أو رسولا، ويهدفون من وراء ذلك إلى إنكار نبوته عليه السلام.


وجه إبطال الشبهة:

النبوة: هي الوحي، والنبي هو ما نزل عليه هذا الوحي وأمر بتبليغه للناس وهذا متحقق في آدم عليه السلام، والقرآن أشار إلى نبوته إذ اجتباه ربه.

التفصيل([1]):

أشار القرآن الكريم إلى نبوة آدم عليه السلام؛

إذ قال عزوجل:

(ثم اجتباه ربه فتاب عليه)

(طه:122)

والاجتباء هنا: النبوة؛ بدليل قوله تعالى في سورة مريم عليها السلام،

(وممن هدينا واجتبينا)

(مريم: 58)

يعني من النبيين، وقال في قصة يونس - عليه السلام - بعد قصة الحوت:

(فاجتباه ربه)

(القلم: 50)

كما أشارت السنة النبوية إلى نبوة آدم عليه السلام؛

فعن أبي ذر قال:

«قلت: يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم، قلت: يا رسول الله ونبي كان؟ قال: "نعم نبي مكلم". قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضع عشر جما غفيرا»

وفي رواية عن أبي أمامة قال أبو ذر: «قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا»


ولقد اهتم القرآن في حياة كل نبي بموطن العبرة والعظة وصولات الصراع وجولاته([6]) بين الأنبياء وأقوامهم، بيد أن الصراع في حياة آدم - عليه السلام - كان مع الشيطان، وكذلك كانت العبرة في كيفية نشأته ووجوده أكثر من الصراع في حياته باعتباره نبيا؛ فركز القرآن على ذلك، ومن الأدلة أيضا على نبوة آدم

قوله عزوجل:

(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)

(آل عمران:33)

وقد ثبت أنه تعالى اختار هؤلاء لدينهم وإسلامهم وهؤلاء كلهم أنبياء، فكيف يقال: إن الله لم يذكر آدم - عليه السلام - ضمن الأنبياء وهو مذكور معهم بل وفي مقدمتهم؟

وإذا كان القرآن لم يذكر آدم - عليه السلام - كما ذكر غيره من الأنبياء، بالتفصيل في حياته باعتباره نبيا، فإنه ذكر أن الله خاطبه بلا واسطة، فأحل وحرم، وأمر ونهي، دون أن يرسل إليه رسولا، وهذا هو معنى النبوة:

ويتجلى ذلك في العديد من الأمور منها:

1. تعليمه الأسماء - وحيا - دون الملائكة، وتفضيله وذريته بالعلم:

فبعد أن تغلغلت الروح في جسده، كساه الله من نور جلاله، وجماله، فظهر نور الكرامة على وجهه، وألبسه من حلل الجنة، وعلمه من لدنه علما. وأظهر فضله على الملائكة.

قال عزوجل:

(وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون(33)

(البقرة)

قال الطبري فيما يرويه عن الحسن وقتادة: "علمه الله اسم كل شيء: هذه الجبال، والبغال، والإبل، والجن، والوحش"([7]).

وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه كل أمة([8])؛ حتى يستطيع أن يتعامل مع مجريات الأحداث في الكون. فآدم - عليه السلام - لو لم يكن قد تعلم الأسماء كلها لما استطاع أن يتحدث مع ولد من أولاده قائلا - مثلا -: انظر هل أشرقت الشمس أم لا؟

إذن كان لآدم - عليه السلام ـأن يتعلم الأسماء كلها، وكان لا بد من معلم يعلمه إياها، والملائكة لا تدري ذلك فقد قالت:

(قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)

(البقرة:32)

لذا علمه الحكيم الخبير عن طريق الوحي والإلهام، فقذف في قلبه ووجدانه وإدراكه الأسماء، والمسميات. فهذا يدل على نبوته واصطفاء الله له، واللغة بنت المحاكاة فلا أحد يستطيع أن يتكلم إلا بعد أن يكون قد سمع من الآباء، والآباء سمعوا من الأجداد، وهكذا حتى تنتهي السلسلة إلى سيدنا آدم عليه السلام.

فممن سمع آدم - عليه السلام - حتى يتكلم؟! ومن أسمعه وعلمه الأسماء كلها وهو أول البشر؟ إنها قدرة الله الذي يوحي إلى من يشاء من عباده.. فهي مسألة يجب أن يعترف بها كل عاقل، والدليل على صدق ذلك هو أن المسميات قد تم عرضها على الملائكة فلم تعرف أسماءها ولم تتعرف على المسميات، وذلك من طلاقة قدرة الله تعالى.

وإدراك آدم - عليه السلام - كان إدراكا توفيقيا، أي أنه عرف كل اسم لكل مسمى كما خلقه الله تعالى، ثم نزل إلى الأرض لتتطور هذه المسميات ويعمل العقل الإنساني لتطوير وتحديد الأشياء مما استدعى أن يضع لها أسماء مشتقة مما تلقاه آدم - عليه السلام - من الحق عز وجل([9]).

وبعد أن علمه الله تعالى الأسماء كلها أورث الله - عزوجل - هذا العلم لذريته من بعده، وبهذا العلم ونشأت المجتمعات، وتطورت الحياة، وظهرت المخترعات.

2. استخلافه في الأرض واختصاصه بالعديد من التشريعات والتكاليف التي يجب أن يبلغها البشر:

قال الحق عزوجل:

(إني جاعل في الأرض خليفة)

(البقرة: 30)

فالمتأمل لكلمة "خليفة" يجد أن الخليفة هو من استخلفه الله تعالى في الأرض، وجعل الأشياء تتفاعل له؛ يوقد النار فتشتعل، ويزرع الأرض فتنبت، ويستأنس الحيوان فيأنس له، ويستخدم الأنعام في الطعام والتنقل ويأخذ منها اللبن ليشربه، والصوف ليغزله، وغيرها العديد من النعم التي لا تعد ولا تحصى.

كل ذلك ما كان للإنسان أن يعيه لولا أن من عليه خالقه - سبحانه وتعالى - بوحيه ذلك لعبده آدم - عليه السلام - حتى يعلم ذريته من بعده؛ تتمة لسلسلة الفضائل والتكريمات والنعم.

وإمعانا في ترابط البشر، وتعايشهم في أمن ونظام.. كانت التشريعات والتكاليف التي أمر الله آدم - عليه السلام - أن يقعدها من أجل سعادة البشر، واستقرارهم، ومن هذه التشريعات:

 شريعة الزواج:

فلا يكون النسل المشروع الذي يباركه الله إلا من زوجين سلكا الطريق الصحيح في التزاوج. هذا ما جرت عليه طبيعة الحياة التي اقتضتها حكمة الله.

قال تعالى:

(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)

(الروم:21)

وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الزواج قال صلى الله عليه وسلم:

"من استطاع الباءة ([10]) فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء([11]). )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (النساء:1)

إن هذا تعبير عن خلق جديد مستقل وليس من قبيل الصدفة فهو أمر محكوم بنظام دقيق وقوانين محكمة... حيث يختلف النوعان وينشأ عن التقائهما جنين قد يكون ذكرا وقد يكون أنثى بعد مدة زمنية... هل هذا الأمر المنظم بدقة يمكن أن يكون صدفة؟!

إن هذا النظام الدقيق الذي أوجد اللقاء بين الرجل والمرأة على لذة ومتعة واشتهاء؛ ليكون به عمارة الكون على أسس وقواعد محسوبة من التكليف([12]). عن طريق الوحي، والله لا يوحي إلا إلى الأنبياء، فكيف تنكر نبوة آدم - عليه السلام - وقد أوحي إليه بهذه التكاليف وتلك الشرائع؟!

وعلى هذا فقد أمر آدم - عليه السلام - بتكليف من ربه - عزوجل - أن يتزوج كل من ولديه توأم أخيه فقد كانت السيدة حواء - عليها السلام - تلد اثنين في كل بطن... ولذلك أمر آدم - عليه السلام - ابنيه قابيل وهابيل، أن يتزوج كل منهما توأم أخيه، وألا يتزوج الأخت التي ولدت له، وسوف يتضح لنا بعد عرض أحداث قصة قابيل وهابيل أن الأخ القاتل قد فعل هذا ليبرأ من عصيان أمر أبيه الذي هو وحي سماوي لنطمئن إلى نبوه آدم عليه السلام، أما رسالته فالأمر فيها مختلف وشأنه أن نفوض ([13]) علم ذلك إلى الله تعالى([14]).

النهي عن القتل وسفك الدماء:

وإذا عدنا أدراجنا ([15]) إلى المشهد السابق من قصة قابيل وهابيل، فإننا نجد التكليفات والشرائع التي بلغها آدم - عليه السلام - لأبنائه تشهد بنبوته؛ فامرأة هابيل التي هي توأم قابيل كانت أجمل من توأم هابيل، فأباها قابيل على أخيه، وأرادها لنفسه، ثم اتفقا على أن يحتكما إلى الله - عزوجل - وذلك بأن يقدم كل منهما قربانا([16]) إليه سبحانه، فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل الذي ظل على موقفه العنادي، وعداء أخيه، وعصيان الله، وهداه شيطانه وسلطان الهوى إلى قتل أخيه الذي حكى عنه القرآن خشيته من الله، وتقواه له، وملاطفته لأخيه

قال عزوجل:

(لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)

(المائدة:28)

  إن الذي حمل قابيل على ارتكاب هذه الجريمة في حق أخيه وأبيه - بل في انتهاك حرمات الله، فقد قتل نفسا بغير وجه حق - إنما هو الحسد، الذي بسببه طرد إبليس من الجنة، وبسببه ألقي يوسف في الجب([17])، وبسببه كفر من كفر.

وقوله عزوجل:

(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين)

(المائدة:27)

 دعوة من الأخ الصالح إلى أخيه بالهدى والتقوى. فهو يخبره أن رضا الله تعالى مقرون بطاعته واتباع أوامره، فلو كان تقيا مثله لقبل قربانه، ولكنه يتمادى في غيه ويصر على قتله. بينما يستمر التقي في دعوته إلى الهدى، ويكشف له معالم الطريق إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويلقاه ملاطفا موادعا.

فمن أين عرفت هذه الأخلاق وتلك التشريعات من الحلال والحرام؟ ومن أين عرف ما يرضي الله وما يغضبه إلا أن يكون وحيا يوحي؟ وإذا كان القرآن لم يذكر آدم - عليه السلام - بالنبوة صراحة فقد أشار إلى ذلك كما سبق في الآيات وذكره مع من اصطفاهم بالنبوة وأوحى إليه كما أوحى إلى أنبيائه. فكيف يأتي بعد ذلك من ينكر نبوة آدم - عليه السلام - ويزعم أنه لم يكن نبيا.

الخلاصة:

· لم يذكر القرآن الكريم نبوة آدم - عليه السلام - كما ذكر غيره من الأنبياء، ولكن ذكر أن الله خاطبه بلا واسطة، فأحل، وحرم، وأمر، ونهي، دون أن يرسل إليه رسولا. وهذا معنى النبوة.

· ومن دلائل نبوة آدم عليه السلام:

 أن الله تعالى أوحى إليه بتعليم الأسماء دون الملائكة، إذ لم تعرف عندما عرض الله عليهم الأسماء والمسميات، إذن كان هناك إلهام ووحي؛ وعلى هذا فسيدنا آدم ليس بشرا عاديا بل هو نبي موحى إليه.

 كذلك فقد أراد الله تعالى بعد خلق آدم - عليه السلام - خلق ذرية تكون خليفته في الأرض تعمرها ويتحقق مراد الله من وجودها.. وكان لزاما أن تعي البشرية العديد من التشريعات والأحكام الإلهية التي تساعدها على الاستقرار وتحمل مغبة ([18]) هذه الحياة التي لم يجربوها من قبل، فكان إرشادهم تكريما من الله - عزوجل - وفضلا. ومن هذه التشريعات شريعة الزواج، والنهي عن القتل وسفك الدماء... إلخ. ومن ثم فلا يصح أن يدعي الواهمون عدم نبوة آدم عليه السلام. 

المراجع

  1. (*) المفترون: خطاب التطرف العلماني في الميزان، فهمي هويدي، دار الشروق، مصر، 1416هـ/ 1996م.
  2. انظر: الموسوعة الإسلامية العامة، إشراف: د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1424هـ/ 2003م. 
  3.  تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء، أبو الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، 1999م، ص78. 
  4.  جما غفيرا: جمع كثير. 
  5.  صحيح: أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، أحاديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه (478)، وأحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث المشايخ عن أبي بن كعب رضي الله عنه (21586)، وصححه الألباني في المشكاة (5737).
  6.  صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث أبي أمامة رضي الله عنه (22342)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 217)، باب الصاد: صدي بن عجلان أبو أمامة رضي الله عنه (7871)، وصححه الألباني في المشكاة (5737). 
  7. . صولات الصراع وجولاته: مراحله المتعددة.
  8.  أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 485)، تفسير سورة البقرة، آية 31، برقم (657).
  9.  سلسلة القصص القرآني، د. حمزة النشرتي وآخرون، مؤسسة الأهرام، د. ت، القاهرة، ج1، ص19. 
  10. . قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص11، 12 بتصرف. 
  11.  الباءة: الجماع. 
  12.  بث: نشر. 
  13.  قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص10: 12.
  14.  نفوض: نسلم. 
  15.  للمزيد انظر: قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص24 وما بعدها. 
  16.  أدراجنا: رجعنا. 
  17. القربان: ما يتقرب به إلى الله. 
  18.  الجب: البئر. 
  19.  مغبة: عاقبة.