نص السؤال
كيف يَقبَلُ العقلُ أن يكلِّمَ اللهُ واحدًا مِن البشَرِ، ويكلِّفَهُ بتبليغِ رسالةٍ إلى باقي الناس؟ |
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
إنكارُ إمكانِ النبوَّةِ، واستحالةُ تحقُّقِها.
الجواب التفصيلي
الإيمانُ بالنبوَّةِ وما يتعلَّقُ بها مِن مسائلَ: أصلٌ مِن أصولِ الإسلام، ولا يَتِمُّ الدينِ إلا به؛ ولذا فالأدلَّةُ الدالَّةُ على إمكانِ النبوَّةِ أدلَّةٌ في غايةِ الوضوحِ والقوَّة، وهي متنوِّعةٌ مِن حيثُ نوعُها؛ بين أدلَّةٍ خبَريَّةٍ وعقليَّة. ولكنْ قبل سَرْدِ الأدلَّةِ على إمكانِ النبوَّةِ: لا بدَّ مِن التقريرِ أن: «الإيمانَ بالنبوَّةِ»، تابعٌ لمسألةِ: «الإيمانِ بوجودِ الله»، بل «والإيمانِ بكمالِهِ في صفاتِه»؛ فلا يُمكِنُ الإيمانُ بالنبوَّةِ، والتصديقُ بتحقُّقِها في الواقعِ، مع عدمِ الإيمانِ بوجودِ الله؛ فمَن لم يكن مؤمِنًا بوجودِ الله، فلن يكونَ مؤمِنًا بالنبوَّةِ والوحيِ؛ وعليه: فالبحثُ في إثباتِ النبوَّةِ، وتقريرِ أدلَّتِها: يجبُ أن يكونَ بعد الانتهاءِ مِن إثباتِ أدلَّةِ وجودِ الله، وتقريرِ كمالِه. وعليه: فلا فائدةَ مع: «مَن لم يُؤمِنْ باللهِ وبكمالِه»: أن يُناقَشَ معه: «موضوعُ النبوَّةِ، وما يتعلَّقُ به»؛ لكونِهِ لم يحقِّقِ المرتبةَ السابقةَ على هذه المرتَبة. ونقاشُنا هنا والأدلَّةُ التي سنُورِدُها، هي أدلَّةٌ: - لمَن يُنكِرُ إمكانَ النبوَّة، ويدَّعي أنها أمرٌ مستحيلُ الوقوع؛ كأتباعِ التيَّارِ الإلحاديّ. - أو لمَن يُقِرُّ بإمكانِ النبوَّةِ، لكنه لا يُؤمِنُ بتحقُّقِها في الواقعِ؛ كأتباعِ الدينِ الرُّبُوبيّ. أوَّلًا: الأدلَّةُ العقليَّةُ على وجودِ النبوَّةِ وضرورتِها: وإليك عددًا مِن الأدلَّةِ العقليَّةِ التي يُدفَعُ بها الاعتراضُ على وجودِ النبوَّة: الدليلُ الأوَّلُ: دليلُ الخلقِ والقدرةِ وقياسِ الأَوْلى: ومعناه: أن الدليلَ العقليَّ، والبرهانَ القطعيَّ: دلَّ على أن اللهَ تعالى هو خالقُ هذا الكونِ، ومالكُهُ، وأنه سبحانه وحده المتصرِّفُ في الخلقِ بالأمرِ والنهي، وأن إنزالَ اللهِ الوحيَ على مَن يصطفيهِ مِن عبادِهِ، أمرٌ ممكِنٌ في العقلِ، وفي الوجود، وأنه لا يتضمَّنُ مناقَضةً للعقل، ولا تعارُضًا مع قوانينِ الكون. فكلُّ الأدلَّةِ التي أقامها المؤمِنون على وجودِ اللهِ تدُلُّ بالضرورةِ على إمكانِ النبوَّة، وأنها أمرٌ قابلٌ للتحقُّقِ في الواقع؛ فليس مِن العقلِ أن تشكِّلَ ظاهرةُ النبوَّةِ أيَّ استغراب؛ ومَن رأى عجائبَ حكمةِ اللهِ وقدرتِهِ، في الخلقِ وفي غيرِ ذلك، لم يستغرِبِ النبوَّة. ولذا جاء القرآنُ منبِّهًا على هذا المعنى المنهجيِّ؛ كما في قولِهِ تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 2]. ولما قامت الأدلَّةُ في مسألةِ الإيمانِ بوجودِ اللهِ وكمالِه، وأنه المتصرِّفُ في هذا الكونِ، الحكيمُ في أفعالِه -: كان له أن يتصرَّفَ في عبادِهِ كما يشاء، وأن يَخْتارَ منهم مَن يصلُحُ لتبليغِ رسالتِه، وتعريفِ دِينِهِ للناس، ويَهْديهم إلى صراطِ اللهِ المستقيم؛ فهذا مِن كمالِ الحكمةِ والعدلِ والرحمةِ الإلهيَّةِ؛ كما قال تعالى: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]. الدليلُ الثاني: دليلُ العنايةِ والحكمة: كمالُ اللهِ في حكمتِهِ وعدلِهِ يقتضي ألا يترُكَ عبادَهُ همَلًا بلا دليلٍ يُرشِدُهم إلى الطريقِ المستقيم، ولا أحدَ يُنكِرُ أن اللهَ تعالى اعتنى بالإنسانِ عنايةً خاصَّةً؛ فجعَلهُ خليفةً في الأرضِ، وكرَّمه على سائرِ الخَلْق، وسخَّر الكونَ له، وهيَّأ له سُبُلَ عِمارةِ الأرضِ وتشييدِ الحَضَارات. وهذا الاعتناءُ يدُلُّ على أن هناك غايةً مِن خَلْقِ الإنسانِ وتكريمِهِ بهذا الشكل، وأنه لا بدَّ لحياةِ الإنسانِ مِن هدَفٍ وغايةٍ مختلِفةٍ عن هدَفِ وغايةِ الحيواناتِ الأخرى؛ كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. وإذا ثبَتَ: أنه لا بدَّ أن يكونَ لحياةِ الإنسانِ هدَفٌ وغايةٌ مختلِفةٌ، فإن حكمةَ الله وعلمَهُ وعدلَهُ ورحمتَهُ تقتضي ألا يُترَكَ الإنسانُ همَلًا بلا إرشاد؛ فاللهُ وحده هو أعلَمُ بما يُصلِحُ للإنسانِ أمرَهُ ومعاشَهُ وآخرتَهُ؛ ولذا كان أهمَّ ما يعلِّمُهُ اللهُ لعبادِهِ ما يتعلَّقُ بالعَلاقةِ بينهم وبين خالقِهم؛ وهذا ما تَمَّ عن طريقِ النبوَّة. وهذا الدليلُ مِن أقوى الأدلَّةِ العقليَّةِ على ضرورةِ النبوَّة. ولذلك ما مِن أمَّةٍ خلَتْ إلا وقد بعَثَ اللهُ فيهم الرسُلَ والأنبياءَ، يبلِّغُونهم رسالةَ اللهِ تعالى لهم، ويبصِّرُونهم بالصراطِ المستقيمِ، وبما يُصلِحُ لهم معاشَهم وآخِرتَهم. الدليلُ الثالثُ: دليلُ الضرورةِ والحاجةِ والافتقار: الحاجةُ إلى النبوَّةِ ضروريَّةٌ وشديدة، ويُمكِنُ إجمالُ النقاطِ التي تنحصِرُ فيها ضرورةُ النبوَّةِ في التالي: 1- حاجةُ الإنسانِ إلى مَن يذكِّرُهُ بحقيقةِ نفسِه: النوعُ الإنسانيُّ لا بدَّ أن يكونَ خاضعًا للهِ تعالى، وعابدًا له، ومتذلِّلًا لجلالِ اللهِ وجبروتِه؛ لأن الإنسانَ جزءٌ مِن المخلوقات، وكلُّ مخلوقٍ لا بدَّ أن يكونَ تابعًا لخالقِه، وخاضعًا له، ولما كان الإنسانُ كائنًا مجبولًا على التقصيرِ والنِّسْيانِ، كان لا بدَّ مِن وجودِ النبوَّةِ؛ لتذكيرِ الإنسانِ بخضوعِهِ لربِّه، واستسلامِهِ لمولاه، وتثبيتِهِ على ذلك. 2- حاجةُ الإنسانِ إلى التعرُّفِ على خالقِه: فاللهُ تعالى هو أعظمُ شيءٍ، وهو الخالقُ للكون، والمتَّصِفُ بالكمالِ المطلَقِ، والنفوسُ البشَريَّةُ مجبولةٌ على التشوُّفِ إلى معرفتِه، والازديادِ مِن العلمِ به، والتعرُّفِ على أسمائِهِ وصفاتِهِ وكمالاتِه؛ لأن النفسَ مجبولةٌ على التعلُّقِ بالكمال، والتشوُّفِ إلى الاقترابِ منه. ولهذا كان العلمُ باللهِ تعالى أفضَلَ العلومِ وأشرَفَها؛ وذلك لأن شرَفَ العلمِ بشرَفِ المعلوم؛ ولذا فإن الكمالَ الإلهيَّ في الحكمةِ والرحمةِ والعدلِ يقتضي أن اللهَ يضَعُ طريقًا مأمونًا للحصولِ على العلمِ به؛ فكانت الضرورةُ إلى وجودِ النبوَّة. 3- حاجةُ الإنسانِ إلى وجودِ صلةٍ بينه وبين خالقِه: فالإنسانُ لا بدَّ أن يكونَ بينه وبين خالقِهِ اتِّصالٌ دائمٌ؛ لأنه يتعذَّرُ عليه الانفصالُ عن الافتقارِ إليه، والاستعانةِ به، وهذه العَلاقةُ الشريفةُ بين الإنسانِ وربِّه لها قوانينُ ومعانٍ تقومُ عليها، والإنسانُ قاصرٌ عن معرفةِ جميعِ المعاني التي تتناسَبُ مع أقرانِهِ مِن الناس، ويَجهَلُ كثيرًا مِن الأمورِ التي يُحِبُّها أو يُبغِضُها بنو جنسِهِ؛ فكيف باللهِ العظيم؟! ولذا فمصدرُ ضبطِ هذه العَلَاقةِ والصِّلةِ بين العبدِ وربِّهِ، هو النبوَّةُ، وإلا فستَجِدُ مِن الناسِ مَن ضَلَّ الطريقَ؛ فعبَدَ الشمسَ والكواكبَ والبقَرَ والنارَ وغيرَها؛ فلا مصدرَ لضبطِ هذه العَلَاقةِ ضبطًا يتناسَبُ مع عقلِ الإنسانِ وفطرتِهِ إلا المصدرُ الإلهيُّ نفسُه. أَمَا رأيتَ الملوكَ يضَعُون قوانينَ وبُرُوتُوكولاتٍ للعامَّةِ إذا أرادوا التواصُلَ معهم، والدخولَ عليهم، ولا يَقدِرُ أحدٌ مِن الناسِ على مخالَفتِها؟! فإن تحقُّقَ هذه القوانينِ والضوابطِ في حقِّ اللهِ أَوْلى. فالنبوَّةُ تعلِّمُ الناسَ ما يحبُّهُ اللهُ ويُرضيهِ سبحانه، وما يُغضِبُهُ ويُوجِبُ سخَطَهُ وعذابَه، وكيف تكونُ العبادةُ له والخضوعُ لأمرِه، وهذا مِن مظاهرِ رحمةِ اللهِ بالناس؛ كما في قولِهِ تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. 4- حاجةُ الإنسانِ إلى مَن يكمِّلُ له نقصَهُ وقصورَ عِلمِه: الإنسانُ قد فُضِّلَ على سائرِ المخلوقاتِ المعلومةِ، وميَّزه اللهُ بالعقلِ، وفطَرهُ على البحثِ عن العِلَلِ والغايات؛ وهذا يترتَّبُ عليه كثرةُ الأفعالِ الصادرةِ عنه، وتنوُّعُها؛ فالإنسانُ قد وهَبهُ اللهُ قدرةَ ومَلَكةَ الاختيارِ لأفعالِه؛ وهذا يقتضي أن اللهَ تعالى لا يترُكُهُ هكذا بلا مِعْيارٍ عادلٍ يَضبِطُ الإنسانُ به أفعالَهُ، وموازينَ يَعرِفُ بها الصالحَ مِن الفاسد. والعقلُ البشَريُّ قاصرٌ عن أن يقدِّمَ مِعْيارًا شاملًا يستوعِبُ كلَّ التصرُّفاتِ البشَريَّةِ؛ كالبيعِ والشراء، والإعطاءِ والأخذِ والردّ، والقولِ والفعلِ، وغيرِه، وقد أشار القرآنُ إلى هذا المعنى في قولِهِ تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. فالإنسانُ محتاجٌ إلى مَن لدَيْهِ علمٌ تفصيليٌّ يبيِّن له التفاصيلَ المؤثِّرةَ التي يَجهَلُها؛ فالناسُ قد يُمكِنُهم معرفةُ أصولِ المنافعِ والمضارِّ على جهةِ الإجمال؛ فيحتاجون إلى مَن لدَيْهِ علمٌ تفصيليٌّ بها لكي يحدِّدَ لهم تفاصيلَ ما يحصُلُ به النفعُ، وما يحصُلُ به الضررُ، وهم الأنبياءُ الذين تلقَّوُا الوحيَ والعلمَ مِن عندِ اللهِ تعالى. 5- حاجةُ العبدِ إلى الوحي: مِن أهمِّ الحاجاتِ التي يفتقِرُ إليها الإنسانُ: وجودُ وحيٍ سماويٍّ، يَعرِفُ منه مرادَ خالقِهِ منه؛ إذ المعلومُ أن الإنسانَ فُطِرَ على العبادةِ، والافتقارِ واللجوءِ إلى خالقِهِ عند الحاجة. فمِن أين سيَعرِفُ العبدُ تفاصيلَ الغايةِ التي خُلِقَ مِن أجلِها، ومهمَّتِهِ في هذه الحياةِ الدنيا؟! وأين سيجدُ هدايةَ قلبِهِ وطُمَأنِينَتَهُ وسكونَهُ بدونِ الوحي؟! وكيف سيَعرِفُ مصيرَهُ بعد الموتِ بدونِ الوحي، وأنه سيَرجِعُ بعد قضاءِ أجلِهِ في الدنيا إلى خالقِه، وسيحاسِبُهُ على ما قدَّم في عُمُرِهِ، وأنه إما إلى جنَّةٍ، وإما إلى نار؟! الدليلُ الرابعُ: دليلُ العدلِ الإلهيّ: ومعناهُ: أن مِن تمامِ عَدْلِ اللهِ تعالى: ألا يعذِّبَ خلقَهُ، حتى يَبعَثَ إليهم مَن يحذِّرُهم مِن العذاب، ويبيِّنَ لهم طريقَ النجاة، وقد نبَّه القرآنُ إلى ذلك في قولِهِ تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]. ولو أن اللهَ عذَّب الكافِرين في الآخِرةِ قبل الإنذارِ في الدنيا، لكان حُجَّتُهم يومئذٍ أن اللهَ لم يَبعَثْ إليهم رسُلًا؛ ولذا يقولُ اللهُ تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]. وبهذا تُعلَمُ حاجةُ العبادِ الشديدةُ إلى معرفةِ النبيِّ ^، وما جاء به، وتصديقِ خبرِه، وطاعتِه. فالنبوَّةُ هي الطريقُ العقليُّ الممكِنُ لمعرفةِ مرادِ اللهِ، والتواصُلِ بين الخالقِ وخلقِه؛ فإذا أنكَرَ الإنسانُ النبوَّةَ، فما الخيارُ الآخَرُ الذي مِن خلالِهِ يُمكِنُ أن يُستبدَلَ الوحيُ؛ وهذا ما يُظهِرُ ضرورةَ الوحيِ للبشَر. ثانيًا: إثباتُ نبوَّةِ محمَّدٍ ^ بعد أن سرَدْنا بعضَ الأدلَّةِ على الحاجةِ إلى النبوَّةِ بشكلٍ مجرَّدٍ، وأثبَتْنا ضرورتَها، نأتي إلى إثباتِ تحقُّقِ النبوَّةِ في الواقعِ عن طريقِ إثباتِ النبوَّةِ لأحدِ أفرادِ الأنبياءِ عليهم السلامُ؛ وهو محمَّدٌ ^ وأدلَّةُ نبوَّةِ محمَّدٍ ^ الدليلُ الأوَّلُ: كمالُهُ في شخصِهِ وأخلاقِهِ ^ ومعناهُ: أن النبيَّ ^ وقد عُرِفَ عنه ^ فمِثلُ هذا الإنسانِ بهذا الكمالِ الذي لم يبلُغْهُ غيرُهُ قطُّ، قبل النبوَّةِ وبعدها، إذا ادَّعى النبوَّةَ، فلا بدَّ أن يكونَ صادقًا في دَعْواه. الدليلُ الثاني: كمالُ التشريعِ الذي جاء به محمَّدٌ ^ ومعناهُ: أن التشريعَ الذي جاء به محمَّدٌ ^ كان أمِّيًّا لا يَقرَأُ ولا يكتُب. وكمالُ هذا الدِّينِ الذي جاء به محمَّدٌ ^ وفي هذا يقولُ المؤرِّخُ الشهيرُ «وِيلْ دِيُورَانْت» في كتابِهِ «قصَّةِ الحضارة»: «إذا حكَمْنا على العظَمةِ بما كان للعظيمِ مِن أثَرٍ في الناسِ، قلنا: إن محمَّدًا رسولَ المسلِمين أعظمُ عظماءِ التاريخ؛ فقد كبَحَ جِماحَ التعصُّبِ والخُرافاتِ، وأقام فوق اليهوديَّةِ والمسيحيَّةِ ودِينِ بلادِهِ القديمِ: دِينًا واضحًا قويًّا، استطاع أن يَبقَى إلى يومِنا هذا قوَّةً ذاتَ خطَرٍ عظيم». الدليلُ الثالثُ: تجرُّدُهُ ^ ومعناهُ: أن النبيَّ ^ الدليلُ الرابعُ: انخرامُ السُّنَنِ الكونيَّةِ بين يدَيْهِ ^ والمرادُ: أنه كانت تقَعُ بين يدَيْهِ ^ ومِن ذلك: تحرُّكُ الأشجارِ مِن مكانِها، ومجيئُها إليه ^ الدليلُ الخامسُ: كثرةُ الإخبارِ بالغيوبِ الصادقة: ومعناهُ: أن النبيَّ ^ والشواهدُ في هذا الأمرِ كثيرة: فمنها: أنه ^وإخبارُهُ: أن أوَّلَ أهلِهِ لَحَاقًا به بعد موتِهِ ابنتُهُ فاطمةُ رضيَ الله عنها، وإخبارُهُ: أن المسلِمين سيَفتَحون بيتَ المَقدِسِ بعد موتِه، وغيرُهُ الكثيرُ، وقد وقَعَ كلُّ ذلك كما أخبَرَ ^ ومِن المعلومِ: أن الكاذبَ لا يُقدِمُ على الإخبارِ بهذا الكمِّ مِن الأمورِ الغيبيَّةِ بهذه الثقةِ، وبهذا اليقينِ؛ فمثلُ هذا الجزمِ لا يُقدِمُ عليه إلا رسولٌ مِن ربِّ العالَمِين، يتلقَّى هذه الأخبارَ مِن مصدرٍ متجاوِزٍ لقُدُراتِ الإنسِ والجنِّ معًا. الدليلُ السادسُ: الإعجازُ بالقرآنِ الكريم: ومعناهُ: أن النبيَّ ^ وهذا مِن إعجازِ القرآن؛ إعجازٍ في نظمِهِ وبلاغتِهِ وفصاحتِهِ ومضمونِه، وفيه إعلانُهُ التحدِّيَ للخلقِ جميعًا، وحثُّهم على معارَضتِه، وقَرْعُهُ لهم حين عَجَزوا عن ذلك. فأتى النبيُّ ^ والعجيبُ في ذلك: أن النبيَّ ^ وقد احتوى القرآنُ على أخبارٍ لا مجالَ للعقلِ فيها؛ كالإخبارِ عن صفاتِ اللهِ تعالى وأفعالِه، والإخبارِ عن اليومِ الآخِر، والإخبارِ عن أمورٍ سابقةٍ لم يَشهَدْها العرَب، والإخبارِ عن أمورٍ غيبيَّةٍ ستأتي في المستقبَل؛ وكلُّ ذلك بلغةٍ جازمةٍ فصيحة. وعليه: فإن مسألةَ إنكارِ النبوَّةِ، ومحاوَلةَ الطعنِ في صحَّةِ ثبوتِها واقعيًّا، أمرٌ لا أساسَ له مِن الصحَّة، ولا يستقيمُ له برهان. الدليلُ السابعُ: تصديقُ أهلِ الكتابِ بنبوَّتِهِ ^ فقد صدَّق به أهلُ الكتابِ العالِمون بما في كُتُبِهم، وآمَنوا برسالتِهِ؛ لأنه بِشارةُ الأنبياءِ قبله. ومِثلُ ذلك: ما حدَثَ مع وَرَقةَ بنِ نَوْفَلٍ حينما جاء الناموسُ إلى محمَّدٍ ^ على لسانِ جعفرِ بنِ أبي طالب. والجوابُ السابقُ يَجمَعُ بين الجوابِ عن شبهةِ إمكانِ النبوَّة، والجوابِ عن شبهةِ المكذِّبين لنبوَّةِ محمَّدٍ ^ خصوصًا؛ وذلك لتداخُلِ الأمرَيْن. |
مختصر الجواب
الإنسانُ محتاجٌ إلى النبوَّة، ولا يستغني عنها بعقلِه؛ لأنه بلا نبوَّةٍ يَزِلُّ عقلُ العاقل، وينحرِفُ خُلُقُ الطامعِ في الاستقامة، وتذبُلُ الرُّوحُ؛ إذ تَشْقى بظَمَئِها الفطريِّ إلى معرفةِ خالقِها.
ومعلومٌ: أنه كلَّما كان الناسُ إلى الشيءِ أحوَجَ، كان الربُّ تعالى به أجوَدَ؛ ولذا كانت النبوَّةُ ضرورةً لا بدَّ منها؛ فلا نُورَ إلا ما سطَعَتْ عليه شمسُ النبوَّة.
فإن النبوَّةَ ضروريَّةٌ للعبادِ لا بدَّ لهم منها، وحاجتُهم إليها فوقَ حاجتِهم إلى كلِّ شيءٍ، والنبوَّةُ رُوحُ العالَمِ ونُورُهُ وحياتُهُ؛ فأيُّ صلاحٍ للعالَمِ إذا عَدِمَ الرُّوحَ والحياةَ والنُّور؟! والدنيا مظلِمةٌ ملعونةٌ إلا ما طلَعَتْ عليه شمسُ النبوَّة، وكذلك العبدُ: ما لم تُشرِقْ في قلبِهِ شمسُ النبوَّة، وينالُهُ مِن حياتِها ورُوحِها، فهو في ظُلْمةٍ، وهو مِن الأموات.
والنبوَّةُ قضيَّةٌ تصديقيَّةٌ برهانيَّةٌ إيمانيَّةٌ، تقومُ على أسُسٍ عقليَّةٍ مثبَتة، وبراهينَ استدلاليَّةٍ يقينيَّة، تشترِكُ جميعُها في تأسيسِ الإيمانِ الواعي بالنبوَّةِ ومكوِّناتِها؛ فالإيمانُ بالنبوَّةِ حقيقةٌ وجوديَّةٌ عقليَّة، ومعتقَدٌ يُوجِبُهُ العقلُ، وتُرشِدُ إليه مسالكُ الاستدلالِ المستقيمة؛ ومنها: دليلُ الخلقِ والقدرةِ وقياسِ الأَوْلى، ودليلُ العنايةِ والحكمة، ودليلُ الضرورةِ والحاجةِ والافتقار، ودليلُ العدلِ الإلهيّ.
كما أن إثباتَ نبوَّةِ محمَّدٍ ^ يكفي لإثباتِ صدقِ النبوَّةِ عمومًا، وإبطالِ الدعوى المنكِرةِ لها، وأدلَّةُ نبوَّةِ محمَّدٍ ^ كثيرةٌ ومتنوِّعةٌ؛ ومنها: كمالُهُ في شخصِهِ وأخلاقِهِ ^، وكمالُ التشريعِ الذي جاء به ^، وتجرُّدُهُ ^ في إصلاحِ أمَّتِه، وانخرامُ السُّنَنِ الكونيَّةِ بين يدَيْهِ ^، وكثرةُ الإخبارِ بالغيوبِ الصادقة، والإعجازُ بالقرآنِ الكريم، وتصديقُ أهلِ الكتابِ بنبوَّتِهِ ^, وغيرُ ذلك كثيرٌ.
مختصر الجواب
الإنسانُ محتاجٌ إلى النبوَّة، ولا يستغني عنها بعقلِه؛ لأنه بلا نبوَّةٍ يَزِلُّ عقلُ العاقل، وينحرِفُ خُلُقُ الطامعِ في الاستقامة، وتذبُلُ الرُّوحُ؛ إذ تَشْقى بظَمَئِها الفطريِّ إلى معرفةِ خالقِها.
ومعلومٌ: أنه كلَّما كان الناسُ إلى الشيءِ أحوَجَ، كان الربُّ تعالى به أجوَدَ؛ ولذا كانت النبوَّةُ ضرورةً لا بدَّ منها؛ فلا نُورَ إلا ما سطَعَتْ عليه شمسُ النبوَّة.
فإن النبوَّةَ ضروريَّةٌ للعبادِ لا بدَّ لهم منها، وحاجتُهم إليها فوقَ حاجتِهم إلى كلِّ شيءٍ، والنبوَّةُ رُوحُ العالَمِ ونُورُهُ وحياتُهُ؛ فأيُّ صلاحٍ للعالَمِ إذا عَدِمَ الرُّوحَ والحياةَ والنُّور؟! والدنيا مظلِمةٌ ملعونةٌ إلا ما طلَعَتْ عليه شمسُ النبوَّة، وكذلك العبدُ: ما لم تُشرِقْ في قلبِهِ شمسُ النبوَّة، وينالُهُ مِن حياتِها ورُوحِها، فهو في ظُلْمةٍ، وهو مِن الأموات.
والنبوَّةُ قضيَّةٌ تصديقيَّةٌ برهانيَّةٌ إيمانيَّةٌ، تقومُ على أسُسٍ عقليَّةٍ مثبَتة، وبراهينَ استدلاليَّةٍ يقينيَّة، تشترِكُ جميعُها في تأسيسِ الإيمانِ الواعي بالنبوَّةِ ومكوِّناتِها؛ فالإيمانُ بالنبوَّةِ حقيقةٌ وجوديَّةٌ عقليَّة، ومعتقَدٌ يُوجِبُهُ العقلُ، وتُرشِدُ إليه مسالكُ الاستدلالِ المستقيمة؛ ومنها: دليلُ الخلقِ والقدرةِ وقياسِ الأَوْلى، ودليلُ العنايةِ والحكمة، ودليلُ الضرورةِ والحاجةِ والافتقار، ودليلُ العدلِ الإلهيّ.
كما أن إثباتَ نبوَّةِ محمَّدٍ ^ يكفي لإثباتِ صدقِ النبوَّةِ عمومًا، وإبطالِ الدعوى المنكِرةِ لها، وأدلَّةُ نبوَّةِ محمَّدٍ ^ كثيرةٌ ومتنوِّعةٌ؛ ومنها: كمالُهُ في شخصِهِ وأخلاقِهِ ^، وكمالُ التشريعِ الذي جاء به ^، وتجرُّدُهُ ^ في إصلاحِ أمَّتِه، وانخرامُ السُّنَنِ الكونيَّةِ بين يدَيْهِ ^، وكثرةُ الإخبارِ بالغيوبِ الصادقة، والإعجازُ بالقرآنِ الكريم، وتصديقُ أهلِ الكتابِ بنبوَّتِهِ ^, وغيرُ ذلك كثيرٌ.
الجواب التفصيلي
الإيمانُ بالنبوَّةِ وما يتعلَّقُ بها مِن مسائلَ: أصلٌ مِن أصولِ الإسلام، ولا يَتِمُّ الدينِ إلا به؛ ولذا فالأدلَّةُ الدالَّةُ على إمكانِ النبوَّةِ أدلَّةٌ في غايةِ الوضوحِ والقوَّة، وهي متنوِّعةٌ مِن حيثُ نوعُها؛ بين أدلَّةٍ خبَريَّةٍ وعقليَّة. ولكنْ قبل سَرْدِ الأدلَّةِ على إمكانِ النبوَّةِ: لا بدَّ مِن التقريرِ أن: «الإيمانَ بالنبوَّةِ»، تابعٌ لمسألةِ: «الإيمانِ بوجودِ الله»، بل «والإيمانِ بكمالِهِ في صفاتِه»؛ فلا يُمكِنُ الإيمانُ بالنبوَّةِ، والتصديقُ بتحقُّقِها في الواقعِ، مع عدمِ الإيمانِ بوجودِ الله؛ فمَن لم يكن مؤمِنًا بوجودِ الله، فلن يكونَ مؤمِنًا بالنبوَّةِ والوحيِ؛ وعليه: فالبحثُ في إثباتِ النبوَّةِ، وتقريرِ أدلَّتِها: يجبُ أن يكونَ بعد الانتهاءِ مِن إثباتِ أدلَّةِ وجودِ الله، وتقريرِ كمالِه. وعليه: فلا فائدةَ مع: «مَن لم يُؤمِنْ باللهِ وبكمالِه»: أن يُناقَشَ معه: «موضوعُ النبوَّةِ، وما يتعلَّقُ به»؛ لكونِهِ لم يحقِّقِ المرتبةَ السابقةَ على هذه المرتَبة. ونقاشُنا هنا والأدلَّةُ التي سنُورِدُها، هي أدلَّةٌ: - لمَن يُنكِرُ إمكانَ النبوَّة، ويدَّعي أنها أمرٌ مستحيلُ الوقوع؛ كأتباعِ التيَّارِ الإلحاديّ. - أو لمَن يُقِرُّ بإمكانِ النبوَّةِ، لكنه لا يُؤمِنُ بتحقُّقِها في الواقعِ؛ كأتباعِ الدينِ الرُّبُوبيّ. أوَّلًا: الأدلَّةُ العقليَّةُ على وجودِ النبوَّةِ وضرورتِها: وإليك عددًا مِن الأدلَّةِ العقليَّةِ التي يُدفَعُ بها الاعتراضُ على وجودِ النبوَّة: الدليلُ الأوَّلُ: دليلُ الخلقِ والقدرةِ وقياسِ الأَوْلى: ومعناه: أن الدليلَ العقليَّ، والبرهانَ القطعيَّ: دلَّ على أن اللهَ تعالى هو خالقُ هذا الكونِ، ومالكُهُ، وأنه سبحانه وحده المتصرِّفُ في الخلقِ بالأمرِ والنهي، وأن إنزالَ اللهِ الوحيَ على مَن يصطفيهِ مِن عبادِهِ، أمرٌ ممكِنٌ في العقلِ، وفي الوجود، وأنه لا يتضمَّنُ مناقَضةً للعقل، ولا تعارُضًا مع قوانينِ الكون. فكلُّ الأدلَّةِ التي أقامها المؤمِنون على وجودِ اللهِ تدُلُّ بالضرورةِ على إمكانِ النبوَّة، وأنها أمرٌ قابلٌ للتحقُّقِ في الواقع؛ فليس مِن العقلِ أن تشكِّلَ ظاهرةُ النبوَّةِ أيَّ استغراب؛ ومَن رأى عجائبَ حكمةِ اللهِ وقدرتِهِ، في الخلقِ وفي غيرِ ذلك، لم يستغرِبِ النبوَّة. ولذا جاء القرآنُ منبِّهًا على هذا المعنى المنهجيِّ؛ كما في قولِهِ تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 2]. ولما قامت الأدلَّةُ في مسألةِ الإيمانِ بوجودِ اللهِ وكمالِه، وأنه المتصرِّفُ في هذا الكونِ، الحكيمُ في أفعالِه -: كان له أن يتصرَّفَ في عبادِهِ كما يشاء، وأن يَخْتارَ منهم مَن يصلُحُ لتبليغِ رسالتِه، وتعريفِ دِينِهِ للناس، ويَهْديهم إلى صراطِ اللهِ المستقيم؛ فهذا مِن كمالِ الحكمةِ والعدلِ والرحمةِ الإلهيَّةِ؛ كما قال تعالى: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]. الدليلُ الثاني: دليلُ العنايةِ والحكمة: كمالُ اللهِ في حكمتِهِ وعدلِهِ يقتضي ألا يترُكَ عبادَهُ همَلًا بلا دليلٍ يُرشِدُهم إلى الطريقِ المستقيم، ولا أحدَ يُنكِرُ أن اللهَ تعالى اعتنى بالإنسانِ عنايةً خاصَّةً؛ فجعَلهُ خليفةً في الأرضِ، وكرَّمه على سائرِ الخَلْق، وسخَّر الكونَ له، وهيَّأ له سُبُلَ عِمارةِ الأرضِ وتشييدِ الحَضَارات. وهذا الاعتناءُ يدُلُّ على أن هناك غايةً مِن خَلْقِ الإنسانِ وتكريمِهِ بهذا الشكل، وأنه لا بدَّ لحياةِ الإنسانِ مِن هدَفٍ وغايةٍ مختلِفةٍ عن هدَفِ وغايةِ الحيواناتِ الأخرى؛ كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. وإذا ثبَتَ: أنه لا بدَّ أن يكونَ لحياةِ الإنسانِ هدَفٌ وغايةٌ مختلِفةٌ، فإن حكمةَ الله وعلمَهُ وعدلَهُ ورحمتَهُ تقتضي ألا يُترَكَ الإنسانُ همَلًا بلا إرشاد؛ فاللهُ وحده هو أعلَمُ بما يُصلِحُ للإنسانِ أمرَهُ ومعاشَهُ وآخرتَهُ؛ ولذا كان أهمَّ ما يعلِّمُهُ اللهُ لعبادِهِ ما يتعلَّقُ بالعَلاقةِ بينهم وبين خالقِهم؛ وهذا ما تَمَّ عن طريقِ النبوَّة. وهذا الدليلُ مِن أقوى الأدلَّةِ العقليَّةِ على ضرورةِ النبوَّة. ولذلك ما مِن أمَّةٍ خلَتْ إلا وقد بعَثَ اللهُ فيهم الرسُلَ والأنبياءَ، يبلِّغُونهم رسالةَ اللهِ تعالى لهم، ويبصِّرُونهم بالصراطِ المستقيمِ، وبما يُصلِحُ لهم معاشَهم وآخِرتَهم. الدليلُ الثالثُ: دليلُ الضرورةِ والحاجةِ والافتقار: الحاجةُ إلى النبوَّةِ ضروريَّةٌ وشديدة، ويُمكِنُ إجمالُ النقاطِ التي تنحصِرُ فيها ضرورةُ النبوَّةِ في التالي: 1- حاجةُ الإنسانِ إلى مَن يذكِّرُهُ بحقيقةِ نفسِه: النوعُ الإنسانيُّ لا بدَّ أن يكونَ خاضعًا للهِ تعالى، وعابدًا له، ومتذلِّلًا لجلالِ اللهِ وجبروتِه؛ لأن الإنسانَ جزءٌ مِن المخلوقات، وكلُّ مخلوقٍ لا بدَّ أن يكونَ تابعًا لخالقِه، وخاضعًا له، ولما كان الإنسانُ كائنًا مجبولًا على التقصيرِ والنِّسْيانِ، كان لا بدَّ مِن وجودِ النبوَّةِ؛ لتذكيرِ الإنسانِ بخضوعِهِ لربِّه، واستسلامِهِ لمولاه، وتثبيتِهِ على ذلك. 2- حاجةُ الإنسانِ إلى التعرُّفِ على خالقِه: فاللهُ تعالى هو أعظمُ شيءٍ، وهو الخالقُ للكون، والمتَّصِفُ بالكمالِ المطلَقِ، والنفوسُ البشَريَّةُ مجبولةٌ على التشوُّفِ إلى معرفتِه، والازديادِ مِن العلمِ به، والتعرُّفِ على أسمائِهِ وصفاتِهِ وكمالاتِه؛ لأن النفسَ مجبولةٌ على التعلُّقِ بالكمال، والتشوُّفِ إلى الاقترابِ منه. ولهذا كان العلمُ باللهِ تعالى أفضَلَ العلومِ وأشرَفَها؛ وذلك لأن شرَفَ العلمِ بشرَفِ المعلوم؛ ولذا فإن الكمالَ الإلهيَّ في الحكمةِ والرحمةِ والعدلِ يقتضي أن اللهَ يضَعُ طريقًا مأمونًا للحصولِ على العلمِ به؛ فكانت الضرورةُ إلى وجودِ النبوَّة. 3- حاجةُ الإنسانِ إلى وجودِ صلةٍ بينه وبين خالقِه: فالإنسانُ لا بدَّ أن يكونَ بينه وبين خالقِهِ اتِّصالٌ دائمٌ؛ لأنه يتعذَّرُ عليه الانفصالُ عن الافتقارِ إليه، والاستعانةِ به، وهذه العَلاقةُ الشريفةُ بين الإنسانِ وربِّه لها قوانينُ ومعانٍ تقومُ عليها، والإنسانُ قاصرٌ عن معرفةِ جميعِ المعاني التي تتناسَبُ مع أقرانِهِ مِن الناس، ويَجهَلُ كثيرًا مِن الأمورِ التي يُحِبُّها أو يُبغِضُها بنو جنسِهِ؛ فكيف باللهِ العظيم؟! ولذا فمصدرُ ضبطِ هذه العَلَاقةِ والصِّلةِ بين العبدِ وربِّهِ، هو النبوَّةُ، وإلا فستَجِدُ مِن الناسِ مَن ضَلَّ الطريقَ؛ فعبَدَ الشمسَ والكواكبَ والبقَرَ والنارَ وغيرَها؛ فلا مصدرَ لضبطِ هذه العَلَاقةِ ضبطًا يتناسَبُ مع عقلِ الإنسانِ وفطرتِهِ إلا المصدرُ الإلهيُّ نفسُه. أَمَا رأيتَ الملوكَ يضَعُون قوانينَ وبُرُوتُوكولاتٍ للعامَّةِ إذا أرادوا التواصُلَ معهم، والدخولَ عليهم، ولا يَقدِرُ أحدٌ مِن الناسِ على مخالَفتِها؟! فإن تحقُّقَ هذه القوانينِ والضوابطِ في حقِّ اللهِ أَوْلى. فالنبوَّةُ تعلِّمُ الناسَ ما يحبُّهُ اللهُ ويُرضيهِ سبحانه، وما يُغضِبُهُ ويُوجِبُ سخَطَهُ وعذابَه، وكيف تكونُ العبادةُ له والخضوعُ لأمرِه، وهذا مِن مظاهرِ رحمةِ اللهِ بالناس؛ كما في قولِهِ تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. 4- حاجةُ الإنسانِ إلى مَن يكمِّلُ له نقصَهُ وقصورَ عِلمِه: الإنسانُ قد فُضِّلَ على سائرِ المخلوقاتِ المعلومةِ، وميَّزه اللهُ بالعقلِ، وفطَرهُ على البحثِ عن العِلَلِ والغايات؛ وهذا يترتَّبُ عليه كثرةُ الأفعالِ الصادرةِ عنه، وتنوُّعُها؛ فالإنسانُ قد وهَبهُ اللهُ قدرةَ ومَلَكةَ الاختيارِ لأفعالِه؛ وهذا يقتضي أن اللهَ تعالى لا يترُكُهُ هكذا بلا مِعْيارٍ عادلٍ يَضبِطُ الإنسانُ به أفعالَهُ، وموازينَ يَعرِفُ بها الصالحَ مِن الفاسد. والعقلُ البشَريُّ قاصرٌ عن أن يقدِّمَ مِعْيارًا شاملًا يستوعِبُ كلَّ التصرُّفاتِ البشَريَّةِ؛ كالبيعِ والشراء، والإعطاءِ والأخذِ والردّ، والقولِ والفعلِ، وغيرِه، وقد أشار القرآنُ إلى هذا المعنى في قولِهِ تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. فالإنسانُ محتاجٌ إلى مَن لدَيْهِ علمٌ تفصيليٌّ يبيِّن له التفاصيلَ المؤثِّرةَ التي يَجهَلُها؛ فالناسُ قد يُمكِنُهم معرفةُ أصولِ المنافعِ والمضارِّ على جهةِ الإجمال؛ فيحتاجون إلى مَن لدَيْهِ علمٌ تفصيليٌّ بها لكي يحدِّدَ لهم تفاصيلَ ما يحصُلُ به النفعُ، وما يحصُلُ به الضررُ، وهم الأنبياءُ الذين تلقَّوُا الوحيَ والعلمَ مِن عندِ اللهِ تعالى. 5- حاجةُ العبدِ إلى الوحي: مِن أهمِّ الحاجاتِ التي يفتقِرُ إليها الإنسانُ: وجودُ وحيٍ سماويٍّ، يَعرِفُ منه مرادَ خالقِهِ منه؛ إذ المعلومُ أن الإنسانَ فُطِرَ على العبادةِ، والافتقارِ واللجوءِ إلى خالقِهِ عند الحاجة. فمِن أين سيَعرِفُ العبدُ تفاصيلَ الغايةِ التي خُلِقَ مِن أجلِها، ومهمَّتِهِ في هذه الحياةِ الدنيا؟! وأين سيجدُ هدايةَ قلبِهِ وطُمَأنِينَتَهُ وسكونَهُ بدونِ الوحي؟! وكيف سيَعرِفُ مصيرَهُ بعد الموتِ بدونِ الوحي، وأنه سيَرجِعُ بعد قضاءِ أجلِهِ في الدنيا إلى خالقِه، وسيحاسِبُهُ على ما قدَّم في عُمُرِهِ، وأنه إما إلى جنَّةٍ، وإما إلى نار؟! الدليلُ الرابعُ: دليلُ العدلِ الإلهيّ: ومعناهُ: أن مِن تمامِ عَدْلِ اللهِ تعالى: ألا يعذِّبَ خلقَهُ، حتى يَبعَثَ إليهم مَن يحذِّرُهم مِن العذاب، ويبيِّنَ لهم طريقَ النجاة، وقد نبَّه القرآنُ إلى ذلك في قولِهِ تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]. ولو أن اللهَ عذَّب الكافِرين في الآخِرةِ قبل الإنذارِ في الدنيا، لكان حُجَّتُهم يومئذٍ أن اللهَ لم يَبعَثْ إليهم رسُلًا؛ ولذا يقولُ اللهُ تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]. وبهذا تُعلَمُ حاجةُ العبادِ الشديدةُ إلى معرفةِ النبيِّ ^، وما جاء به، وتصديقِ خبرِه، وطاعتِه. فالنبوَّةُ هي الطريقُ العقليُّ الممكِنُ لمعرفةِ مرادِ اللهِ، والتواصُلِ بين الخالقِ وخلقِه؛ فإذا أنكَرَ الإنسانُ النبوَّةَ، فما الخيارُ الآخَرُ الذي مِن خلالِهِ يُمكِنُ أن يُستبدَلَ الوحيُ؛ وهذا ما يُظهِرُ ضرورةَ الوحيِ للبشَر. ثانيًا: إثباتُ نبوَّةِ محمَّدٍ ^ بعد أن سرَدْنا بعضَ الأدلَّةِ على الحاجةِ إلى النبوَّةِ بشكلٍ مجرَّدٍ، وأثبَتْنا ضرورتَها، نأتي إلى إثباتِ تحقُّقِ النبوَّةِ في الواقعِ عن طريقِ إثباتِ النبوَّةِ لأحدِ أفرادِ الأنبياءِ عليهم السلامُ؛ وهو محمَّدٌ ^ وأدلَّةُ نبوَّةِ محمَّدٍ ^ الدليلُ الأوَّلُ: كمالُهُ في شخصِهِ وأخلاقِهِ ^ ومعناهُ: أن النبيَّ ^ وقد عُرِفَ عنه ^ فمِثلُ هذا الإنسانِ بهذا الكمالِ الذي لم يبلُغْهُ غيرُهُ قطُّ، قبل النبوَّةِ وبعدها، إذا ادَّعى النبوَّةَ، فلا بدَّ أن يكونَ صادقًا في دَعْواه. الدليلُ الثاني: كمالُ التشريعِ الذي جاء به محمَّدٌ ^ ومعناهُ: أن التشريعَ الذي جاء به محمَّدٌ ^ كان أمِّيًّا لا يَقرَأُ ولا يكتُب. وكمالُ هذا الدِّينِ الذي جاء به محمَّدٌ ^ وفي هذا يقولُ المؤرِّخُ الشهيرُ «وِيلْ دِيُورَانْت» في كتابِهِ «قصَّةِ الحضارة»: «إذا حكَمْنا على العظَمةِ بما كان للعظيمِ مِن أثَرٍ في الناسِ، قلنا: إن محمَّدًا رسولَ المسلِمين أعظمُ عظماءِ التاريخ؛ فقد كبَحَ جِماحَ التعصُّبِ والخُرافاتِ، وأقام فوق اليهوديَّةِ والمسيحيَّةِ ودِينِ بلادِهِ القديمِ: دِينًا واضحًا قويًّا، استطاع أن يَبقَى إلى يومِنا هذا قوَّةً ذاتَ خطَرٍ عظيم». الدليلُ الثالثُ: تجرُّدُهُ ^ ومعناهُ: أن النبيَّ ^ الدليلُ الرابعُ: انخرامُ السُّنَنِ الكونيَّةِ بين يدَيْهِ ^ والمرادُ: أنه كانت تقَعُ بين يدَيْهِ ^ ومِن ذلك: تحرُّكُ الأشجارِ مِن مكانِها، ومجيئُها إليه ^ الدليلُ الخامسُ: كثرةُ الإخبارِ بالغيوبِ الصادقة: ومعناهُ: أن النبيَّ ^ والشواهدُ في هذا الأمرِ كثيرة: فمنها: أنه ^وإخبارُهُ: أن أوَّلَ أهلِهِ لَحَاقًا به بعد موتِهِ ابنتُهُ فاطمةُ رضيَ الله عنها، وإخبارُهُ: أن المسلِمين سيَفتَحون بيتَ المَقدِسِ بعد موتِه، وغيرُهُ الكثيرُ، وقد وقَعَ كلُّ ذلك كما أخبَرَ ^ ومِن المعلومِ: أن الكاذبَ لا يُقدِمُ على الإخبارِ بهذا الكمِّ مِن الأمورِ الغيبيَّةِ بهذه الثقةِ، وبهذا اليقينِ؛ فمثلُ هذا الجزمِ لا يُقدِمُ عليه إلا رسولٌ مِن ربِّ العالَمِين، يتلقَّى هذه الأخبارَ مِن مصدرٍ متجاوِزٍ لقُدُراتِ الإنسِ والجنِّ معًا. الدليلُ السادسُ: الإعجازُ بالقرآنِ الكريم: ومعناهُ: أن النبيَّ ^ وهذا مِن إعجازِ القرآن؛ إعجازٍ في نظمِهِ وبلاغتِهِ وفصاحتِهِ ومضمونِه، وفيه إعلانُهُ التحدِّيَ للخلقِ جميعًا، وحثُّهم على معارَضتِه، وقَرْعُهُ لهم حين عَجَزوا عن ذلك. فأتى النبيُّ ^ والعجيبُ في ذلك: أن النبيَّ ^ وقد احتوى القرآنُ على أخبارٍ لا مجالَ للعقلِ فيها؛ كالإخبارِ عن صفاتِ اللهِ تعالى وأفعالِه، والإخبارِ عن اليومِ الآخِر، والإخبارِ عن أمورٍ سابقةٍ لم يَشهَدْها العرَب، والإخبارِ عن أمورٍ غيبيَّةٍ ستأتي في المستقبَل؛ وكلُّ ذلك بلغةٍ جازمةٍ فصيحة. وعليه: فإن مسألةَ إنكارِ النبوَّةِ، ومحاوَلةَ الطعنِ في صحَّةِ ثبوتِها واقعيًّا، أمرٌ لا أساسَ له مِن الصحَّة، ولا يستقيمُ له برهان. الدليلُ السابعُ: تصديقُ أهلِ الكتابِ بنبوَّتِهِ ^ فقد صدَّق به أهلُ الكتابِ العالِمون بما في كُتُبِهم، وآمَنوا برسالتِهِ؛ لأنه بِشارةُ الأنبياءِ قبله. ومِثلُ ذلك: ما حدَثَ مع وَرَقةَ بنِ نَوْفَلٍ حينما جاء الناموسُ إلى محمَّدٍ ^ على لسانِ جعفرِ بنِ أبي طالب. والجوابُ السابقُ يَجمَعُ بين الجوابِ عن شبهةِ إمكانِ النبوَّة، والجوابِ عن شبهةِ المكذِّبين لنبوَّةِ محمَّدٍ ^ خصوصًا؛ وذلك لتداخُلِ الأمرَيْن. |