نص السؤال

يَنْفي بعضُهم وجودَ بِشاراتٍ عن النبيِّ محمَّدٍ ﷺ في كتبِ أهلِ الكتاب؛

 فهل ثبَتَتْ فعلًا بِشاراتٌ في كتبِ أهلِ الكتابِ عن النبيِّ ﷺ، أو هي مجرَّدُ كلماتٍ محتمِلةٍ؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

بِشاراتُ النبوَّةِ بمحمَّدٍ ﷺ في التوراةِ والإنجيل.

الجواب التفصيلي

نبوَّةُ النبيِّ ﷺ ثابتةٌ بالأدلَّةِ القطعيَّةِ مِن القرآنِ الكريمِ، وما فيه مِن الدلائلِ العقليَّةِ والنقليَّة، ومِن كمالِ الشريعةِ نفسِها، ومِن استحالةِ كونِها مِن بشَرٍ،

 ومِن المعجِزاتِ القائمةِ في عهدِ النبيِّ ﷺ، وما كان منها قائمًا إلى يومِ القيامةِ، ومِن إخبارِهِ بالغيوبِ الصادقة، وعدَمِ كذبِ خبَرٍ منها، وغيرِ ذلك مِن الأدلَّة.

ومنها أيضًا: البِشاراتُ بنبوَّتِهِ ﷺ في كُتُبِ أهلِ الكتابِ السابِقين، وفي ذلك أدلَّةٌ وأمثلةٌ، بعضُها ثابتٌ قطعًا، وبعضُها دون ذلك على درَجات:

أوَّلًا: آياتُ القرآنِ الكريمِ تُثبِتُ البِشاراتِ بمحمَّدٍ ﷺ في التوراةِ والإنجيل:

فبالنظَرِ لمجمَلِ الرواياتِ التاريخيَّةِ الثابتة، ولعمومِ آياتِ القرآنِ المؤيِّدةِ لفَحْواها: يتأكَّدُ لدينا ما كان مِن بِشاراتٍ صريحةٍ بنبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ في التوراةِ والإنجيل.

ورَغْمَ أن اليهودَ والنصارى يكذِّبون بالقرآنِ الكريم؛ غيرَ أن هذا يُثبِتُ الأمرَ عند المسلِمين، بل عند كلِّ عاقلٍ يَعلَمُ أن الإسلامَ حقٌّ، ولو لم يَتَّبِعْهُ لهوًى في نفسِه.

ثم هو يساعِدُنا على تتبُّعِ البحثِ عن ذلك في التوراةِ والإنجيل؛ لأن إيمانَنا بوجودِ ذلك فيهما هو دافعٌ وإلهامٌ للاستمرارِ في البحث.

وأوَّلُ ما يطالِعُنا في هذا الصدَدِ:

قولُهُ تعالى:

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}

[الأعراف: 157].

ومنه:

قولُهُ تعالى:

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}

[الصف: 6].

ومنه:

قولُهُ تعالى:

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}

[القصص: 52- 53].

وبالجملةِ نقولُ: إن هذه الآياتِ وغيرَها أصدَقُ دليلٍ على ما جاء في كُتُبِ النصارى مِن البِشاراتِ العظيمةِ ببَعْثةِ النبيِّ ﷺ، 

ومِن المسلَّمِ به: أن القرآنَ الكريمَ بما نَصَّ عليه مِن آياتٍ في هذا الصدَدِ - محفوظةٍ مستوثَقٍ مِن صِدْقِها؛

 بمقتضى تعهُّدِ اللهِ بحفظِهِ -: يُثبِتُ ما جاء في كُتُبِهم مِن بِشاراتِ نبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ.

ثانيًا: أدلَّةٌ مِن السنَّةِ النبويَّةِ والسِّيرة:

فالمتأمِّلُ في سِيرةِ النبيِّ ﷺ، وكُتُبِ الحديثِ، يجدُ الكثيرَ مِن الأدلَّةِ على تواطُؤِ اليهودِ والنصارى على محوِ اسمِ النبيِّ ﷺ مِن كُتُبِهم، وكذلك إخفاءُ البِشاراتِ الصريحةِ بمَبعَثِهِ ﷺ،

 والتي اعتمَدَ عليها هؤلاءِ اليهودُ والنصارى في التبشيرِ به ﷺ، وتتبُّعِ أخبارِهِ وعلاماتِه، والهجرةِ إلى بلادِهِ التي سيَظهَرُ فيها، وهي المدينةُ المنوَّرةُ،

 وتَرْكِهم بلادَ الشامِ بخيراتِها إلى بلادِ شِبْهِ الجزيرةِ العربيَّةِ المُجْدِبة؛ كلُّ هذا يدُلُّ - بما لا يدَعُ مجالًا للشكِّ - على كثرةِ المبشِّراتِ بمحمَّدٍ ﷺ ووضوحِها.

وقد أخبَرَ النبيُّ ﷺ اليهودَ والنصارى مشافَهةً: أنه مذكورٌ عندهم، وأنهم وُعِدوا به، وأن الأنبياءَ بشَّرتْ به، واحتَجَّ عليهم بذلك، ولو كان هذا الأمرُ مِن البِشاراتِ به غيرَ موجودٍ، لكذَّبوه، ونفَروا مِن اتِّباعِه، وشَهِدوا على دعوتِهِ بالبُطْلان؛ وهذا ما لم يكن.

وهناك الكثيرُ مِن الدلائلِ في «السِّيرةِ النبويَّةِ» تُشيرُ إلى وجودِ هذه المبشِّراتِ بالنبيِّ ﷺ في التوراةِ والإنجيل، والتي حرَّفها اليهودُ والنصارى بعد ذلك، وتواصَوْا بكتمانِها، نذكُرُ منها ما يأتي:

- عن عطاءِ بنِ يَسَارٍ، قال: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ:

«أَجَلْ، وَاللهِ، إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]

، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا»؛

رواه البخاريُّ (2125).

-

وعن عَوْفِ بنِ مالكٍ الأَشْجَعيِّ رضيَ اللهُ عنه، قال: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا كَنِيسَةَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ، فَكَرِهُوا دُخُولَنَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَرُونِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، يَشْهَدُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، يُحْبِطِ اللهُ عَنْ كُلِّ يَهُودِيٍّ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ الْغَضَبَ، الَّذِي غَضِبَ عَلَيْهِ»، قَالَ: فَأَسْكَتُوا، مَا أَجَابَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَلَّثَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: «أَبَيْتُمْ؟! فَوَاللهِ، إِنِّي لَأَنَا الْحَاشِرُ، وَأَنَا الْعَاقِبُ، وَأَنَا النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى، آمَنْتُمْ أَوْ كَذَّبْتُمْ»، ثُمَّ انْصَرَفَ وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كِدْنَا أَنْ نَخْرُجَ، نَادَى رَجُلٌ مِنْ خَلْفِنَا: كَمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَأَقْبَلَ، فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: أَيَّ رَجُلٍ تَعْلَمُونَنِي فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ؟ قَالُوا: وَاللهِ، مَا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ مِنْكَ، وَلَا أَفْقَهُ مِنْكَ، وَلَا مِنْ أَبِيكَ قَبْلَكَ، وَلَا مِنْ جَدِّكَ قَبْلَ أَبِيكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ لَهُ بِاللهِ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ، الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ، قَالُوا: كَذَبْتَ، ثُمَّ رَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَقَالُوا فِيهِ شَرًّا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَذَبْتُمْ؛ لَنْ يُقْبَلَ قَوْلُكُمْ، أَمَّا آنِفًا، فَتُثْنُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا أَثْنَيْتُمْ، وَلَمَّا آمَنَ، أَكْذَبْتُمُوهُ، وَقُلْتُمْ فِيهِ مَا قُلْتُمْ، فَلَنْ يُقْبَلَ قَوْلُكُمْ»، قَالَ: فَخَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ: رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَنَا، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]»؛

رواه أحمد (23984).

- وعندنا قصَّةُ إسلامِ سَلْمانَ الفارسيِّ خيرُ دليلٍ على معرفةِ رُهْبانِ النصارى بصفاتِ النبيِّ ﷺ، وبلادِهِ، ووقتِ مَبعَثِه؛

فقد قال الراهبُ النصرانيُّ الذي كان يلازِمُهُ سَلْمانُ الفارسيُّ قبل موتِهِ:

«أَيْ بُنَيَّ، وَاللهِ، مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ، هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، فَافْعَلْ»؛

رواه أحمدُ (39/ 144 رقم 23737).

ولا يُمكِنُ لمِثلِ هذا الراهبِ النَّصْرانيِّ أن يقولَ ما قاله إلا مِن خلالِ ما عَلِمَهُ بما في الإنجيلِ مِن بِشاراتٍ بالنبيِّ ﷺ وصفاتِه.

- ودليلٌ آخَرُ على معرفةِ النصارى للنبيِّ ﷺ مِن خلالِ الإنجيلِ: ما قاله النَّجَاشيُّ للمهاجِرين المسلِمين، بعد أن أخبَروهُ قولَهم في عيسى بنِ مَريَمَ؛ كما يَرْوي

عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه، قال:

«فَرَفَعَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ، وَالْقِسِّيسِينَ، وَالرُّهْبَانِ، وَاللهِ مَا يَزِيدُونَ عَلَى الَّذِي نَقُولُ فِيهِ مَا يَسْوَى هَذَا، مَرْحَبًا بِكُمْ، وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ؛ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَإِنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، انْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاللهِ، لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ، لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ، وَأُوَضِّئُهُ»؛

رواه أحمد (7/ 408 رقم 4400).

فهذه بعضٌ مِن الدلائلِ على كثرةِ البِشاراتِ بالنبيِّ ﷺ في التوراةِ والإنجيلِ واضحةً لم تَصِلْ إليها يدُ التحريف؛ ومِن ثَمَّ فلا يَحِقُّ لأحدٍ أن يشكِّكَ في اعتقادِ المسلِمين بتحريفِ التوراةِ والإنجيل، 

ومحوِ اسمِهِ ﷺ مِن هذه الكُتُب؛ لأن الشواهدَ التاريخيَّةَ على ذلك كثيرةٌ جدًّا، وقد تضمَّنَتْها كتُبُ السنَّةِ والحديث، وكتُبُ التاريخ، وصدَّق كلَّ ذلك القرآنُ الكريم.

ثالثًا: على الرغمِ مِن تحريفِ الكتابِ المقدَّسِ، فإنه لا يخلو مِن البِشاراتِ برسولِ اللهِ محمَّدٍ ﷺ:

فقد تعدَّدتِ البِشاراتُ برسولِ الإسلامِ في التوراةِ وملحَقاتِها، ولكنَّ اليهودَ أزالوا عنها كلَّ معنًى صريحٍ، وصيَّروها نصوصًا احتماليَّةً تَسمَحُ لهم بصرفِها عنه ﷺ، ومع هذا: فقد بَقِيَتْ بعد تعديلِها وتحريفِها قويَّةَ الدَّلالةِ على معناها «الأصليِّ»؛ مِن حَمْلِها على رسولِ اللهِ ﷺ؛ لأن حَمْلَها على غيرِهِ متعذِّرٌ، أو متعسِّرٌ، أو مُحالٌ.

فهي أشبَهُ ما تكونُ برسالةٍ مُغلَقةٍ مُحِيَ عنوانُها، ولكنَّ صاحبَ الرسالةِ قادرٌ - بعد فضِّها - أن يُثبِتَ اختصاصَها به ﷺ؛ لأن الكلامَ الداخليَّ الذي فيها يَقطَعُ بأنها له دون سواه؛ لما فيها مِن قرائنَ وبيِّناتٍ واضحةٍ، نَعرِضُ - فيما يأتي - بعضًا منها:

1- «وهذه هي البرَكةُ التي بارَكَ بها موسى - رجُلُ اللهِ - بني إسرائيلَ قبلَ موتِهِ، فقال: جاء الربُّ مِن سَيْناءَ، وأشرَقَ لهم مِن سَعِيرَ، وتلألَأَ مِن جبَلِ فَارَانَ». «سِفْرُ التثنية»: (33: 1، 2).

في هذا النصِّ إشارةٌ إلى ثلاثِ نبوَّاتٍ:

الأُولى: نبوَّةُ موسى عليه السلامُ التي تلقَّاها على جبَلِ سَيْناءَ.

الثانيةُ: نبوَّةُ عيسى عليه السلامُ، وسَاعِيرُ: هي قريةٌ مجاوِرةٌ لبيتِ المَقدِس، حيثُ تلقَّى عيسى عليه السلامُ أمرَ رسالتِه.

الثالثةُ: نبوَّةُ محمَّدٍ ^، وجبَلُ فَارَانَ: هو المكانُ الذي تلقَّى فيه ﷺ أوَّلَ ما نزَلَ عليه مِن الوحي، وفارَانُ: هي مكَّةُ المكرَّمةُ مَولِدُ محمَّدٍ ﷺ، ومَنشَؤُهُ، ومَبعَثُه.

2- «قال لي الربُّ: قد أحسَنوا فيما تكلَّموا؛ أُقِيمُ لهم نبيًّا مِن وسَطِ إخوتِهم مِثلَك، وأَجعَلُ كلامي في فمِه، فيكلِّمُهم بكلِّ ما أُوصِيهِ به، ويكونُ أن الإنسانَ الذي لا يَسمَعُ لكلامي الذي يتكلَّمُ به باسمي أنا أطالِبُه» «سِفْرُ التثنية»: (18: 17).

وقولُهُ: «مِن وسَطِ إخوتِهم»: ينطبِقُ على النبيِّ ﷺ، و«إخوتُهم»: هم أبناءُ إسماعيلَ، وهو أخو إسحاقَ، ولشواهدَ أخرى على ذلك.

3- «الفارِقْلِيطُ لا يُجِيئُكم ما لم أَذهَبْ، وإذا جاء، وبَّخ العالَمَ على الخطيئةِ، ولا يقولُ مِن تِلْقاءِ نفسِهِ، ولكنه مما يَسمَعُ به، ويكلِّمُكم ويسُوسُكم بالحقِّ، ويُخبِرُكم بالحوادثِ والغيوب». «إنجيل يُوحَنَّا» (الإصحاح: 16: 25).

واختلَفَ النصارى في تفسيرِ كلمةِ: «الفارِقْلِيطِ»، أو «بِرِكْلِيتُوس» (PERIQLYTOS)، حسَبَ الصيغةِ المنطوقة؛ فمنهم: مَن فسَّرها بمعني المعزِّي، أو المحامي والكثيرِ الحمد.

وقد ذكَرَ الأستاذُ عبدُ الوهَّابِ النجَّارُ: أنه سأل المستشرِقَ الدكتورَ (كارلو نِلِّينو) المستشرقَ الإيطاليَّ: ما معنى (بِيرِيكْلِتُوس)؟ فأجابه بقولِهِ: إن القُسَسَ يقولون: إن هذه الكلمةَ معناها «المعزِّي»، فقال له: إني أسألُ الدكتورَ (كارلو نِلِّينُو) الحاصلَ على الدكتوراه في آدابِ اللغةِ اليونانيَّةِ القديمةِ، ولستُ أسأل قِسِّيسًا، فقال: «إن معناها: الذي له حَمْدٌ كثير».

وهناك نصوصٌ كثيرةٌ تتفاوَتُ في الظهور، تُوجَدُ في كُتُبٍ ومقالاتٍ معنيَّةٍ بهذا الأمر.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يتضمَّنُ السؤالُ التشكيكَ في البِشاراتِ التي بشَّرتْ بنبوَّةِ نبيِّنا محمَّدٍ في كُتُبِ أهلِ الكتابِ اليهودِ والنصارى.

مختصَرُ الإجابة:

على الرغمِ مما جرَى على الكُتُبِ المقدَّسةِ مِن تحريفٍ، إلا أنها لم تَخْلُ مِن جملةِ المبشِّراتِ به ﷺ، فإذا عُلِمَ تحريفُ أهلِ الكتابِ لكتابِهم - كما أثبَتَتْهُ الأدلَّةُ - وعُلِمَ عدواةُ كثيرٍ مِن أهلِها،

 وحسَدُهم للنبيِّ ﷺ -: كان في ذلك إشارةٌ إلى أن ما وصَلَ إلينا طرَفٌ مما حُرِّفَ وكُتِمَ وحُذِف.

وفوق ذلك: فهناك الكثيرُ مِن الأدلَّةِ التي تستنِدُ إلى آياتٍ قرآنيَّةٍ، ورواياتٍ تاريخيَّةٍ صحيحةٍ، تَرْويها كُتُبُ الحديثِ الصحيحة، 

وكُتُبُ السِّيرة، ودواوينُ التاريخ؛ كلُّها تؤكِّدُ البِشاراتِ الصريحةَ بنبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ في التوراةِ والإنجيل.

وهذا فضلًا عن ثبوتِ نبوَّةِ النبيِّ ﷺ بالأدلَّةِ القطعيَّةِ مِن القرآنِ الكريمِ، وما فيه مِن الدلائلِ العقليَّةِ والنقليَّة، ومِن كمالِ الشريعةِ نفسِها،

 ومِن استحالةِ كونِها مِن بشَرٍ، ومِن المعجِزاتِ القائمةِ في عهدِ النبيِّ ﷺ، وما كان منها قائمًا إلى يومِ القيامةِ، ومِن إخبارِهِ بالغيوبِ الصادقة،

 وعدَمِ كذبِ خبَرٍ منها، وغيرِ ذلك مِن الأدلَّة.

خاتمة الجواب

لا عجَبَ أن يتواصى أحبارُ اليهودِ، ورُهْبانُ النصارى: بإخفاءِ المبشِّراتِ الصريحةِ بالنبيِّ ﷺ، وأن يتَّفِقوا على مَحْوِ اسمِهِ مِن كُتُبِهم؛ 

بسببِ الحقدِ على نبيِّ الإسلامِ وعَدَاوتِهم له؛ لأن مَن تجرَّأ على تحريفِ موضعٍ واحدٍ مِن كتابِ الله، ليس بعيدًا عليه أن يحرِّفَ غيرَهُ مِن المواضع،

وقد صدَقَ اللهُ تعالى حين قال:

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

[البقرة: 146].

  لكنَّ المسلِمَ مكتفٍ بصحَّةِ القرآنِ ودَلالتِهِ على نبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ، وما ورَدَ بعد ذلك عن أهلِ الكتابِ، فهو دليلٌ إضافيٌّ إن ثبَتَ، ولا يضُرُّ إن لم يثبُتْ.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يتضمَّنُ السؤالُ التشكيكَ في البِشاراتِ التي بشَّرتْ بنبوَّةِ نبيِّنا محمَّدٍ في كُتُبِ أهلِ الكتابِ اليهودِ والنصارى.

مختصَرُ الإجابة:

على الرغمِ مما جرَى على الكُتُبِ المقدَّسةِ مِن تحريفٍ، إلا أنها لم تَخْلُ مِن جملةِ المبشِّراتِ به ﷺ، فإذا عُلِمَ تحريفُ أهلِ الكتابِ لكتابِهم - كما أثبَتَتْهُ الأدلَّةُ - وعُلِمَ عدواةُ كثيرٍ مِن أهلِها،

 وحسَدُهم للنبيِّ ﷺ -: كان في ذلك إشارةٌ إلى أن ما وصَلَ إلينا طرَفٌ مما حُرِّفَ وكُتِمَ وحُذِف.

وفوق ذلك: فهناك الكثيرُ مِن الأدلَّةِ التي تستنِدُ إلى آياتٍ قرآنيَّةٍ، ورواياتٍ تاريخيَّةٍ صحيحةٍ، تَرْويها كُتُبُ الحديثِ الصحيحة، 

وكُتُبُ السِّيرة، ودواوينُ التاريخ؛ كلُّها تؤكِّدُ البِشاراتِ الصريحةَ بنبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ في التوراةِ والإنجيل.

وهذا فضلًا عن ثبوتِ نبوَّةِ النبيِّ ﷺ بالأدلَّةِ القطعيَّةِ مِن القرآنِ الكريمِ، وما فيه مِن الدلائلِ العقليَّةِ والنقليَّة، ومِن كمالِ الشريعةِ نفسِها،

 ومِن استحالةِ كونِها مِن بشَرٍ، ومِن المعجِزاتِ القائمةِ في عهدِ النبيِّ ﷺ، وما كان منها قائمًا إلى يومِ القيامةِ، ومِن إخبارِهِ بالغيوبِ الصادقة،

 وعدَمِ كذبِ خبَرٍ منها، وغيرِ ذلك مِن الأدلَّة.

الجواب التفصيلي

نبوَّةُ النبيِّ ﷺ ثابتةٌ بالأدلَّةِ القطعيَّةِ مِن القرآنِ الكريمِ، وما فيه مِن الدلائلِ العقليَّةِ والنقليَّة، ومِن كمالِ الشريعةِ نفسِها، ومِن استحالةِ كونِها مِن بشَرٍ،

 ومِن المعجِزاتِ القائمةِ في عهدِ النبيِّ ﷺ، وما كان منها قائمًا إلى يومِ القيامةِ، ومِن إخبارِهِ بالغيوبِ الصادقة، وعدَمِ كذبِ خبَرٍ منها، وغيرِ ذلك مِن الأدلَّة.

ومنها أيضًا: البِشاراتُ بنبوَّتِهِ ﷺ في كُتُبِ أهلِ الكتابِ السابِقين، وفي ذلك أدلَّةٌ وأمثلةٌ، بعضُها ثابتٌ قطعًا، وبعضُها دون ذلك على درَجات:

أوَّلًا: آياتُ القرآنِ الكريمِ تُثبِتُ البِشاراتِ بمحمَّدٍ ﷺ في التوراةِ والإنجيل:

فبالنظَرِ لمجمَلِ الرواياتِ التاريخيَّةِ الثابتة، ولعمومِ آياتِ القرآنِ المؤيِّدةِ لفَحْواها: يتأكَّدُ لدينا ما كان مِن بِشاراتٍ صريحةٍ بنبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ في التوراةِ والإنجيل.

ورَغْمَ أن اليهودَ والنصارى يكذِّبون بالقرآنِ الكريم؛ غيرَ أن هذا يُثبِتُ الأمرَ عند المسلِمين، بل عند كلِّ عاقلٍ يَعلَمُ أن الإسلامَ حقٌّ، ولو لم يَتَّبِعْهُ لهوًى في نفسِه.

ثم هو يساعِدُنا على تتبُّعِ البحثِ عن ذلك في التوراةِ والإنجيل؛ لأن إيمانَنا بوجودِ ذلك فيهما هو دافعٌ وإلهامٌ للاستمرارِ في البحث.

وأوَّلُ ما يطالِعُنا في هذا الصدَدِ:

قولُهُ تعالى:

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}

[الأعراف: 157].

ومنه:

قولُهُ تعالى:

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}

[الصف: 6].

ومنه:

قولُهُ تعالى:

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}

[القصص: 52- 53].

وبالجملةِ نقولُ: إن هذه الآياتِ وغيرَها أصدَقُ دليلٍ على ما جاء في كُتُبِ النصارى مِن البِشاراتِ العظيمةِ ببَعْثةِ النبيِّ ﷺ، 

ومِن المسلَّمِ به: أن القرآنَ الكريمَ بما نَصَّ عليه مِن آياتٍ في هذا الصدَدِ - محفوظةٍ مستوثَقٍ مِن صِدْقِها؛

 بمقتضى تعهُّدِ اللهِ بحفظِهِ -: يُثبِتُ ما جاء في كُتُبِهم مِن بِشاراتِ نبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ.

ثانيًا: أدلَّةٌ مِن السنَّةِ النبويَّةِ والسِّيرة:

فالمتأمِّلُ في سِيرةِ النبيِّ ﷺ، وكُتُبِ الحديثِ، يجدُ الكثيرَ مِن الأدلَّةِ على تواطُؤِ اليهودِ والنصارى على محوِ اسمِ النبيِّ ﷺ مِن كُتُبِهم، وكذلك إخفاءُ البِشاراتِ الصريحةِ بمَبعَثِهِ ﷺ،

 والتي اعتمَدَ عليها هؤلاءِ اليهودُ والنصارى في التبشيرِ به ﷺ، وتتبُّعِ أخبارِهِ وعلاماتِه، والهجرةِ إلى بلادِهِ التي سيَظهَرُ فيها، وهي المدينةُ المنوَّرةُ،

 وتَرْكِهم بلادَ الشامِ بخيراتِها إلى بلادِ شِبْهِ الجزيرةِ العربيَّةِ المُجْدِبة؛ كلُّ هذا يدُلُّ - بما لا يدَعُ مجالًا للشكِّ - على كثرةِ المبشِّراتِ بمحمَّدٍ ﷺ ووضوحِها.

وقد أخبَرَ النبيُّ ﷺ اليهودَ والنصارى مشافَهةً: أنه مذكورٌ عندهم، وأنهم وُعِدوا به، وأن الأنبياءَ بشَّرتْ به، واحتَجَّ عليهم بذلك، ولو كان هذا الأمرُ مِن البِشاراتِ به غيرَ موجودٍ، لكذَّبوه، ونفَروا مِن اتِّباعِه، وشَهِدوا على دعوتِهِ بالبُطْلان؛ وهذا ما لم يكن.

وهناك الكثيرُ مِن الدلائلِ في «السِّيرةِ النبويَّةِ» تُشيرُ إلى وجودِ هذه المبشِّراتِ بالنبيِّ ﷺ في التوراةِ والإنجيل، والتي حرَّفها اليهودُ والنصارى بعد ذلك، وتواصَوْا بكتمانِها، نذكُرُ منها ما يأتي:

- عن عطاءِ بنِ يَسَارٍ، قال: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ:

«أَجَلْ، وَاللهِ، إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]

، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا»؛

رواه البخاريُّ (2125).

-

وعن عَوْفِ بنِ مالكٍ الأَشْجَعيِّ رضيَ اللهُ عنه، قال: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا كَنِيسَةَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ، فَكَرِهُوا دُخُولَنَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَرُونِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، يَشْهَدُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، يُحْبِطِ اللهُ عَنْ كُلِّ يَهُودِيٍّ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ الْغَضَبَ، الَّذِي غَضِبَ عَلَيْهِ»، قَالَ: فَأَسْكَتُوا، مَا أَجَابَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَلَّثَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: «أَبَيْتُمْ؟! فَوَاللهِ، إِنِّي لَأَنَا الْحَاشِرُ، وَأَنَا الْعَاقِبُ، وَأَنَا النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى، آمَنْتُمْ أَوْ كَذَّبْتُمْ»، ثُمَّ انْصَرَفَ وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كِدْنَا أَنْ نَخْرُجَ، نَادَى رَجُلٌ مِنْ خَلْفِنَا: كَمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَأَقْبَلَ، فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: أَيَّ رَجُلٍ تَعْلَمُونَنِي فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ؟ قَالُوا: وَاللهِ، مَا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ مِنْكَ، وَلَا أَفْقَهُ مِنْكَ، وَلَا مِنْ أَبِيكَ قَبْلَكَ، وَلَا مِنْ جَدِّكَ قَبْلَ أَبِيكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ لَهُ بِاللهِ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ، الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ، قَالُوا: كَذَبْتَ، ثُمَّ رَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَقَالُوا فِيهِ شَرًّا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَذَبْتُمْ؛ لَنْ يُقْبَلَ قَوْلُكُمْ، أَمَّا آنِفًا، فَتُثْنُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا أَثْنَيْتُمْ، وَلَمَّا آمَنَ، أَكْذَبْتُمُوهُ، وَقُلْتُمْ فِيهِ مَا قُلْتُمْ، فَلَنْ يُقْبَلَ قَوْلُكُمْ»، قَالَ: فَخَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ: رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَنَا، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]»؛

رواه أحمد (23984).

- وعندنا قصَّةُ إسلامِ سَلْمانَ الفارسيِّ خيرُ دليلٍ على معرفةِ رُهْبانِ النصارى بصفاتِ النبيِّ ﷺ، وبلادِهِ، ووقتِ مَبعَثِه؛

فقد قال الراهبُ النصرانيُّ الذي كان يلازِمُهُ سَلْمانُ الفارسيُّ قبل موتِهِ:

«أَيْ بُنَيَّ، وَاللهِ، مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ، هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، فَافْعَلْ»؛

رواه أحمدُ (39/ 144 رقم 23737).

ولا يُمكِنُ لمِثلِ هذا الراهبِ النَّصْرانيِّ أن يقولَ ما قاله إلا مِن خلالِ ما عَلِمَهُ بما في الإنجيلِ مِن بِشاراتٍ بالنبيِّ ﷺ وصفاتِه.

- ودليلٌ آخَرُ على معرفةِ النصارى للنبيِّ ﷺ مِن خلالِ الإنجيلِ: ما قاله النَّجَاشيُّ للمهاجِرين المسلِمين، بعد أن أخبَروهُ قولَهم في عيسى بنِ مَريَمَ؛ كما يَرْوي

عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه، قال:

«فَرَفَعَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ، وَالْقِسِّيسِينَ، وَالرُّهْبَانِ، وَاللهِ مَا يَزِيدُونَ عَلَى الَّذِي نَقُولُ فِيهِ مَا يَسْوَى هَذَا، مَرْحَبًا بِكُمْ، وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ؛ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَإِنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، انْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاللهِ، لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ، لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ، وَأُوَضِّئُهُ»؛

رواه أحمد (7/ 408 رقم 4400).

فهذه بعضٌ مِن الدلائلِ على كثرةِ البِشاراتِ بالنبيِّ ﷺ في التوراةِ والإنجيلِ واضحةً لم تَصِلْ إليها يدُ التحريف؛ ومِن ثَمَّ فلا يَحِقُّ لأحدٍ أن يشكِّكَ في اعتقادِ المسلِمين بتحريفِ التوراةِ والإنجيل، 

ومحوِ اسمِهِ ﷺ مِن هذه الكُتُب؛ لأن الشواهدَ التاريخيَّةَ على ذلك كثيرةٌ جدًّا، وقد تضمَّنَتْها كتُبُ السنَّةِ والحديث، وكتُبُ التاريخ، وصدَّق كلَّ ذلك القرآنُ الكريم.

ثالثًا: على الرغمِ مِن تحريفِ الكتابِ المقدَّسِ، فإنه لا يخلو مِن البِشاراتِ برسولِ اللهِ محمَّدٍ ﷺ:

فقد تعدَّدتِ البِشاراتُ برسولِ الإسلامِ في التوراةِ وملحَقاتِها، ولكنَّ اليهودَ أزالوا عنها كلَّ معنًى صريحٍ، وصيَّروها نصوصًا احتماليَّةً تَسمَحُ لهم بصرفِها عنه ﷺ، ومع هذا: فقد بَقِيَتْ بعد تعديلِها وتحريفِها قويَّةَ الدَّلالةِ على معناها «الأصليِّ»؛ مِن حَمْلِها على رسولِ اللهِ ﷺ؛ لأن حَمْلَها على غيرِهِ متعذِّرٌ، أو متعسِّرٌ، أو مُحالٌ.

فهي أشبَهُ ما تكونُ برسالةٍ مُغلَقةٍ مُحِيَ عنوانُها، ولكنَّ صاحبَ الرسالةِ قادرٌ - بعد فضِّها - أن يُثبِتَ اختصاصَها به ﷺ؛ لأن الكلامَ الداخليَّ الذي فيها يَقطَعُ بأنها له دون سواه؛ لما فيها مِن قرائنَ وبيِّناتٍ واضحةٍ، نَعرِضُ - فيما يأتي - بعضًا منها:

1- «وهذه هي البرَكةُ التي بارَكَ بها موسى - رجُلُ اللهِ - بني إسرائيلَ قبلَ موتِهِ، فقال: جاء الربُّ مِن سَيْناءَ، وأشرَقَ لهم مِن سَعِيرَ، وتلألَأَ مِن جبَلِ فَارَانَ». «سِفْرُ التثنية»: (33: 1، 2).

في هذا النصِّ إشارةٌ إلى ثلاثِ نبوَّاتٍ:

الأُولى: نبوَّةُ موسى عليه السلامُ التي تلقَّاها على جبَلِ سَيْناءَ.

الثانيةُ: نبوَّةُ عيسى عليه السلامُ، وسَاعِيرُ: هي قريةٌ مجاوِرةٌ لبيتِ المَقدِس، حيثُ تلقَّى عيسى عليه السلامُ أمرَ رسالتِه.

الثالثةُ: نبوَّةُ محمَّدٍ ^، وجبَلُ فَارَانَ: هو المكانُ الذي تلقَّى فيه ﷺ أوَّلَ ما نزَلَ عليه مِن الوحي، وفارَانُ: هي مكَّةُ المكرَّمةُ مَولِدُ محمَّدٍ ﷺ، ومَنشَؤُهُ، ومَبعَثُه.

2- «قال لي الربُّ: قد أحسَنوا فيما تكلَّموا؛ أُقِيمُ لهم نبيًّا مِن وسَطِ إخوتِهم مِثلَك، وأَجعَلُ كلامي في فمِه، فيكلِّمُهم بكلِّ ما أُوصِيهِ به، ويكونُ أن الإنسانَ الذي لا يَسمَعُ لكلامي الذي يتكلَّمُ به باسمي أنا أطالِبُه» «سِفْرُ التثنية»: (18: 17).

وقولُهُ: «مِن وسَطِ إخوتِهم»: ينطبِقُ على النبيِّ ﷺ، و«إخوتُهم»: هم أبناءُ إسماعيلَ، وهو أخو إسحاقَ، ولشواهدَ أخرى على ذلك.

3- «الفارِقْلِيطُ لا يُجِيئُكم ما لم أَذهَبْ، وإذا جاء، وبَّخ العالَمَ على الخطيئةِ، ولا يقولُ مِن تِلْقاءِ نفسِهِ، ولكنه مما يَسمَعُ به، ويكلِّمُكم ويسُوسُكم بالحقِّ، ويُخبِرُكم بالحوادثِ والغيوب». «إنجيل يُوحَنَّا» (الإصحاح: 16: 25).

واختلَفَ النصارى في تفسيرِ كلمةِ: «الفارِقْلِيطِ»، أو «بِرِكْلِيتُوس» (PERIQLYTOS)، حسَبَ الصيغةِ المنطوقة؛ فمنهم: مَن فسَّرها بمعني المعزِّي، أو المحامي والكثيرِ الحمد.

وقد ذكَرَ الأستاذُ عبدُ الوهَّابِ النجَّارُ: أنه سأل المستشرِقَ الدكتورَ (كارلو نِلِّينو) المستشرقَ الإيطاليَّ: ما معنى (بِيرِيكْلِتُوس)؟ فأجابه بقولِهِ: إن القُسَسَ يقولون: إن هذه الكلمةَ معناها «المعزِّي»، فقال له: إني أسألُ الدكتورَ (كارلو نِلِّينُو) الحاصلَ على الدكتوراه في آدابِ اللغةِ اليونانيَّةِ القديمةِ، ولستُ أسأل قِسِّيسًا، فقال: «إن معناها: الذي له حَمْدٌ كثير».

وهناك نصوصٌ كثيرةٌ تتفاوَتُ في الظهور، تُوجَدُ في كُتُبٍ ومقالاتٍ معنيَّةٍ بهذا الأمر.

خاتمة الجواب

لا عجَبَ أن يتواصى أحبارُ اليهودِ، ورُهْبانُ النصارى: بإخفاءِ المبشِّراتِ الصريحةِ بالنبيِّ ﷺ، وأن يتَّفِقوا على مَحْوِ اسمِهِ مِن كُتُبِهم؛ 

بسببِ الحقدِ على نبيِّ الإسلامِ وعَدَاوتِهم له؛ لأن مَن تجرَّأ على تحريفِ موضعٍ واحدٍ مِن كتابِ الله، ليس بعيدًا عليه أن يحرِّفَ غيرَهُ مِن المواضع،

وقد صدَقَ اللهُ تعالى حين قال:

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

[البقرة: 146].

  لكنَّ المسلِمَ مكتفٍ بصحَّةِ القرآنِ ودَلالتِهِ على نبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ، وما ورَدَ بعد ذلك عن أهلِ الكتابِ، فهو دليلٌ إضافيٌّ إن ثبَتَ، ولا يضُرُّ إن لم يثبُتْ.