نص السؤال

ادعاء وقوع إبراهيم - عليه السلام - في الشرك

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

ادعاء وقوع إبراهيم - عليه السلام - في الشرك(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - عبد الكواكب والقمر والشمس، ويستدلون على ذلك

بقوله سبحانه وتعالى:

(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78)

(الأنعام).[1]

كما يستدلون على وقوعه في الشرك أيضا بأنه نظر في النجوم ليتعرف على حاله وما يحدث له، وذلك

لقوله سبحانه وتعالى:

(فنظر نظرة في النجوم (88) فقال إني سقيم (89)

(الصافات)

ويتساءلون: كيف يغفر الله هذا الشرك،

مع أنه سبحانه قال:

(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما)

(النساء:48)

ويرمون من وراء ذلك الادعاء إلى الطعن في عصمة سيدنا إبراهيم عليه السلام.

وجوه إبطال الشبهة:

1) قول إبراهيم عليه السلام: (هذا ربي) على كل من: الشمس، والقمر، والكواكب من باب النظر والاستدلال ومحاجة قومه، وليس من باب الإقرار بعبوديتها. وقيل: إنه كان مناظر، ولم يكن ناظرا.

2) لم يقع شرك من إبراهيم عليه السلام، وإنما استخدم ما يسمى في الجدل بـ "مجاراة الخصم" للوصول إلى الإقناع بالصواب.

3) نظر إبراهيم - عليه السلام - في السماء كان للتفكر والتدبر وليس اعتقادا منه في تأثير أوضاع النجوم في حاله وما يحدث له؛ إذ كيف ينهاهم عن الشرك ثم يقع فيه؟!

التفصيل:

أولا. قول إبراهيم عليه السلام: (هـذا ربي) على كل من: الشمس، والقمر، والكواكب من باب النظر والاستدلال ومحاجة قومه، وليس من باب الإقرار بعبوديتها:

إن الله تعالى اصطفى سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وآتاه رشده[2] قبل أن يبعثه فكان حنيفا مسلما مخلصا لله رب العالمين، وبدأ دعوته مع قومه بالحكمة والموعظة الحسنة فبين لهم مدى الضلال والفساد العقلي، حين يعبد الإنسان أصناما لا تضر ولا تنفع وأن المستحق للعبادة وحده هو الله الخالق المتفضل عليهم بسائر النعم، واتخذ معهم طرقا كثيرة في سبيل إقناعهم بالعقل والحجة والمنطق والبرهان، وكان من بين هذه الطرق تلك المحاجة التي استخدم فيها أسلوبا من أساليب المناظرة في الاستدلال على قوله وإلزامهم الحجة.

ويبدو أن إبراهيم - عليه السلام - كان سائرا مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب، وكان قوم إبراهيم - عليه السلام - من الصابئة الذين يعبدون الكواكب ويصورون لها أصناما وكانت تلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم عليه السلام، فرأى كوكبا ظاهرا بإشراقه عن سائر الكواكب فأراد أن ينتهز تلك الفرصة السانحة في الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام أمام قومه بالدليل العلمي المنطقي من الواقع فقال على سبيل الفرض جريا على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم: )هذا ربي(، فأظهر أنه موافق لهم ليهشوا[3] إلى ذلك ثم يكر عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلب الحق، ولا يريبك في هذا صدور ما ظاهره كفر على لسانه عليه السلام؛ لأنه لما رأى أن ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم، ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحق وهو لا يعتقده، ولا يزيد قوله هذا قومه كفرا، كالذي يكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإنه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من الناس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى، وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي[4].

والدليل على ذلك أن الله تعالى وصفه قبل هذه الآية مباشرة

بقوله:

(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين)

(الأنعام:75)

والموقن هو العالم علما لا يقبل الشك، والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته، وقوله: )نري إبراهيم( فهذه الرؤية الخاصة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب في إبكاته [5] لقومه ملجئ إياهم للاعتراف بفساد معتقدهم هي فرع من تلك الإرادة التي عمت ملكوت السموات والأرض[6].

فإبراهيم لم يقل ذلك إخبارا، وإنما قاله فرضا واستدراجا لقومه ليظهر لهم الحقيقة، حتى أوصلهم لفساد هذا الفرض

قال:

(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين)

(الأنعام:76)

 ويفصل د. الحديدي القول في هذه القضية مختارا هذا الرأي من آراء العلماء لأدلة منها[7]:

الأول: أن القول بربويية الكواكب كفر، والكفر غير جائز على الأنبياء بالإجماع. قال الخطيب الشربيني: لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو له موحد، وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء.

الثاني: أن الله تعالى أخبر عنه قبل هذه الواقعة

أنه قال لأبيه آزر:

(أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين)

(الأنعام:74)

 فهذا يدل على أن إبراهيم - عليه السلام - قد عرف ربه قبل هذه الواقعة.

الثالث: أنه دعا أباه إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام برفق،

قال تعالى:

(إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45)

(مريم)

وفي هذه الواقعة دعاه إلى هذا بالكلام الحسن، والرفق يقدم عادة على العنف؛ فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد مرارا، وهو لا يدعو غيره إلى الله إلا إذا كان عارفا به، فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف ربه بمدة.

الرابع: أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض، وقد أكسبته تلك الرؤية يقينا؛ قال تعالى: )وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)( (الأنعام)، أي: ليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين، ثم قال تعالى: )فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76)( (الأنعام)، والفاء تقتضي الترتيب؛ فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن صار إبراهيم - عليه السلام - من الموقنين العارفين بربهم.

الخامس: النص في أكثر من موضع في القرآن الكريم على أن هذه المحاجة كانت مع قومه، وذلك يتضح من قوله لهم: )يا قوم إني بريء مما تشركون (78)( (الأنعام)، وفي قوله تعالى: )وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون (80)( (الأنعام)، وفي قوله تعالى: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام)، فهذا يدل على أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا عليه من الشرك، وليس متأملا أو متحيرا.

السادس: إخبار الله تعالى عنه بأنه آتاه رشده من قبل، وكان عالما باستحقاقه الرسالة لتجنبه الشرك وسوء الفعال([8])، وقبيح الصفات، قال تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54)( (الأنبياء) [9]، وقال عنه أيضا:(إذ جاء ربه بقلب سليم (84) (الصافات) [10]، أي: لم يشرك قط - كما قال القرطبي.

وقال تعالى عنه:

(إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123)

(النحل)

فهذه الأدلة على أن إبراهيم - عليه السلام - كان في هذا المقام مناظرا قومه، ومعنى هذا أن قول الخليل عن كل من الكواكب والقمر والشمس: "هذا ربي" ليس عن اعتقاد؛ لأنه من قبيل استدراج الخصم بإظهار موافقته؛ ليسمع الحجة، ويتم إلزامه؛ فإنك عندما ترى الخصم عنيدا لا يسمع لقولك ودليلك لو صرحت بمقصودك يكون من الأوفق - لتصل إلى هدفك - أن تتكلم بما يوهم في الظاهر أنك توافقه على مذهبه - وأنت تخالفه باطنا - لكنك فعلت هذا استدراجا له؛ حتى يأنس إليك، ويستمع لقولك، وحجتك التي تتمكن بها من إبطال مذهبه، وقول الخليل عليه السلام: "هذا ربي" من هذا القبيل، فإنه أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب، إلا أنه كان قد عرف - من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الحق - أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا إلى ما يقول؛ فمال إلى طريقة تقبل بهم إليه، وعمد إلى أسلوب يستدرجهم إلى استماع الحجة، وذلك بأن يتكلم بما يوهم أنه موافق لهم وعلى منهجهم - مع أن قلبه مطمئن بالإيمان - ومقصوده من ذلك أن يتمكن من إقامة الدليل على إبطال معتقدهم.

ومعلوم أثر أسلوب الاستدراج في انقياد الخصم، وتعريفه خطأه، وقوم إبراهيم - عليه السلام - على خطأ فاحش، وضلال مبين، ولا يقبلون المصارحة بخطئهم وضلالهم؛ فلا مناص من اللجوء إلى أسلوب الاستدراج؛ فإنه الأسلوب الأمثل - حينئذ - في تسكين الخصم، وانتزاع عناده، حتى إذا سلس[11] قياده، وأنس إلى من يحاجه، واستمع إلى قوله أمكن إقامة الدليل على بطلان مذهبه ومعتقده؛ فيتم المراد من إبطال باطله، وإظهار الحق الذي يلزمه.

ومحاجة الخليل - عليه السلام - لقومه المعاندين لا تستغني عن هذا الأسلوب، ولا يجدي معهم غيره، وكما قال العلامة أبو السعود: لو صدع إبراهيم - عليه السلام - بالحق من أول الأمر لتمادوا في المكابرة، والعناد، ولـجوا في طغيانهم يعمهون[12] [13].

ثانيا. لم يقع من إبراهيم شرك، وإنما هو مجاراة للخصم [14] للاستدلال عليه:

فلو أن إبراهيم - عليه السلام - بادرهم بالنقد والتقريع والتأنيب لما اهتموا به ولا سمعوا له، بل أعرضوا عنه، لكن إبراهيم - عليه السلام - استخدم ما يسمى في الجدل بـ "مجاراة الخصم"؛ ليستميل[15] آذانهم ويأخذ قلوبهم معه، وليعلموا أنه غير متحامل عليهم من أول الأمر فيأخذ بأيديهم معه، فكأنه قال: سلمنا - جدلا - أنه ربكم، ولكنه يأفل ويغيب عنكم فقوله: )لا أحب الآفلين (76)( (الأنعام) يعني أنه غير متعصب ضدهم، وهكذا يثبت لهم أن كل كوكب - حتى الشمس - مصيره إلى أفول، فكأنه قد وصل بهم بالمنطق إلى أن عبادة الكواكب لا تصلح، واستخدم المنطق الذي يحقق به نيته أن ينكر هذه الربوبية ويستأنس به آذان من يسمعه[16].

والقرآن يؤكد حنيفية إبراهيم - عليه السلام - وإسلامه، قال تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران)، والحنيف: هو المائل عن كل باطل إلى الحق. والله - عزوجل - يخبر عن نبيه إبراهيم - عليه السلام - أنه آتاه رشده من قبل أي: من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال عزوجل: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام). والمقصود هنا: أن الله - عزوجل - أخبر أنه آتى إبراهيم رشده من قبل، أي: من قبل ذلك وقال عزوجل: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51)( (الأنبياء)؛ أي: أنه أهله لذلك.

فإذا كان الله - عزوجل - آتاه رشده منذ الصغر، وأهله من بواكير حياته لحمل الرسالة، وإقامة الحجة على بطلان الشرك بكل صوره، فهل يتفق مع ذلك وصفه بالشرك، وهو الذي أوتي الحجة والرشد على بطلان الشرك منذ الصغر؟!

والله - عزوجل - ذكر الآيات التي استدلوا بها على شرك إبراهيم - عليه السلام - خطأ، وذكر قبلها وبعدها ما يبرئ ساحة إبراهيم - عليه السلام - من الشرك، ويجعلنا نجزم أنه أراد بقول: "هذا ربي" الاستدراج للخصم لإبطال زعمه الفاسد.

فقبل هذه الآيات يقول الله:

(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)

(الأنعام)

وبعد هذه الآيات يقول تعالى:

(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم)

(الأنعام:83)

 فكيف ينكر إبراهيم على أبيه الشرك ويقع فيه[17]؟

ثالثا. نظر إبراهيم - عليه السلام - في السماء للتفكر والتدبر ولم يكن اعتقادا منه بتأثير أوضاع النجوم في حاله وما يحدث له؛ إذ كيف ينهاهم عن الشرك ثم يقع فيه؟!

إن نظر إبراهيم - عليه السلام - في النجوم لم يكن ليتعرف حاله من تأثيرها وإنما للتفكر والتدبر فيها، وهذا طاعة لله تعالى،

قال سبحانه وتعالى:

(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)

(يونس: 101)

بالإضافة إلى أنه في هذا الوقت خاصة كان ينظر في النجوم تفكرا فيما يلهم به.

وفيما يعتذر به عن الخروج معهم، قال النسفي: نظر في النجوم راميا بصره إلى السماء متفكرا في نفسه كيف يحتال.

وقد ذكر بعضهم أن إبراهيم - عليه السلام - نظر في النجوم ليوهم قومه بهذا النظر - بطريق التعريض - أنه ينظر فيها ليتعرف حاله من تأثيرها على حسب زعمهم واعتقادهم بتأثير أوضاع النجوم في أحوالهم، وما يحدث لهم؛ لكي يتوصل بذلك إلى مقصده من الانفراد بالأصنام وتكسيرها، وهذا وإن كان يبدو مقبولا لتنزيه إبراهيم عن الشرك ولأن المعاريض[18] هنا جائزة وفيها مندوحة عن الكذب من أجل إحقاق الحق، فإن الحق الذي تؤيده أدلة القرآن من الأمر بالتفكر في السموات والأرض وجعله من سمات أولى الألباب النابهين، وكذلك ما هو معلوم من سيرة أبي الأنبياء - عليه السلام - في القرآن الكريم وتفكره في ملكوت السموات والأرض، كل ذلك يدل على أنه نظر في النجوم متفكرا كيف يحتال لا أن يقع فيها؟!

وهذا ما يرجحه محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره وينقل في تأييده كلام المفسرين والعلماء، فقد قال ابن كثير في تفسيره: قال قتادة: والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم، يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكرا كيف يلهيهم بها. وفي تفسير القرطبي عن الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في شيء يدبره؛ لأن المتفكر يرفع بصره إلى السماء لئلا يشتغل بالمرئيات فيخلو بفكره للتدبر فلا يكون المراد أنه نظر في النجوم وهي طالعة ليلا بل المراد أنه نظر في السماء التي هي قرار النجوم وذكر النجوم جرى على المعروف من كلامهم.

وجنح الحسن إلى تأويل معنى النجوم بالمصدر، أي أنه نظر فيما نجم له من الرأي، يعني أن النجوم مصدر نجم بمعنى ظهر.

وعن ثعلب: نظر هنا، أي: تفكر في كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ليدبر حجة. والمعنى: ففكر في حيلة يخلو بها بأصنامهم، فقال: )فقال إني سقيم (89)( (الصافات) ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريبهم[19] بقاؤه حول أصنامهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل[20]. فلم ينطق إبراهيم بأن النجوم دلته على أنه سقيم[21] ولكنه لما جعل قوله: "إني سقيم" مقارنا لنظره في النجوم ربما توهم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم.

ويقول الطاهر ابن عاشور أيضا: وما وقع في التفاسير في معنى نظره في النجوم وفي تعيين سقمه المزعوم كلام لا يستقيم لدى أصحاب العقول والأفهام، وليس في الآية ما يدل على أن للنجوم دلالة على حدوث شيء من حوادث الأمم ولا الأشخاص ومن يزعم ذلك فقد ضل دينا، واختل نظرا وتخمينا، وقد دونوا كذبا كثيرا في ذلك وسموه علم أحكام الفلك أو النجوم[22].

وبهذا يتبين أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - لم يقع في الشرك سواء عند محاجة قومه أو عندما نظر في النجوم وكيف يشرك بالله وهو ينهى أباه وقومه عن الشرك؟!

الخلاصة:

·إبراهيم - عليه السلام - لم يقر عبادة الأصنام، وإلا فلماذا كان ينكر على أبيه وقومه عبادتها: )إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52)( (الأنبياء)؟

·استخدم إبراهيم أسلوب الاستدراج والاستدلال في محاجه قومه؛ ليظهر بطلان معتقداتهم وهو ما يسمى في علم الجدل بـ "مجاراة الخصم" فأظهر أنه يوافقهم لينصتوا ثم كر عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلبا للحق: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام).

·إبراهيم - عليه السلام - حينما نظر في النجوم كان نظره للتفكر فيما يحتال به على قومه أو كيف يدبر لهم حجة يلهيهم بها عنه حتى يتولوا عنه ويخلو هو إلى معبوادتهم فيبطلها بالفعل تحطيما، ولم يكن نظره في النجوم اعتقادا منه بتأثيرها في حاله؛ إذ إن الاعتقاد بتأثير أوضاع النجوم أو أدلتها على حدوث شيء من حوادث الأمم والأشخاص كفر وشرك وهو معتقد قومه الذي يحاربه ويحاجهم من أجلهم؛ فكيف يقع فيه ولو على سبيل الخطأ وهو ينهاهم عنه؟

المراجع

  1. (*) موقع المتنصرين. mutenusserin.net [1].
  2.  جن: أظلم. 
  3.  الرشد: تمام العقل. 
  4.  يهش: ينشرح صدره. 
  5.  التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج7، ص219، 220. 
  6.  إبكاته: تقريعه وتوبيخه. 
  7. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص317.
  8.  عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص270: 276. 
  9. سوء الفعال: الأفعال السيئة. 
  10. عاكفون: مقبلون على عبادتها. 
  11.  قلب سليم: خال من العيوب, خالص من الذنوب.

الجواب التفصيلي

ادعاء وقوع إبراهيم - عليه السلام - في الشرك(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - عبد الكواكب والقمر والشمس، ويستدلون على ذلك

بقوله سبحانه وتعالى:

(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78)

(الأنعام).[1]

كما يستدلون على وقوعه في الشرك أيضا بأنه نظر في النجوم ليتعرف على حاله وما يحدث له، وذلك

لقوله سبحانه وتعالى:

(فنظر نظرة في النجوم (88) فقال إني سقيم (89)

(الصافات)

ويتساءلون: كيف يغفر الله هذا الشرك،

مع أنه سبحانه قال:

(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما)

(النساء:48)

ويرمون من وراء ذلك الادعاء إلى الطعن في عصمة سيدنا إبراهيم عليه السلام.

وجوه إبطال الشبهة:

1) قول إبراهيم عليه السلام: (هذا ربي) على كل من: الشمس، والقمر، والكواكب من باب النظر والاستدلال ومحاجة قومه، وليس من باب الإقرار بعبوديتها. وقيل: إنه كان مناظر، ولم يكن ناظرا.

2) لم يقع شرك من إبراهيم عليه السلام، وإنما استخدم ما يسمى في الجدل بـ "مجاراة الخصم" للوصول إلى الإقناع بالصواب.

3) نظر إبراهيم - عليه السلام - في السماء كان للتفكر والتدبر وليس اعتقادا منه في تأثير أوضاع النجوم في حاله وما يحدث له؛ إذ كيف ينهاهم عن الشرك ثم يقع فيه؟!

التفصيل:

أولا. قول إبراهيم عليه السلام: (هـذا ربي) على كل من: الشمس، والقمر، والكواكب من باب النظر والاستدلال ومحاجة قومه، وليس من باب الإقرار بعبوديتها:

إن الله تعالى اصطفى سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وآتاه رشده[2] قبل أن يبعثه فكان حنيفا مسلما مخلصا لله رب العالمين، وبدأ دعوته مع قومه بالحكمة والموعظة الحسنة فبين لهم مدى الضلال والفساد العقلي، حين يعبد الإنسان أصناما لا تضر ولا تنفع وأن المستحق للعبادة وحده هو الله الخالق المتفضل عليهم بسائر النعم، واتخذ معهم طرقا كثيرة في سبيل إقناعهم بالعقل والحجة والمنطق والبرهان، وكان من بين هذه الطرق تلك المحاجة التي استخدم فيها أسلوبا من أساليب المناظرة في الاستدلال على قوله وإلزامهم الحجة.

ويبدو أن إبراهيم - عليه السلام - كان سائرا مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب، وكان قوم إبراهيم - عليه السلام - من الصابئة الذين يعبدون الكواكب ويصورون لها أصناما وكانت تلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم عليه السلام، فرأى كوكبا ظاهرا بإشراقه عن سائر الكواكب فأراد أن ينتهز تلك الفرصة السانحة في الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام أمام قومه بالدليل العلمي المنطقي من الواقع فقال على سبيل الفرض جريا على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم: )هذا ربي(، فأظهر أنه موافق لهم ليهشوا[3] إلى ذلك ثم يكر عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلب الحق، ولا يريبك في هذا صدور ما ظاهره كفر على لسانه عليه السلام؛ لأنه لما رأى أن ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم، ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحق وهو لا يعتقده، ولا يزيد قوله هذا قومه كفرا، كالذي يكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإنه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من الناس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى، وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي[4].

والدليل على ذلك أن الله تعالى وصفه قبل هذه الآية مباشرة

بقوله:

(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين)

(الأنعام:75)

والموقن هو العالم علما لا يقبل الشك، والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته، وقوله: )نري إبراهيم( فهذه الرؤية الخاصة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب في إبكاته [5] لقومه ملجئ إياهم للاعتراف بفساد معتقدهم هي فرع من تلك الإرادة التي عمت ملكوت السموات والأرض[6].

فإبراهيم لم يقل ذلك إخبارا، وإنما قاله فرضا واستدراجا لقومه ليظهر لهم الحقيقة، حتى أوصلهم لفساد هذا الفرض

قال:

(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين)

(الأنعام:76)

 ويفصل د. الحديدي القول في هذه القضية مختارا هذا الرأي من آراء العلماء لأدلة منها[7]:

الأول: أن القول بربويية الكواكب كفر، والكفر غير جائز على الأنبياء بالإجماع. قال الخطيب الشربيني: لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو له موحد، وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء.

الثاني: أن الله تعالى أخبر عنه قبل هذه الواقعة

أنه قال لأبيه آزر:

(أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين)

(الأنعام:74)

 فهذا يدل على أن إبراهيم - عليه السلام - قد عرف ربه قبل هذه الواقعة.

الثالث: أنه دعا أباه إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام برفق،

قال تعالى:

(إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45)

(مريم)

وفي هذه الواقعة دعاه إلى هذا بالكلام الحسن، والرفق يقدم عادة على العنف؛ فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد مرارا، وهو لا يدعو غيره إلى الله إلا إذا كان عارفا به، فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف ربه بمدة.

الرابع: أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض، وقد أكسبته تلك الرؤية يقينا؛ قال تعالى: )وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)( (الأنعام)، أي: ليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين، ثم قال تعالى: )فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76)( (الأنعام)، والفاء تقتضي الترتيب؛ فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن صار إبراهيم - عليه السلام - من الموقنين العارفين بربهم.

الخامس: النص في أكثر من موضع في القرآن الكريم على أن هذه المحاجة كانت مع قومه، وذلك يتضح من قوله لهم: )يا قوم إني بريء مما تشركون (78)( (الأنعام)، وفي قوله تعالى: )وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون (80)( (الأنعام)، وفي قوله تعالى: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام)، فهذا يدل على أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا عليه من الشرك، وليس متأملا أو متحيرا.

السادس: إخبار الله تعالى عنه بأنه آتاه رشده من قبل، وكان عالما باستحقاقه الرسالة لتجنبه الشرك وسوء الفعال([8])، وقبيح الصفات، قال تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54)( (الأنبياء) [9]، وقال عنه أيضا:(إذ جاء ربه بقلب سليم (84) (الصافات) [10]، أي: لم يشرك قط - كما قال القرطبي.

وقال تعالى عنه:

(إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123)

(النحل)

فهذه الأدلة على أن إبراهيم - عليه السلام - كان في هذا المقام مناظرا قومه، ومعنى هذا أن قول الخليل عن كل من الكواكب والقمر والشمس: "هذا ربي" ليس عن اعتقاد؛ لأنه من قبيل استدراج الخصم بإظهار موافقته؛ ليسمع الحجة، ويتم إلزامه؛ فإنك عندما ترى الخصم عنيدا لا يسمع لقولك ودليلك لو صرحت بمقصودك يكون من الأوفق - لتصل إلى هدفك - أن تتكلم بما يوهم في الظاهر أنك توافقه على مذهبه - وأنت تخالفه باطنا - لكنك فعلت هذا استدراجا له؛ حتى يأنس إليك، ويستمع لقولك، وحجتك التي تتمكن بها من إبطال مذهبه، وقول الخليل عليه السلام: "هذا ربي" من هذا القبيل، فإنه أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب، إلا أنه كان قد عرف - من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الحق - أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا إلى ما يقول؛ فمال إلى طريقة تقبل بهم إليه، وعمد إلى أسلوب يستدرجهم إلى استماع الحجة، وذلك بأن يتكلم بما يوهم أنه موافق لهم وعلى منهجهم - مع أن قلبه مطمئن بالإيمان - ومقصوده من ذلك أن يتمكن من إقامة الدليل على إبطال معتقدهم.

ومعلوم أثر أسلوب الاستدراج في انقياد الخصم، وتعريفه خطأه، وقوم إبراهيم - عليه السلام - على خطأ فاحش، وضلال مبين، ولا يقبلون المصارحة بخطئهم وضلالهم؛ فلا مناص من اللجوء إلى أسلوب الاستدراج؛ فإنه الأسلوب الأمثل - حينئذ - في تسكين الخصم، وانتزاع عناده، حتى إذا سلس[11] قياده، وأنس إلى من يحاجه، واستمع إلى قوله أمكن إقامة الدليل على بطلان مذهبه ومعتقده؛ فيتم المراد من إبطال باطله، وإظهار الحق الذي يلزمه.

ومحاجة الخليل - عليه السلام - لقومه المعاندين لا تستغني عن هذا الأسلوب، ولا يجدي معهم غيره، وكما قال العلامة أبو السعود: لو صدع إبراهيم - عليه السلام - بالحق من أول الأمر لتمادوا في المكابرة، والعناد، ولـجوا في طغيانهم يعمهون[12] [13].

ثانيا. لم يقع من إبراهيم شرك، وإنما هو مجاراة للخصم [14] للاستدلال عليه:

فلو أن إبراهيم - عليه السلام - بادرهم بالنقد والتقريع والتأنيب لما اهتموا به ولا سمعوا له، بل أعرضوا عنه، لكن إبراهيم - عليه السلام - استخدم ما يسمى في الجدل بـ "مجاراة الخصم"؛ ليستميل[15] آذانهم ويأخذ قلوبهم معه، وليعلموا أنه غير متحامل عليهم من أول الأمر فيأخذ بأيديهم معه، فكأنه قال: سلمنا - جدلا - أنه ربكم، ولكنه يأفل ويغيب عنكم فقوله: )لا أحب الآفلين (76)( (الأنعام) يعني أنه غير متعصب ضدهم، وهكذا يثبت لهم أن كل كوكب - حتى الشمس - مصيره إلى أفول، فكأنه قد وصل بهم بالمنطق إلى أن عبادة الكواكب لا تصلح، واستخدم المنطق الذي يحقق به نيته أن ينكر هذه الربوبية ويستأنس به آذان من يسمعه[16].

والقرآن يؤكد حنيفية إبراهيم - عليه السلام - وإسلامه، قال تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران)، والحنيف: هو المائل عن كل باطل إلى الحق. والله - عزوجل - يخبر عن نبيه إبراهيم - عليه السلام - أنه آتاه رشده من قبل أي: من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال عزوجل: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام). والمقصود هنا: أن الله - عزوجل - أخبر أنه آتى إبراهيم رشده من قبل، أي: من قبل ذلك وقال عزوجل: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51)( (الأنبياء)؛ أي: أنه أهله لذلك.

فإذا كان الله - عزوجل - آتاه رشده منذ الصغر، وأهله من بواكير حياته لحمل الرسالة، وإقامة الحجة على بطلان الشرك بكل صوره، فهل يتفق مع ذلك وصفه بالشرك، وهو الذي أوتي الحجة والرشد على بطلان الشرك منذ الصغر؟!

والله - عزوجل - ذكر الآيات التي استدلوا بها على شرك إبراهيم - عليه السلام - خطأ، وذكر قبلها وبعدها ما يبرئ ساحة إبراهيم - عليه السلام - من الشرك، ويجعلنا نجزم أنه أراد بقول: "هذا ربي" الاستدراج للخصم لإبطال زعمه الفاسد.

فقبل هذه الآيات يقول الله:

(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)

(الأنعام)

وبعد هذه الآيات يقول تعالى:

(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم)

(الأنعام:83)

 فكيف ينكر إبراهيم على أبيه الشرك ويقع فيه[17]؟

ثالثا. نظر إبراهيم - عليه السلام - في السماء للتفكر والتدبر ولم يكن اعتقادا منه بتأثير أوضاع النجوم في حاله وما يحدث له؛ إذ كيف ينهاهم عن الشرك ثم يقع فيه؟!

إن نظر إبراهيم - عليه السلام - في النجوم لم يكن ليتعرف حاله من تأثيرها وإنما للتفكر والتدبر فيها، وهذا طاعة لله تعالى،

قال سبحانه وتعالى:

(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)

(يونس: 101)

بالإضافة إلى أنه في هذا الوقت خاصة كان ينظر في النجوم تفكرا فيما يلهم به.

وفيما يعتذر به عن الخروج معهم، قال النسفي: نظر في النجوم راميا بصره إلى السماء متفكرا في نفسه كيف يحتال.

وقد ذكر بعضهم أن إبراهيم - عليه السلام - نظر في النجوم ليوهم قومه بهذا النظر - بطريق التعريض - أنه ينظر فيها ليتعرف حاله من تأثيرها على حسب زعمهم واعتقادهم بتأثير أوضاع النجوم في أحوالهم، وما يحدث لهم؛ لكي يتوصل بذلك إلى مقصده من الانفراد بالأصنام وتكسيرها، وهذا وإن كان يبدو مقبولا لتنزيه إبراهيم عن الشرك ولأن المعاريض[18] هنا جائزة وفيها مندوحة عن الكذب من أجل إحقاق الحق، فإن الحق الذي تؤيده أدلة القرآن من الأمر بالتفكر في السموات والأرض وجعله من سمات أولى الألباب النابهين، وكذلك ما هو معلوم من سيرة أبي الأنبياء - عليه السلام - في القرآن الكريم وتفكره في ملكوت السموات والأرض، كل ذلك يدل على أنه نظر في النجوم متفكرا كيف يحتال لا أن يقع فيها؟!

وهذا ما يرجحه محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره وينقل في تأييده كلام المفسرين والعلماء، فقد قال ابن كثير في تفسيره: قال قتادة: والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم، يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكرا كيف يلهيهم بها. وفي تفسير القرطبي عن الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في شيء يدبره؛ لأن المتفكر يرفع بصره إلى السماء لئلا يشتغل بالمرئيات فيخلو بفكره للتدبر فلا يكون المراد أنه نظر في النجوم وهي طالعة ليلا بل المراد أنه نظر في السماء التي هي قرار النجوم وذكر النجوم جرى على المعروف من كلامهم.

وجنح الحسن إلى تأويل معنى النجوم بالمصدر، أي أنه نظر فيما نجم له من الرأي، يعني أن النجوم مصدر نجم بمعنى ظهر.

وعن ثعلب: نظر هنا، أي: تفكر في كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ليدبر حجة. والمعنى: ففكر في حيلة يخلو بها بأصنامهم، فقال: )فقال إني سقيم (89)( (الصافات) ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريبهم[19] بقاؤه حول أصنامهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل[20]. فلم ينطق إبراهيم بأن النجوم دلته على أنه سقيم[21] ولكنه لما جعل قوله: "إني سقيم" مقارنا لنظره في النجوم ربما توهم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم.

ويقول الطاهر ابن عاشور أيضا: وما وقع في التفاسير في معنى نظره في النجوم وفي تعيين سقمه المزعوم كلام لا يستقيم لدى أصحاب العقول والأفهام، وليس في الآية ما يدل على أن للنجوم دلالة على حدوث شيء من حوادث الأمم ولا الأشخاص ومن يزعم ذلك فقد ضل دينا، واختل نظرا وتخمينا، وقد دونوا كذبا كثيرا في ذلك وسموه علم أحكام الفلك أو النجوم[22].

وبهذا يتبين أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - لم يقع في الشرك سواء عند محاجة قومه أو عندما نظر في النجوم وكيف يشرك بالله وهو ينهى أباه وقومه عن الشرك؟!

الخلاصة:

·إبراهيم - عليه السلام - لم يقر عبادة الأصنام، وإلا فلماذا كان ينكر على أبيه وقومه عبادتها: )إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52)( (الأنبياء)؟

·استخدم إبراهيم أسلوب الاستدراج والاستدلال في محاجه قومه؛ ليظهر بطلان معتقداتهم وهو ما يسمى في علم الجدل بـ "مجاراة الخصم" فأظهر أنه يوافقهم لينصتوا ثم كر عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلبا للحق: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام).

·إبراهيم - عليه السلام - حينما نظر في النجوم كان نظره للتفكر فيما يحتال به على قومه أو كيف يدبر لهم حجة يلهيهم بها عنه حتى يتولوا عنه ويخلو هو إلى معبوادتهم فيبطلها بالفعل تحطيما، ولم يكن نظره في النجوم اعتقادا منه بتأثيرها في حاله؛ إذ إن الاعتقاد بتأثير أوضاع النجوم أو أدلتها على حدوث شيء من حوادث الأمم والأشخاص كفر وشرك وهو معتقد قومه الذي يحاربه ويحاجهم من أجلهم؛ فكيف يقع فيه ولو على سبيل الخطأ وهو ينهاهم عنه؟

المراجع

  1. (*) موقع المتنصرين. mutenusserin.net [1].
  2.  جن: أظلم. 
  3.  الرشد: تمام العقل. 
  4.  يهش: ينشرح صدره. 
  5.  التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج7، ص219، 220. 
  6.  إبكاته: تقريعه وتوبيخه. 
  7. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص317.
  8.  عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص270: 276. 
  9. سوء الفعال: الأفعال السيئة. 
  10. عاكفون: مقبلون على عبادتها. 
  11.  قلب سليم: خال من العيوب, خالص من الذنوب.