نص السؤال
المصدر: شبهات المشككين في الإسلام
الجواب التفصيلي
اتهام أئمة المسلمين بوضع أحاديث تمجد نبيهم وأمتهم(*)
مضمون الشبهة:
يتهم بعض المغالطين أئمة المسلمين بوضع الأحاديث التي فيها مدح أو تمجيد لرسولهم - صلى الله عليه وسلم - أو وصف الأمة الإسلامية بأنها أحسن الأمم, وغير ذلك من الأوصاف, ويزعمون أنها أحاديث موضوعة مكذوبة علي النبي صلى الله عليه وسلم. ويستدلون على ذلك باختلاف هذه الأحاديث وتناقضها وتعارضها مع القرآن.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن في السنة الصحيحة كثيرا من الأحاديث التي تمجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، مما يغني أئمة المسلمين عن الوضع في هذا الباب، فضلا عن أنهم حماة السنة لا واضعوها.
2) إن الله - عز وجل - هو الذي مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين فضل أمته, ثم جاءت السنة وعضدت ما أورده - عز وجل - فكيف يدعون أن ثمة اختلافا بين السنة والقرآن في هذا الصدد؟!
التفصيل:
أولا. الأحاديث الصحيحة تبين فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته:
إن من الجهل بمكان أن نتهم أئمة المسلمين بوضع الأحاديث لا سيما في تمجيد ومدح نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن السنة الصحيحة مليئة بهذا النوع من الأحاديث بما يغني المرء عن مجرد التفكير في وضع حديث في مدحه صلى الله عليه وسلم.
ثم إننا لو تأملنا قليلا لنقف - جدلا - على دوافع أئمة المسلمين الذين وضعوا هذا النوع من الأحاديث, فإننا سنكتشف عجبا، وهو أن حبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الدافع الأول, وبه أيضا تبطل هذه الشبهة؛ إذ كيف يحب إنسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يكذب عليه, وهو القائل صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»([1]).
وصدق الشاعر إذ يقول عن طاعة المحب لحبيبه:
لو كان حبك صادقا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
إن السنة الصحيحة قد اشتملت على ما يغنينا في هذا الباب, فمن ذلك ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «عطش الناس يوم الحديبية والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة, فتوضأ فجهش الناس نحوه فقال: ما لكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ, ولا نشرب إلا ما بين يديك. فوضع يده في الركوة, فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون. فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا, كنا خمس عشرة مائة»([2]).
ولقد ذكر ابن حجر رأي القاضي عياض في هذه القصة، إذ يقول: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجم الغفير عن الكافة متصلة بالصحابة, وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجمع العساكر, ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك, فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته صلى الله عليه وسلم ([3]).
ولك أن تمعن النظر في هذا الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة, فقالت امرأة من الأنصار (أو رجل): يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر, فصاحت النخلة صياح الصبي, ثم نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمه إليه, يئن أنين الصبي الذي يسكن. قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها»([4]).
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي, نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت الأرض لي مسجدا وطهورا, وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل, وأحلت لي الغنائم, وكان النبي يبعث لقومه خاصة, وبعثت للناس كافة وأعطيت الشفاعة»([5]).
ولم تقف الأحاديث الصحيحة عند تمجيد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيان فضله فقط, وإنما تعددت الأحاديث الصحيحة التي تبين فضل هذه الأمة وتمدحها أيضا؛ ومن هذه الأحاديث ما رواه الترمذي
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله عز وجل:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران: 110), قال: «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله»([6]).
وعن عبيدة عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«خير الناس قرني، ثم الذي يلونهم، ثم الذي يلونهم»([7]).
وروى أبو أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي»([8]).
ولا شك أن هذه الأحاديث التي ذكرناها غيض من فيض, ولن يتسع المجال هنا أن نسرد كل الأحاديث الصحيحة التي تمجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبين فضله وفضل أمته, ومن أراد المزيد فعليه الرجوع إلى كتب السنة, وإن اقتصر على كتابي البخاري ومسلم - وهما أصح كتب السنة - فإنه سيجد بغيته.
ثانيا. إن مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصف أمته بأنها خير الأمم لم يكن في السنة فحسب، بل في القرآن أيضا:
إن وصف أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية والأوصاف الحسنة لم يكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - فحسب, وإنما كان من الله - سبحانه وتعالى - إذ يقول في كتابه العزيز:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)
(آل عمران: 110)
، فهذه الآية تدحض دحضا تاما الشبهة القائلة بأن الأحاديث التي تمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تصف أمته بالخيرية تتعارض مع القرآن الكريم, فقد قال مجاهد: "كنتم خير أمة؛ إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر, وقيل: إنما صارت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة؛ لأن المسلمين منهم أكثر, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى"([9]).
وهو تشريف متعلق بالتكليف، فمن فعل هذا الفعل وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله نال الأجر, وكانت له الخيرية.
ولا غرابة في ذلك فلقد فضل الله ــ عز وجل - بني إسرائيل لما استقاموا على أمر الله تعالى:
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)
(البقرة:47)
إلا أنهم له يصونوا هذه النعم وذلك التفضيل، وهو الحال مع هذه الأمة إن تولت،
قال عز وجل:
(وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)
(محمد: 38).
فالجزاء من جنس العمل، قانون رباني مطرد, ولذا وعد الله - عز وجل - المؤمنين العاملين الصالحين بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين لهم, وحصول الأمن, وطلب منهم جل شأنه أن يعبدوه, ولا يشركوا به شيئا, وأن يقيموا الصلاة, ويؤتوا الزكاة, ويطيعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فعلوا ذلك فإن الله - عز وجل - سيرحمهم،
قال عز وجل:
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (56)
(النور)
ويقول الله عز وجل:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
(البقرة: 143)
فأي فضل بعد وصف هذه الأمة بأنها أمة وسط بين الأمم وشهيدة عليهم جميعا؟ وأي فضل بعد وصف الرسول الكريم بأنه سيكون شهيدا على خير أمة؟ونضيف إلى ذلك أن الله تعالى وصف هذه الأمة بأنها أمة واحدة
فقال:
(إن هذه أمتكم أمة واحدة)
(الأنبياء: 92).
وبلغ الأمر ذروته عندما أعلن الله ــ عز وجل - رضاه عن عباده الذين أطاعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - واستجابوا لدعوته
فقال عز وجل:
(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)
(التوبة:100)
أبعد هذا الفضل فضل؟! وهل يحتاج المسلمون إلى وضع أحاديث تبين فضلهم، وفضل نبيهم بعد بيان الله له؟! وهل تتعارض الأحاديث التي تمدح هذه الأمة مع هذه الآيات التي ذكرناها وغيرها؟!
هذا بالنسبة إلى بيان القرآن الكريم لفضل هذه الأمة ومكانتها,أما عن مدح الله - عز وجل - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وتمجيده, فإن القرآن حافل بمثل هذا؛ إذ قال الله - عز وجل - فيه:
(وإنك لعلى خلق عظيم)
(القلم:4)
ماذا يحتاج أئمة المسلمين لتمجيد نبيهم بعد هذا الوصف العظيم من الله عز وجل؟! إن هذا هو قمة المدح والتمجيد له صلى الله عليه وسلم. وقال - عز وجل - مبينا أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم إلا عن وحي من الله عز وجل:
(وما ينطق عن الهوى)
(النجم:3)
فهذا بيان كاف لأخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وعليه فلا تعارض بين أحاديث وصف الأمة بالخيرية ومدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين القرآن, أليس هو القائل سبحانه وتعالى:
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
(الأنبياء:107)
؟ وجاء قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعني نفسه في الحديث الذي رواه الإمام مسلم,
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما في حديث أبي موسي الأشعري رضي الله عنه): «أنا محمد, وأحمد, والمقفى, والحاشر, ونبي التوبة, ونبي الرحمة»([10]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لعانا, وإنما بعثت رحمة»([11])
فهل في هذه الأحاديث صحيحة الإسناد تعارض مع القرآن الكريم كما زعموا؟!
ونخلص مما سبق كله إلى أن في السنة الصحيحة كثيرا من الأحاديث التي تمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمجده وتبين فضل هذه الأمة المحمدية مما يكفي الأئمة والمسلمين في هذا المجال, ويبتعد بهم عن وضع أحاديث في هذا الصدد, بالإضافة إلى أن هذه الأحاديث التي نحن بصددها تتفق وما جاء به القرآن الكريم، ولا تعارض بينهما؛ وبذلك فلا مجال لهذه الشبهة المزعومة.
الخلاصة:
· إن في السنة الصحيحة ما يغني أئمة المسلمين عن وضع أحاديث لمدح
النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن يتصفح كتب الصحاح يجد ما يثلج الصدر، ويقر العين من الأحاديث التي تبين فضل النبي صلى الله عليه وسلم.
· إن ورع هذا الفريق - أئمة المسلمين - ليمنعهم من الوضع في هذا الشأن؛ وإذا كان هذا الوضع حبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهل يكذب المحب علي من أحب؟!
· بالرجوع إلى كتاب الله - عز وجل - يتضح للقارئ من أول وهلة أن هذه الشبهة قد انبنت علي دليل فاسد والقاعدة الأصولية تقول: "ما بني على فاسد فهو فاسد"؛ إذ إن القرآن الكريم يتفق أيما اتفاق مع الأحاديث الصحيحة التي تمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصف هذه الأمة بالخيرية, أليس هو القائل سبحانه وتعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (آل عمران: 110)، كما قال عز وجل: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(الأنبياء:107)، فأي اختلاف أو تناقض بين القرآن والسنة في هذا الصدد، أو أي وضع هذا الذي يتحدثون عنه, وأين هم هؤلاء الأئمة الذين وضعوا الحديث, وأين الأحاديث التي وضعوها في هذا الصدد، وهل كان الإسلام أو نبيه - صلى الله عليه وسلم - في حاجة لها؟!
المراجع
- (*) منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل, عزية علي طه, دار البحوث، القاهرة، 1987م. دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين, محمد الغزالي, دار نهضة مصر, القاهرة, 2002م. المستشرقون والقرآن, د. إسماعيل سالم عبد العال, سلسة دعوة الحق, العدد (104), السعودية, 1990م. الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم, د. مصطفى السباعي, دار الوراق ,السعودية,1420هـ/ 1999م.
- [1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم, باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم, (1/ 244), رقم (110). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليظ الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم, (1/ 169).
- 2. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب, باب: علامات النبوة في الإسلام, (6/ 372)، رقم (3576).
- 3. فتح الباري, ابن حجر العسقلاني, تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م, (6/ 676).
- 1. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري), كتاب: المناقب, باب: علامات النبوة, (6/ 696)، رقم (3584).
- [5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري), كتاب: الصلاة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"، (1/ 634، 635), رقم (438).
- [6]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: تفسير القرآن, باب: سورة آل عمران، (8/ 280), رقم (3188). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3001).
- [7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا شهد, (5/ 306), رقم (2652). صحيح مسلم (بشرح النووي), كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم, (9/ 3659), رقم (6352).
- [8]. حسن لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار, حديث أبي أمامة الباهلي, رقم (22268). وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره.
- [9]. الجامع لأحكام القرآن, القرطبي, دار إحياء التراث العربي, بيروت, 1405هـ/ 1985م, (4/ 171).
- [10]. صحيح مسلم (بشرح النووي), كتاب: الفضائل, باب: في أسمائه صلى الله عليه وسلم, (8/ 3476), رقم (5993).
- [11]. صحيح مسلم (بشرح النووي), كتاب: البر والصلة, باب: النهي عن لعن الدواب وغيرها, (9/ 3720), رقم (6490).
الجواب التفصيلي
اتهام أئمة المسلمين بوضع أحاديث تمجد نبيهم وأمتهم(*)
مضمون الشبهة:
يتهم بعض المغالطين أئمة المسلمين بوضع الأحاديث التي فيها مدح أو تمجيد لرسولهم - صلى الله عليه وسلم - أو وصف الأمة الإسلامية بأنها أحسن الأمم, وغير ذلك من الأوصاف, ويزعمون أنها أحاديث موضوعة مكذوبة علي النبي صلى الله عليه وسلم. ويستدلون على ذلك باختلاف هذه الأحاديث وتناقضها وتعارضها مع القرآن.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن في السنة الصحيحة كثيرا من الأحاديث التي تمجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، مما يغني أئمة المسلمين عن الوضع في هذا الباب، فضلا عن أنهم حماة السنة لا واضعوها.
2) إن الله - عز وجل - هو الذي مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين فضل أمته, ثم جاءت السنة وعضدت ما أورده - عز وجل - فكيف يدعون أن ثمة اختلافا بين السنة والقرآن في هذا الصدد؟!
التفصيل:
أولا. الأحاديث الصحيحة تبين فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته:
إن من الجهل بمكان أن نتهم أئمة المسلمين بوضع الأحاديث لا سيما في تمجيد ومدح نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن السنة الصحيحة مليئة بهذا النوع من الأحاديث بما يغني المرء عن مجرد التفكير في وضع حديث في مدحه صلى الله عليه وسلم.
ثم إننا لو تأملنا قليلا لنقف - جدلا - على دوافع أئمة المسلمين الذين وضعوا هذا النوع من الأحاديث, فإننا سنكتشف عجبا، وهو أن حبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الدافع الأول, وبه أيضا تبطل هذه الشبهة؛ إذ كيف يحب إنسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يكذب عليه, وهو القائل صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»([1]).
وصدق الشاعر إذ يقول عن طاعة المحب لحبيبه:
لو كان حبك صادقا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
إن السنة الصحيحة قد اشتملت على ما يغنينا في هذا الباب, فمن ذلك ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «عطش الناس يوم الحديبية والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة, فتوضأ فجهش الناس نحوه فقال: ما لكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ, ولا نشرب إلا ما بين يديك. فوضع يده في الركوة, فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون. فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا, كنا خمس عشرة مائة»([2]).
ولقد ذكر ابن حجر رأي القاضي عياض في هذه القصة، إذ يقول: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجم الغفير عن الكافة متصلة بالصحابة, وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجمع العساكر, ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك, فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته صلى الله عليه وسلم ([3]).
ولك أن تمعن النظر في هذا الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة, فقالت امرأة من الأنصار (أو رجل): يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر, فصاحت النخلة صياح الصبي, ثم نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمه إليه, يئن أنين الصبي الذي يسكن. قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها»([4]).
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي, نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت الأرض لي مسجدا وطهورا, وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل, وأحلت لي الغنائم, وكان النبي يبعث لقومه خاصة, وبعثت للناس كافة وأعطيت الشفاعة»([5]).
ولم تقف الأحاديث الصحيحة عند تمجيد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيان فضله فقط, وإنما تعددت الأحاديث الصحيحة التي تبين فضل هذه الأمة وتمدحها أيضا؛ ومن هذه الأحاديث ما رواه الترمذي
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله عز وجل:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران: 110), قال: «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله»([6]).
وعن عبيدة عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«خير الناس قرني، ثم الذي يلونهم، ثم الذي يلونهم»([7]).
وروى أبو أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي»([8]).
ولا شك أن هذه الأحاديث التي ذكرناها غيض من فيض, ولن يتسع المجال هنا أن نسرد كل الأحاديث الصحيحة التي تمجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبين فضله وفضل أمته, ومن أراد المزيد فعليه الرجوع إلى كتب السنة, وإن اقتصر على كتابي البخاري ومسلم - وهما أصح كتب السنة - فإنه سيجد بغيته.
ثانيا. إن مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصف أمته بأنها خير الأمم لم يكن في السنة فحسب، بل في القرآن أيضا:
إن وصف أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية والأوصاف الحسنة لم يكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - فحسب, وإنما كان من الله - سبحانه وتعالى - إذ يقول في كتابه العزيز:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)
(آل عمران: 110)
، فهذه الآية تدحض دحضا تاما الشبهة القائلة بأن الأحاديث التي تمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تصف أمته بالخيرية تتعارض مع القرآن الكريم, فقد قال مجاهد: "كنتم خير أمة؛ إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر, وقيل: إنما صارت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة؛ لأن المسلمين منهم أكثر, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى"([9]).
وهو تشريف متعلق بالتكليف، فمن فعل هذا الفعل وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله نال الأجر, وكانت له الخيرية.
ولا غرابة في ذلك فلقد فضل الله ــ عز وجل - بني إسرائيل لما استقاموا على أمر الله تعالى:
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)
(البقرة:47)
إلا أنهم له يصونوا هذه النعم وذلك التفضيل، وهو الحال مع هذه الأمة إن تولت،
قال عز وجل:
(وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)
(محمد: 38).
فالجزاء من جنس العمل، قانون رباني مطرد, ولذا وعد الله - عز وجل - المؤمنين العاملين الصالحين بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين لهم, وحصول الأمن, وطلب منهم جل شأنه أن يعبدوه, ولا يشركوا به شيئا, وأن يقيموا الصلاة, ويؤتوا الزكاة, ويطيعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فعلوا ذلك فإن الله - عز وجل - سيرحمهم،
قال عز وجل:
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (56)
(النور)
ويقول الله عز وجل:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
(البقرة: 143)
فأي فضل بعد وصف هذه الأمة بأنها أمة وسط بين الأمم وشهيدة عليهم جميعا؟ وأي فضل بعد وصف الرسول الكريم بأنه سيكون شهيدا على خير أمة؟ونضيف إلى ذلك أن الله تعالى وصف هذه الأمة بأنها أمة واحدة
فقال:
(إن هذه أمتكم أمة واحدة)
(الأنبياء: 92).
وبلغ الأمر ذروته عندما أعلن الله ــ عز وجل - رضاه عن عباده الذين أطاعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - واستجابوا لدعوته
فقال عز وجل:
(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)
(التوبة:100)
أبعد هذا الفضل فضل؟! وهل يحتاج المسلمون إلى وضع أحاديث تبين فضلهم، وفضل نبيهم بعد بيان الله له؟! وهل تتعارض الأحاديث التي تمدح هذه الأمة مع هذه الآيات التي ذكرناها وغيرها؟!
هذا بالنسبة إلى بيان القرآن الكريم لفضل هذه الأمة ومكانتها,أما عن مدح الله - عز وجل - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وتمجيده, فإن القرآن حافل بمثل هذا؛ إذ قال الله - عز وجل - فيه:
(وإنك لعلى خلق عظيم)
(القلم:4)
ماذا يحتاج أئمة المسلمين لتمجيد نبيهم بعد هذا الوصف العظيم من الله عز وجل؟! إن هذا هو قمة المدح والتمجيد له صلى الله عليه وسلم. وقال - عز وجل - مبينا أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم إلا عن وحي من الله عز وجل:
(وما ينطق عن الهوى)
(النجم:3)
فهذا بيان كاف لأخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وعليه فلا تعارض بين أحاديث وصف الأمة بالخيرية ومدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين القرآن, أليس هو القائل سبحانه وتعالى:
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
(الأنبياء:107)
؟ وجاء قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعني نفسه في الحديث الذي رواه الإمام مسلم,
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما في حديث أبي موسي الأشعري رضي الله عنه): «أنا محمد, وأحمد, والمقفى, والحاشر, ونبي التوبة, ونبي الرحمة»([10]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لعانا, وإنما بعثت رحمة»([11])
فهل في هذه الأحاديث صحيحة الإسناد تعارض مع القرآن الكريم كما زعموا؟!
ونخلص مما سبق كله إلى أن في السنة الصحيحة كثيرا من الأحاديث التي تمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمجده وتبين فضل هذه الأمة المحمدية مما يكفي الأئمة والمسلمين في هذا المجال, ويبتعد بهم عن وضع أحاديث في هذا الصدد, بالإضافة إلى أن هذه الأحاديث التي نحن بصددها تتفق وما جاء به القرآن الكريم، ولا تعارض بينهما؛ وبذلك فلا مجال لهذه الشبهة المزعومة.
الخلاصة:
· إن في السنة الصحيحة ما يغني أئمة المسلمين عن وضع أحاديث لمدح
النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن يتصفح كتب الصحاح يجد ما يثلج الصدر، ويقر العين من الأحاديث التي تبين فضل النبي صلى الله عليه وسلم.
· إن ورع هذا الفريق - أئمة المسلمين - ليمنعهم من الوضع في هذا الشأن؛ وإذا كان هذا الوضع حبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهل يكذب المحب علي من أحب؟!
· بالرجوع إلى كتاب الله - عز وجل - يتضح للقارئ من أول وهلة أن هذه الشبهة قد انبنت علي دليل فاسد والقاعدة الأصولية تقول: "ما بني على فاسد فهو فاسد"؛ إذ إن القرآن الكريم يتفق أيما اتفاق مع الأحاديث الصحيحة التي تمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصف هذه الأمة بالخيرية, أليس هو القائل سبحانه وتعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (آل عمران: 110)، كما قال عز وجل: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(الأنبياء:107)، فأي اختلاف أو تناقض بين القرآن والسنة في هذا الصدد، أو أي وضع هذا الذي يتحدثون عنه, وأين هم هؤلاء الأئمة الذين وضعوا الحديث, وأين الأحاديث التي وضعوها في هذا الصدد، وهل كان الإسلام أو نبيه - صلى الله عليه وسلم - في حاجة لها؟!
المراجع
- (*) منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل, عزية علي طه, دار البحوث، القاهرة، 1987م. دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين, محمد الغزالي, دار نهضة مصر, القاهرة, 2002م. المستشرقون والقرآن, د. إسماعيل سالم عبد العال, سلسة دعوة الحق, العدد (104), السعودية, 1990م. الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم, د. مصطفى السباعي, دار الوراق ,السعودية,1420هـ/ 1999م.
- [1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم, باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم, (1/ 244), رقم (110). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليظ الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم, (1/ 169).
- 2. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب, باب: علامات النبوة في الإسلام, (6/ 372)، رقم (3576).
- 3. فتح الباري, ابن حجر العسقلاني, تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م, (6/ 676).
- 1. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري), كتاب: المناقب, باب: علامات النبوة, (6/ 696)، رقم (3584).
- [5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري), كتاب: الصلاة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"، (1/ 634، 635), رقم (438).
- [6]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: تفسير القرآن, باب: سورة آل عمران، (8/ 280), رقم (3188). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3001).
- [7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا شهد, (5/ 306), رقم (2652). صحيح مسلم (بشرح النووي), كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم, (9/ 3659), رقم (6352).
- [8]. حسن لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار, حديث أبي أمامة الباهلي, رقم (22268). وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره.
- [9]. الجامع لأحكام القرآن, القرطبي, دار إحياء التراث العربي, بيروت, 1405هـ/ 1985م, (4/ 171).
- [10]. صحيح مسلم (بشرح النووي), كتاب: الفضائل, باب: في أسمائه صلى الله عليه وسلم, (8/ 3476), رقم (5993).
- [11]. صحيح مسلم (بشرح النووي), كتاب: البر والصلة, باب: النهي عن لعن الدواب وغيرها, (9/ 3720), رقم (6490).