نص السؤال

إن مُعاوِيةَ بنَ أبي سُفْيانَ رضيَ اللهُ عنه مشمولٌ بوصفِ المُلْكِ العَضوضِ الواردِ في الأحاديث؛ لأن المُلْكَ العَضُوضَ هو المُلْكُ الذي فيه عَسْفٌ وقَهْرٌ؛ كأنه يَعَضُّ الناسَ عَضًّا، وهكذا كان الحالُ في زمَنِ مُعاوِيةَ. 

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

ما الجوابُ عن الطعنِ في مُعاوِيةَ بوصفِ المُلْكِ العَضُوض؟

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:

1- قد دلَّت الدلائلُ على حسنِ سِيرةِ أميرِ المؤمِنين مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه في رعيَّتِه، ومحبَّتِهِ لهم، ومحبَّتِهم له:

بل كان له مِن ذلك النصيبُ الكبيرُ؛ حيثُ وَلِيَ عشرينَ سنةً الإمارةَ على أهلِ الشام؛ فلم يتشكَّ متشكٍّ، بل بذَلوا معه نفوسَهم ودماءَهم وأموالَهم، ووَلِيَ الخلافةَ سبعَ عَشْرةَ سنةً وشهورًا، لا يَزْدادون له إلا مَحَبَّةً، وفي العادةِ: أن الرعيَّةَ تَلحَقُهُمُ المَلالةُ مِن ملوكِهم؛ فلولا أنهم رأَوْهُ بالصفةِ التي تجبُ، ما بذَلوا أنفُسَهم دونه، وهو بذلك قد استحَقَّ ثناءَ النبيِّ ^؛ كما جاء في حديثِ عَوْفِ بنِ مالكٍ الأَشجَعيِّ رضيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ ^، قال:

«خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»

رواه مسلم (1855).

وقد ثبَتَ ما يدُلُّ على أن مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه في حِقْبةِ مُلكِهِ، كان يستطلِعُ الانتقاداتِ الواردةَ عليه، ويُجيبُ عنها؛ فيوافِقُهُ الصحابةُ على ما أجاب به:

فعن عُرْوةَ بنِ الزُّبَيرِ: «أن مِسْوَرَ بنَ مَخْرَمةَ قَدِمَ وافدًا إلى مُعاوِيةَ بنِ أبي سُفْيانَ، فقضى حاجَتَهُ، ثم دعاه فأخلاهُ، فقال: يا مِسْوَرُ، ما فعَلَ طَعْنُكَ على الأئمَّةِ؟ قال المِسْوَرُ: دَعْنا مِن هذا، وأَحسِنْ فيما قَدِمْنا له، فقال مُعاوِيةُ: لا واللهِ، لَتُكَلِّمَنَّ بذاتِ نَفْسِكَ، والذي نَقَمْتَ عَلَيَّ، قال المِسْوَرُ: فلم أترُكْ شيئًا أَعِيبُهُ عليه إلا بَيَّنْتُهُ له، فقال مُعاوِيةُ: لا أَبْرَأُ مِن ذَنْبٍ؛ فهل تعُدُّ لنا يا مِسْوَرُ ممَّا نَلِي مِن الإصلاحِ في أمرِ العامَّةِ - فإن الحَسَنةَ بعَشْرِ أمثالِها - أم تعُدُّ الذنوبَ؟ فقال مُعاوِيةُ: فإنا نعترِفُ للهِ بكلِّ ذنبٍ أذْنَبْناهُ، فهل لك يا مِسْوَرُ ذنوبٌ في خاصَّتِكَ تَخْشى أن تَهلِكَ إن لم يَعْفُ اللهُ لك؟ فقال المِسْوَرُ: نَعَمْ، فقال مُعاوِيةُ: فما جعَلَكَ برجاءِ المغفرةِ أحَقَّ منِّي؟! فواللهِ لمَا أَلِي مِن الإصلاحِ أكثَرُ ممَّا تَلِي، ولكنْ واللهِ لا أُخيَّرُ بين أمرَيْنِ: أمرٍ للهِ وغيرِه، إلا اختَرْتُ أمرَ اللهِ على ما سِواهُ، وإني لَعَلَى دِينٍ يُقبَلُ فيه العمَلُ، ويُجْزَى فيه بالحَسَناتِ والذنوبِ، إلا أن يعفُوَ اللهُ عنها؛ فإني أَحسَبُ كلَّ حَسَنةٍ عَمِلْتُها بأضعافِها مِن الأجرِ، وأَلِي أمورًا عِظامًا لا أُحْصِيها، ولا يُحْصِيها مَن عَمِلَ بها للهِ؛ في إقامةِ الصلَواتِ للمسلِمين، والجهادِ في سبيلِ اللهِ، والحُكْمِ بما أنزَلَ اللهُ، والأمورِ التي لستُ أُحْصِيها وإن عدَدتُّها؛ فتَكْفي في ذلك، قال مِسْوَرٌ: فعرَفْتُ أن مُعاوِيةَ قد خصَمَني حينَ ذكَرَ ما ذكَرَ، قال عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ: لم أَسمَعِ المِسْوَرَ بعدُ يذكُرُ مُعاوِيةَ إلا صلَّى عليه»؛ رواه مِن هذا الوجهِ الخطيبُ البغداديُّ في «تاريخِ بغداد» (1/576)، وابنُ عساكِرَ في «تاريخِ دِمَشقَ» (58/168).

2- مِن دلائلِ رأفةِ مُعاوِيةَ بالرعيَّةِ، وشَفَقتِهِ على المسلِمينَ، وقُوَّةِ نظَرِهِ في تدبيرِ المُلْكِ، ونظَرِهِ في العواقِبِ: عرضُهُ المصالَحةَ على الحسَنِ بنِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهم:

ففي الصحيحِ، مِن حديثِ الحسَنِ البَصْريِّ رحمه الله، قال: «استقبَلَ - واللهِ - الحسَنُ بنُ عليٍّ مُعاوِيةَ بكتائبَ أمثالِ الجبالِ، فقال عَمْرُو بنُ العاصِ: إني لَأَرَى كتائبَ لا تولِّي حتى تقتُلَ أقرانَها، فقال له مُعاوِيةُ - وكان واللهِ خيرَ الرجُلَيْنِ -: أَيْ عَمْرُو، إنْ قتَلَ هؤلاءِ هؤلاءِ، وهؤلاءِ هؤلاءِ، مَن لي بأمورِ الناس؟ مَن لي بنسائِهم؟ مَن لي بضَيْعَتِهم؟»؛ رواه البخاري (2704).

يُشيرُ إلى أن رجالَ العسكَرَيْنِ معظَمُ مَن في الإقليمَيْنِ، فإذا قُتِلوا، ضاع أمرُ الناسِ، وفسَدَ حالُ أهلِهم بعدهم وذَرَارِيهِم.

ثم إن مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه أرسَلَ للحسَنِ رضيَ اللهُ عنه واتفَقَا، وخلَعَ الحسَنُ رضيَ اللهُ عنه نفسَهُ، وبايَعَ أهلُ العراقِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه.

3- شَهِدَ السلفُ لمُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه بعدلِه وحِلمِهِ وسخائِه:

وهذه الصفاتُ مما يُمدَحُ بها الولاةُ، وبها يُستعانُ على سياسةِ الناسِ بالدِّين، وهي تقابِلُ البَطْشَ، والقَهْرَ، والعَسْفَ، مما كان يسلُكُهُ مَن وَلِيَ بعده مِن بني أُميَّةَ، فمَن بعدَهم مِن ذوي المُلْكِ العَضُوضِ حقًّا؛ وكلامُهم في هذا كثيرٌ.

ولا يَصِحُّ أن يُحمَلَ سخاءُ مُعاوِيةَ على رعيَّتِهِ على المَحامِلِ السيِّئةِ؛ فيقالَ مثلًا: «كان وراءَ تودُّدِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه لرعيَّتِهِ وإحسانِهِ إليهم مقابِلٌ سياسيٌّ صريحٌ أو ضِمْنيٌّ؛ هو الطاعةُ المطلَقةُ أو الوَلَاءُ المُطلَقُ»؛ لأن طاعةَ رعيَّتِهِ له مقيَّدةٌ بالشرع، والطاعةُ المطلَقةُ التي عُرِفَتْ بـ «الطاعةِ الشاميَّةِ»، كانت في عهدِ مَن بعده مِن ملوكِ بني أميَّة.

4- ما صَحَّ مِن الرواياتِ التي فيها ذِكرُ «المُلْكِ العَضُوضِ»، ليس فيها شيءٌ صريحٌ في مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه:

فالقولُ الإجماليُّ في الرواياتِ التي ورَدَ فيها ذِكرُ المُلكِ بعد عهدِ الخلفاءِ الراشِدينَ: أن منها ما هو متداوَلٌ، وفيه التصريحُ بالمُلْكِ العَضُوضِ، وليس في كتبِ الحديثِ أصلًا؛ كلفظِ: «الخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا».

وحديثُ سَفِينةَ الذي جاء مِن طريقِ حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، وحمَّادِ بنِ زيدٍ، والعَوَّامِ بنِ حَوْشَبٍ، وحَشْرَجِ بنِ نُباتةَ، عن سعيدِ بنِ جُمْهانَ، عن سَفِينةَ رضيَ اللهُ عنه مرفوعًا، لفظُهُ:

«الخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا»

رواه أحمد (36/ 256 رقم 21928)، وأبو داودَ (4646، 4647)، والتِّرمِذيُّ (2226)،

ليس فيه: «عَضُوضًا».

ومِن تلك الرواياتِ: ما هو صريحٌ بذِكرِ «المُلْكِ العَضُوضِ»، لكنه ضعيفٌ أو معلولٌ، وتفصيلُ ذلك يطُولُ.

ومنها: ما جاء معارِضًا لذلك؛ ففيه ذِكرُ «مُلْكِ الرحمةِ» بعد «الخلافةِ الراشدةِ»، لا «المُلكِ العَضوضِ»؛ وهو حديثُ الطبَرانيِّ الذي رواهُ في «المعجَمِ الكبيرِ» (11138)، عن فِطْرِ بنِ خَلِيفةَ، عن مجاهِدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، بلفظِ: «أَوَّلُ هَذَا الأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً».


لكنْ لِيُعلَمْ أن حكمَ مُعاوِيةَ ليس كحكمِ الخلفاءِ الراشِدين مطلَقًا؛ كما أنه ليس هو في مَنزِلتِهم مطلَقًا، وعليه: فلم يكن له مَنزِلتُهم في كمالِ العلمِ والعدلِ والتحوُّطِ؛ فحكمُهُ كان حكمَ مَلِكٍ، لكنْ هذا لا يعني أن يُطلَقَ عليه «المَلِكُ الظالِمُ»، بل «مَلِكٌ عادلٌ»، وإن جرَتْ عليه أخطاءُ البشَر. 

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

هذه الشبهةُ قائمةٌ على جهلٍ بتاريخِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه، والجوابُ عنها يحتاجُ إلى بيانِ واقعِ الأمر، وشهاداتِ كبارِ الصحابةِ لمُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه.

مختصَرُ الإجابة:

دلَّت الدلائلُ على حسنِ سِيرةِ أميرِ المؤمِنين مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه في رعيَّتِه، ومحبَّتِهِ لهم، ومحبَّتِهم له؛ فقد كان حسَنَ السِّيرةِ في رعيَّتِهِ، وقد وَلِيَ الإمارةَ عليهم عشرينَ سنةً، والخلافةَ نحوَها، ولم يتشَكَّوْا منه، وكان سخيًّا حليمًا عادلًا، شَهِدَ له بذلك السلفُ، ومِن دلائلِ سماحتِهِ: عرضُهُ المصالَحةَ على الحسَنِ بنِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهما، كما أن حديثَ سَفِينةَ الذي هو أصَحُّ حديثٍ في البابِ، لم يَرِدْ فيه وصفُ المُلْكِ بعد خلافةِ النبوَّةِ بـ «العَضُوض»، وإنما وُصِفَ بأنه «مُلْكٌ» فحَسْبُ.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية: 

  إن الإجابةَ عن الشبهاتِ المثارةِ حول صحابةِ رسولِ اللهِ ^ تكونُ بالرجوعِ إلى كُتُبِ أهلِ العلمِ الراسِخين، الجامِعينَ بين الوَرَعِ والفِطْنة، ولا يكمُلُ الكلامُ فيهم إلا لمَن جمَعَ العلمَ بالشريعةِ والتاريخ، والعقلَ الناقدَ والعدلَ؛ فتخلُّفُ أحدِها قد يَحرِفُ بمَن يحكُمُ عليهم.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

هذه الشبهةُ قائمةٌ على جهلٍ بتاريخِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه، والجوابُ عنها يحتاجُ إلى بيانِ واقعِ الأمر، وشهاداتِ كبارِ الصحابةِ لمُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه.

مختصَرُ الإجابة:

دلَّت الدلائلُ على حسنِ سِيرةِ أميرِ المؤمِنين مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه في رعيَّتِه، ومحبَّتِهِ لهم، ومحبَّتِهم له؛ فقد كان حسَنَ السِّيرةِ في رعيَّتِهِ، وقد وَلِيَ الإمارةَ عليهم عشرينَ سنةً، والخلافةَ نحوَها، ولم يتشَكَّوْا منه، وكان سخيًّا حليمًا عادلًا، شَهِدَ له بذلك السلفُ، ومِن دلائلِ سماحتِهِ: عرضُهُ المصالَحةَ على الحسَنِ بنِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهما، كما أن حديثَ سَفِينةَ الذي هو أصَحُّ حديثٍ في البابِ، لم يَرِدْ فيه وصفُ المُلْكِ بعد خلافةِ النبوَّةِ بـ «العَضُوض»، وإنما وُصِفَ بأنه «مُلْكٌ» فحَسْبُ.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:

1- قد دلَّت الدلائلُ على حسنِ سِيرةِ أميرِ المؤمِنين مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه في رعيَّتِه، ومحبَّتِهِ لهم، ومحبَّتِهم له:

بل كان له مِن ذلك النصيبُ الكبيرُ؛ حيثُ وَلِيَ عشرينَ سنةً الإمارةَ على أهلِ الشام؛ فلم يتشكَّ متشكٍّ، بل بذَلوا معه نفوسَهم ودماءَهم وأموالَهم، ووَلِيَ الخلافةَ سبعَ عَشْرةَ سنةً وشهورًا، لا يَزْدادون له إلا مَحَبَّةً، وفي العادةِ: أن الرعيَّةَ تَلحَقُهُمُ المَلالةُ مِن ملوكِهم؛ فلولا أنهم رأَوْهُ بالصفةِ التي تجبُ، ما بذَلوا أنفُسَهم دونه، وهو بذلك قد استحَقَّ ثناءَ النبيِّ ^؛ كما جاء في حديثِ عَوْفِ بنِ مالكٍ الأَشجَعيِّ رضيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ ^، قال:

«خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»

رواه مسلم (1855).

وقد ثبَتَ ما يدُلُّ على أن مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه في حِقْبةِ مُلكِهِ، كان يستطلِعُ الانتقاداتِ الواردةَ عليه، ويُجيبُ عنها؛ فيوافِقُهُ الصحابةُ على ما أجاب به:

فعن عُرْوةَ بنِ الزُّبَيرِ: «أن مِسْوَرَ بنَ مَخْرَمةَ قَدِمَ وافدًا إلى مُعاوِيةَ بنِ أبي سُفْيانَ، فقضى حاجَتَهُ، ثم دعاه فأخلاهُ، فقال: يا مِسْوَرُ، ما فعَلَ طَعْنُكَ على الأئمَّةِ؟ قال المِسْوَرُ: دَعْنا مِن هذا، وأَحسِنْ فيما قَدِمْنا له، فقال مُعاوِيةُ: لا واللهِ، لَتُكَلِّمَنَّ بذاتِ نَفْسِكَ، والذي نَقَمْتَ عَلَيَّ، قال المِسْوَرُ: فلم أترُكْ شيئًا أَعِيبُهُ عليه إلا بَيَّنْتُهُ له، فقال مُعاوِيةُ: لا أَبْرَأُ مِن ذَنْبٍ؛ فهل تعُدُّ لنا يا مِسْوَرُ ممَّا نَلِي مِن الإصلاحِ في أمرِ العامَّةِ - فإن الحَسَنةَ بعَشْرِ أمثالِها - أم تعُدُّ الذنوبَ؟ فقال مُعاوِيةُ: فإنا نعترِفُ للهِ بكلِّ ذنبٍ أذْنَبْناهُ، فهل لك يا مِسْوَرُ ذنوبٌ في خاصَّتِكَ تَخْشى أن تَهلِكَ إن لم يَعْفُ اللهُ لك؟ فقال المِسْوَرُ: نَعَمْ، فقال مُعاوِيةُ: فما جعَلَكَ برجاءِ المغفرةِ أحَقَّ منِّي؟! فواللهِ لمَا أَلِي مِن الإصلاحِ أكثَرُ ممَّا تَلِي، ولكنْ واللهِ لا أُخيَّرُ بين أمرَيْنِ: أمرٍ للهِ وغيرِه، إلا اختَرْتُ أمرَ اللهِ على ما سِواهُ، وإني لَعَلَى دِينٍ يُقبَلُ فيه العمَلُ، ويُجْزَى فيه بالحَسَناتِ والذنوبِ، إلا أن يعفُوَ اللهُ عنها؛ فإني أَحسَبُ كلَّ حَسَنةٍ عَمِلْتُها بأضعافِها مِن الأجرِ، وأَلِي أمورًا عِظامًا لا أُحْصِيها، ولا يُحْصِيها مَن عَمِلَ بها للهِ؛ في إقامةِ الصلَواتِ للمسلِمين، والجهادِ في سبيلِ اللهِ، والحُكْمِ بما أنزَلَ اللهُ، والأمورِ التي لستُ أُحْصِيها وإن عدَدتُّها؛ فتَكْفي في ذلك، قال مِسْوَرٌ: فعرَفْتُ أن مُعاوِيةَ قد خصَمَني حينَ ذكَرَ ما ذكَرَ، قال عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ: لم أَسمَعِ المِسْوَرَ بعدُ يذكُرُ مُعاوِيةَ إلا صلَّى عليه»؛ رواه مِن هذا الوجهِ الخطيبُ البغداديُّ في «تاريخِ بغداد» (1/576)، وابنُ عساكِرَ في «تاريخِ دِمَشقَ» (58/168).

2- مِن دلائلِ رأفةِ مُعاوِيةَ بالرعيَّةِ، وشَفَقتِهِ على المسلِمينَ، وقُوَّةِ نظَرِهِ في تدبيرِ المُلْكِ، ونظَرِهِ في العواقِبِ: عرضُهُ المصالَحةَ على الحسَنِ بنِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهم:

ففي الصحيحِ، مِن حديثِ الحسَنِ البَصْريِّ رحمه الله، قال: «استقبَلَ - واللهِ - الحسَنُ بنُ عليٍّ مُعاوِيةَ بكتائبَ أمثالِ الجبالِ، فقال عَمْرُو بنُ العاصِ: إني لَأَرَى كتائبَ لا تولِّي حتى تقتُلَ أقرانَها، فقال له مُعاوِيةُ - وكان واللهِ خيرَ الرجُلَيْنِ -: أَيْ عَمْرُو، إنْ قتَلَ هؤلاءِ هؤلاءِ، وهؤلاءِ هؤلاءِ، مَن لي بأمورِ الناس؟ مَن لي بنسائِهم؟ مَن لي بضَيْعَتِهم؟»؛ رواه البخاري (2704).

يُشيرُ إلى أن رجالَ العسكَرَيْنِ معظَمُ مَن في الإقليمَيْنِ، فإذا قُتِلوا، ضاع أمرُ الناسِ، وفسَدَ حالُ أهلِهم بعدهم وذَرَارِيهِم.

ثم إن مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه أرسَلَ للحسَنِ رضيَ اللهُ عنه واتفَقَا، وخلَعَ الحسَنُ رضيَ اللهُ عنه نفسَهُ، وبايَعَ أهلُ العراقِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه.

3- شَهِدَ السلفُ لمُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه بعدلِه وحِلمِهِ وسخائِه:

وهذه الصفاتُ مما يُمدَحُ بها الولاةُ، وبها يُستعانُ على سياسةِ الناسِ بالدِّين، وهي تقابِلُ البَطْشَ، والقَهْرَ، والعَسْفَ، مما كان يسلُكُهُ مَن وَلِيَ بعده مِن بني أُميَّةَ، فمَن بعدَهم مِن ذوي المُلْكِ العَضُوضِ حقًّا؛ وكلامُهم في هذا كثيرٌ.

ولا يَصِحُّ أن يُحمَلَ سخاءُ مُعاوِيةَ على رعيَّتِهِ على المَحامِلِ السيِّئةِ؛ فيقالَ مثلًا: «كان وراءَ تودُّدِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه لرعيَّتِهِ وإحسانِهِ إليهم مقابِلٌ سياسيٌّ صريحٌ أو ضِمْنيٌّ؛ هو الطاعةُ المطلَقةُ أو الوَلَاءُ المُطلَقُ»؛ لأن طاعةَ رعيَّتِهِ له مقيَّدةٌ بالشرع، والطاعةُ المطلَقةُ التي عُرِفَتْ بـ «الطاعةِ الشاميَّةِ»، كانت في عهدِ مَن بعده مِن ملوكِ بني أميَّة.

4- ما صَحَّ مِن الرواياتِ التي فيها ذِكرُ «المُلْكِ العَضُوضِ»، ليس فيها شيءٌ صريحٌ في مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه:

فالقولُ الإجماليُّ في الرواياتِ التي ورَدَ فيها ذِكرُ المُلكِ بعد عهدِ الخلفاءِ الراشِدينَ: أن منها ما هو متداوَلٌ، وفيه التصريحُ بالمُلْكِ العَضُوضِ، وليس في كتبِ الحديثِ أصلًا؛ كلفظِ: «الخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا».

وحديثُ سَفِينةَ الذي جاء مِن طريقِ حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، وحمَّادِ بنِ زيدٍ، والعَوَّامِ بنِ حَوْشَبٍ، وحَشْرَجِ بنِ نُباتةَ، عن سعيدِ بنِ جُمْهانَ، عن سَفِينةَ رضيَ اللهُ عنه مرفوعًا، لفظُهُ:

«الخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا»

رواه أحمد (36/ 256 رقم 21928)، وأبو داودَ (4646، 4647)، والتِّرمِذيُّ (2226)،

ليس فيه: «عَضُوضًا».

ومِن تلك الرواياتِ: ما هو صريحٌ بذِكرِ «المُلْكِ العَضُوضِ»، لكنه ضعيفٌ أو معلولٌ، وتفصيلُ ذلك يطُولُ.

ومنها: ما جاء معارِضًا لذلك؛ ففيه ذِكرُ «مُلْكِ الرحمةِ» بعد «الخلافةِ الراشدةِ»، لا «المُلكِ العَضوضِ»؛ وهو حديثُ الطبَرانيِّ الذي رواهُ في «المعجَمِ الكبيرِ» (11138)، عن فِطْرِ بنِ خَلِيفةَ، عن مجاهِدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، بلفظِ: «أَوَّلُ هَذَا الأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً».


لكنْ لِيُعلَمْ أن حكمَ مُعاوِيةَ ليس كحكمِ الخلفاءِ الراشِدين مطلَقًا؛ كما أنه ليس هو في مَنزِلتِهم مطلَقًا، وعليه: فلم يكن له مَنزِلتُهم في كمالِ العلمِ والعدلِ والتحوُّطِ؛ فحكمُهُ كان حكمَ مَلِكٍ، لكنْ هذا لا يعني أن يُطلَقَ عليه «المَلِكُ الظالِمُ»، بل «مَلِكٌ عادلٌ»، وإن جرَتْ عليه أخطاءُ البشَر. 

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية: 

  إن الإجابةَ عن الشبهاتِ المثارةِ حول صحابةِ رسولِ اللهِ ^ تكونُ بالرجوعِ إلى كُتُبِ أهلِ العلمِ الراسِخين، الجامِعينَ بين الوَرَعِ والفِطْنة، ولا يكمُلُ الكلامُ فيهم إلا لمَن جمَعَ العلمَ بالشريعةِ والتاريخ، والعقلَ الناقدَ والعدلَ؛ فتخلُّفُ أحدِها قد يَحرِفُ بمَن يحكُمُ عليهم.