نص السؤال

كيف يحرِّمُ الإسلامُ الخمرَ - وسائرِ المشروباتِ الكحوليَّةِ المسكِرة - مع أنه شرابٌ يَشرَبُهُ كثيرٌ مِن الناسِ اليومَ، خاصَّةً في العالَمِ الغربيّ؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

الحكمةُ مِن تحريمِ الخمرِ والمسكِرات.

الجواب التفصيلي


حرَّم اللهُ الخمرَ؛ لما فيها مِن مفاسدَ عظيمةٍ، منها:

1- شُرْبُ الخمرِ يَعبَثُ بالقوَّةِ العاقلةِ للإنسان:

يُفضَّلُ الإنسانُ على سائرِ الحيوانِ بمَزِيَّةِ العقل، وكلُّ شيءٍ يُضعِفُ القوَّةَ العاقلةَ، أو يَعُوقُها عما خُلِقَتْ له؛ مِن تدبُّرِ الآيات، واستكشافِ الحقائق -: فهو عدُوُّ الإنسانيَّة، تجبُ مدافَعتُهُ وتجنُّبُهُ بقَدْرِ المستطاع.

والخمرُ تأتي إلى تلك القوَّةِ العاقلةِ التي هي مِن أكبرِ مَزَايَا الإنسان؛ فتَعبَثُ بها عبَثَ الريحِ العاصفةِ بالغصونِ الناعمة، ولا تَسْألْ عمَّا يَنشَأُ عن هذا العبَثِ مِن فساد.

فالمسكِراتُ تَذهَبُ بعقلِ مَن يتناوَلُها، ولو أنه يَبْقى كالجمادِ لا يَنطِقُ ولا يتحرَّكُ، لكان البلاءُ مقصورًا عليه، ولكنَّ السفاهةَ تخلُفُ التعقُّلَ، والحماقةَ تَظهَرُ في مكانِ الكِياسة؛ فلا تَسمَعُ إلا أقوالًا لاغيةً أو مُنكَرةً، ولا ترى إلا حرَكاتٍ مُزْرِيةً به، أو مُسيئةً إلى مَن يقرُبُ منه؛ قيل لعَدِيِّ بنِ حاتمٍ: ما لَكَ لا تَشرَبُ الخمرَ؟ قال: «مَعَاذَ اللهِ! أن أُصبِحَ حليمَ قَوْمي، وأُمسِيَ سفيهَهم»:

أ- تجيءُ السفاهةُ عند شاربِ الخمرِ في الأقوال؛ مِن جهةِ أن الخمرَ تعطِّلُ القوَّةَ العاقلة، وتترُكُ الخيالَ يُلْقي على الألسنةِ ما شاء، وشأنُ الخيالِ الذي لا يَعمَلُ تحت سلطانِ العقلِ: أن يصوِّرَ المعانيَ في غيرِ انتظام، ويُملِيَها على اللسانِ كما صوَّرها، فإذا هي أقوالٌ تُلبِسُ صاحبَها ثوبَ المَهَانة، أو تضَعُهُ موضِعَ مَن يَسخَرُ به، أو يُثيرُ عليه غضبًا؛ ويَكْفي متعاطيَ الخمورِ مِن ذلك: أن يُضرَبَ به المَثَلُ عندما يتكلَّمُ أحدٌ بما يُشبِهُ الهَذَيان.

ب- وتجيءُ سفاهتُهُ أيضًا في الحَرَكاتِ؛ مِن جهةِ أن الخمرَ تَعزِلُ العقلَ إلى جانب، وتُبْقي النفوسَ تحت تصرُّفِ الخيال؛ فتنبعِثُ إرادتُها عن غيرِ تعقُّل، وتصدُرُ أفعالُها في غيرِ حكمة، ومِن المعروفِ في المُسكِرِ: أنه يحسِّنُ القبيحَ، ويقبِّحُ الحسَنَ.

2- الخمرُ أُمُّ الخبائث:

فهي تندفِعُ بالشهَواتِ إلى الفسوقِ والموبِقات، وهل في إمكانِكَ أن تجدَ مُولَعًا بالخمورِ يَحفَظُ فَرْجَهُ عن مُوبِقةِ الزِّنى، أو ما يُشبِه الزِّنى؟! سقى قومٌ أعرابيَّةً شرابًا مُسكِرًا، فقالت: أيَشرَبُ نساؤُكم هذا الشرابَ؟ قالوا: نَعَمْ، قالت: فما يَدْري أحدُكم مَن أبوه!

وقد عُرِفَ أن السكرانَ يقولُ ما يُثيرُ غضَبَ نديمِه، أو مَن يَلْقاهُ في طريقِه، وما يأتي مِن وراءِ ثورةِ الغضبِ مِن سوءٍ، وعُرِفَ أن السكرانَ قد ينقلِبُ إلى حيوانيَّةٍ متحفِّزةٍ للشرِّ؛ فلا يُبالي أن يبسُطَ يدَهُ للاعتداءِ على الأنفُسِ؛ فيُصيبَ ضعيفًا، أو يُصيبَهُ قويٌّ، وكم مِن مشاجَراتٍ تعالت فيها أصواتٌ، وأُصيبَتْ فيها جسومٌ، وما هي إلا أثرٌ مِن آثارِ تعاطي المسكِرات؛ وما تزالُ المسكِراتُ تنقُصُ مِن عقلِ المُولَعِ بها شيئًا فشيئًا، حتى يقَعَ في خَبَال، أو ما يقرُبُ مِن الخَبَال.

ودَلَّتِ التجارِبُ على أن متعاطِيَ المسكِراتِ يكونُ ضعيفَ الفِكر، خفيفَ العقل، ولا يصلُ - ولو بعد صَحْوِه - إلى ما يصلُ إليه أقرانُهُ الأذكياء؛ مِن آراءٍ سامية، ونتائجَ صادقة؛ قيل لعُثْمانَ بنِ عفَّانَ رضِيَ اللهُ عنه: ما منَعَكَ أن تَشرَبَ الخمرَ في الجاهليَّة، ولا حرَجَ عليك؟ قال: «رأيتُها تَذهَبُ بالعقلِ جُمْلةً، وما رأيتُ شيئًا يَذهَبُ جُمْلةً ويعودُ جُمْلةً».

والعاقلُ لا يَليقُ به أن يتَّخِذَ ممن يتعاطَوْنَ المسكِراتِ أصحابًا، أو أعوانًا يُفْضي إليهم بشيءٍ مِن أسرارِ عمِلِه؛ فإن الأسرارَ المودَعةَ في النفوسِ إنما تحرُسُها العقول، وعقولُ المُولَعينَ بالمسكِراتِ، تفارِقُهم في كثيرٍ مِن الأحيان؛ فلا تَلبَثُ تلك الأسرارُ أن تخرُجَ مِن أفواهِهم، وهم لا يشعُرون؛ قال اللهُ تعالى:

{إِنَّمَا يريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}

[المائدة: 91]

:

فدَلَّ على أن الخمرَ تُوقِعُ البغضاءَ والشحناءَ بين الناس؛ وهذا واقعٌ؛ فإن متعاطيَها يفسُدُ عقلُه، وإذا تفطَّن بعد ذلك لِما ترتَّب على شربِهِ لها مع زملائِهِ، ومع أصحابِهِ -: حصَلَ في قلبِهِ مِن الشحناءِ والبغضاءِ لهم ما اللهُ به عليمٌ؛ لِما ترتَّب على تزيينِهم له شربَ الخمرِ مِن الفسادِ الكبير، ويقَعُ بينهم مِن المضارَبةِ والمقاتَلةِ في شربِها ما يَجعَلُهم أعداءً بعد ذلك، فهم عند شُربِها وسُكرِهم لا يَعقِلون، فربَّما تقاتَلوا وتضارَبوا، وربما وقَعوا في الفواحش؛ فهم لا يَعقِلون، بل المجنونُ العاديُّ خيرٌ منهم؛ فإن هؤلاءِ مجانينُ يَضرِبون ويقتُلون.

والخمرُ تؤدِّي إلى فسادِ الأخلاق؛ فإن الأخلاقَ الفاضلةَ نتيجةٌ لاعتدالِ القُوَى النفسيَّة، وسلطانُ هذه القُوَى العقلُ، وقانونُهُ الشرعُ، والسُّكْرُ اعتداءٌ على هذا السلطانِ وعلى قانونِه، ونبذٌ لسُلْطتِهما، ومتى ذهَبَ الحاكمُ والقانونُ، كانت المملكةُ فَوْضَى، كما أن السُّكرَ مفسدةٌ للعقلِ والأخلاقِ معًا؛ كما هو مشاهَدٌ ومعروفٌ، وهو الغائلةُ الأُولى للخمرِ، وأن ضعفَ المِزاجِ سببٌ له، كما يُشاهَدُ في أخلاقِ المَرْضى.

فالسُّكرُ يَذهَبُ بالعِفَّةِ والوَقَار، ويَجعَلُ الحليمَ سفيهًا، والحكيمَ جهولًا، والحَيِيَّ وَقِحًا، والنزيهَ بذيئًا، والأمينَ خوَّانًا، والشجاعَ متهوِّرًا أو جَبَانًا؛ فهذه أمثلةٌ مِن أصولِ الأخلاق، يُقاسُ بها غيرُها مما يُشاهَدُ أثرُه، ويُعرَفُ مصدرُه.

كما أن شربَ الخمرِ يؤدِّي إلى فسادِ تربيةِ العيال، والجنايةِ على عِفَّةِ النساء، وقد قال غيرُ واحدٍ مِن الواقِفين على أسرارِ البيوت، والمراقِبين لسِيَرِ التربية: «إنه لا يكادُ يُوجَدُ مدمِنُ خمرٍ عفيفَ المرأة، مُربَّى الولَد»، ولا يَسَعُنا الآنَ أن نُطيلَ في هذا الموضوع.

3- مِن مفاسدِ الخمرِ: الإسرافُ والتبذير:

ففي بذلِ الأموالِ في شراءِ الخمرِ لشربِهِ: إنفاقُ المالِ في غيرِ فائدة، بل إنفاقُهُ فيما يعودُ بالخُسْران.

فكم أفقَرَتِ الخمرُ غنيًّا، وخرَّبت بيتًا عامرًا؛ وذلك لأنها تُفْضي إلى جميعِ أنواعِ الإسرافِ والتبذير.

وقد بيَّنَتِ الآيةُ الكريمةُ التي نزَلَت في شأنِ تحريمِ الخمرِ تحريمًا قطعيًّا، كثيرًا مِن مفاسدِها؛ قال اللهُ تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

[المائدة: 90]

، والأنصابُ: هي الأصنامُ التي يعبُدُونها مِن دونِ الله، ويَذبَحون عندها، والأزلامُ: هي القداحُ التي يستقسِمون بها ويطلُبون ما قُسِمَ لهم مِن الغَيْب؛ كلُّها أبطَلَها اللهُ وحرَّمها؛ فبيَّن سبحانه أن الخمرَ والمَيسِرَ رِجْسٌ مِن عملِ الشيطان؛ كالأنصابِ والأزلام؛ فقولُهُ: {رِجْسٌ} هذا يبيِّنُ تحريمَها، وأنها خبيثةٌ.

4- الخمرُ تَصرِفُ القلوبَ عن القيامِ بكثيرٍ مِن حقوقِ الخالقِ جلَّ شأنُه:

فلا يجتمِعُ الوَلُوعُ باحتساءِ أمِّ الخبائث، وتعظيمُ أمرِ اللهِ في نفسٍ واحدةٍ؛ قال اللهُ تعالى:

{وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ}

[المائدة: 91]

؛ فالخمرُ مِن أسبابِ الصدِّ عن ذِكرِ الله، وعن الصلاةِ وطاعةِ الله، وربما بَقِيَ الأيامَ واللياليَ لا يَعقِلُ ولا يصلِّي.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

صاحبُ هذا السؤالِ يَرَى اشتهارَ شُرْبِ الخمرِ والمشروباتِ الكحوليَّةِ فيما يُسمَّى: «العالَمَ المتحضِّرَ» اليومَ، وهذا - مِن وجهةِ نظرِهِ - يُثيرُ التساؤلَ حول معقوليَّةِ تحريمِ الخمرِ والمسكِراتِ في الإسلام.

مختصَرُ الإجابة:

إن الحكمةَ مِن تحريمِ الخمرِ جاء النصُّ القرآنيُّ بإيضاحِها أتمَّ الإيضاح؛ حيثُ بيَّن اللهُ تعالى ما فيها مِن المفاسد؛ مِن كونِها تُوقِعُ العداوةَ والبغضاءَ بين الناس، وتصُدُّ عن ذِكْرِ اللهِ وعن الصلاة؛ لما يُصيبُ عقلَ شارِبِها مِن ضَعْفٍ وسفاهةٍ تُفْضي به إلى الإتيانِ بالمُنكَراتِ مِن الأقوالِ والأفعال، ومِن أعظَمِ مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ: «حفظُ العقل».

قال ربُّنا تبارَكَ وتعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}

[المائدة: 90- 92].

فأعظمُ الفسادِ في تحريمِ الخَمْرِ: إفسادُ القلبِ الذي هو مَلِكُ البدَنِ أن يُصَدَّ عما خُلِقَ له في حقِّ الله؛ مِن ذِكرِ اللهِ والصلاة، ويدخُلَ فيما يُفسِدُ مِن التعادي والتباغُضِ في حقِّ الناس.

إن ذِكْرَ اللهِ والصلاةَ حقُّ الحقّ، والتحابَّ والموالاةَ حقُّ الخَلْقْ؛ فالخمرُ تَصُدُّ عن كلا الحَقَّيْنِ: عن حقِّ الحقّ، وعن حقِّ الخَلْق.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

صاحبُ هذا السؤالِ يَرَى اشتهارَ شُرْبِ الخمرِ والمشروباتِ الكحوليَّةِ فيما يُسمَّى: «العالَمَ المتحضِّرَ» اليومَ، وهذا - مِن وجهةِ نظرِهِ - يُثيرُ التساؤلَ حول معقوليَّةِ تحريمِ الخمرِ والمسكِراتِ في الإسلام.

مختصَرُ الإجابة:

إن الحكمةَ مِن تحريمِ الخمرِ جاء النصُّ القرآنيُّ بإيضاحِها أتمَّ الإيضاح؛ حيثُ بيَّن اللهُ تعالى ما فيها مِن المفاسد؛ مِن كونِها تُوقِعُ العداوةَ والبغضاءَ بين الناس، وتصُدُّ عن ذِكْرِ اللهِ وعن الصلاة؛ لما يُصيبُ عقلَ شارِبِها مِن ضَعْفٍ وسفاهةٍ تُفْضي به إلى الإتيانِ بالمُنكَراتِ مِن الأقوالِ والأفعال، ومِن أعظَمِ مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ: «حفظُ العقل».

قال ربُّنا تبارَكَ وتعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}

[المائدة: 90- 92].

فأعظمُ الفسادِ في تحريمِ الخَمْرِ: إفسادُ القلبِ الذي هو مَلِكُ البدَنِ أن يُصَدَّ عما خُلِقَ له في حقِّ الله؛ مِن ذِكرِ اللهِ والصلاة، ويدخُلَ فيما يُفسِدُ مِن التعادي والتباغُضِ في حقِّ الناس.

إن ذِكْرَ اللهِ والصلاةَ حقُّ الحقّ، والتحابَّ والموالاةَ حقُّ الخَلْقْ؛ فالخمرُ تَصُدُّ عن كلا الحَقَّيْنِ: عن حقِّ الحقّ، وعن حقِّ الخَلْق.

الجواب التفصيلي


حرَّم اللهُ الخمرَ؛ لما فيها مِن مفاسدَ عظيمةٍ، منها:

1- شُرْبُ الخمرِ يَعبَثُ بالقوَّةِ العاقلةِ للإنسان:

يُفضَّلُ الإنسانُ على سائرِ الحيوانِ بمَزِيَّةِ العقل، وكلُّ شيءٍ يُضعِفُ القوَّةَ العاقلةَ، أو يَعُوقُها عما خُلِقَتْ له؛ مِن تدبُّرِ الآيات، واستكشافِ الحقائق -: فهو عدُوُّ الإنسانيَّة، تجبُ مدافَعتُهُ وتجنُّبُهُ بقَدْرِ المستطاع.

والخمرُ تأتي إلى تلك القوَّةِ العاقلةِ التي هي مِن أكبرِ مَزَايَا الإنسان؛ فتَعبَثُ بها عبَثَ الريحِ العاصفةِ بالغصونِ الناعمة، ولا تَسْألْ عمَّا يَنشَأُ عن هذا العبَثِ مِن فساد.

فالمسكِراتُ تَذهَبُ بعقلِ مَن يتناوَلُها، ولو أنه يَبْقى كالجمادِ لا يَنطِقُ ولا يتحرَّكُ، لكان البلاءُ مقصورًا عليه، ولكنَّ السفاهةَ تخلُفُ التعقُّلَ، والحماقةَ تَظهَرُ في مكانِ الكِياسة؛ فلا تَسمَعُ إلا أقوالًا لاغيةً أو مُنكَرةً، ولا ترى إلا حرَكاتٍ مُزْرِيةً به، أو مُسيئةً إلى مَن يقرُبُ منه؛ قيل لعَدِيِّ بنِ حاتمٍ: ما لَكَ لا تَشرَبُ الخمرَ؟ قال: «مَعَاذَ اللهِ! أن أُصبِحَ حليمَ قَوْمي، وأُمسِيَ سفيهَهم»:

أ- تجيءُ السفاهةُ عند شاربِ الخمرِ في الأقوال؛ مِن جهةِ أن الخمرَ تعطِّلُ القوَّةَ العاقلة، وتترُكُ الخيالَ يُلْقي على الألسنةِ ما شاء، وشأنُ الخيالِ الذي لا يَعمَلُ تحت سلطانِ العقلِ: أن يصوِّرَ المعانيَ في غيرِ انتظام، ويُملِيَها على اللسانِ كما صوَّرها، فإذا هي أقوالٌ تُلبِسُ صاحبَها ثوبَ المَهَانة، أو تضَعُهُ موضِعَ مَن يَسخَرُ به، أو يُثيرُ عليه غضبًا؛ ويَكْفي متعاطيَ الخمورِ مِن ذلك: أن يُضرَبَ به المَثَلُ عندما يتكلَّمُ أحدٌ بما يُشبِهُ الهَذَيان.

ب- وتجيءُ سفاهتُهُ أيضًا في الحَرَكاتِ؛ مِن جهةِ أن الخمرَ تَعزِلُ العقلَ إلى جانب، وتُبْقي النفوسَ تحت تصرُّفِ الخيال؛ فتنبعِثُ إرادتُها عن غيرِ تعقُّل، وتصدُرُ أفعالُها في غيرِ حكمة، ومِن المعروفِ في المُسكِرِ: أنه يحسِّنُ القبيحَ، ويقبِّحُ الحسَنَ.

2- الخمرُ أُمُّ الخبائث:

فهي تندفِعُ بالشهَواتِ إلى الفسوقِ والموبِقات، وهل في إمكانِكَ أن تجدَ مُولَعًا بالخمورِ يَحفَظُ فَرْجَهُ عن مُوبِقةِ الزِّنى، أو ما يُشبِه الزِّنى؟! سقى قومٌ أعرابيَّةً شرابًا مُسكِرًا، فقالت: أيَشرَبُ نساؤُكم هذا الشرابَ؟ قالوا: نَعَمْ، قالت: فما يَدْري أحدُكم مَن أبوه!

وقد عُرِفَ أن السكرانَ يقولُ ما يُثيرُ غضَبَ نديمِه، أو مَن يَلْقاهُ في طريقِه، وما يأتي مِن وراءِ ثورةِ الغضبِ مِن سوءٍ، وعُرِفَ أن السكرانَ قد ينقلِبُ إلى حيوانيَّةٍ متحفِّزةٍ للشرِّ؛ فلا يُبالي أن يبسُطَ يدَهُ للاعتداءِ على الأنفُسِ؛ فيُصيبَ ضعيفًا، أو يُصيبَهُ قويٌّ، وكم مِن مشاجَراتٍ تعالت فيها أصواتٌ، وأُصيبَتْ فيها جسومٌ، وما هي إلا أثرٌ مِن آثارِ تعاطي المسكِرات؛ وما تزالُ المسكِراتُ تنقُصُ مِن عقلِ المُولَعِ بها شيئًا فشيئًا، حتى يقَعَ في خَبَال، أو ما يقرُبُ مِن الخَبَال.

ودَلَّتِ التجارِبُ على أن متعاطِيَ المسكِراتِ يكونُ ضعيفَ الفِكر، خفيفَ العقل، ولا يصلُ - ولو بعد صَحْوِه - إلى ما يصلُ إليه أقرانُهُ الأذكياء؛ مِن آراءٍ سامية، ونتائجَ صادقة؛ قيل لعُثْمانَ بنِ عفَّانَ رضِيَ اللهُ عنه: ما منَعَكَ أن تَشرَبَ الخمرَ في الجاهليَّة، ولا حرَجَ عليك؟ قال: «رأيتُها تَذهَبُ بالعقلِ جُمْلةً، وما رأيتُ شيئًا يَذهَبُ جُمْلةً ويعودُ جُمْلةً».

والعاقلُ لا يَليقُ به أن يتَّخِذَ ممن يتعاطَوْنَ المسكِراتِ أصحابًا، أو أعوانًا يُفْضي إليهم بشيءٍ مِن أسرارِ عمِلِه؛ فإن الأسرارَ المودَعةَ في النفوسِ إنما تحرُسُها العقول، وعقولُ المُولَعينَ بالمسكِراتِ، تفارِقُهم في كثيرٍ مِن الأحيان؛ فلا تَلبَثُ تلك الأسرارُ أن تخرُجَ مِن أفواهِهم، وهم لا يشعُرون؛ قال اللهُ تعالى:

{إِنَّمَا يريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}

[المائدة: 91]

:

فدَلَّ على أن الخمرَ تُوقِعُ البغضاءَ والشحناءَ بين الناس؛ وهذا واقعٌ؛ فإن متعاطيَها يفسُدُ عقلُه، وإذا تفطَّن بعد ذلك لِما ترتَّب على شربِهِ لها مع زملائِهِ، ومع أصحابِهِ -: حصَلَ في قلبِهِ مِن الشحناءِ والبغضاءِ لهم ما اللهُ به عليمٌ؛ لِما ترتَّب على تزيينِهم له شربَ الخمرِ مِن الفسادِ الكبير، ويقَعُ بينهم مِن المضارَبةِ والمقاتَلةِ في شربِها ما يَجعَلُهم أعداءً بعد ذلك، فهم عند شُربِها وسُكرِهم لا يَعقِلون، فربَّما تقاتَلوا وتضارَبوا، وربما وقَعوا في الفواحش؛ فهم لا يَعقِلون، بل المجنونُ العاديُّ خيرٌ منهم؛ فإن هؤلاءِ مجانينُ يَضرِبون ويقتُلون.

والخمرُ تؤدِّي إلى فسادِ الأخلاق؛ فإن الأخلاقَ الفاضلةَ نتيجةٌ لاعتدالِ القُوَى النفسيَّة، وسلطانُ هذه القُوَى العقلُ، وقانونُهُ الشرعُ، والسُّكْرُ اعتداءٌ على هذا السلطانِ وعلى قانونِه، ونبذٌ لسُلْطتِهما، ومتى ذهَبَ الحاكمُ والقانونُ، كانت المملكةُ فَوْضَى، كما أن السُّكرَ مفسدةٌ للعقلِ والأخلاقِ معًا؛ كما هو مشاهَدٌ ومعروفٌ، وهو الغائلةُ الأُولى للخمرِ، وأن ضعفَ المِزاجِ سببٌ له، كما يُشاهَدُ في أخلاقِ المَرْضى.

فالسُّكرُ يَذهَبُ بالعِفَّةِ والوَقَار، ويَجعَلُ الحليمَ سفيهًا، والحكيمَ جهولًا، والحَيِيَّ وَقِحًا، والنزيهَ بذيئًا، والأمينَ خوَّانًا، والشجاعَ متهوِّرًا أو جَبَانًا؛ فهذه أمثلةٌ مِن أصولِ الأخلاق، يُقاسُ بها غيرُها مما يُشاهَدُ أثرُه، ويُعرَفُ مصدرُه.

كما أن شربَ الخمرِ يؤدِّي إلى فسادِ تربيةِ العيال، والجنايةِ على عِفَّةِ النساء، وقد قال غيرُ واحدٍ مِن الواقِفين على أسرارِ البيوت، والمراقِبين لسِيَرِ التربية: «إنه لا يكادُ يُوجَدُ مدمِنُ خمرٍ عفيفَ المرأة، مُربَّى الولَد»، ولا يَسَعُنا الآنَ أن نُطيلَ في هذا الموضوع.

3- مِن مفاسدِ الخمرِ: الإسرافُ والتبذير:

ففي بذلِ الأموالِ في شراءِ الخمرِ لشربِهِ: إنفاقُ المالِ في غيرِ فائدة، بل إنفاقُهُ فيما يعودُ بالخُسْران.

فكم أفقَرَتِ الخمرُ غنيًّا، وخرَّبت بيتًا عامرًا؛ وذلك لأنها تُفْضي إلى جميعِ أنواعِ الإسرافِ والتبذير.

وقد بيَّنَتِ الآيةُ الكريمةُ التي نزَلَت في شأنِ تحريمِ الخمرِ تحريمًا قطعيًّا، كثيرًا مِن مفاسدِها؛ قال اللهُ تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

[المائدة: 90]

، والأنصابُ: هي الأصنامُ التي يعبُدُونها مِن دونِ الله، ويَذبَحون عندها، والأزلامُ: هي القداحُ التي يستقسِمون بها ويطلُبون ما قُسِمَ لهم مِن الغَيْب؛ كلُّها أبطَلَها اللهُ وحرَّمها؛ فبيَّن سبحانه أن الخمرَ والمَيسِرَ رِجْسٌ مِن عملِ الشيطان؛ كالأنصابِ والأزلام؛ فقولُهُ: {رِجْسٌ} هذا يبيِّنُ تحريمَها، وأنها خبيثةٌ.

4- الخمرُ تَصرِفُ القلوبَ عن القيامِ بكثيرٍ مِن حقوقِ الخالقِ جلَّ شأنُه:

فلا يجتمِعُ الوَلُوعُ باحتساءِ أمِّ الخبائث، وتعظيمُ أمرِ اللهِ في نفسٍ واحدةٍ؛ قال اللهُ تعالى:

{وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ}

[المائدة: 91]

؛ فالخمرُ مِن أسبابِ الصدِّ عن ذِكرِ الله، وعن الصلاةِ وطاعةِ الله، وربما بَقِيَ الأيامَ واللياليَ لا يَعقِلُ ولا يصلِّي.