نص السؤال

إن النبيَّ ﷺ أكرَهَ الناسَ على الدخولِ في الإسلام، والإسلامُ إنما انتشَرَ بالسيف.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

تفسيرُ عواملِ انتشارِ الإسلام.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

هذه الشبهةُ مِن أشهرِ الشبهاتِ التي يُثيرُها المستشرِقون، بل إنها تُروَّجُ في شرقِ الدنيا وغربِها عند الحديثِ عن الإسلام، حتى شاعت في بلادِ الصِّين، كما شاعت في أوروبا.

والجوابُ عنها يحتاجُ إلى بيانِ الطريقِ الذي انتشَرَ به الإسلام، مع تقديمِ إطلالةٍ تاريخيَّةٍ على طريقِ انتشارِ الإسلامِ عبرَ مراحلِهِ وعصورِه.

ويتبيَّنُ ذلك مِن أوجُهٍ:

1- عواملُ انتشارِ الإسلام:

انتشَرَ الإسلامُ ذلك الانتشارَ الواسعَ المدى في زمنٍ غيرِ بعيدٍ، بعواملَ اقتضَتْها حكمةُ الله:

وأوَّلُ هذه العواملِ: متانةُ أصولِ الدِّين، وسَماحةُ شريعتِه، ووَضاءةُ ما دعا إليه مِن أخلاقٍ وآداب، فإذا صادَفتِ الدعوةُ ذا فطرةٍ سليمة، وعقلٍ راجح، فنظَرَ فيما يدعو إليه الدِّينُ مِن عقائدَ وأحكامٍ وآدابٍ -: لم يَلبَثْ أن يتقبَّلَ دعوتَه، ويصيرَ إلى إيمانٍ لا تزلزِلُهُ عواصفُ التضليل.

ثانيها: استقامةُ الدعاةِ، وتحلِّيهم بما يَدْعون إليه مِن خير.

ثالثُها: حكمةُ طُرُقِ الدعوة؛ فإن القرآنَ الكريمَ أرشَدَ الدعاةَ إلى الأخذِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسَنة، وأمَرَهم أن يتحرَّوْا في مجادَلاتِهم أحسنَ الطُّرُق.

رابعُها: بلاغةُ القول، وحُسْنُ البيان؛ ذلك أن بلاغةَ الداعي مما يأخُذُ إلى قَبولِ الدعوة؛ فإن إخراجَ الحقِّ في صورةٍ واضحةٍ جميلةٍ يُسرِعُ بإلقائِهِ في النفوس.

2- نظرةٌ تاريخيَّةٌ في كيفيَّةِ انتشارِ الإسلامِ في العالَم:

كان النبيُّ ﷺ يجاهِدُ في مكَّةَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسَنة، وقد عرَفَ الجميعُ ما كان يلاقيهِ مِن المشرِكين مِن أذًى، وما ينالُون به أصحابَهُ مِن سوءِ العذاب، حتى هاجَرَ بعضُ أصحابِهِ إلى الحبَشة، وهاجَرَ هو وبقيَّةُ المسلِمين إلى المدينةِ (يَثْرِبَ)، وهنالك تألَّف حوله حزبٌ مِن المهاجِرين والأنصار، وأصبَحَ هذا الحزبُ بين أربعةِ أصنافٍ مِن المخالِفين:

معاهَدون: وهم اليهودُ، وبعضُ قبائلَ مِن العرَب؛ كبني مُدلِجٍ، وبني ضَمْرةَ.

ومنافِقون: وهم الذين أظهَروا الإسلام، وأبطَنوا الكفر.

ومحارِبون: وهم كفَّارُ قُريشٍ ومَن شاكَلَهم في المجاهَرةِ بالعداوة، والسعيِ للقضاءِ على هذه الدعوةِ قبل ظهورِها.

ومتارَكون: وهم القبائلُ التي لم تتعرَّضْ لحربِهِﷺ، ولم تدخُلْ معه في عهدٍ.

وقد جرى حكمُ معامَلاتِهِ صلواتُ اللهِ عليه لهذه الأصنافِ الأربعةِ على مقتضى الحكمة؛ وهو:

- رعايةُ حقِّ المعاهَدين ما استقاموا على عهدِهم.

- والأخذُ في معامَلةِ المنافِقين بظاهرِ حالِهم.

- ومسالَمةُ المتارَكين ما داموا على حيادتِهم.

- وإعلانُ الحربِ على مَن وقَفَ موقفَ العَدُوِّ الذي لا يَرْعى عهدًا، ولا يَقبِضُ يدَهُ عن شرّ.

ومَن درَسَ غَزَواتِهِ ﷺ، وسَرَاياهُ، وجَدَها:

- إما حربًا لعَدُوٍّ لم يدَعْ أذًى وصَلتْ إليه يدُهُ إلا فعَلهُ؛ كغزوةِ بَدْرٍ.

- أو دفاعًا لعَدُوٍّ مهاجِمٍ؛ كغزوةِ أحُدٍ، وغزوةِ حُنَينٍ.

- أو مبادَرةً لعَدُوٍّ تحفَّز للشرِّ؛ كغزوةِ بني قُرَيظةَ، وغزوةِ المُرَيْسِيعِ، وغزوةِ دُومةَ الجَندَلِ، وغزوةِ ذاتِ السلاسلِ.

- أو كسرًا لشوكةِ عدُوٍّ نقَضَ العهدَ، وعُرِفَ بمحارَبةِ الدعوة، واتَّخَذَ كلَّ وسيلةٍ للانتقامِ مِن القائِمين بها، والقضاءِ عليها؛ كفتحِ مكَّة.

حارَبَ ﷺ أولئك الأعداءَ، وكان يحارِبُهم في جانبٍ عظيمٍ مِن السماحة؛ فنهى عن قتلِ النساءِ والأطفالِ والشيوخ، ونهى عن المُثْلة، وكان يُمْضي كلَّ تأمينٍ يصدُرُ مِن أحدٍ مِن المسلِمين لبعضِ المحارِبين، ولو صدَرَ التأمينُ مِن امرأةٍ أو عبدٍ،

وقال:

 «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»

؛ رواه أبو داود (4530)، والنَّسائيُّ (4734)

،

وقال لأمِّ هانئٍ لمَّا أجارَتِ ابنَ هُبَيرةَ: 

«قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ»

؛ رواه البخاري (357).

وكان ﷺ يُوصي بالإحسانِ إلى الأسرى، وقد يُطلِقُ سبيلَهم مِن غيرِ فداءٍ؛ كما أطلَقَ سبيلَ سبعينَ رجلًا مِن المشرِكين، هبَطوا عليه في صلحِ الحُدَيبِيَةِ يريدون غِرَّتَهُ؛ وقد أشار القرآنُ المجيدُ إلى هذه القضيَّةِ؛

فقال تعالى:

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}

[الفتح: 24].

وإذا عقَدَ ﷺ مع قومٍ عهدًا، حافَظَ على العهدِ إلى أن ينقُضُوهُ بأنفُسِهم، ومِن أظهرِ الأمثلةِ التي نسُوقُها على هذا: قصَّةُ أبي رافعٍ وقد بعَثَتْهُ قُريشٌ إلى النبيِّ ﷺ؛ فإنه لمَّا لَقِيَ النبيَّ ﷺ، وقَعَ في قلبِهِ الإيمانُ، وقال: يا رسولَ اللهِ، لا أَرجِعُ إليهم،

فقال النبيُّ ﷺ: 

«إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، ارْجِعْ إِليْهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الْآنَ، فَارْجِعْ»

 رواه أحمد (23857)، وأبو داود (2758).

ونَصَّ الفقهاءُ على: «أنه لا يُقتَلُ المعتوهُ، ولا الأعمى، ولا الزَّمِنُ»، ومِن الفقهاءِ مَن يقولُ: «لا يُقتَلُ الأعمى، والزَّمِنُ، ولو كانا ذَوَيْ رأيٍ وتدبير».

وما زال ﷺ يدافِعُ أولئك المعتدين على الوجهِ المذكورِ آنفًا، إلى أن شُرِعتِ الجِزْيةُ في السنةِ الثامنةِ أو التاسعةِ للهجرةِ،

ونزَلَ قولُهُ تعالى:

{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

[التوبة: 29]

فأخَذَ الجِزْيةَ مِن النصارى واليهودِ والمجوسِ؛ أخَذَها مِن نصارى نَجْرانَ، ومِن اليهودِ الذين كانوا باليمَنِ، ومِن المجوسِ الذين كانوا بالبحرَيْن، أما محارَبتُهُ ليهودِ المدينة، فكانت قبل شرعِ الجِزْية.

واختَلفَتِ أنظارُ الفقهاءِ فيمن تُقبَلُ منهم الجزيةُ، وقد قرَّر جماعةٌ منهم: أن الجزيةَ تُقبَلُ مِن كلِّ مخالِفٍ، ولو لم يكن مِن أهلِ الكتاب؛ قال مالكٌ: «تُقبَلُ الجزيةُ مِن جميعِ الكفَّارِ إلا مَن ارتَدَّ»؛ وبه قال الأوزاعيُّ، وفقهاءُ الشام.

وإذا لم يَرِدْ أن النبيَّ ﷺ أخَذَها مِن عبَدةِ الأصنام، فلِأَنَّ مشرِكي العربِ أسلَموا قبل نزولِ آيةِ الجزيةِ؛ لأنها إنما نزَلتْ بعد غزوةِ تَبُوكَ، وكان رسولُ اللهِ ﷺ قد فرَغَ مِن قتالِ العرب، واستوثَقَتْ كلُّها بالإسلام؛ فعدمُ أخذِهِ الجزيةَ مِن عبَدةِ الأصنامِ؛ لعدمِ وجودِ مَن تُؤخَذُ منه، لا لأنهم ليسوا مِن أهلِها،

وفي «صحيحِ مسلِمٍ» (1731)؛ أنه ﷺ قال: 

«وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ»،

 ثم أمَرهُ أن يدعُوَهم إلى الإسلامِ، أو الجزيةِ، أو يقاتِلَهم.

فلا شبهةَ أن الدعوةَ انتشَرَتْ في مكَّةَ بالحجَّةِ، ولا شكَّ أن الأنصارَ مِن الأوسِ والخزرجِ أسلَموا بمجرَّدِ الدعوةِ، وكذلك مَن أسلَمَ مِن اليهودِ بالمدينةِ، فإنهم أسلَموا وهم في حمايةِ العهدِ الذي كان بينهم وبين النبيِّ ﷺ.

وأسلَمَ قبل فتحِ مكَّةَ رجالٌ كثيرٌ مِن قُريشٍ باختيارٍ منهم؛ مثلُ: خالدِ بنِ الوليدِ، وعمرِو بنِ العاصِ، وطَلْحةَ بنِ أبي طَلْحةَ، ومِن غيرِ قُريشٍ؛ مثلُ: رِفاعةَ بنِ زيدٍ الجُذَاميِّ، وأبي موسى الأشعريِّ، وأصحابِهِ الأشعريِّين، وكذلك كان إسلامُ فريقٍ مِن الحبَشة.

ومَن أسلَمَ بعد فتحِ مكَّةَ مِن قُريشٍ، قد أسلَموا بعد أن أعطاهُمُ النبيُّ ﷺ الأمانَ بقولِهِ: 

«مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَهُوَ آمِنٌ»

رواه مسلم (1780)، وأبو داود (3022)

 واللفظُ له، وبقولِهِ - صلواتُ اللهِ عليه - لقُريشٍ: 

«لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ... اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»؛ كما في «السننِ الكبرى»

للبيهقيِّ (9/ 199 رقم 18275)

وغيرِها مِن مرويَّاتِ السِّيرة.

ونرى قبيلةَ ثَقِيفٍ لم يدخُلوا الإسلامَ يومَ كان النبيُّ ﷺ محاصِرًا لهم وهم بالطائف، ولكنهم بعد أن ترَكَهم، وعاد إلى المدينةِ، جاؤوا إلى المدينةِ، فأسلَموا بحقٍّ، ثم عادوا إلى قومِهم، وأخَذوهم إلى الإسلامِ بالدعوةِ، فأسلَموا؛ كما في «زاد المعاد» (3/ 433-437).

وكذلك كان الشأنُ في القبيلةِ التي يُسلِمُ رؤساؤُها مِن غيرِ حربٍ؛ فإنه يترُكُهم يدعُون بقيَّةَ قومِهم، ويُرسِلُ معهم مَن يدعو عامَّتَهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسَنة.

ومَن أسلَمَ في البلادِ التي تُقبَلُ مِن أهلِها الجزيةُ، لا يصحُّ أن يقالَ: «إنه أُكرِهَ على الإسلام»؛ لأن له سبيلًا إلى البقاءِ على دِينِهِ، وعدمِ الدخولِ في الإسلام؛ وذلك السبيلُ هو إعطاءُ الجزية، وليست الجزيةُ بالشيءِ الذي يَضطَرُّ الشخصَ إلى الخروجِ عن دِينِه؛ فإن النبيَّ ﷺ أمَرَ معاذًا إذْ أرسَلهُ إلى اليمَنِ: أن يأخُذَ مِن كلِّ محتلِمٍ دينارًا، أو قيمتَهُ، وهذا المقدارُ اليسيرُ إنما يؤخَذُ مِن الرجُلِ البالغِ القادرِ على أدائِه، ولا يؤخَذُ مِن امرأةٍ، أو صبيٍّ، أو فقيرٍ عاجزٍ عن الكسب.

وكذلك نرى الخلفاءَ الراشِدين في فتوحاتِهم، لم يَحمِلوا أمَّةً على الإسلام، بل كانوا يخيِّرون الأممَ بين الإسلامِ والجِزْيةِ والمقاتَلة،

وفي حديثِ المُغيرةِ بنِ شُعْبةَ لعاملِ كِسْرَى: 

«أَمَرَنَا نَبِيُّنَا: أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، أَوْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ»

؛ رواه البخاري (3159).

وفي عهدِ بني أميَّةَ: فُتِحَتْ تونُسُ والجزائرُ والمغربُ الأقصى وبلادُ الأَندَلُس، وانتشَرَ الإسلامُ في الهِندِ على يدِ فاتِحِها السلطانِ محمودِ بنِ سُبُكْتِكِينَ، ثم المغولِ الذين أسَّسوا فيها الدولةَ المغوليَّة.

ووصَلَ الإسلامُ إلى الصِّينِ منذُ عهدٍ قديمٍ على أيدي الدعاةِ مِن التجَّارِ والمهاجِرين الذين يَرحَلون إلى تلك البلادِ بحرًا مِن طريقِ الهند، أو بَرًّا مِن طريقِ ما وراءَ النهر، ودخَلَ جزائرَ سُومَطْرةَ وجاوَةَ منذُ عهدٍ بعيدٍ على أيدي الدعاةِ أيضًا مِن التجَّارِ الوافِدين عليها، ووصَلَ إلى جزائرِ سَرَنْدِيبَ «سَيْلانَ»، وجزائرِ الفِلِبِّين، وسيام، وأستراليا، والبرازيلِ، وبلادٍ أخرى مِن أمريكا.

وماذا يقولُ هؤلاءِ الذين يزعُمون أن الإسلامَ انتشَرَ بالسيفِ؛ إذا نظَروا في مسلِمي «الصِّينِ»، و«جاوَةَ»، وغيرِهم مِن الأممِ التي دخَلتِ الإسلامَ بمجرَّدِ الدعاية؟!

وانتشَرَ في «السُّودانِ»، وبلَغَ بلادَ «السِّنْغالِ»، و«غيانا»، و«ساحلِ العاج»، و«سِيرَالْيُونا»، و«نَيْجِيرْيا»، و«ساحلِ الذهَبِ»، و«تُوجُو»، و«الكَامِيرونِ»، و«جنوبِ إفريقيَّةَ»، و«مستعمَرةِ الكاب»، و«مَدْغَشْقَرَ»، و«زَنْجِبارَ»، و«بلادِ الحبَشة».

وانتشَرَ الإسلامُ بالفتحِ العثمانيِّ في «آسيا الصغرى»، و«الآسِتانةِ»، وشرقيِّ «أوربا»، وهو اليومَ في «بُولُونْيا»، و«يُوغُوسْلافْيا»، و«أَلْبانيا»، وبلادِ «اليونانِ»، وانتشَرَ في المغولِ «التتارِ»، وبلادِ «رُوسْيا» بالدعوةِ الخالصة.

3- شهاداتُ غيرِ المسلِمين مِن الأوروبِّيِّين:

اعترَفَ بعضُ مُنصِفي الأوربِّيِّين بهذه الحقيقة؛ مثلُ: السِّير «تُومَاسْ أَرْنُولْد)؛ حيثُ قال: «لا يَعرِفُ الإسلامُ بين ما نزَلَ به مِن الخطوبِ والوَيْلاتِ خَطْبًا أشدَّ هَوْلًا مِن غَزَواتِ المغول؛ فقد انسابَتْ جيوشُ جَنكِيزْ خانَ انسيابَ الثلوجِ مِن قُنَنِ الجبال، واكتسَحَتْ في طريقِها العواصمَ الإسلاميَّةَ، وأتت على ما كان لها مِن مدنيَّةٍ وثقافةٍ، على أن الإسلامَ لم يَلبَثْ أن نهَضَ مِن تحتِ أنقاضِ عظَمتِهِ الأُولى، وأطلالِ مجدِهِ التالد، واستطاع بواسِطةِ دعاتِهِ: أن يَجذِبَ أولئك الفاتِحين المتبَرْبِرين، ويَحمِلَهم على اعتناقِه، ويَرجِعُ الفضلُ في ذلك إلى حماسةِ الدعاةِ مِن المسلِمين الذين كانوا يلاقُون مِن الصعوباتِ أشدَّها؛ لمناهَضةِ منافِسَيْنِ عظيمَيْنِ، هما: المسيحيَّةُ، والبُوذيَّة».

وقال في كتابِهِ «تاريخِ انتشارِ الأديان»: «إن اقتناعَ المسلِمين بأن دِينَهم دِينُ الحقِّ، قد غرَسَ في نفوسِهم المِرانَ والاندفاعَ في الدعايةِ إليه حيثما وُجِدوا، وآيةُ هذه الدعايةِ في ثلاثةَ عشَرَ قرنًا مضت: ما نراه اليومَ مِن استقرارِ الإسلامِ في نفوسِ بضعِ مئاتٍ مِن ملايينِ البشَرِ منتشِرين في كلِّ بُقْعةٍ مِن بقاعِ الأرض».

وقال: «بينما كان المغولُ يُغِيرون على بغدادَ، ويَنْهَبونها عام (656 هـ)، ويحتلُّون بيتَ الخلافةِ مِن بني العبَّاس، ويُغرِقُونه بالدماء، وبينما كان (فِرْدِينَانْد) يكتسِحُ بقايا المسلِمين في قُرطُبةَ عامَ (634 هـ)، ويُرغِمُ غَرْناطةَ - وهي المَعقِلُ الأخيرُ للمسلِمين في الأَندَلُس - على أداءِ الخَرَاج -: كان الإسلامُ يَظفَرُ في خلالِ ذلك بالتقدُّمِ والانتشارِ في جزائرِ سُومَطْرةَ».

وقال سليمان نظيف بك التُّرْكيُّ في التعليقِ على هذا الذي كتَبهُ السِّير «أَرْنُولْد»، في صحيفةِ «صوت تلغراف»: «فالتُّرْكُ السَّلْجُوقيُّون في القرنِ الخامسِ الهجريِّ، والمغولُ مِن بعدِهم بقرنَيْنِ، إنما جاؤوا إلى بلادِ الإسلامِ أعداءً مُغِيرين؛ فما لَبِثوا أن دخَلوا تحتَ جناحِ هذا الدِّين، وصاروا إلى دعاتِهِ وناشِرِيه».

وقال الفيلسوفُ الإنجليزيُّ «بِرْتْرَانْد راسِل»: «وفي المعارَكِ الأُولى بين المسيحيَّةِ والإسلامِ: كان المسيحيُّون هم المتعصِّبون، والمسلِمون هم المنتصِرون، وقد اختَرعَتِ الدِّعايةُ المسيحيَّةُ قصصًا عن التعصُّبِ الإسلاميِّ، ولكنها - جميعًا - كاذبةٌ تمامًا إذا طبَّقناها على القرونِ الأُولى في الإسلام؛ فقد تعلَّم كلُّ مسيحيٍّ قصَّةَ الخليفةِ الذي دمَّر مكتبةَ الإسكندريَّة، وفي الواقعِ: لقد دُمِّرتْ هذه المكتبةُ مِرارًا، وكان أوَّلُ مَن دمَّرها هو يُولْيُوس قَيصَر، وكانت آخِرَ مرَّةٍ وُجِدتْ فيها المكتبةُ قبل ظهورِ الرسول، وقد تسامَحَ المسلِمون الأُوَلُ - على نقيضِ المسيحيِّين - مع مَن يُطلِقون عليهم أهلَ الكتابِ؛ على شريطةِ أن يَدفَعوا الجزيةَ، وقد قُوبِلَ المسلِمون بالتَّرْحابِ لاتِّساعِ أُفُقِهم؛ وهذا هو ما سهَّل عليهم فتوحاتِهم كثيرًا، على عكسِ المسيحيِّين الذين لم يقتصِرِ اضطهادُهم على الوثنيِّين، بل اضطهَدوا بعضُهم البعضَ». «المجتمَعُ البشَريُّ في الأخلاقِ والسياسة» (ص193).

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (216).

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يريدُ السائلُ أن يقولَ: إن الإسلامَ دينٌ دَمَويٌّ، انتشَرَ بالسيف، ولم يكن لأصحابِهِ حظٌّ مِن أخلاقيَّاتِ الحربِ ولا آدابِها.

مختصَرُ الإجابة:

الإسلامُ لم ينتشِرْ بالسيف، وإنما انتشَرَ بالدعوةِ والحُجَّة، وإذا كان للفتحِ أثرٌ في انتشارِ الإسلامِ، فمِن جهةِ أنَّ فتحَ البلادِ يستدعي قصدَ كثيرٍ مِن المسلِمين للرحلةِ إليها، والإقامةِ في ربوعِها؛ فيكثُرُ اتِّصالُ أهلِ البلادِ بالمسلِمين، فيَقِفون في محادَثتِهم ومعامَلتِهم على جانبٍ مِن حقائقِ الدين، ولو لم يتعمَّدوا البحثَ عنها.

ثم إن ظهورَ الدعاةِ بمَظهَرِ العِزَّةِ والوَجاهةِ يَجعَلُ العيونَ ترمُقُهم بإجلالٍ، فتقرُبُ منهمُ النفوسُ، حتى إذا وجَدَتْهم على دِينٍ أفضَلَ مِن دِينِها، وشريعةٍ أحكَمَ مِن شريعتِها، وآدابٍ أرفَعَ مِن آدابِها -: آمنَتْ بما يؤمِنون، وسارت في حياتِها على ما يَسِيرون.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يريدُ السائلُ أن يقولَ: إن الإسلامَ دينٌ دَمَويٌّ، انتشَرَ بالسيف، ولم يكن لأصحابِهِ حظٌّ مِن أخلاقيَّاتِ الحربِ ولا آدابِها.

مختصَرُ الإجابة:

الإسلامُ لم ينتشِرْ بالسيف، وإنما انتشَرَ بالدعوةِ والحُجَّة، وإذا كان للفتحِ أثرٌ في انتشارِ الإسلامِ، فمِن جهةِ أنَّ فتحَ البلادِ يستدعي قصدَ كثيرٍ مِن المسلِمين للرحلةِ إليها، والإقامةِ في ربوعِها؛ فيكثُرُ اتِّصالُ أهلِ البلادِ بالمسلِمين، فيَقِفون في محادَثتِهم ومعامَلتِهم على جانبٍ مِن حقائقِ الدين، ولو لم يتعمَّدوا البحثَ عنها.

ثم إن ظهورَ الدعاةِ بمَظهَرِ العِزَّةِ والوَجاهةِ يَجعَلُ العيونَ ترمُقُهم بإجلالٍ، فتقرُبُ منهمُ النفوسُ، حتى إذا وجَدَتْهم على دِينٍ أفضَلَ مِن دِينِها، وشريعةٍ أحكَمَ مِن شريعتِها، وآدابٍ أرفَعَ مِن آدابِها -: آمنَتْ بما يؤمِنون، وسارت في حياتِها على ما يَسِيرون.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

هذه الشبهةُ مِن أشهرِ الشبهاتِ التي يُثيرُها المستشرِقون، بل إنها تُروَّجُ في شرقِ الدنيا وغربِها عند الحديثِ عن الإسلام، حتى شاعت في بلادِ الصِّين، كما شاعت في أوروبا.

والجوابُ عنها يحتاجُ إلى بيانِ الطريقِ الذي انتشَرَ به الإسلام، مع تقديمِ إطلالةٍ تاريخيَّةٍ على طريقِ انتشارِ الإسلامِ عبرَ مراحلِهِ وعصورِه.

ويتبيَّنُ ذلك مِن أوجُهٍ:

1- عواملُ انتشارِ الإسلام:

انتشَرَ الإسلامُ ذلك الانتشارَ الواسعَ المدى في زمنٍ غيرِ بعيدٍ، بعواملَ اقتضَتْها حكمةُ الله:

وأوَّلُ هذه العواملِ: متانةُ أصولِ الدِّين، وسَماحةُ شريعتِه، ووَضاءةُ ما دعا إليه مِن أخلاقٍ وآداب، فإذا صادَفتِ الدعوةُ ذا فطرةٍ سليمة، وعقلٍ راجح، فنظَرَ فيما يدعو إليه الدِّينُ مِن عقائدَ وأحكامٍ وآدابٍ -: لم يَلبَثْ أن يتقبَّلَ دعوتَه، ويصيرَ إلى إيمانٍ لا تزلزِلُهُ عواصفُ التضليل.

ثانيها: استقامةُ الدعاةِ، وتحلِّيهم بما يَدْعون إليه مِن خير.

ثالثُها: حكمةُ طُرُقِ الدعوة؛ فإن القرآنَ الكريمَ أرشَدَ الدعاةَ إلى الأخذِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسَنة، وأمَرَهم أن يتحرَّوْا في مجادَلاتِهم أحسنَ الطُّرُق.

رابعُها: بلاغةُ القول، وحُسْنُ البيان؛ ذلك أن بلاغةَ الداعي مما يأخُذُ إلى قَبولِ الدعوة؛ فإن إخراجَ الحقِّ في صورةٍ واضحةٍ جميلةٍ يُسرِعُ بإلقائِهِ في النفوس.

2- نظرةٌ تاريخيَّةٌ في كيفيَّةِ انتشارِ الإسلامِ في العالَم:

كان النبيُّ ﷺ يجاهِدُ في مكَّةَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسَنة، وقد عرَفَ الجميعُ ما كان يلاقيهِ مِن المشرِكين مِن أذًى، وما ينالُون به أصحابَهُ مِن سوءِ العذاب، حتى هاجَرَ بعضُ أصحابِهِ إلى الحبَشة، وهاجَرَ هو وبقيَّةُ المسلِمين إلى المدينةِ (يَثْرِبَ)، وهنالك تألَّف حوله حزبٌ مِن المهاجِرين والأنصار، وأصبَحَ هذا الحزبُ بين أربعةِ أصنافٍ مِن المخالِفين:

معاهَدون: وهم اليهودُ، وبعضُ قبائلَ مِن العرَب؛ كبني مُدلِجٍ، وبني ضَمْرةَ.

ومنافِقون: وهم الذين أظهَروا الإسلام، وأبطَنوا الكفر.

ومحارِبون: وهم كفَّارُ قُريشٍ ومَن شاكَلَهم في المجاهَرةِ بالعداوة، والسعيِ للقضاءِ على هذه الدعوةِ قبل ظهورِها.

ومتارَكون: وهم القبائلُ التي لم تتعرَّضْ لحربِهِﷺ، ولم تدخُلْ معه في عهدٍ.

وقد جرى حكمُ معامَلاتِهِ صلواتُ اللهِ عليه لهذه الأصنافِ الأربعةِ على مقتضى الحكمة؛ وهو:

- رعايةُ حقِّ المعاهَدين ما استقاموا على عهدِهم.

- والأخذُ في معامَلةِ المنافِقين بظاهرِ حالِهم.

- ومسالَمةُ المتارَكين ما داموا على حيادتِهم.

- وإعلانُ الحربِ على مَن وقَفَ موقفَ العَدُوِّ الذي لا يَرْعى عهدًا، ولا يَقبِضُ يدَهُ عن شرّ.

ومَن درَسَ غَزَواتِهِ ﷺ، وسَرَاياهُ، وجَدَها:

- إما حربًا لعَدُوٍّ لم يدَعْ أذًى وصَلتْ إليه يدُهُ إلا فعَلهُ؛ كغزوةِ بَدْرٍ.

- أو دفاعًا لعَدُوٍّ مهاجِمٍ؛ كغزوةِ أحُدٍ، وغزوةِ حُنَينٍ.

- أو مبادَرةً لعَدُوٍّ تحفَّز للشرِّ؛ كغزوةِ بني قُرَيظةَ، وغزوةِ المُرَيْسِيعِ، وغزوةِ دُومةَ الجَندَلِ، وغزوةِ ذاتِ السلاسلِ.

- أو كسرًا لشوكةِ عدُوٍّ نقَضَ العهدَ، وعُرِفَ بمحارَبةِ الدعوة، واتَّخَذَ كلَّ وسيلةٍ للانتقامِ مِن القائِمين بها، والقضاءِ عليها؛ كفتحِ مكَّة.

حارَبَ ﷺ أولئك الأعداءَ، وكان يحارِبُهم في جانبٍ عظيمٍ مِن السماحة؛ فنهى عن قتلِ النساءِ والأطفالِ والشيوخ، ونهى عن المُثْلة، وكان يُمْضي كلَّ تأمينٍ يصدُرُ مِن أحدٍ مِن المسلِمين لبعضِ المحارِبين، ولو صدَرَ التأمينُ مِن امرأةٍ أو عبدٍ،

وقال:

 «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»

؛ رواه أبو داود (4530)، والنَّسائيُّ (4734)

،

وقال لأمِّ هانئٍ لمَّا أجارَتِ ابنَ هُبَيرةَ: 

«قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ»

؛ رواه البخاري (357).

وكان ﷺ يُوصي بالإحسانِ إلى الأسرى، وقد يُطلِقُ سبيلَهم مِن غيرِ فداءٍ؛ كما أطلَقَ سبيلَ سبعينَ رجلًا مِن المشرِكين، هبَطوا عليه في صلحِ الحُدَيبِيَةِ يريدون غِرَّتَهُ؛ وقد أشار القرآنُ المجيدُ إلى هذه القضيَّةِ؛

فقال تعالى:

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}

[الفتح: 24].

وإذا عقَدَ ﷺ مع قومٍ عهدًا، حافَظَ على العهدِ إلى أن ينقُضُوهُ بأنفُسِهم، ومِن أظهرِ الأمثلةِ التي نسُوقُها على هذا: قصَّةُ أبي رافعٍ وقد بعَثَتْهُ قُريشٌ إلى النبيِّ ﷺ؛ فإنه لمَّا لَقِيَ النبيَّ ﷺ، وقَعَ في قلبِهِ الإيمانُ، وقال: يا رسولَ اللهِ، لا أَرجِعُ إليهم،

فقال النبيُّ ﷺ: 

«إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، ارْجِعْ إِليْهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الْآنَ، فَارْجِعْ»

 رواه أحمد (23857)، وأبو داود (2758).

ونَصَّ الفقهاءُ على: «أنه لا يُقتَلُ المعتوهُ، ولا الأعمى، ولا الزَّمِنُ»، ومِن الفقهاءِ مَن يقولُ: «لا يُقتَلُ الأعمى، والزَّمِنُ، ولو كانا ذَوَيْ رأيٍ وتدبير».

وما زال ﷺ يدافِعُ أولئك المعتدين على الوجهِ المذكورِ آنفًا، إلى أن شُرِعتِ الجِزْيةُ في السنةِ الثامنةِ أو التاسعةِ للهجرةِ،

ونزَلَ قولُهُ تعالى:

{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

[التوبة: 29]

فأخَذَ الجِزْيةَ مِن النصارى واليهودِ والمجوسِ؛ أخَذَها مِن نصارى نَجْرانَ، ومِن اليهودِ الذين كانوا باليمَنِ، ومِن المجوسِ الذين كانوا بالبحرَيْن، أما محارَبتُهُ ليهودِ المدينة، فكانت قبل شرعِ الجِزْية.

واختَلفَتِ أنظارُ الفقهاءِ فيمن تُقبَلُ منهم الجزيةُ، وقد قرَّر جماعةٌ منهم: أن الجزيةَ تُقبَلُ مِن كلِّ مخالِفٍ، ولو لم يكن مِن أهلِ الكتاب؛ قال مالكٌ: «تُقبَلُ الجزيةُ مِن جميعِ الكفَّارِ إلا مَن ارتَدَّ»؛ وبه قال الأوزاعيُّ، وفقهاءُ الشام.

وإذا لم يَرِدْ أن النبيَّ ﷺ أخَذَها مِن عبَدةِ الأصنام، فلِأَنَّ مشرِكي العربِ أسلَموا قبل نزولِ آيةِ الجزيةِ؛ لأنها إنما نزَلتْ بعد غزوةِ تَبُوكَ، وكان رسولُ اللهِ ﷺ قد فرَغَ مِن قتالِ العرب، واستوثَقَتْ كلُّها بالإسلام؛ فعدمُ أخذِهِ الجزيةَ مِن عبَدةِ الأصنامِ؛ لعدمِ وجودِ مَن تُؤخَذُ منه، لا لأنهم ليسوا مِن أهلِها،

وفي «صحيحِ مسلِمٍ» (1731)؛ أنه ﷺ قال: 

«وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ»،

 ثم أمَرهُ أن يدعُوَهم إلى الإسلامِ، أو الجزيةِ، أو يقاتِلَهم.

فلا شبهةَ أن الدعوةَ انتشَرَتْ في مكَّةَ بالحجَّةِ، ولا شكَّ أن الأنصارَ مِن الأوسِ والخزرجِ أسلَموا بمجرَّدِ الدعوةِ، وكذلك مَن أسلَمَ مِن اليهودِ بالمدينةِ، فإنهم أسلَموا وهم في حمايةِ العهدِ الذي كان بينهم وبين النبيِّ ﷺ.

وأسلَمَ قبل فتحِ مكَّةَ رجالٌ كثيرٌ مِن قُريشٍ باختيارٍ منهم؛ مثلُ: خالدِ بنِ الوليدِ، وعمرِو بنِ العاصِ، وطَلْحةَ بنِ أبي طَلْحةَ، ومِن غيرِ قُريشٍ؛ مثلُ: رِفاعةَ بنِ زيدٍ الجُذَاميِّ، وأبي موسى الأشعريِّ، وأصحابِهِ الأشعريِّين، وكذلك كان إسلامُ فريقٍ مِن الحبَشة.

ومَن أسلَمَ بعد فتحِ مكَّةَ مِن قُريشٍ، قد أسلَموا بعد أن أعطاهُمُ النبيُّ ﷺ الأمانَ بقولِهِ: 

«مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَهُوَ آمِنٌ»

رواه مسلم (1780)، وأبو داود (3022)

 واللفظُ له، وبقولِهِ - صلواتُ اللهِ عليه - لقُريشٍ: 

«لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ... اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»؛ كما في «السننِ الكبرى»

للبيهقيِّ (9/ 199 رقم 18275)

وغيرِها مِن مرويَّاتِ السِّيرة.

ونرى قبيلةَ ثَقِيفٍ لم يدخُلوا الإسلامَ يومَ كان النبيُّ ﷺ محاصِرًا لهم وهم بالطائف، ولكنهم بعد أن ترَكَهم، وعاد إلى المدينةِ، جاؤوا إلى المدينةِ، فأسلَموا بحقٍّ، ثم عادوا إلى قومِهم، وأخَذوهم إلى الإسلامِ بالدعوةِ، فأسلَموا؛ كما في «زاد المعاد» (3/ 433-437).

وكذلك كان الشأنُ في القبيلةِ التي يُسلِمُ رؤساؤُها مِن غيرِ حربٍ؛ فإنه يترُكُهم يدعُون بقيَّةَ قومِهم، ويُرسِلُ معهم مَن يدعو عامَّتَهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسَنة.

ومَن أسلَمَ في البلادِ التي تُقبَلُ مِن أهلِها الجزيةُ، لا يصحُّ أن يقالَ: «إنه أُكرِهَ على الإسلام»؛ لأن له سبيلًا إلى البقاءِ على دِينِهِ، وعدمِ الدخولِ في الإسلام؛ وذلك السبيلُ هو إعطاءُ الجزية، وليست الجزيةُ بالشيءِ الذي يَضطَرُّ الشخصَ إلى الخروجِ عن دِينِه؛ فإن النبيَّ ﷺ أمَرَ معاذًا إذْ أرسَلهُ إلى اليمَنِ: أن يأخُذَ مِن كلِّ محتلِمٍ دينارًا، أو قيمتَهُ، وهذا المقدارُ اليسيرُ إنما يؤخَذُ مِن الرجُلِ البالغِ القادرِ على أدائِه، ولا يؤخَذُ مِن امرأةٍ، أو صبيٍّ، أو فقيرٍ عاجزٍ عن الكسب.

وكذلك نرى الخلفاءَ الراشِدين في فتوحاتِهم، لم يَحمِلوا أمَّةً على الإسلام، بل كانوا يخيِّرون الأممَ بين الإسلامِ والجِزْيةِ والمقاتَلة،

وفي حديثِ المُغيرةِ بنِ شُعْبةَ لعاملِ كِسْرَى: 

«أَمَرَنَا نَبِيُّنَا: أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، أَوْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ»

؛ رواه البخاري (3159).

وفي عهدِ بني أميَّةَ: فُتِحَتْ تونُسُ والجزائرُ والمغربُ الأقصى وبلادُ الأَندَلُس، وانتشَرَ الإسلامُ في الهِندِ على يدِ فاتِحِها السلطانِ محمودِ بنِ سُبُكْتِكِينَ، ثم المغولِ الذين أسَّسوا فيها الدولةَ المغوليَّة.

ووصَلَ الإسلامُ إلى الصِّينِ منذُ عهدٍ قديمٍ على أيدي الدعاةِ مِن التجَّارِ والمهاجِرين الذين يَرحَلون إلى تلك البلادِ بحرًا مِن طريقِ الهند، أو بَرًّا مِن طريقِ ما وراءَ النهر، ودخَلَ جزائرَ سُومَطْرةَ وجاوَةَ منذُ عهدٍ بعيدٍ على أيدي الدعاةِ أيضًا مِن التجَّارِ الوافِدين عليها، ووصَلَ إلى جزائرِ سَرَنْدِيبَ «سَيْلانَ»، وجزائرِ الفِلِبِّين، وسيام، وأستراليا، والبرازيلِ، وبلادٍ أخرى مِن أمريكا.

وماذا يقولُ هؤلاءِ الذين يزعُمون أن الإسلامَ انتشَرَ بالسيفِ؛ إذا نظَروا في مسلِمي «الصِّينِ»، و«جاوَةَ»، وغيرِهم مِن الأممِ التي دخَلتِ الإسلامَ بمجرَّدِ الدعاية؟!

وانتشَرَ في «السُّودانِ»، وبلَغَ بلادَ «السِّنْغالِ»، و«غيانا»، و«ساحلِ العاج»، و«سِيرَالْيُونا»، و«نَيْجِيرْيا»، و«ساحلِ الذهَبِ»، و«تُوجُو»، و«الكَامِيرونِ»، و«جنوبِ إفريقيَّةَ»، و«مستعمَرةِ الكاب»، و«مَدْغَشْقَرَ»، و«زَنْجِبارَ»، و«بلادِ الحبَشة».

وانتشَرَ الإسلامُ بالفتحِ العثمانيِّ في «آسيا الصغرى»، و«الآسِتانةِ»، وشرقيِّ «أوربا»، وهو اليومَ في «بُولُونْيا»، و«يُوغُوسْلافْيا»، و«أَلْبانيا»، وبلادِ «اليونانِ»، وانتشَرَ في المغولِ «التتارِ»، وبلادِ «رُوسْيا» بالدعوةِ الخالصة.

3- شهاداتُ غيرِ المسلِمين مِن الأوروبِّيِّين:

اعترَفَ بعضُ مُنصِفي الأوربِّيِّين بهذه الحقيقة؛ مثلُ: السِّير «تُومَاسْ أَرْنُولْد)؛ حيثُ قال: «لا يَعرِفُ الإسلامُ بين ما نزَلَ به مِن الخطوبِ والوَيْلاتِ خَطْبًا أشدَّ هَوْلًا مِن غَزَواتِ المغول؛ فقد انسابَتْ جيوشُ جَنكِيزْ خانَ انسيابَ الثلوجِ مِن قُنَنِ الجبال، واكتسَحَتْ في طريقِها العواصمَ الإسلاميَّةَ، وأتت على ما كان لها مِن مدنيَّةٍ وثقافةٍ، على أن الإسلامَ لم يَلبَثْ أن نهَضَ مِن تحتِ أنقاضِ عظَمتِهِ الأُولى، وأطلالِ مجدِهِ التالد، واستطاع بواسِطةِ دعاتِهِ: أن يَجذِبَ أولئك الفاتِحين المتبَرْبِرين، ويَحمِلَهم على اعتناقِه، ويَرجِعُ الفضلُ في ذلك إلى حماسةِ الدعاةِ مِن المسلِمين الذين كانوا يلاقُون مِن الصعوباتِ أشدَّها؛ لمناهَضةِ منافِسَيْنِ عظيمَيْنِ، هما: المسيحيَّةُ، والبُوذيَّة».

وقال في كتابِهِ «تاريخِ انتشارِ الأديان»: «إن اقتناعَ المسلِمين بأن دِينَهم دِينُ الحقِّ، قد غرَسَ في نفوسِهم المِرانَ والاندفاعَ في الدعايةِ إليه حيثما وُجِدوا، وآيةُ هذه الدعايةِ في ثلاثةَ عشَرَ قرنًا مضت: ما نراه اليومَ مِن استقرارِ الإسلامِ في نفوسِ بضعِ مئاتٍ مِن ملايينِ البشَرِ منتشِرين في كلِّ بُقْعةٍ مِن بقاعِ الأرض».

وقال: «بينما كان المغولُ يُغِيرون على بغدادَ، ويَنْهَبونها عام (656 هـ)، ويحتلُّون بيتَ الخلافةِ مِن بني العبَّاس، ويُغرِقُونه بالدماء، وبينما كان (فِرْدِينَانْد) يكتسِحُ بقايا المسلِمين في قُرطُبةَ عامَ (634 هـ)، ويُرغِمُ غَرْناطةَ - وهي المَعقِلُ الأخيرُ للمسلِمين في الأَندَلُس - على أداءِ الخَرَاج -: كان الإسلامُ يَظفَرُ في خلالِ ذلك بالتقدُّمِ والانتشارِ في جزائرِ سُومَطْرةَ».

وقال سليمان نظيف بك التُّرْكيُّ في التعليقِ على هذا الذي كتَبهُ السِّير «أَرْنُولْد»، في صحيفةِ «صوت تلغراف»: «فالتُّرْكُ السَّلْجُوقيُّون في القرنِ الخامسِ الهجريِّ، والمغولُ مِن بعدِهم بقرنَيْنِ، إنما جاؤوا إلى بلادِ الإسلامِ أعداءً مُغِيرين؛ فما لَبِثوا أن دخَلوا تحتَ جناحِ هذا الدِّين، وصاروا إلى دعاتِهِ وناشِرِيه».

وقال الفيلسوفُ الإنجليزيُّ «بِرْتْرَانْد راسِل»: «وفي المعارَكِ الأُولى بين المسيحيَّةِ والإسلامِ: كان المسيحيُّون هم المتعصِّبون، والمسلِمون هم المنتصِرون، وقد اختَرعَتِ الدِّعايةُ المسيحيَّةُ قصصًا عن التعصُّبِ الإسلاميِّ، ولكنها - جميعًا - كاذبةٌ تمامًا إذا طبَّقناها على القرونِ الأُولى في الإسلام؛ فقد تعلَّم كلُّ مسيحيٍّ قصَّةَ الخليفةِ الذي دمَّر مكتبةَ الإسكندريَّة، وفي الواقعِ: لقد دُمِّرتْ هذه المكتبةُ مِرارًا، وكان أوَّلُ مَن دمَّرها هو يُولْيُوس قَيصَر، وكانت آخِرَ مرَّةٍ وُجِدتْ فيها المكتبةُ قبل ظهورِ الرسول، وقد تسامَحَ المسلِمون الأُوَلُ - على نقيضِ المسيحيِّين - مع مَن يُطلِقون عليهم أهلَ الكتابِ؛ على شريطةِ أن يَدفَعوا الجزيةَ، وقد قُوبِلَ المسلِمون بالتَّرْحابِ لاتِّساعِ أُفُقِهم؛ وهذا هو ما سهَّل عليهم فتوحاتِهم كثيرًا، على عكسِ المسيحيِّين الذين لم يقتصِرِ اضطهادُهم على الوثنيِّين، بل اضطهَدوا بعضُهم البعضَ». «المجتمَعُ البشَريُّ في الأخلاقِ والسياسة» (ص193).

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (216).