نص السؤال

كتابُ «الرسالةِ» للإمامِ الشافعيِّ، كان سببًا لضيقِ فهمِ المسلِمين، وأغلَقَ به مجالَ الاجتهادِ والتجديد، وهو الذي اخترَعَ أصولَ الفقه

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

دعوى جِنايةِ الشافعيِّ على العقلِ المسلِم.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

هذه الشبهةُ يُقصَدُ بها الطعنُ في المرجعيَّةِ الإسلاميَّةِ؛ مِن خلالِ الطعنِ في أهمِّ العلومِ الشرعيَّةِ التي تَضبِطُ عمليَّةَ الفهمِ والاستدلالِ؛ وهو «عِلمُ أصولِ الفقه».

وهي شبهةٌ تُعَدُّ مِن الشبهاتِ الحداثيَّةِ المشهورةِ، وقد يستعمِلُها عن جهلٍ مَن ينقُدُ الخطابَ الفقهيَّ المعاصِرَ، وهو مخالِفٌ للحَداثيِّين.

والجوابُ عن هذه الشبهةِ يحتاجُ إلى الكشفِ عن بواعثِ ذلك الطعن، كما يحتاجُ إلى إزالةِ اللَّبْسِ عن الدَّوْرِ الذي قام به الإمامُ الشافعيّ.

ومِن المعروفِ المشهورِ: أن الشافعيَّ رحمه اللهُ أوَّلُ مَن صنَّف في علمِ أصولِ الفقه، ولا يَخْفى أن المقصودَ: أنه حرَّر ذلك كتابةً وتدوينًا، لا أنه اخترَعهُ وابتكَرهُ، دون استنادٍ لإرثٍ شفهيٍّ، أو تطبيقاتٍ عمليَّةٍ سابقة.

والشافعيُّ رحمه اللهُ هو مِن أئمَّةِ المسلِمينَ دِينًا وعِلمًا وعقلًا، وما قدَّمه هو إثراءٌ في جهودِ المسلِمينَ المستمِرَّةِ بما يناسِبُ حاجاتِ الناسِ في كلِّ عصر.

ونوضِّحُ ذلك على جهةِ التفصيلِ بما يأتي:

1- الشافعيُّ أوَّلُ مَن صنَّف في علمِ أصولِ الفقهِ، ولم يكن مبتكِرًا له:

فعمليَّةُ التأصيلِ لا تأتي بشكلٍ فرديٍّ، إنما تحتاجُ لبِنْيةٍ ثقافيَّةٍ موضوعيَّةٍ لتأسيسِها، بَيْدَ أنه قد تتجلَّى في أفرادٍ دون غيرِهم القُدْرةُ على التعبيرِ عنها في صورةٍ أكثرَ شمولًا وتماسُكًا؛ فتكونُ نصوصُ هؤلاءِ الأفرادِ بمَثابةِ النصوصِ التأسيسيَّةِ لهذا العلمِ المرادِ التأصيلُ له.

واعتبارُ نصوصِ أفرادٍ معيَّنينَ نصوصًا تأسيسيَّةً، لا يتأتَّى مِن كونِها تختزِلُ البِنْيةَ الثقافيَّةَ لهذا العلم، وتُجلِّيها في صورةٍ أكثرَ شمولًا وكليَّةً فحَسْبُ، بل - أيضًا - لأنها تصوغُ هذه البِنْيةَ، وتُعيدُ إنتاجَها ضمنَ فضاءاتٍ جديدةٍ لم تكن معهودةً مِن قبلُ.

ومِن هنا: تأتي تأسيسيَّةُ نصوصِ الإمامِ الشافعيِّ في أصولِ الفقه؛ حيثُ إنه قام بتدوينِ ما كان ممارَسةً عمليَّةً غيرَ موثَّقةِ القواعدِ والأصول، فدوَّنها بنصٍّ اختزَلَ معظَمَ هذه الممارَساتِ، ولكنْ بعد تقعيدِها بقواعدَ كلِّيَّةٍ تُتيحُ للناظرِ المتمرِّسِ فيها: أن يمارِسَها على أُسُسٍ منضبِطةٍ، فيبتعِدُ قاصدُ الاجتهادِ عن العشوائيَّةِ والتخبُّطِ، وتَضِيقُ عليه دائرةُ اتِّباعِ الهوى إلى أقصى حدٍّ ممكِنٍ.

2- السرُّ في عداءِ الخطابِ الحَدَاثيِّ للشافعيِّ: أن التأصيلَ ألدُّ أعداءِ الحَدَاثة:

فالشافعيُّ وضَعَ ضوابطَ لفهمِ النصوصِ، والمناهجُ الحداثيَّةُ تريدُ فهمًا مفتوحًا متعدِّدًا نسبيًّا متغيِّرًا، وترفُضُ أن يكونَ للنصِّ الشرعيِّ معنًى واحدٌ ثابت، كما تدعو لفتحِ البابِ على مِصْراعَيْهِ لإعادةِ قراءتِها وتأويلِها، وما مِن نصٍّ عندهم إلا وهو قابلٌ لما لا يُحْصى مِن التأويلاتِ، فضلًا عن النظرِ في أدلَّةِ القرآنِ والسنَّةِ بوصفِها نصوصًا تاريخيَّةً، نزَلَتْ في لحظةٍ معيَّنةٍ، متأثِّرةً بظروفِ البيئةِ والواقعِ الذي انبثَقَتْ منه، وليست وحيًا إلهيًّا متَّصِفًا بالديمومةِ والاستمرارِ، وصالحًا لكلِّ زمانٍ ومكان.

 3- الأصولُ التي قرَّرها الشافعيُّ تُعينُ على تلبيةِ الاحتياجاتِ الفقهيَّةِ المعاصِرة:

فثَمَّةَ مجالانِ يتعلَّقانِ بتأصيلِ الشافعيِّ:

المجالُ الأوَّلُ: ما يتعلَّقُ بفهمِ الدليل، وأصولِ الاستدلالِ، التي لا يختلِفُ فيها الشافعيُّ عن غيرِه؛ فهذا لا يتأثَّرُ بتغيُّرِ الزمانِ والمكانِ، ولا بشروطٍ تاريخيَّةٍ في عصرِه، ولا بتغيُّرٍ في عصرِنا:

ما الذي سيتغيَّرُ مثلًا في قاعدةِ قَبولِ خبَرِ حديثِ النبيِّ ^؟! أو أن الأصلَ في النهيِ التحريم؟! أو أن الخصوصَ مقدَّمٌ على العموم؟! أو أن المحرَّمَ لغيرِهِ يُستباحُ عند الضرورة؟! أو في شروطِ النَّسْخ؟ هذه قضايا كليَّةٌ متعلِّقةٌ بفهمِ النصِّ، ليست مرتبِطةً بظرفٍ زمانيٍّ، ولا بمتغيِّراتٍ عارضةٍ، بل هي بحثٌ عن كيفيَّةِ فهمِ مرادِ الشارعِ فهمًا صحيحًا.

وقد يقَعُ خلافٌ بين العلماءِ في البحثِ عن الأصوبِ في ذلك، والمجالُ يتَّسِعُ للنظرِ والترجيحِ وَفْقَ الشروطِ الموضوعيَّة، ولا عَلاقةَ لتغيُّرِ الزمانِ والمكانِ بهذا كلِّه.

والمجالُ الثاني: ما يتعلَّقُ بالاجتهادِ، المبنيِّ على واقعٍ معيَّنٍ، رُوعِيَ فيه مصالحُ أو مفاسدُ معيَّنةٌ، أو ما كان مِن قبيلِ الاجتهادِ في اختيارِ الحُكمِ الشرعيِّ الأرجحِ؛ فهنا لا أحدَ يقولُ بلزومِ اتِّباعِ رأيِ الشافعيِّ، ولا رأيِ غيرِهِ فيها، ولا بأن الشافعيَّ نفسَهُ يقولُ: «إن قولي فيها ملزِمٌ لكلِّ أحدٍ في كلِّ زمانٍ ومكان»؛ فلا معنَى لإضاعةِ الجهدِ في التفكيرِ بمثلِ هذا. فالحقُّ: أننا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى عقلٍ كمِثلِ عقلِ هذا الإمامِ الكبير؛ حتى نقدِّمَ اجتهادًا قويًّا يحافِظُ على أصولِ الشرع، ويحقِّقُ مصالحَ الناس، ويَدفَعُ الضرَرَ عنهم. 

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن الإمامَ الشافعيَّ رحمه اللهُ تعالى بتأليفِهِ كتابَ «الرِّسالةِ»، وتأصيلِهِ لـ «عِلمِ أصولِ الفقهِ»، قام - مِن وجهةِ نظرِ السائلِ - بضربِ العقلِ الإسلاميِّ فيما يتعلَّقُ بالفقهِ والتشريعِ ضربةً نهائيَّةً؛ حيثُ أغلَقَ بابَ الاجتهادِ والرأيِ بذرائعَ شرعيَّةٍ، ومقولاتٍ إسلاميَّةٍ؛ فطرحُهُ - مِن وجهةِ نظرِ السائلِ - يستحِقُّ التجاوُزَ، ولا يستحِقُّ الصدارةَ.

مختصَرُ الإجابة:

هذه الشبهةُ يُقصَدُ بها الطعنُ في المرجعيَّةِ الإسلاميَّةِ؛ مِن خلالِ الطعنِ في أهمِّ العلومِ الشرعيَّةِ التي تَضبِطُ عمليَّةَ الفهمِ والاستدلالِ؛ وهو «عِلمُ أصولِ الفقه».

والإمامُ الشافعيُّ الأصوليُّ لم يخترِعْ أصولَ الفقهِ أصلًا، وليس في أصولِ الفقهِ جِنايةٌ على العقلِ المسلِم.

فعلمُ «أصولِ الفقهِ»: هو قواعدُ شرعيَّةٌ وعقليَّةٌ، تميَّز الشافعيُّ بتحريرِها في كتابٍ واحدٍ بالدليلِ والتعليل؛ فهو أوَّلُ مَن صنَّف في علمِ أصولِ الفقهِ، ولم يكن مبتكِرًا له.

وإلا فقد كان العلماءُ مِن قبلِهِ وفي عصرِهِ يَعمَلون بها؛ وهذا شأنُ كثيرٍ مِن العلومِ التي يُعمَلُ بها مِن دونِ تحريرِ كتابٍ خاصٍّ، ثم تُفرَدُ في كتابٍ ونحوِهِ؛ كالاقتصادِ، والحروبِ، وغيرِهما.

وما طرَحَهُ الشافعيُّ رحمه اللهُ على مستوى التأصيلِ والتقعيدِ يمثِّلُ إضافةً متميِّزةً تُسهِمُ في تسهيلِ الاستنباطِ والاستدلالِ الفقهيِّ؛ مما يُعِينُ على المحافَظةِ على أصولِ الشرعِ، وتحقيقِ مصالحِ الناسِ، ودفعِ الضرَرِ عنهم.

والطعنُ في طرحِ الإمامِ الشافعيِّ ليس باعثُهُ باعثًا علميًّا، وإنما باعثُهُ عداوةُ الخطابِ الحَداثيِّ لمبدأِ التأصيلِ، المناقِضِ للنِّسْبيَّةِ في فهمِ النصوص:

فالشافعيُّ رحمه الله وضَعَ ضوابطَ لفهمِ النصوصِ، تُعينُ على تلبيةِ الاحتياجاتِ الفقهيَّةِ المعاصِرة:

سواءٌ فيما يتعلَّقُ بفهمِ الدليلِ وأصولِ الاستدلالِ، التي لا يختلِفُ فيها الشافعيُّ عن غيرِه؛ وهذا لا يتأثَّرُ بتغيُّرِ الزمانِ والمكانِ، ولا بشروطٍ تاريخيَّةٍ في عصرِه، ولا بتغيُّرٍ في عصرِنا.

أو فيما يتعلَّقُ بالاجتهادِ، المبنيِّ على واقعٍ معيَّنٍ، رُوعِيَ فيه مصالحُ أو مفاسدُ معيَّنةٌ، أو ما كان مِن قبيلِ الاجتهادِ في اختيارِ الحُكمِ الشرعيِّ الأرجحِ؛ فهنا لا أحدَ يقولُ بلزومِ اتِّباعِ رأيِ الشافعيِّ، ولا رأيِ غيرِهِ فيها، ولا بأن الشافعيَّ نفسَهُ يقولُ: «إن قولي فيها ملزِمٌ لكلِّ أحدٍ في كلِّ زمانٍ ومكان»؛ فلا معنَى لإضاعةِ الجهدِ في التفكيرِ بمثلِ هذا. وأما المناهجُ الحداثيَّةُ المعاصِرةُ، فتُريدُ فهمًا مفتوحًا متعدِّدًا نسبيًّا متغيِّرًا، وترفُضُ أن يكونَ للنصِّ الشرعيِّ معنًى واحدٌ ثابت، كما تدعو لفتحِ البابِ على مِصْراعَيْهِ لإعادةِ قراءتِها وتأويلِها، وما مِن نصٍّ عندهم إلا وهو قابلٌ لما لا يُحْصى مِن التأويلاتِ، فضلًا عن النظرِ في أدلَّةِ القرآنِ والسنَّةِ بوصفِها نصوصًا تاريخيَّةً، نزَلَتْ في لحظةٍ معيَّنةٍ، متأثِّرةً بظروفِ البيئةِ والواقعِ الذي انبثَقَتْ منه، وليست وحيًا إلهيًّا متَّصِفًا بالديمومةِ والاستمرارِ، وصالحًا لكلِّ زمانٍ ومكان.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

مَن اطَّلَعَ على المستوى المتدنِّي في التعامُلِ مع النصوصِ لدى الحَداثيِّين، عَلِمَ عواقبَ الانفلاتِ، ومآلاتِ الطعنِ في أصولِ العلمِ التي قرَّرها الإمامُ الشافعيُّ وغيرُهُ مِن الأئمَّة.

حيثُ أصبَحَ الدِّينُ قابلًا لأن يقولَ الإنسانُ القولَ، وأن يقولَ نقيضَهُ؛ فلا اضطرادَ علميٌّ، ولا انضباطَ منهجيٌّ، وأصبَحَتِ الأقوالُ والأفعالُ مُفرَغةً مِن دَلالاتِها، وهؤلاءِ يُريدون ذلك فقطْ في النصوصِ الشرعيَّةِ؛ ليحكُموا في الشرعِ ما شاؤوا، وهم يَعلَمون أنهم لا يستطيعون تطبيقَها في كلِّ كلام، وإلا لبَطَلَتِ العلومُ والقوانينُ وغيرُها.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن الإمامَ الشافعيَّ رحمه اللهُ تعالى بتأليفِهِ كتابَ «الرِّسالةِ»، وتأصيلِهِ لـ «عِلمِ أصولِ الفقهِ»، قام - مِن وجهةِ نظرِ السائلِ - بضربِ العقلِ الإسلاميِّ فيما يتعلَّقُ بالفقهِ والتشريعِ ضربةً نهائيَّةً؛ حيثُ أغلَقَ بابَ الاجتهادِ والرأيِ بذرائعَ شرعيَّةٍ، ومقولاتٍ إسلاميَّةٍ؛ فطرحُهُ - مِن وجهةِ نظرِ السائلِ - يستحِقُّ التجاوُزَ، ولا يستحِقُّ الصدارةَ.

مختصَرُ الإجابة:

هذه الشبهةُ يُقصَدُ بها الطعنُ في المرجعيَّةِ الإسلاميَّةِ؛ مِن خلالِ الطعنِ في أهمِّ العلومِ الشرعيَّةِ التي تَضبِطُ عمليَّةَ الفهمِ والاستدلالِ؛ وهو «عِلمُ أصولِ الفقه».

والإمامُ الشافعيُّ الأصوليُّ لم يخترِعْ أصولَ الفقهِ أصلًا، وليس في أصولِ الفقهِ جِنايةٌ على العقلِ المسلِم.

فعلمُ «أصولِ الفقهِ»: هو قواعدُ شرعيَّةٌ وعقليَّةٌ، تميَّز الشافعيُّ بتحريرِها في كتابٍ واحدٍ بالدليلِ والتعليل؛ فهو أوَّلُ مَن صنَّف في علمِ أصولِ الفقهِ، ولم يكن مبتكِرًا له.

وإلا فقد كان العلماءُ مِن قبلِهِ وفي عصرِهِ يَعمَلون بها؛ وهذا شأنُ كثيرٍ مِن العلومِ التي يُعمَلُ بها مِن دونِ تحريرِ كتابٍ خاصٍّ، ثم تُفرَدُ في كتابٍ ونحوِهِ؛ كالاقتصادِ، والحروبِ، وغيرِهما.

وما طرَحَهُ الشافعيُّ رحمه اللهُ على مستوى التأصيلِ والتقعيدِ يمثِّلُ إضافةً متميِّزةً تُسهِمُ في تسهيلِ الاستنباطِ والاستدلالِ الفقهيِّ؛ مما يُعِينُ على المحافَظةِ على أصولِ الشرعِ، وتحقيقِ مصالحِ الناسِ، ودفعِ الضرَرِ عنهم.

والطعنُ في طرحِ الإمامِ الشافعيِّ ليس باعثُهُ باعثًا علميًّا، وإنما باعثُهُ عداوةُ الخطابِ الحَداثيِّ لمبدأِ التأصيلِ، المناقِضِ للنِّسْبيَّةِ في فهمِ النصوص:

فالشافعيُّ رحمه الله وضَعَ ضوابطَ لفهمِ النصوصِ، تُعينُ على تلبيةِ الاحتياجاتِ الفقهيَّةِ المعاصِرة:

سواءٌ فيما يتعلَّقُ بفهمِ الدليلِ وأصولِ الاستدلالِ، التي لا يختلِفُ فيها الشافعيُّ عن غيرِه؛ وهذا لا يتأثَّرُ بتغيُّرِ الزمانِ والمكانِ، ولا بشروطٍ تاريخيَّةٍ في عصرِه، ولا بتغيُّرٍ في عصرِنا.

أو فيما يتعلَّقُ بالاجتهادِ، المبنيِّ على واقعٍ معيَّنٍ، رُوعِيَ فيه مصالحُ أو مفاسدُ معيَّنةٌ، أو ما كان مِن قبيلِ الاجتهادِ في اختيارِ الحُكمِ الشرعيِّ الأرجحِ؛ فهنا لا أحدَ يقولُ بلزومِ اتِّباعِ رأيِ الشافعيِّ، ولا رأيِ غيرِهِ فيها، ولا بأن الشافعيَّ نفسَهُ يقولُ: «إن قولي فيها ملزِمٌ لكلِّ أحدٍ في كلِّ زمانٍ ومكان»؛ فلا معنَى لإضاعةِ الجهدِ في التفكيرِ بمثلِ هذا. وأما المناهجُ الحداثيَّةُ المعاصِرةُ، فتُريدُ فهمًا مفتوحًا متعدِّدًا نسبيًّا متغيِّرًا، وترفُضُ أن يكونَ للنصِّ الشرعيِّ معنًى واحدٌ ثابت، كما تدعو لفتحِ البابِ على مِصْراعَيْهِ لإعادةِ قراءتِها وتأويلِها، وما مِن نصٍّ عندهم إلا وهو قابلٌ لما لا يُحْصى مِن التأويلاتِ، فضلًا عن النظرِ في أدلَّةِ القرآنِ والسنَّةِ بوصفِها نصوصًا تاريخيَّةً، نزَلَتْ في لحظةٍ معيَّنةٍ، متأثِّرةً بظروفِ البيئةِ والواقعِ الذي انبثَقَتْ منه، وليست وحيًا إلهيًّا متَّصِفًا بالديمومةِ والاستمرارِ، وصالحًا لكلِّ زمانٍ ومكان.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

هذه الشبهةُ يُقصَدُ بها الطعنُ في المرجعيَّةِ الإسلاميَّةِ؛ مِن خلالِ الطعنِ في أهمِّ العلومِ الشرعيَّةِ التي تَضبِطُ عمليَّةَ الفهمِ والاستدلالِ؛ وهو «عِلمُ أصولِ الفقه».

وهي شبهةٌ تُعَدُّ مِن الشبهاتِ الحداثيَّةِ المشهورةِ، وقد يستعمِلُها عن جهلٍ مَن ينقُدُ الخطابَ الفقهيَّ المعاصِرَ، وهو مخالِفٌ للحَداثيِّين.

والجوابُ عن هذه الشبهةِ يحتاجُ إلى الكشفِ عن بواعثِ ذلك الطعن، كما يحتاجُ إلى إزالةِ اللَّبْسِ عن الدَّوْرِ الذي قام به الإمامُ الشافعيّ.

ومِن المعروفِ المشهورِ: أن الشافعيَّ رحمه اللهُ أوَّلُ مَن صنَّف في علمِ أصولِ الفقه، ولا يَخْفى أن المقصودَ: أنه حرَّر ذلك كتابةً وتدوينًا، لا أنه اخترَعهُ وابتكَرهُ، دون استنادٍ لإرثٍ شفهيٍّ، أو تطبيقاتٍ عمليَّةٍ سابقة.

والشافعيُّ رحمه اللهُ هو مِن أئمَّةِ المسلِمينَ دِينًا وعِلمًا وعقلًا، وما قدَّمه هو إثراءٌ في جهودِ المسلِمينَ المستمِرَّةِ بما يناسِبُ حاجاتِ الناسِ في كلِّ عصر.

ونوضِّحُ ذلك على جهةِ التفصيلِ بما يأتي:

1- الشافعيُّ أوَّلُ مَن صنَّف في علمِ أصولِ الفقهِ، ولم يكن مبتكِرًا له:

فعمليَّةُ التأصيلِ لا تأتي بشكلٍ فرديٍّ، إنما تحتاجُ لبِنْيةٍ ثقافيَّةٍ موضوعيَّةٍ لتأسيسِها، بَيْدَ أنه قد تتجلَّى في أفرادٍ دون غيرِهم القُدْرةُ على التعبيرِ عنها في صورةٍ أكثرَ شمولًا وتماسُكًا؛ فتكونُ نصوصُ هؤلاءِ الأفرادِ بمَثابةِ النصوصِ التأسيسيَّةِ لهذا العلمِ المرادِ التأصيلُ له.

واعتبارُ نصوصِ أفرادٍ معيَّنينَ نصوصًا تأسيسيَّةً، لا يتأتَّى مِن كونِها تختزِلُ البِنْيةَ الثقافيَّةَ لهذا العلم، وتُجلِّيها في صورةٍ أكثرَ شمولًا وكليَّةً فحَسْبُ، بل - أيضًا - لأنها تصوغُ هذه البِنْيةَ، وتُعيدُ إنتاجَها ضمنَ فضاءاتٍ جديدةٍ لم تكن معهودةً مِن قبلُ.

ومِن هنا: تأتي تأسيسيَّةُ نصوصِ الإمامِ الشافعيِّ في أصولِ الفقه؛ حيثُ إنه قام بتدوينِ ما كان ممارَسةً عمليَّةً غيرَ موثَّقةِ القواعدِ والأصول، فدوَّنها بنصٍّ اختزَلَ معظَمَ هذه الممارَساتِ، ولكنْ بعد تقعيدِها بقواعدَ كلِّيَّةٍ تُتيحُ للناظرِ المتمرِّسِ فيها: أن يمارِسَها على أُسُسٍ منضبِطةٍ، فيبتعِدُ قاصدُ الاجتهادِ عن العشوائيَّةِ والتخبُّطِ، وتَضِيقُ عليه دائرةُ اتِّباعِ الهوى إلى أقصى حدٍّ ممكِنٍ.

2- السرُّ في عداءِ الخطابِ الحَدَاثيِّ للشافعيِّ: أن التأصيلَ ألدُّ أعداءِ الحَدَاثة:

فالشافعيُّ وضَعَ ضوابطَ لفهمِ النصوصِ، والمناهجُ الحداثيَّةُ تريدُ فهمًا مفتوحًا متعدِّدًا نسبيًّا متغيِّرًا، وترفُضُ أن يكونَ للنصِّ الشرعيِّ معنًى واحدٌ ثابت، كما تدعو لفتحِ البابِ على مِصْراعَيْهِ لإعادةِ قراءتِها وتأويلِها، وما مِن نصٍّ عندهم إلا وهو قابلٌ لما لا يُحْصى مِن التأويلاتِ، فضلًا عن النظرِ في أدلَّةِ القرآنِ والسنَّةِ بوصفِها نصوصًا تاريخيَّةً، نزَلَتْ في لحظةٍ معيَّنةٍ، متأثِّرةً بظروفِ البيئةِ والواقعِ الذي انبثَقَتْ منه، وليست وحيًا إلهيًّا متَّصِفًا بالديمومةِ والاستمرارِ، وصالحًا لكلِّ زمانٍ ومكان.

 3- الأصولُ التي قرَّرها الشافعيُّ تُعينُ على تلبيةِ الاحتياجاتِ الفقهيَّةِ المعاصِرة:

فثَمَّةَ مجالانِ يتعلَّقانِ بتأصيلِ الشافعيِّ:

المجالُ الأوَّلُ: ما يتعلَّقُ بفهمِ الدليل، وأصولِ الاستدلالِ، التي لا يختلِفُ فيها الشافعيُّ عن غيرِه؛ فهذا لا يتأثَّرُ بتغيُّرِ الزمانِ والمكانِ، ولا بشروطٍ تاريخيَّةٍ في عصرِه، ولا بتغيُّرٍ في عصرِنا:

ما الذي سيتغيَّرُ مثلًا في قاعدةِ قَبولِ خبَرِ حديثِ النبيِّ ^؟! أو أن الأصلَ في النهيِ التحريم؟! أو أن الخصوصَ مقدَّمٌ على العموم؟! أو أن المحرَّمَ لغيرِهِ يُستباحُ عند الضرورة؟! أو في شروطِ النَّسْخ؟ هذه قضايا كليَّةٌ متعلِّقةٌ بفهمِ النصِّ، ليست مرتبِطةً بظرفٍ زمانيٍّ، ولا بمتغيِّراتٍ عارضةٍ، بل هي بحثٌ عن كيفيَّةِ فهمِ مرادِ الشارعِ فهمًا صحيحًا.

وقد يقَعُ خلافٌ بين العلماءِ في البحثِ عن الأصوبِ في ذلك، والمجالُ يتَّسِعُ للنظرِ والترجيحِ وَفْقَ الشروطِ الموضوعيَّة، ولا عَلاقةَ لتغيُّرِ الزمانِ والمكانِ بهذا كلِّه.

والمجالُ الثاني: ما يتعلَّقُ بالاجتهادِ، المبنيِّ على واقعٍ معيَّنٍ، رُوعِيَ فيه مصالحُ أو مفاسدُ معيَّنةٌ، أو ما كان مِن قبيلِ الاجتهادِ في اختيارِ الحُكمِ الشرعيِّ الأرجحِ؛ فهنا لا أحدَ يقولُ بلزومِ اتِّباعِ رأيِ الشافعيِّ، ولا رأيِ غيرِهِ فيها، ولا بأن الشافعيَّ نفسَهُ يقولُ: «إن قولي فيها ملزِمٌ لكلِّ أحدٍ في كلِّ زمانٍ ومكان»؛ فلا معنَى لإضاعةِ الجهدِ في التفكيرِ بمثلِ هذا. فالحقُّ: أننا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى عقلٍ كمِثلِ عقلِ هذا الإمامِ الكبير؛ حتى نقدِّمَ اجتهادًا قويًّا يحافِظُ على أصولِ الشرع، ويحقِّقُ مصالحَ الناس، ويَدفَعُ الضرَرَ عنهم. 

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

مَن اطَّلَعَ على المستوى المتدنِّي في التعامُلِ مع النصوصِ لدى الحَداثيِّين، عَلِمَ عواقبَ الانفلاتِ، ومآلاتِ الطعنِ في أصولِ العلمِ التي قرَّرها الإمامُ الشافعيُّ وغيرُهُ مِن الأئمَّة.

حيثُ أصبَحَ الدِّينُ قابلًا لأن يقولَ الإنسانُ القولَ، وأن يقولَ نقيضَهُ؛ فلا اضطرادَ علميٌّ، ولا انضباطَ منهجيٌّ، وأصبَحَتِ الأقوالُ والأفعالُ مُفرَغةً مِن دَلالاتِها، وهؤلاءِ يُريدون ذلك فقطْ في النصوصِ الشرعيَّةِ؛ ليحكُموا في الشرعِ ما شاؤوا، وهم يَعلَمون أنهم لا يستطيعون تطبيقَها في كلِّ كلام، وإلا لبَطَلَتِ العلومُ والقوانينُ وغيرُها.