نص السؤال

أهلُ السنَّةِ اختلافُهم كثيرٌ في مسائلِ الفقه، وفيهم تبايُنٌ في المذاهب؛ فنرى فقهاءَ المسلِمين مختلِفين؛ فلكلِّ واحدٍ منهم قولٌ يقولُه، ومذهبٌ يَذهَبُ إليه وينصُرُه، ويَعيبُ مَن خالفَهُ عليه؛ كالمذاهبِ الأربعةِ، وغيرِها؛ فمالكُ بنُ أنسٍ رحمه الله إمامٌ، وله أصحابٌ يقولون بقولِه، ويَعِيبون مِن خالَفهم، وكذلك الشافعيُّ رحمه الله، وكذلك سفيانُ الثَّوْريُّ رحمه الله، وطائفةٌ مِن فقهاءِ العراقِ، وكذلك أحمدُ بنُ حَنبَلٍ رحمه الله؛ كلُّ واحدٍ مِن هؤلاءِ له مذهبٌ يخالِفُ فيه غيرَه.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

الاختلافُ بين المسلِمين دليلٌ على أن دِينَهم مزيَّفٌ.

الجواب التفصيلي


هذه الشبهةُ مما أثاره أهلُ البِدَعِ منذُ العصورِ المبكِّرة، وتصدَّى الفقهاءُ للردِّ عليها، ويحتجُّ بها اليومَ أعداءُ الإسلامِ مِن العَلْمانيِّين، وغيرِهم.

وقد عقَدَ ابنُ بطَّةَ في «الإبانةِ الكبرى» (2/ 553)، بابًا قال فيه: «بابُ التحذيرِ مِن استماعِ كلامِ قومٍ يُريدون نقضَ الإسلام، ومحوَ شرائعِه؛ فيُكَنُّون عن ذلك بالطعنِ على فقهاءِ المسلِمين، وعيبِهم بالاختلاف».

والاختلافُ ليس مما يُطعَنُ به في الإسلام، ونحنُ لا نريدُ أن نذكِّرَ السائلَ بحجمِ الاختلافِ في «مذهبِه»؛ إن كان مبتدِعًا مِن الرافضةِ، أو المعتزِلةِ، أو نحوِهم، ولا حجمِ الاختلافِ في «دِينِه»؛ إن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا، وإنما نُجيبُ جوابًا علميًّا عامًّا نبيِّنُ فيه الفرقَ بين «مراتبِ الاختلاف»، وبين «أسبابِ الاختلاف».

ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:

1) الاختلافُ ليس على درَجةٍ واحدةٍ، أو مرتبةٍ واحدة؛ فمنه الاختلافُ السائغُ، ومنه الاختلافُ غيرُ السائغِ:

فمِن الاختلافِ ما هو اختلافٌ سائغٌ، وهو: ما لم يخالِفْ نصًّا أو إجماعًا، والمجتهِدُ المصيبُ في تلك المسائلِ له أجران، والمجتهِدُ المخطِئُ له أجرٌ؛ وذلك كعمومِ المسائلِ المختلَفِ فيها بين الصحابةِ والتابِعين، ومَن بعدَهم مِن فقهاءِ الأمصار.

وهذا الاختلافُ لم يؤدِّ إلى فُرْقةٍ ولا شَتَاتٍ، ولا معاداةٍ ولا تقاطُعٍ وتباغُضٍ؛ فاختلَفَ العلماءُ في فروعِ الأحكام، والنوافلِ التابِعةِ للفرائض؛ فكان لهم وللمسلِمين فيه مندوحةٌ ونفَسٌ، وفُسْحةٌ ورحمةٌ، وفيه رفعٌ لدرجاتِ أهلِ العلمِ فيما يبذُلونه مِن جهدٍ في تمحيصِ الأدلَّةِ والنظرِ فيها، ورَدِّ متشابِهِها إلى محكَمِها، ولم يَعِبْ بعضُ أهلِ العلمِ على بعضٍ ذلك، ولا كفَّره، ولا سبَّه، ولا لعَنه؛ فإن الاختلافَ السائغَ لا يبلُغُ مبلغَ الفتنةِ والفُرْقةِ إلا بسببِ البغيِ، لا لمجرَّدِ الاختلافِ؛ كما يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ في «الاستقامة» (1/ 31).

ومِن الاختلافِ ما هو غيرُ سائغٍ، وهو: ما خالَفَ النصَّ والإجماعَ؛ كاختلافِ أهلِ السُّنَّةِ مع الرافضةِ، والجهميَّةِ، والقدَريَّة.

فإن أهلَ السُّنَّةِ مُجمِعون على الإقرارِ بالتوحيدِ وبالرسالة، وبأن الإيمانَ قولٌ وعملٌ ونيَّةٌ، وبأن القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوق، ومُجمِعون على أن ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكن، وعلى أن اللهَ خالقُ الخيرِ والشرِّ ومقدِّرُهما، وعلى أن اللهَ يُرَى يومَ القيامةِ بالأبصار، وأن اللهَ على عرشِهِ بائنٌ مِن خَلْقِه، وعِلمُهُ مُحيطٌ بالأشياء.

وهم مجمِعون على أن اللهَ أوَّلٌ بلا ابتداء، وآخِرٌ بلا انتهاء؛ فلا بدايةَ له، ولا نهايةَ، ولا غاية، بصفاتِهِ التامَّةِ لم يَزَلْ ولا يزالُ عالمًا متكلِّمًا، سميعًا بصيرًا، حيًّا حليمًا، قد عَلِمَ ما يكونُ قبلَ أن يكون، وأنه قدَّر المقاديرَ قبل خلقِ الأشياء.

ومُجمِعون على إثباتِ الصفاتِ للهِ تعالى مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيل، ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيل.

ومُجمِعون على إمامةِ أبي بكرٍ، وعُمَرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، رضيَ اللهُ عنهم، وعلى تقديمِ الشيخَيْنِ، وعلى أن العشَرةَ المبشَّرةَ: في الجنَّةِ جزمًا وحتمًا، لا شكَّ فيه.

ومُجمِعون على الترحُّمِ على جميعِ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، والاستغفارِ لهم، ولأزواجِهِ، وأولادِهِ، وأهلِ بيتِه، والكَفِّ عن ذِكْرِهم إلا بخيرٍ، والإمساكِ وتَرْكِ النظَرِ فيما شجَرَ بينهم.

وكلُّ مَن خالَفَ في شيءٍ مِن ذلك، فقولُهُ بدعةٌ وضلالة.

والاختلافُ في هذه الأصولِ لم يُرِدْهُ اللهُ تعالى شرعًا ودِينًا، وإنما أراده سبحانه كونًا وقدَرًا؛ لحكمةٍ ومصلحةٍ وغايةٍ؛ إذْ يحصُلُ به رفعةُ أهلِ السُّنَّةِ بقيامِهم بالحقِّ، وصبرِهم على الدعوةِ إليه، والمحنةِ فيه؛ كما حصَلَ للإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ رحمه اللهُ تعالى، وغيرِهِ مِن أئمَّةِ الإسلام.

2) الاختلافُ بين العلماءِ له أسبابٌ علميَّةٌ موضوعيَّة:

فلم يكن الاختلافُ بين أهلِ العلمِ لمجرَّدِ الهَوَى والتشهِّي، أو طلبًا لحظوظِ الدنيا مِن الرياسةِ، أو الجاهِ، أو المالِ، بل له أسبابٌ علميَّةٌ موضوعيَّة، منها:

السببُ الأوَّلُ: تعارُض الأدلَّةِ في الظاهر؛ وهو أغلبُ أسبابِ الخلاف.

السببُ الثاني: الجهلُ بالدليل، وأكثرُ ما يَجيءُ في الأحاديثِ والآثار؛ لأن بعضَ المجتهِدين: يبلُغُهُ الحديثُ، فيَقْضي به، وبعضُهم: لا يبلُغُهُ، فيَقْضي بخلافِه؛ فينبغي للمجتهِدِ أن يُكثِرَ مِن حفظِ الحديثِ وروايتِه؛ لتكونَ أقوالُهُ على مقتضى الأحاديثِ النبويَّة.

السببُ الثالثُ: الاختلافُ في صحَّةِ نقلِ الحديثِ بعد بلوغِهِ إلى المجتهِدين، إلا أن منهم: مَن صَحَّ عنده، فعَمِلَ بمقتضاه، ومنهم: مَن لم يَصِحَّ عنده - إما لقدحٍ في سندِه، أو لتشديدِهِ في شروطِ الصحَّة - فلم يَعمَلْ به.

السببُ الرابعُ: الاختلافُ في نوعِ الدليل: هل يُحتَجُّ به أم لا؟ وهذا السببُ أوجَبَ كثيرًا مِن الخلاف؛ وذلك كعملِ أهلِ المدينة، وهو حجَّةٌ عند مالكٍ؛ فعَمِلَ بمقتضاه، وليس حجَّةً عند غيرِه؛ فلم يَعمَلوا به، وكالقياسِ، وهو حجَّةٌ عند الجمهور؛ فعَمِلوا به، وليس حجَّةً عند الظاهريَّةِ؛ فلم يَعمَلوا به.

السببُ الخامسُ: الاختلافُ في قاعدةٍ مِن الأصولِ ينبني عليها الاختلافُ في الفروع؛ كحملِ المطلَقِ على المقيَّدِ، وشبهِ ذلك.

السببُ السادسُ: الاختلافُ في القراءاتِ في القرآنِ؛ فيأخُذُ مجتهِدٌ بقراءةٍ، ويأخُذُ غيرُهُ بأخرى؛ كقولِهِ تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}

[المائدة: 6]

؛ قُرِئَ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصبِ؛ فاقتضى غَسْلَ الرِّجْلَيْن؛ لعطفِهِ على «الأيدي»، وقُرِئَ بالخفضِ؛ فاقتضى مسحَهما؛ لعطفِهِ على «الرؤوس»، إلا أن يُتأوَّلَ على غيرِ ذلك.

السببُ السابعُ: الاختلافُ في الروايةِ في ألفاظِ الحديثِ؛ كقولِهِ ﷺ:

«ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ»؛

رواه أبو داودَ (2828)، والتِّرمِذيُّ (1476)، وصحَّحه، وغيرُهما:

فقد رُوِيَ لفظُ «ذَكَاةُ» الثاني بالرفعِ؛ فأخَذَ بمعناه مالكٌ والشافعيُّ، وبالنصبِ؛ فأخَذَ بمعناه أبو حنيفةَ، وبنى كلُّ واحدٍ منهم حكمًا بحسَبِ فهمِه؛ فعلى الرفعِ: المرادُ: الإخبارُ عن ذكاةِ الجنينِ بأنها ذكاةُ أمِّه، فيَحِلُّ بها، كما تَحِلُّ الأمُّ بها، ولا يحتاجُ إلى تذكيةٍ خاصَّةٍ به، وعلى النصبِ: هو على التشبيهِ، أي: كذكاةِ أمِّه؛ كما يُقالُ: «لسانُ الوزيرِ لسانَ الأمير»؛ فيحتاجُ إلى أن يُذكَّى كتذكيةِ أمِّه.

السببُ الثامنُ: اختلافُ وجهِ الإعرابِ، مع اتِّفاقِ القُرَّاءِ في الرِّوايةِ؛ مثلُ قولِهِ عليه السلامُ:

«كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ»؛

رواه مسلم (1933)

؛ فبعضُهم: جعَلَ «الأَكْلَ» مصدرًا مضافًا إلى المفعول؛ فحرَّم أكلَ السباع، وبعضُهم: جعَلهُ مضافًا إلى الفاعل، بمعنى قولِهِ تعالى:

{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}

[المائدة: 3]

؛ فأجاز أكلَ السِّباع.

السببُ التاسعُ: كونُ اللفظِ مشترَكًا بين معنيَيْنِ فأكثرَ؛ فأخَذَ بعضُ المجتهِدين بمعنًى، وغيرُهُ بمعنًى؛ كقولِهِ تعالى:

{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}

[البقرة: 228]

؛ فحمَلَها مالكٌ والشافعيُّ: على الأطهار، وأبو حنيفةَ: على الحِيَض؛ لاشتراكِ اللفظِ بين المعنيَيْن.

السببُ العاشرُ: الاختلافُ في حملِ اللفظِ على العمومِ، أو الخصوصِ؛ مثلُ قولِهِ تعالى:

{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}

[النساء: 23]

؛ هل يُحمَلُ على الزوجاتِ والمملوكاتِ، أو على الزوجاتِ خاصَّةً؟

وهناك أسبابٌ أخرى يطُولُ شرحُها بالأمثلةِ، ونُورِدُها مختصَرةً:

السببُ الحاديَ عشَرَ: الاختلافُ في حملِ اللفظِ على الحقيقة، أو على المجاز.

السببُ الثانيَ عشَرَ: الاختلافُ هل في الكلامِ إضمارٌ أو لا؟ كقولِهِ تعالى:

{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}

[البقرة: 184]

؛ فحمَلهُ الجمهورُ على إضمارِ «فَأَفْطَرَ»؛ فجوَّزوا صيامَ المسافرِ وفِطرَهُ، وإذا صام فلا يَقْضي، خلافًا للظاهريَّةِ؛ فإنهم لم يقدِّروا: «فأفطَرَ»، وذهَبوا إلى أن المسافرَ لو صام في السفر، لَزِمَهُ القضاء.

السببُ الثالثَ عشَرَ: الاختلافُ هل الحكمُ منسوخٌ أم لا؟ وهذا أوجَبَ كثيرًا مِن الخلاف.

السببُ الرابعَ عشَرَ: الاختلافُ في حملِ الأمرِ على الوجوبِ، أو على الندبِ؟ وهذا أيضًا أوجَبَ كثيرًا مِن الخلاف.

السببُ الخامسَ عشَرَ: الاختلافُ في حملِ النهيِ على التحريمِ، أو على الكراهة.

السببُ السادسَ عشَرَ: الاختلافُ في فعلِ النبيِّ ﷺ

: هل يُحمَلُ على الوجوبِ، أو على الندبِ، أو على الإباحة؟

فهذه ستَّةَ عشَرَ سببًا للاختلافِ بين الفقهاء، ذكَرَها بعضُ أهلِ العلم، ويُمكِنُ الزيادةُ عليها، وجميعُها عند التأمُّلِ لا يدُلُّ على طعنٍ في الدِّينِ الإسلاميِّ، ولا في حَمَلتِهِ ونَقَلَتِه؛ كما هو ظاهرٌ.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يرى صاحبُ السؤالِ في اختلافِ فقهاءِ المسلِمين مَحَلَّ تعجُّبٍ واستشكال، وهذا هو ظاهرُ السؤالِ، لكنَّ بعضَهم: يَسْألُ ذلك تحسُّرًا وحَيْرةً، وبعضُهم: يريدُ بذلك الطعنَ في الإسلام، ومَحْوَ شرائعِه؛ وهو مَن نُجِيبُ عليه في هذا الجواب.

مختصَرُ الإجابة:

إن الطعنَ على الدِّينِ الإسلاميِّ بالاختلافِ بين الفقهاءِ، هو مَدخَلٌ للسَّفسَطةِ (وهي: جحدُ الحقائقِ الضروريَّة)، فالسُّوفُسْطائيُّون المنكِرون لثبوتِ أيَّةِ حقيقةٍ وأيَّة معرفةٍ، أخَذوا أوَّلَ أسلحتِهم مِن وقوعِ الاختلافِ بين آراءِ العقلاء، بل بين آراءِ عاقلٍ واحدٍ في أزمِنةٍ مختلِفة، فأنكَروا وجودَ الحقيقةِ فيما اتَّفَقوا عليه أيضًا، وفيما ثبَتوا فيه أيضًا.

والحقُّ: أن اختلافَ فقهاءِ المسلِمين لا يُعَدُّ مَثلَبةً في دِينِ الإسلام؛ لأن اختلافَهم ليس متعلِّقًا بأسبابٍ تَرجِعُ إلى تناقُضٍ في النصِّ نفسِه؛ فالوحيُ مصُونٌ عن التناقُضِ والاضطراب، وإنما يَرجِعُ الاختلافُ إلى أسبابٍ أخرى؛ كعدمِ بلوغِ الدليل، أو الاختلافِ في قاعدةٍ أصوليَّةٍ في فهمِ الدليلِ، ونحوِ ذلك؛ وهذا الاختلافُ هو اختلافُ الرحمة.

ثم إن ثَمَّةَ أصولًا للمسائلِ العلميَّةِ والعمليَّةِ في دِينِ الإسلام، لا يسُوغُ الاختلافُ فيها، بل أجمَعَ عليها الصحابةُ والتابِعون، والمخالِفُ فيها مبتدِعٌ؛ وهذا الاختلافُ لا يحبُّهُ اللهُ تعالى ولا يَرْضاه، وإن كان له حكمةٌ مِن تقديرِ وجودِهِ الكونيِّ في هذه الأمَّة.

خاتمة الجواب

إن الخلافَ أمرٌ واقعٌ في جميعِ العلومِ والمذاهبِ والمجالات، وقد أراد اللهُ - لحكمةٍ منه - أن يقَعَ شيءٌ مِن ذلك بين المسلِمينَ بقضائِهِ وقدَرِه، وقد أخبَرَ النبيُّ ﷺ بذلك، وإخبارُهُ علَمٌ مِن أعلامِ نبوَّتِهِ ﷺ، ودليلٌ على صدقِ رسالتِه؛ يقولُﷺ:

«سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي: أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا»؛

رواه مسلم (2890).

وعلى العاقلِ أن يوسِّعَ نظرَهُ في واقعيَّةِ هذه الأسبابِ التي يقَعُ بها الخلافُ، وأن يَعرِفَ كيف يتعامَلُ معها؛ بأن يَبحَثَ عن الحقِّ، ولا يَجعَلَ الخلافَ حجَّةً، وأن يَعذِرَ أهلَ الاجتهادِ السائغ، ويتعامَلَ مع المبتدِعِ بحسَبِ حالِهِ وبدعتِهِ بما هو متقرِّرٌ لدى أهلِ العلم، وقبل ذلك وبعده أن يَسْألَ اللهَ تعالى الهُدَى والسَّداد.

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (210).

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يرى صاحبُ السؤالِ في اختلافِ فقهاءِ المسلِمين مَحَلَّ تعجُّبٍ واستشكال، وهذا هو ظاهرُ السؤالِ، لكنَّ بعضَهم: يَسْألُ ذلك تحسُّرًا وحَيْرةً، وبعضُهم: يريدُ بذلك الطعنَ في الإسلام، ومَحْوَ شرائعِه؛ وهو مَن نُجِيبُ عليه في هذا الجواب.

مختصَرُ الإجابة:

إن الطعنَ على الدِّينِ الإسلاميِّ بالاختلافِ بين الفقهاءِ، هو مَدخَلٌ للسَّفسَطةِ (وهي: جحدُ الحقائقِ الضروريَّة)، فالسُّوفُسْطائيُّون المنكِرون لثبوتِ أيَّةِ حقيقةٍ وأيَّة معرفةٍ، أخَذوا أوَّلَ أسلحتِهم مِن وقوعِ الاختلافِ بين آراءِ العقلاء، بل بين آراءِ عاقلٍ واحدٍ في أزمِنةٍ مختلِفة، فأنكَروا وجودَ الحقيقةِ فيما اتَّفَقوا عليه أيضًا، وفيما ثبَتوا فيه أيضًا.

والحقُّ: أن اختلافَ فقهاءِ المسلِمين لا يُعَدُّ مَثلَبةً في دِينِ الإسلام؛ لأن اختلافَهم ليس متعلِّقًا بأسبابٍ تَرجِعُ إلى تناقُضٍ في النصِّ نفسِه؛ فالوحيُ مصُونٌ عن التناقُضِ والاضطراب، وإنما يَرجِعُ الاختلافُ إلى أسبابٍ أخرى؛ كعدمِ بلوغِ الدليل، أو الاختلافِ في قاعدةٍ أصوليَّةٍ في فهمِ الدليلِ، ونحوِ ذلك؛ وهذا الاختلافُ هو اختلافُ الرحمة.

ثم إن ثَمَّةَ أصولًا للمسائلِ العلميَّةِ والعمليَّةِ في دِينِ الإسلام، لا يسُوغُ الاختلافُ فيها، بل أجمَعَ عليها الصحابةُ والتابِعون، والمخالِفُ فيها مبتدِعٌ؛ وهذا الاختلافُ لا يحبُّهُ اللهُ تعالى ولا يَرْضاه، وإن كان له حكمةٌ مِن تقديرِ وجودِهِ الكونيِّ في هذه الأمَّة.

الجواب التفصيلي


هذه الشبهةُ مما أثاره أهلُ البِدَعِ منذُ العصورِ المبكِّرة، وتصدَّى الفقهاءُ للردِّ عليها، ويحتجُّ بها اليومَ أعداءُ الإسلامِ مِن العَلْمانيِّين، وغيرِهم.

وقد عقَدَ ابنُ بطَّةَ في «الإبانةِ الكبرى» (2/ 553)، بابًا قال فيه: «بابُ التحذيرِ مِن استماعِ كلامِ قومٍ يُريدون نقضَ الإسلام، ومحوَ شرائعِه؛ فيُكَنُّون عن ذلك بالطعنِ على فقهاءِ المسلِمين، وعيبِهم بالاختلاف».

والاختلافُ ليس مما يُطعَنُ به في الإسلام، ونحنُ لا نريدُ أن نذكِّرَ السائلَ بحجمِ الاختلافِ في «مذهبِه»؛ إن كان مبتدِعًا مِن الرافضةِ، أو المعتزِلةِ، أو نحوِهم، ولا حجمِ الاختلافِ في «دِينِه»؛ إن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا، وإنما نُجيبُ جوابًا علميًّا عامًّا نبيِّنُ فيه الفرقَ بين «مراتبِ الاختلاف»، وبين «أسبابِ الاختلاف».

ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:

1) الاختلافُ ليس على درَجةٍ واحدةٍ، أو مرتبةٍ واحدة؛ فمنه الاختلافُ السائغُ، ومنه الاختلافُ غيرُ السائغِ:

فمِن الاختلافِ ما هو اختلافٌ سائغٌ، وهو: ما لم يخالِفْ نصًّا أو إجماعًا، والمجتهِدُ المصيبُ في تلك المسائلِ له أجران، والمجتهِدُ المخطِئُ له أجرٌ؛ وذلك كعمومِ المسائلِ المختلَفِ فيها بين الصحابةِ والتابِعين، ومَن بعدَهم مِن فقهاءِ الأمصار.

وهذا الاختلافُ لم يؤدِّ إلى فُرْقةٍ ولا شَتَاتٍ، ولا معاداةٍ ولا تقاطُعٍ وتباغُضٍ؛ فاختلَفَ العلماءُ في فروعِ الأحكام، والنوافلِ التابِعةِ للفرائض؛ فكان لهم وللمسلِمين فيه مندوحةٌ ونفَسٌ، وفُسْحةٌ ورحمةٌ، وفيه رفعٌ لدرجاتِ أهلِ العلمِ فيما يبذُلونه مِن جهدٍ في تمحيصِ الأدلَّةِ والنظرِ فيها، ورَدِّ متشابِهِها إلى محكَمِها، ولم يَعِبْ بعضُ أهلِ العلمِ على بعضٍ ذلك، ولا كفَّره، ولا سبَّه، ولا لعَنه؛ فإن الاختلافَ السائغَ لا يبلُغُ مبلغَ الفتنةِ والفُرْقةِ إلا بسببِ البغيِ، لا لمجرَّدِ الاختلافِ؛ كما يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ في «الاستقامة» (1/ 31).

ومِن الاختلافِ ما هو غيرُ سائغٍ، وهو: ما خالَفَ النصَّ والإجماعَ؛ كاختلافِ أهلِ السُّنَّةِ مع الرافضةِ، والجهميَّةِ، والقدَريَّة.

فإن أهلَ السُّنَّةِ مُجمِعون على الإقرارِ بالتوحيدِ وبالرسالة، وبأن الإيمانَ قولٌ وعملٌ ونيَّةٌ، وبأن القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوق، ومُجمِعون على أن ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكن، وعلى أن اللهَ خالقُ الخيرِ والشرِّ ومقدِّرُهما، وعلى أن اللهَ يُرَى يومَ القيامةِ بالأبصار، وأن اللهَ على عرشِهِ بائنٌ مِن خَلْقِه، وعِلمُهُ مُحيطٌ بالأشياء.

وهم مجمِعون على أن اللهَ أوَّلٌ بلا ابتداء، وآخِرٌ بلا انتهاء؛ فلا بدايةَ له، ولا نهايةَ، ولا غاية، بصفاتِهِ التامَّةِ لم يَزَلْ ولا يزالُ عالمًا متكلِّمًا، سميعًا بصيرًا، حيًّا حليمًا، قد عَلِمَ ما يكونُ قبلَ أن يكون، وأنه قدَّر المقاديرَ قبل خلقِ الأشياء.

ومُجمِعون على إثباتِ الصفاتِ للهِ تعالى مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيل، ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيل.

ومُجمِعون على إمامةِ أبي بكرٍ، وعُمَرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، رضيَ اللهُ عنهم، وعلى تقديمِ الشيخَيْنِ، وعلى أن العشَرةَ المبشَّرةَ: في الجنَّةِ جزمًا وحتمًا، لا شكَّ فيه.

ومُجمِعون على الترحُّمِ على جميعِ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، والاستغفارِ لهم، ولأزواجِهِ، وأولادِهِ، وأهلِ بيتِه، والكَفِّ عن ذِكْرِهم إلا بخيرٍ، والإمساكِ وتَرْكِ النظَرِ فيما شجَرَ بينهم.

وكلُّ مَن خالَفَ في شيءٍ مِن ذلك، فقولُهُ بدعةٌ وضلالة.

والاختلافُ في هذه الأصولِ لم يُرِدْهُ اللهُ تعالى شرعًا ودِينًا، وإنما أراده سبحانه كونًا وقدَرًا؛ لحكمةٍ ومصلحةٍ وغايةٍ؛ إذْ يحصُلُ به رفعةُ أهلِ السُّنَّةِ بقيامِهم بالحقِّ، وصبرِهم على الدعوةِ إليه، والمحنةِ فيه؛ كما حصَلَ للإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ رحمه اللهُ تعالى، وغيرِهِ مِن أئمَّةِ الإسلام.

2) الاختلافُ بين العلماءِ له أسبابٌ علميَّةٌ موضوعيَّة:

فلم يكن الاختلافُ بين أهلِ العلمِ لمجرَّدِ الهَوَى والتشهِّي، أو طلبًا لحظوظِ الدنيا مِن الرياسةِ، أو الجاهِ، أو المالِ، بل له أسبابٌ علميَّةٌ موضوعيَّة، منها:

السببُ الأوَّلُ: تعارُض الأدلَّةِ في الظاهر؛ وهو أغلبُ أسبابِ الخلاف.

السببُ الثاني: الجهلُ بالدليل، وأكثرُ ما يَجيءُ في الأحاديثِ والآثار؛ لأن بعضَ المجتهِدين: يبلُغُهُ الحديثُ، فيَقْضي به، وبعضُهم: لا يبلُغُهُ، فيَقْضي بخلافِه؛ فينبغي للمجتهِدِ أن يُكثِرَ مِن حفظِ الحديثِ وروايتِه؛ لتكونَ أقوالُهُ على مقتضى الأحاديثِ النبويَّة.

السببُ الثالثُ: الاختلافُ في صحَّةِ نقلِ الحديثِ بعد بلوغِهِ إلى المجتهِدين، إلا أن منهم: مَن صَحَّ عنده، فعَمِلَ بمقتضاه، ومنهم: مَن لم يَصِحَّ عنده - إما لقدحٍ في سندِه، أو لتشديدِهِ في شروطِ الصحَّة - فلم يَعمَلْ به.

السببُ الرابعُ: الاختلافُ في نوعِ الدليل: هل يُحتَجُّ به أم لا؟ وهذا السببُ أوجَبَ كثيرًا مِن الخلاف؛ وذلك كعملِ أهلِ المدينة، وهو حجَّةٌ عند مالكٍ؛ فعَمِلَ بمقتضاه، وليس حجَّةً عند غيرِه؛ فلم يَعمَلوا به، وكالقياسِ، وهو حجَّةٌ عند الجمهور؛ فعَمِلوا به، وليس حجَّةً عند الظاهريَّةِ؛ فلم يَعمَلوا به.

السببُ الخامسُ: الاختلافُ في قاعدةٍ مِن الأصولِ ينبني عليها الاختلافُ في الفروع؛ كحملِ المطلَقِ على المقيَّدِ، وشبهِ ذلك.

السببُ السادسُ: الاختلافُ في القراءاتِ في القرآنِ؛ فيأخُذُ مجتهِدٌ بقراءةٍ، ويأخُذُ غيرُهُ بأخرى؛ كقولِهِ تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}

[المائدة: 6]

؛ قُرِئَ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصبِ؛ فاقتضى غَسْلَ الرِّجْلَيْن؛ لعطفِهِ على «الأيدي»، وقُرِئَ بالخفضِ؛ فاقتضى مسحَهما؛ لعطفِهِ على «الرؤوس»، إلا أن يُتأوَّلَ على غيرِ ذلك.

السببُ السابعُ: الاختلافُ في الروايةِ في ألفاظِ الحديثِ؛ كقولِهِ ﷺ:

«ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ»؛

رواه أبو داودَ (2828)، والتِّرمِذيُّ (1476)، وصحَّحه، وغيرُهما:

فقد رُوِيَ لفظُ «ذَكَاةُ» الثاني بالرفعِ؛ فأخَذَ بمعناه مالكٌ والشافعيُّ، وبالنصبِ؛ فأخَذَ بمعناه أبو حنيفةَ، وبنى كلُّ واحدٍ منهم حكمًا بحسَبِ فهمِه؛ فعلى الرفعِ: المرادُ: الإخبارُ عن ذكاةِ الجنينِ بأنها ذكاةُ أمِّه، فيَحِلُّ بها، كما تَحِلُّ الأمُّ بها، ولا يحتاجُ إلى تذكيةٍ خاصَّةٍ به، وعلى النصبِ: هو على التشبيهِ، أي: كذكاةِ أمِّه؛ كما يُقالُ: «لسانُ الوزيرِ لسانَ الأمير»؛ فيحتاجُ إلى أن يُذكَّى كتذكيةِ أمِّه.

السببُ الثامنُ: اختلافُ وجهِ الإعرابِ، مع اتِّفاقِ القُرَّاءِ في الرِّوايةِ؛ مثلُ قولِهِ عليه السلامُ:

«كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ»؛

رواه مسلم (1933)

؛ فبعضُهم: جعَلَ «الأَكْلَ» مصدرًا مضافًا إلى المفعول؛ فحرَّم أكلَ السباع، وبعضُهم: جعَلهُ مضافًا إلى الفاعل، بمعنى قولِهِ تعالى:

{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}

[المائدة: 3]

؛ فأجاز أكلَ السِّباع.

السببُ التاسعُ: كونُ اللفظِ مشترَكًا بين معنيَيْنِ فأكثرَ؛ فأخَذَ بعضُ المجتهِدين بمعنًى، وغيرُهُ بمعنًى؛ كقولِهِ تعالى:

{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}

[البقرة: 228]

؛ فحمَلَها مالكٌ والشافعيُّ: على الأطهار، وأبو حنيفةَ: على الحِيَض؛ لاشتراكِ اللفظِ بين المعنيَيْن.

السببُ العاشرُ: الاختلافُ في حملِ اللفظِ على العمومِ، أو الخصوصِ؛ مثلُ قولِهِ تعالى:

{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}

[النساء: 23]

؛ هل يُحمَلُ على الزوجاتِ والمملوكاتِ، أو على الزوجاتِ خاصَّةً؟

وهناك أسبابٌ أخرى يطُولُ شرحُها بالأمثلةِ، ونُورِدُها مختصَرةً:

السببُ الحاديَ عشَرَ: الاختلافُ في حملِ اللفظِ على الحقيقة، أو على المجاز.

السببُ الثانيَ عشَرَ: الاختلافُ هل في الكلامِ إضمارٌ أو لا؟ كقولِهِ تعالى:

{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}

[البقرة: 184]

؛ فحمَلهُ الجمهورُ على إضمارِ «فَأَفْطَرَ»؛ فجوَّزوا صيامَ المسافرِ وفِطرَهُ، وإذا صام فلا يَقْضي، خلافًا للظاهريَّةِ؛ فإنهم لم يقدِّروا: «فأفطَرَ»، وذهَبوا إلى أن المسافرَ لو صام في السفر، لَزِمَهُ القضاء.

السببُ الثالثَ عشَرَ: الاختلافُ هل الحكمُ منسوخٌ أم لا؟ وهذا أوجَبَ كثيرًا مِن الخلاف.

السببُ الرابعَ عشَرَ: الاختلافُ في حملِ الأمرِ على الوجوبِ، أو على الندبِ؟ وهذا أيضًا أوجَبَ كثيرًا مِن الخلاف.

السببُ الخامسَ عشَرَ: الاختلافُ في حملِ النهيِ على التحريمِ، أو على الكراهة.

السببُ السادسَ عشَرَ: الاختلافُ في فعلِ النبيِّ ﷺ

: هل يُحمَلُ على الوجوبِ، أو على الندبِ، أو على الإباحة؟

فهذه ستَّةَ عشَرَ سببًا للاختلافِ بين الفقهاء، ذكَرَها بعضُ أهلِ العلم، ويُمكِنُ الزيادةُ عليها، وجميعُها عند التأمُّلِ لا يدُلُّ على طعنٍ في الدِّينِ الإسلاميِّ، ولا في حَمَلتِهِ ونَقَلَتِه؛ كما هو ظاهرٌ.

خاتمة الجواب

إن الخلافَ أمرٌ واقعٌ في جميعِ العلومِ والمذاهبِ والمجالات، وقد أراد اللهُ - لحكمةٍ منه - أن يقَعَ شيءٌ مِن ذلك بين المسلِمينَ بقضائِهِ وقدَرِه، وقد أخبَرَ النبيُّ ﷺ بذلك، وإخبارُهُ علَمٌ مِن أعلامِ نبوَّتِهِ ﷺ، ودليلٌ على صدقِ رسالتِه؛ يقولُﷺ:

«سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي: أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا»؛

رواه مسلم (2890).

وعلى العاقلِ أن يوسِّعَ نظرَهُ في واقعيَّةِ هذه الأسبابِ التي يقَعُ بها الخلافُ، وأن يَعرِفَ كيف يتعامَلُ معها؛ بأن يَبحَثَ عن الحقِّ، ولا يَجعَلَ الخلافَ حجَّةً، وأن يَعذِرَ أهلَ الاجتهادِ السائغ، ويتعامَلَ مع المبتدِعِ بحسَبِ حالِهِ وبدعتِهِ بما هو متقرِّرٌ لدى أهلِ العلم، وقبل ذلك وبعده أن يَسْألَ اللهَ تعالى الهُدَى والسَّداد.

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (210).