نص السؤال

الزعم أن القرآن يدعو إلى الانتقام والقتل وسفك الدم

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

الزعم أن القرآن يدعو إلى الانتقام والقتل وسفك الدم(*)


مضمون الشبهة: 


يزعم بعض المشككين أن القرآن يدعو للانتقام والقتل وسفك الدم، ويستدلون على هذا ب

قوله تعالى:

(الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)

(البقرة: 194)

، ويتساءلون: هل الاعتداء بالمثل هو الحل الأمثل لعلاج الجريمة في المجتمعات لحل المشكلات الدولية؟! هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في أهداف الجهاد والقصاص في الإسلام. 


وجوه إبطال الشبهة: 


1)  القرآن دعا إلى القصاص العادل لا الانتقام الأعمى الأهوج. 
2)  الآية تحث على الدفاع عن النفس، لا الانتقام والاعتداء على الغير. 
3)  في القصاص حياة للبشر، وهذه هي الحكمة من تشريعه. 


التفصيل: 


أولا. القرآن الكريم دعا إلى القصاص وليس الانتقام  [1]:


فالقصاص عقوبة مقدرة توجب حقا على الواقعة الإجرامية بمثلها تماما. فالقصاص بحد ذاته ليس انتقاما شخصيا، أو إرواء لغليل النفوس المكلومة، بل هو أمر أعظم من ذلك، إنه حياة للأمم والشعوب. 
فإن القاتل إذا علم أنه سيدفع حياته ثمنا لحياة الآخرين فسوف يردعه ذلك عن فكرة القتل، وبهذا تستقيم الحياة، وقد ساوى القرآن الكريم بين أفراد المجتمع في الحقوق، ومنع سلب حقوق الآخرين، فشرع أن يأخذ القاضي الحق من المعتدي ويرده لصاحبه. 
لذا فإن عقوبة القصاص بعيدة كل البعد عن شبهة الانتقام؛ لأن من ينظر إلى العقوبة التي شرعها الله - عز وجل - في جرائم الاعتداء على النفس وما دونها يظهر له الفرق الكبير بين القصاص والانتقام: 
•       فالانتقام يدفع إليه الحقد، أما القصاص فيدفع إليه طلب العدل والمساواة، كما يدل على ذلك اسمه. 
•       يتولى الانتقام المعتدى عليه أو أقرب الناس إليه، أما القصاص فيتولاه ولي الأمر، ولا يكون إلا بإذن منه. 
•   يقوم الانتقام - في الغالب - على الشبهات والظنون التي تثور لدى المعتدي، أما القصاص فلا يحكم به إلا بناء على دليل يقيني، بالإضافة إلى العدل في التنفيذ. 
•       الانتقام قد يوجه إلى غير القاتل، أما القصاص فيوجه إلى القاتل دون غيره. 
أما الاعتراض المتعلق بحقوق الإنسان، فنقول: أين حق المكلوم الذي قتل، وقد يكون قد ترك أولادا صغارا وأسرة، أين حقه لدى من يقولون بحقوق الإنسان، فالأخذ بحقوق الإنسان ذريعة للاعتراض على القصاص يتعارض مع حق المقتول الذي قتل ظلما، وينطوي على تشجيع لمن أفسد في الأرض بقتل الإنسان ظلما [2]. 
والقصاص كان عقوبة مقررة في كافة الشرائع السماوية،

فقد قال الله تعالى:

(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32))

(المائدة)

.

وقال عز وجل:

(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص)

(المائدة: 45)،

أي في التوراة. 
ثانيا. الآية تحث على الدفاع عن النفس، لا الانتقام والاعتداء على الغير: 
الفهم الخاطئ للآية:

(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)

(البقرة: 194)

، الذي فهمه منها المدعون أن القرآن يدعو إلى الانتقام، وليس الحال كما قالوا، وإنما انتزعوا الآية من سياقها، ولو قرأوا الآية من أولها لزال عنهم هذا اللبس. 

قال تعالى:

(الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194))

(البقرة). 


قال أهل العلم: الكلام سياق وسباق ولحاق، فلا يجوز قطع واحد منها وإلا فسد المعنى، وهذا ما فعله المدعون في الآية. وسبب نزول الآية هو: قول المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام، قال: نعم، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية بإباحة القتال لهم في الشهر الحرام دفاعا عن أنفسهم لا انتقاما من عدوهم. 

وعن ابن عباس قال:

"نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما صد عن البيت، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه المقبل، فلما كان العام المقبل تجهز وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي قريش بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام، ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام، فأنزل الله ذلك"


وذكر السيوطي عن ابن عباس في

قوله تعالى:

(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)

(البقرة: 194)،

(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)

(النحل:126)،

أنه قال: هذا ونحوه نزل بمكة، والمسلمون يومئذ قليل فليس لهم سلطان يقهر المشركين، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يجازي منهم أن يجازي بمثل ما أوتي إليه، أو يصبر أو يعفو، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وأعز الله سلطانه أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعتد بعضهم على بعض كأهل الجاهلية،

فقال تعالى:

(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (33))

(الإسراء)  [3]

.
فإذا علم سبب نزول الآية، ولم تنزع من سياقها، وضح معناها وزالت الشبهة وانتفت الدعوى، وبهت المعتدي، والله المستعان. 


ثالثا. في القصاص حياة للبشر، وهذه هي الحكمة من تشريعه: 


الإسلام طهر المجتمع من الجريمة تطهيرا شافيا، فلقد نص الشارع على حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل، وحفظ المال، وهذه هي مقاصد الشرع من الخلق، وعلى هذا حد الإسلام حدودا لكل عقوبة من شأنها هز كيان المجتمع، أو الأمة الواحدة. 
فقضى بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفس، وإيجاب حد الشرب، إذ به حفظ العقول التي هي مناط التكليف، وإيجاب حد الزنا، إذ به حفظ النسب والأنساب، وإيجاب زجر المغتصبين والسراق، إذ به حفظ الأموال التي هي معايش الخلق، وهم مضطرون إليها، وحد الردة لحفظ الدين من أن يكون لعبا ولهوا. 
وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة، والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها صلاح الخلق، ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر [4].


وقيل: إن في حد الحدود صنع تدابير وقائية، فإن للإسلام طريقتين لوقاية المجتمع وحمايته من الجرائم، ووقاية الفرد وحمايته من الوقوع في هذه الجرائم، فاتخذ تدابير وقائية عامة ضد الجرائم عموما، وتدابير وقائية خاصة بكل جريمة من الجرائم الكبيرة على حدة. 
فمثلا: اتخذ الإسلام الكثير من الحيطة لكي يحمي الإنسان من الوقوع في الرذيلة واقتراف جريمة الزنا، فحرم كل ما يسهل ارتكاب هذه الجريمة، فحرم الخلوة بالأجنبية،

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«ألا لا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما»

[5]. 


وحرم النظر إليها وتفحصها،

فقال صلى الله عليه وسلم:

«يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى ولست لك الآخرة»

[6]،

ولما سئل عن نظرة الفجأة قال:

«اصرف بصرك» [7]. 


وقبل ذلك أمر الله عز وجل بغض البصر،

فقال:

(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)

(النور: 30).

وكذلك حرم الإسلام على المسلمين الدخول إلى البيوت بدون استئذان، حتى لا تقع عيونهم على ما لا يجب، وحرم سفر المرأة بدون محرم ثلاثة أيام لما في ذلك من خطر عليها وخشية وقوعها في الفتنة، كما لا يجوز اختلاط النساء بالرجال في العمل، أو دور العلم أو غيرها. 
وشرع الإسلام الزكاة على الأغنياء للفقراء تأليفا لهؤلاء المحتاجين، فلا يحقدون على الأغنياء، ولا يفكرون في الانتقام منهم، وحض على الصدقة والإنفاق والبذل والعطاء للفقراء والمعوزين،

قال صلى الله عليه وسلم:

«ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم»

[8]  [9].

وباب سد الذرائع في الفقه الإسلامي كبير جدا ولا يسعنا الإتيان به في هذه السطور. 
والقصاص حياة للأمة، على الرغم من إزهاق النفوس، وفيه مقاصد عديدة: 
أولها: حفظ الأنفس،

وهذا ما يجسده قوله تعالى:

(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179))

(البقرة)

. إذن من يدرك أنه إن قتل إنسانا - فردا أوجماعة - يقتل به قصاصا، وإن اعتدى على غيره اقتص منه بمثل ما فعل من عدوان، فإنه سوف يكف عن القتل والعدوان، فيكون بذلك حياة له أولا وحياة لمن كان سيقتله ثانيا، كما أن في الوقوف بالقصاص عند مجازاة المعتدي وحده حفظا لحياة الآخرين؛ لأن القصاص فيه شفاء لنفوس أولياء الدم، فيرفع من نفوسهم الحقد وشهوة الانتقام، فينتهي الأمر عند القصاص، وتنسى الجريمة. 


ثانيها: تحقيق الأمن والاستقرار؛ لأن في القصاص ردعا لمن تسول له نفسه الاعتداء على حياة غيره. 


ثالثها: القصاص استجابة للفطرة الإنسانية: فلقد فطر الله تعالى الناس على الدفاع عن أنفسهم في سبيل المحافظة على الأنفس [10].


الخلاصة: 


ليس هناك أي وجه لصحة الادعاء القائل: إن القرآن يدعو إلى الانتقام، والقتل وسفك الدم، وذلك للآتي: 
•   القرآن دعا إلى القصاص، وليس الانتقام، والقصاص عقوبة مقدرة توجب حقا على الواقعة الإجرامية بمثلها تماما، فهناك بون شاسع بين القصاص والانتقام. 
والآية التي استدل بها الزاعمون إنما تأمر بالدفاع عن النفس، لا الاعتداء على الغير، وهذا ملاحظ من خلال السياق قبلها وبعدها. 
•   الإسلام شرع القصاص؛ حتى يطهر المجتمع من الجريمة تطهيرا شافيا، فإذا به يحفظ النفس البشرية، وشرع الحدود لذلك الغرض أيضا، وأوجب حد الشرب، إذ به حفظ العقول التي هي مناط التكليف، وأوجب حد الزنا، إذ به حفظ النسب والعرض... إلخ. 
•   القصاص حياة للأمم على الرغم من إزهاق النفوس به، فبه تحفظ الأنفس، ويتحقق الأمن والاستقرار، وهو استجابة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الدفاع عن النفس ضد المعتدي عليها. 

المراجع

  1. (*) المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام ، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م. [1]. القصاص: هو أن يوقع على الجاني مثل ما جنى؛ النفس بالنفس، والجرح بالجرح.
  2.  المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام ، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص606.
  3. انظر: الدر المنثور، السيوطي، دار الفكر، بيروت، ط1، 1983م، ج1، ص497: 499.
  4.  المستصفى في علوم الأصول، أبو حامد الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1413هـ، ص174.
  5. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة (2165)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة، باب فضل الصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم ـ (7254)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2546).
  6. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقى مسند الأنصار، حديث بريرة السلمي ـ رضي الله عنه ـ (23041)، وأبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به من غض البصر (2151)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7953).
  7. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث جرير بن عبد الله عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (19220)، وأبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به من غض البصــر (2150)، وصححــه الألبانــي في صحيــح الجامــع (1014).
  8. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1/ 259)، باب الألف: أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ (751)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5505).
  9. التدابير الزجرية والوقائية في التشريع الإسلامي وأسلوب تطبيقها، توفيق علي وهبة، دار اللواء، ص111: 113 بتصرف.
  10. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام ، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص413: 415.