نص السؤال
دعوى ضياع جزء من القرآن وتحريفه لاختلاف القراءات
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
دعوى ضياع جزء من القرآن وتحريفه لاختلاف القراءات (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن بعض آيات القرآن تختلف في لفظها،
كقوله تعالى:
(قتلوا)
(محمد: 4)،
وفي قراءة أخرى: (قاتلوا)، مما حمل العلماء والمفسرين على الاختلاف في أمور الجهاد، ويستدلون بهذا على دعواهم تحريف القرآن، مدعين أن أبا موسى الأشعري قال - آسفا - لخمسمائة من القراء في البصرة: إننا كنا نقرأ سورة بطول السهم وحده، أما الآن فقد نسيتها ما عدا بعض الآيات.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لم تصح هذه الرواية عن أبي موسى، وحتى إن صحت فهي لا تعني ضياع أي شيء من القرآن.
2) لقد تحرى الصحابة - رضي الله عنهم - في الحفاظ على القرآن من التحريف والضياع أعلى درجات الدقة والتثبت.
3) إن قراءة لفظ (قتلوا) في سورة محمد ووروده في قراءة أخرى (قاتلوا) صحيح لا شك فيه، وكذلك ورد اللفظ في سورة الحج (يقاتلون) و (يقاتلون) بفتح التاء وكسرها وكلاهما صحيح، ولكل لفظ معنى واضح لا غموض فيه.
التفصيل:
أولا. هذه الرواية عن أبي موسى لم تصح، وإن صحت، فهي لا تعني ضياع أي شيء من القرآن الكريم:
إن هذه الرواية التي استدل بها المغالطون عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - غير صحيحة؛ لأنها لم تشتهر عنه، ولم ترد في الكتب المهتمة بهذا الشأن، بل توافرت العوامل الدالة على وهنها؛ إذ إنها لم تذكر اسم السورة التي نسيها أبو موسى، وقد كان يتحدث إلى خمسمائة من القراء، وهم أحفظ الناس لكتاب الله تعالى، فهلا ذكرها أحدهم، وعلى افتراض أنهم جميعا لا يحفظونها، فهلا سافر أحدهم إلى مدرسة الكوفة أو مدرسة مكة أو مدرسة المدينة أو مدرسة الشام؛ ليحفظ هذه السورة؟!
وقد كانوا يقطعون آلاف الأميال في الصحراء من أجل الحصول على مسألة في الفقه، أو معرفة حديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما أن عامة أهل الأمصار، كانوا يلتقون في مواسم الحج والجهاد، أفلم يكن من البدهي أن يسأل عن هذه السورة أحد هؤلاء القراء حتى يحفظها، وهذا مجال اهتمامهم واختصاصهم؟! وإذا لم يبحث عنها القراء فمن يبحث عنها؟
وكذلك يجب أن نعلم هل كانت هذه الرواية قبل توحيد سيدنا عثمان - رضي الله عنه - للمصحف أم بعده؟ فإذا كانت قبله، فإن بقية الجموع الغفيرة من أصحابه لا شك سيكونون قد سجلوها في مصحف عثمان - رضي الله عنه - وإن كانت بعد عمل مصحف عثمان - رضي الله عنه - فلا يضير على هذه السورة أو غيرها أن نسيها أبو موسى أو غيره؛ لأنها ستكون حينها محفوظة في مصحف عثمان - رضي الله عنه - بالإضافة إلى صدور آلاف القراء على مستوى العالم الإسلامي.
ثانيا. تحوط الصحابة في الحفاظ على القرآن:
لم تعن أمة في العالم بكتاب سماوي أو أرضي عناية الأمة الإسلامية بالقرآن الكريم، ولم يحط كلام إلهي أو بشري بمثل ما أحيطت به آياته من وسائل الحفظ والرعاية والتقديس؛ فقد كانت تنزل الآية أو الآيات فتنتقش في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتلوها ساعة نزولها على الآلاف من المحيطين به، فيسارعون إلى استظهارها ليتلوها تعبدا ويصلوا بها، ولا يكتفي النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فيأمر كتابا له بكتابتها، ويحتفظ بها في داره مع أمثالها [1].
لقد عنيت الأمة الإسلامية بالقرآن عناية فائقة، فحفظوا لفظه وفهموا معناه، واستقاموا على العمل به، وعكفوا على جمعه حتى لقد أضحت هذه العناية بحق أروع مظهر عرفه التاريخ لحراسة كتاب هو سيد الكتب وأجلها، وأبعدها عن التحريف والتغيير، وبذلك هيأ الله الأسباب المتكاثرة لحفظ كتابه، وهل هذا إلا مصداق
لقوله سبحانه وتعالى:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))
(الحجر) [2].
المعروف أن أصحاب الحديث كانوا يجولون الأقطار الشاسعة وراء سماع الأحاديث ممن يحفظون شيئا منها طلبا لجمعها، وكانوا يبذلون في سبيل ذلك أنفسهم ونفائسهم، حتى إنه لتروى عنهم فيها الأعاجيب التي لم تتفق لمجتهدي أمة من الأمم، فهل كان كلام أبي موسى لا يدفع هؤلاء الحفاظ للبحث عن تلك الآيات المفقودة، وأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يزالون أحياء، فكانوا يرحلون إلى المدينة وغيرها ينقبون عن حفاظ تلك السور حتى يجمعوا ما تشتت من الآيات؟
وكيف يعقل أن أبا موسى لم يلقن الخمسمائة من القراء الذين قابلهم الآيات التي ما زالت عالقة بذاكرته منها؟ وكيف لم يطلبها منه أولئك القراء؟!
إن القضية لدليل على أن ما وصل الناس هو القرآن؛ فلو وجد فيه أبو موسى أو الخمسمائة شيئا لقالوا، ولما وجدنا منهم أسفا فقط.
ثالثا. قراءة اللفظ في سورة محمد:
أما قراءة اللفظ في سورة محمد بين: (قتلوا) و (قاتلوا)، فهي قراءات صحيحة متواترة، وليس بينها أي خلاف في المعنى؛ لأن الذين (قتلوا) هم أصحاب رسول الله الذين استشهدوا في الغزوات، ومعهم كل من خرج على هذه النية، وكذلك الذين (قاتلوا) هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء من قضى نحبه منهم أو من كان ينتظر، والثانية (قاتلوا) قراءة الجمهور، والأولى (قتلوا) قراءة حفص عن عاصم وأبو عمرو.
وكذلك ورود اللفظ في سورة الحج بين: (يقاتلون) و (يقاتلون) بفتح التاء وكسرها، كلاهما صحيح متواتر، والمعنى لا يختلف؛ لأن المراد بالذين (يقاتلون) هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم الذين (يقاتلون) الكفار، وهم الذين (يقاتلون) من الكفار، فأي خلاف في هذا؟ وبالأول (يقاتلون) قرأ نافع وابن عامر وحفص وأبو جعفر، وبالثاني (يقاتلون) قرأ الباقون.
فالقرآن أنزله الله - عز وجل - على سبعة أحرف، وقد كان هذا الأمر معلوما وثابتا لدى المسلمين منذ عهد النزول،
فقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
«أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»
[3].
وكانت قراءات القرآن معروفة في عصر الصحابة - رضي الله عنهم - وقد تلقوها جميعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقد كان مصحف عثمان - رضي الله عنهم - غير منقوط ولا مشكول، مما يجعله يحتمل وجوه القراءات، ولا يجعل القارئ يعتمد على المكتوب، بل يتلقى المقروء ليصل السند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: إن الخط في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان غير منقوط ولا مشكول، وهذا دليل على أن العربية لغة إفصاح وبيان وتعبير، وتوافق بين ألفاظها، وتآخ بين أساليبها، فلا تعتمد على المكتوب، بل تعتمد على المقروء ونغماته وتآخي عباراته، من غير تجاف في اللفظ عن المعنى ولا في المعنى عن اللفظ [4].
ولقد كان نزول القرآن على تلك الأحرف السبع لحكم أرادها الله، منها: التيسير على الأمة الإسلامية كلها، خصوصا الأمة العربية التي شوفهت بالقرآن، فإنها كانت قبائل كثيرة مختلفة اللهجات، ولو أخذت كلها بقراءة القرآن على حرف واحد، لشق ذلك عليها، ويتضح هذا فيما جاء عن أبي بن كعب أنه قال: «لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عند أحجار المراء [5]، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: "إني بعثت إلى أمة أميين، فيهم الشيخ العاصي، والعجوزة الكبيرة، والغلام"، قال: "فمرهم فليقرأوا القرآن على سبعة أحرف» [6].
كما أن وجوه الإعجاز تتعدد بتعدد القراءات والحروف، فمعنى هذا أن القرآن يعجز إذا قرئ بهذه القراءة، و يعجز أيضا إذا قرئ بهذه القراءة الثانية، و يعجز أيضا إذا قرئ بهذه القراءة الثالثة وهلم جرا، ومن هنا تتعدد المعجزات بتعدد تلك الوجوه والأحرف!
الخلاصة:
• الرواية التي نسبت إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ليست صحيحة، ولا يقبلها عقل ألبتة، فهل يعقل أن يقول هذا الكلام لخمسمائة من القراء ممن جردوا أنفسهم للقرآن، ثم لا يكون رد فعلهم سوى التأسف من ضياع هذا الكتاب؟
• لا صحة لقول من قال بتحريف القرآن بحجة اختلاف بعض ألفاظه في القراءات القرآنية؛ لأن القرآن نزل على سبعة أحرف تيسيرا ورفعا للمشقة والحرج في القراءة، وبيانا لأحكام وألفاظ قد ترد مبهمة، هذا فضلا عن أن ما يزعمونه اختلافا ليس فيه شيء من الاختلاف؛ فإن الكلمات التي ظنوها كذلك متفقة في معانيها على الرغم من اختلاف ألفاظها.
المراجع
- مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص361.
- انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص16، 17.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (4705)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1939).
- المعجزة الكبرى: القرآن، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م، ص 38.
- أحجار المراء: موضع بمكة، كانت قريش تتمارى عندها، وهي صفي السباب.
- صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث زر بن حبيش عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ (21242)، والترمذي في سننه، كتاب القراءات، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (2944)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (2944).