نص السؤال

ادعاء أن القرآن في حديثه عن أهل الكتاب يدعو إلى إرهابهم والتحقير من شأنهم

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

ادعاء أن القرآن في حديثه عن أهل الكتاب يدعو إلى إرهابهم والتحقير من شأنهم (*)


مضمون الشبهة:

 
يدعي بعض المغالطين أن حديث القرآن عن اليهود والنصارى، يتمحور حول شن حرب لا هوادة [1] فيها على أهل الكتاب، ويستدلون على ادعائهم

بقوله سبحانه وتعالى:

(كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8))

(التوبة).

كما يزعمون أن القرآن قد نبذ اليهود والنصارى، وحقر من شأنهم، مستدلين على ذلك

بقوله سبحانه وتعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51))

(المائدة).

هادفين من وراء ذلك إلى وصم الإسلام بأنه دين إرهاب واعتداء على الآخرين. 


وجوه إبطال الشبهة: 


1)  المراد من الآية الأولى هم المشركون لا أهل الكتاب، بدلالة السياق قبلها. 
2) أما المراد من الآية الثانية فهو النهي عن موالاة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك لا يعني ظلمهم أو اضطهادهم أو عدم اتباع سماحة الإسلام في معاملتهم. 
3) ليس معنى أن القرآن ينهى عن موالاة أهل الكتاب، أنه يحقر من شأنهم أو يستهزئ بهم، بدليل تعامل المسلمين معهم بالرحمة والتسامح. 


التفصيل: 


أولا. مراد الآية الأولى هم المشركون لا أهل الكتاب: 


إن القرآن الكريم بما فيه من تعاليم سامية يدعو الناس جميعا إلى احترام المبادئ الأساسية بينهم،

قال سبحانه وتعالى:

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13))

(الحجرات)

، فالقرآن لا يدعو أتباعه إلى إرهاب غيرهم أو الاعتداء عليهم، وإنما يدعوهم إلى حسن معاملة الآخرين، وإن خالفوهم في العقيدة والدين طالما أنهم مسالمون غير معتدين، أما إذا اعتدوا وبدءوا بالقتال والحرب فالقرآن يدعو إلى رد العدوان، عن أنفسهم:

(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)

(البقرة: ١٩٤). 


أما الذين يدعو القرآن إلى قتالهم في

قوله تعالى:

(كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)

(التوبة: ٨)،

إنما هم مشركو قريش وحلفاؤهم من المشركين، وهذا ما يدلل عليه سياق الآيات قبلها،

يقول سبحانه وتعالى:

(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7))

(التوبة). 


فالحديث في هذه الآية عن المشركين الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (يوم الحديبية)، حيث أعانوا بني بكر - حلفاء قريش - على خزاعة، حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد وصفت الآية الكريمة هؤلاء المشركين وصفا في غاية الذم والقبح؛ لأنهم إن كانوا أقوياء فجروا وأسرفوا في الإيذاء، نابذين [2] كل عهد وقرابة وعرف، "أما إذا شعروا بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين الذي تنطق به ألسنتهم وتأباه قلوبهم الحاقدة الغادرة " [3].


ومما يزيد الأمر وضوحا ما فصله الشيخ الغزالي قائلا: المعنى المقصود بالآية الوثنيون المهاجمون للإسلام، الناكثون عهدهم معهم، فكيف يدعون أنها نزلت في أهل الذمة، مع أنها وردت في المشركين الناقضين للعهود؟!!
كما أن الآية بها أدلة بطلان يرد فهمهم الخاطيء لها، وذلك لأنهم لم يفهموا من المخاطب في الآية، وعلى من يعود ضمير الغائب، فالمخاطب في الآية هم المسلمون، حيث يحذرهم القرآن من تربص المشركين بهم، وهم من قصدهم القرآن في ضمير الغائب في قوله "يظهروا" و "يرقبوا"، و "يرضونكم"، "أفواههم"، "وقلوبهم"، كما يخدرهم من خيانة العهد [4].


 وبهذا البيان اتضح أن المراد بالآية هم مشركو قريش وحلفاؤهم وليس أهل الكتاب من النصارى واليهود، مما يبطل زعمهم الفاسد من أن الإسلام يدعو أتباعه إلى إرهاب أهل الكتاب وتحقيرهم، فالحقيقة أن هذا إسقاط منهم، فهم الذين يحرضون دائما الأمم ويؤلبونها ضد المسلمين، ويحاولون إرهاب المسلمين وإخضاعهم لسلطانهم. 


ثانيا. المراد بالموالاة والنهي عنها لا يعني الاعتداء أو عدم اتباع سماحة الإسلام في معاملتهم: 


معنى الموالاة: تقوم معاني الولاية في الإسلام على مفهوم النصرة، والمودة والتعاهد، والتناصح والبذل في سبيل دفع الأذى وتحقيق النفع، ولذلك فقد منع القرآن المؤمنين من ولاية الكافر "فريق المحاربين":

(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9))

(الممتحنة).

وقال سبحانه وتعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء)

(المائدة: 57). 


بل منع القرآن من موالاة المؤمنين أنفسهم ما لم يحترموا مقتضيات الدين، وتكاليف الإيمان:

(والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)

(الأنفال: 72). 


والقرآن يؤكد على أن الولاية من المعاني الإنسانية العامة التي يحرص على تحقيقها كل مجتمع إنساني مع من يماثله في الفكر والمصلحة،

(والذين كفروا بعضهم أولياء بعض)

(الأنفال: 73)،

ومن ثم حض المؤمنين على إقامتها مبينا ما يترتب على غيابها من مفسدة وشر:

(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)

(التوبة:71). 


فبعد هذا لا يصح القول أن الإسلام يحقر من شأنهم؛ لأن استبعاد الموالاة شيء، والاحتقار شيء آخر، والاستشهاد بالآية السابقة كدليل إدانة ليس في محله على الإطلاق. 
وعلى هذا فإن دعواهم أن القرآن في غالب حديثه ينبذ اليهود والنصارى ويحقر من شأنهم

لقوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض)

(المائدة: ٥١)،

تلك الدعوى ناتجة عن فهم خاطئ وتفسير للقرآن بدون علم، إذ إننا إذا رجعنا إلى سبب نزول هذه الآية تبدد الوهم وزال الإشكال فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي، وغيرهم عن عبادة بن الوليد: أن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشبث بأمرهم عبد الله بن سلول، وقام دونهم، ومشي عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي، فخلفهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم، وفيه، وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة:

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض)

(المائدة: ٥١)

، إلى قوله:

(فإن حزب الله هم الغالبون (56))

(المائدة)،

فلا حرج على الإسلام أن يحذر أتباعه من الأعداء المحاربين له المتربصين بأهله الدوائر إذ إن تنفير أفراد الأمة من مهادنة خصومها واجب يتجدد في كل عصر، فعندما تحرم الحكومة المصرية مثلا التعاون مع القوات الأجنبية، فهل يفهم من ذلك أن مصر تكن البغضاء للعالم أجمع؟
فحينئذ هذه خصومة لها ما يبررها، وقد وردت أشياء من هذا القبيل في الإنجيل. فقد قال المسيح: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا"! (متى 10: 34)، ولكننا كمسلمين نؤمن بمفهوم السلام في كل الرسالات السماوية - غير المحرفة طبعا - لا نعتقد أن رسالة المسيح تسعى لإفساد الأرض، ولا تحيا إلا لسفك الدماء، فهذا فهم أخرق. 
وعلى هذا فإن المعنى الصحيح لما ورد في الآية القرآنية السالفة الذكر، أنها نزلت تطهيرا للمجتمع الإسلامي من ألاعيب المنافقين، وما يدبرونه في الخفاء من مؤامرات لمساعدة فريق من أهل الكتاب أعلنوا على المسلمين حربا شعواء، واشتبكوا مع الدين الجديد في قتال عنيف، ليس له من أسباب سوى مخالفته دينهم المحرف. 


فاليهود والنصارى في هذه الآية قوم يحاربون المسلمين فعلا، وقد بلغوا في حربهم منزلة من القوة جعلت ضعاف الإيمان يناصرونهم ويتقربون إليهم،

يقول سبحانه وتعالى:

(فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين (52))

(المائدة). 


ومن ثم جاء التحذير للمسلمين؛ لأن في ذلك ردا للعدوان المتحقق فعلا من اليهود والنصارى،

يقول سبحانه وتعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57))

(المائدة)  [5].

وإذا كان هذا سبب نزول الآية وهو بخصوص تلك الوقائع والأحداث إلا أن العبرة بعموم اللفظ هنا لا بخصوص السبب، فلا تجوز موالاة اليهود والنصارى لا في حرب ولا في سلم في كل زمان ومكان، إذ الولاية هنا تعني التناصر والتحالف، وسماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء واتخاذهم أولياء شيء آخر، فيجب ألا يختلطان، وكذلك فإن التسامح يكون في المعاملات الشخصية والحياة الإنسانية لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي، لذلك فنحن ننبه على أمر مهم، وهو أنه ليس معنى أن الإسلام ينهى عن موالاة أهل الكتاب، أنه يحقر من شأنهم ويستهزئ بهم، بدليل تعامل المسلمين معهم بالرحمة والتسامح. 


ثالثا. موقف الإسلام من اليهود والنصارى: 


لم يقف الإسلام من أصحاب العقائد والديانات المخالفة موقف الرفض المطلق، كما يدعي البعض، بل إننا نجد في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة ما يزخر بقيم العدالة والمساواة في معاملة المخالفين؛ ومنها: 
•   الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه، بل سمح لأصحاب الأديان الأخرى بالبقاء على دينهم دون أن يسلبهم حقوقهم، أو يكون ذلك سببا في التقليل من شأنهم، أو سلبهم حقوقهم الكاملة في المواطنة مع المسلمين، إذ إنه:

(لا إكراه في الدين)

(البقرة: 256)،

أيضا:

(لكم دينكم ولي دين (6))

(الكافرون)،

بل إن القاعدة الإسلامية في هذا الصدد تنص على "أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا" أي: حقوق مواطنة كاملة. 
•         دعا الإسلام لإقامة جسور الحوار والتفاهم والتعاون والمودة مع غير المسلمين من أهل الكتاب

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)

(آل عمران: 64)

، بل نحن مأمورون بالرفق معهم.

(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)

(العنكبوت: 46). 


•   رفض الإسلام إصدار أحكام عامة مطلقة بشأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى من مثل: كلهم سواء، كلهم أعداء، مراعاة للعدل في الحكم عليهم، وذلك في آيات القرآن التي تفرق بين قوم اقتربوا من الحق وتمثلوه في بعض صوره، وآخرين نأوا عنه وصدوا عن سبيله وحاربوا أصحابه. 
•       

 قال سبحانه وتعالى:

(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114))

(آل عمران)،

وقال سبحانه وتعالى:

(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75))

(آل عمران)،

وقال سبحانه وتعالى:

(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم)

(البقرة: 109).


قال سبحانه وتعالى:

(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى)

(المائدة: 82). 


إذن فقد فرق الإسلام بين أهل الكتاب في الوصف على حسب معاملاتهم مع المسلمين، فهناك الطيب والخبيث في كل آن ومكان. 
ولقد حث الإسلام على كثير من الأخلاق الراقية في معاملة المخالفين من اليهود والنصارى، كالعفو والصفح في مواجهة المكائد والمؤامرات:

(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)

(البقرة: 109)،

والبر والعدل:

(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8))

(الممتحنة)،

والحوار الهادئ

(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)

(العنكبوت: 46)،

مع تأكيده على خلق مساحات مشتركة من الحوار:

(وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46))

(العنكبوت: 46). 


•   ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حذر من إيذاء وظلم أهل الذمة من اليهود والنصارى المسالمين، المحافظين على نظام الدولة وقوانينها،

قال صلى الله عليه وسلم:

«من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما». 

[6]

وقد سار الصحابة - رضى الله عنهم - على النهج نفسه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا عمر بن الخطاب يرفع ضريبة الجزية - وهي الضريبة الإسلامية المفروضة على غير المسلمين في مقابل توفير الحماية العسكرية لهم، دون إلزامهم بالانضمام في جيوش الدولة - عن غير القادرين منهم، بل زاد على ذلك بأنه أمر للمحتاجين من شيوخهم، وفقرائهم بعطاء كاف من بيت مال المسلمين، يحفظ عليهم كرامتهم ويرد الفاقة [7] عنهم، ولا يتنافى هذا الموقف مع ردود الأفعال الحاسمة للإسلام من رفض العقائد والمبادئ التي تسربت إلى الأديان الكتابية، كعقيدة التثليث، والقول في طبيعة المسيح، ومبادئ الصلب والخلاص والفداء، وغيرها من المعتقدات الخاطئة التي حكى القرآن بعضها مناقشا إياها بالحجة والبرهان، ومبطلا لها بكل دليل وبيان. 


•   وموقف المسلمين المتسامح هنا لا يتنافى مع حدتهم بالنسبة للمناوئين والمحاربين من أهل الكتاب، الذين يتربصون بالمؤمنين ودولتهم الدوائر، فيكيدون لهم ويتحالفون مع أعدائهم، إذ إنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. 


تعامل المسلمين مع غيرهم على أساس من الرحمة والتسامح: 


كما أن الحديث عن النبذ والاحتقار له ما يرده من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا، إضافة إلى آيات القرآن الكريم التي ذكرناها،

فحينما مرت جنازة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قام لها، فقيل له:

«إنها ليهودي، فقال صلى الله عليه وسلم: أليست نفسا» [8]؟

وموقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وفد نصارى نجران الذي جاء لمقابلة الرسول في المدينة ومحاورته، فقابلهم في مسجده الشريف، وسمح لهم بالصلاة فيه، ثم جادلهم وحاورهم بالحجة والبرهان وتحداهم فرفضوا. 
كما أن القرآن مليء بالآيات التي توصي بأهل الكتاب خيرا، وليس أدل على ذلك من قصة طعمة بن أبيرق المسلم - الذي سطا على أهل بيت من المسلمين وسرق منهم درعا، ثم خبأها عند يهودي، وكانت كل الدلائل تشير إلى اتهام اليهودي، فأنزل الله براءته من فوق سبع سماوات،

يقول سبحانه وتعالى:

(ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107))

(النساء)  [9].


وهكذا فقد نزلت الآيات لتنصر اليهودي على المسلم، فكيف يأتي من يدعي أن القرآن هضم حقوقهم باعتبارهم أقليات في الدولة الإسلامية، مخالفين للدين الرسمي؟! فقد وضع القرآن والسنة النبوية ميثاقا يتعامل به المسلمون مع غيرهم - كما أسلفنا بدءا من الجدال معهم:

(وجادلهم بالتي هي أحسن)

(النحل: 125)،

نهاية بتركهم على دينهم أحرارا:

(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ،

(الكهف: 29)

مرورا بالدعوة إلى عدم ظلمهم وحماية معابدهم، وكنائسهم، والاستعانة بهم - في الجيوش وإدارة الدولة، وإعطائهم حرية الحكم فيما بينهم مما عندهم من كتب، وجعل لهم من الحقوق والواجبات ما للمسلمين. 
وبهذا يتضح أن الإسلام لا يدعو في تعاليمه السامية إلى إرهاب اليهود والنصارى أو الاعتداء عليهم أو التحقير من شأنهم كما يزعم هؤلاء، إنما أمر بمعاملتهم بالحسنى وجدالهم بالتي هي أحسن وبرهم والإنصاف معهم والإحسان إليهم ما لم يكونوا محاربين. 


الخلاصة: 


•   ما يدفع المستشرقين إلى مثل هذه الأقوال هو فهمهم الخاطئ لآيات القرآن الكريم، إذ إنهم لو أمعنوا النظر قليلا في الآية التي يستدلون بها من خلال سياقها التي وردت فيه دون بترها [10] عما سبقها وما بعدها من آيات - لو فعلوا ذلك، لوجدوا أن الحديث هنا عن المشركين الناقضين لعهدهم مع المسلمين، والذين يهاجمون المسلمين، لا لسبب غير مرض قلوبهم، ودور المسلمين في تلك الحالة هو التأديب، ورد العدوان فقط، وليس المبادرة بمناصبة العداء، فالملاحظ أن الإسلام منح أهل الكتاب في الدولة كما قررت القاعدة الإسلامية العظيمة في هذا الشأن "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" كما ظهر التسامح معهم واضحا زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، واقتدى به صحابته من بعده في هذا الشأن، فكان لهم حرية الاعتقاد، وإظهار شعائرهم، وتأمين حياتهم وحفظ كرامتهم، بل إعطاء فقرائهم ما يكفيهم من بيت مال المسلمين، وليس أدل على ذلك من روح الإسلام السمحة حتى في المجادلة والحوار. 
•   أما اعتراضهم على مسألة الولاية، فما من قوم يوالون من يكن لهم البغضاء، فالآية الكريمة تتحدث عن الكفار المحاربين الذين نكثوا عهدهم مع المسلمين، فهل يفرض عليهم في تلك الحال أن يتركوا إيذاءهم دون أدنى اعتراض، بل يتخذوهم أولياء، وهم يعادون الله ورسوله والمؤمنين. أي عقل يسمح بهذا؟!
•   إضافة إلى هذا ما نراه في كتبهم المقدسة (الإنجيل والتوراة المحرفين) من أعمال وحشية ونبذ السلام، والذي يعدونه قربى إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. 
•   ليس هناك أي وجه لصحة هذا الادعاء القائل: إن القرآن في حديثه عن أهل الكتاب يدعو إلى إرهابهم والتحقير من شأنهم، وذلك للآتي: 
o   المراد بالآية الأولى المشركون أهل الكتاب، بدليل السياق قبلها، حيث تحدثت الآيات التي قبلها عن المشركين الذين نقضوا عهدهم يوم الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعانوا بني بكر حلفاء قريش على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم. 
o   المراد بالآية الثانية النهي عن موالاة المحاربين من أهل الكتاب أثناء الحرب بين المسلمين وبينهم، وهذا شيء يقره العقل، فكيف تتعاون الأمة مع عدوها على نفسها، ومع ذلك تبقى دلالة الآية معمولا بها في كل زمان ومكان على كل حال من حرب أو سلم؛ لأن الموالاة التي تعني النصرة والتحالف شيء، والمعاملة الإنسانية الحسنة شيء آخر. 
o   ليس معنى أن القرآن ينهى عن موالاة المحاربين من أهل الكتاب، أنه يحقر من شأنهم، ويستهزئ بهم، فالأحداث التاريخية حافلة بالمواقف التي تثبت مدى العدل والإنصاف الذي تعامل به المسلمون مع غيرهم من أهل الكتاب، ومدى التسامح والرحمة معهم. 

المراجع

  1. (*) أسئلة بلا أجوبة، صموئيل عبد المسيح، موقع الكلمة. [1]. هوادة: لين ورفق. 
  2.  [2]. نابذين: تاركين. 
  3.  [3]. تفسير الوسيط، د. محمد السيد طنطاوي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1406هـ/ 1986م، ج6، ص61 بتصرف يسير. 
  4.  [4]. التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، د. ت ، ص40 بتصرف.
  5.  [5]. التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، د. ت، ص39، 40 بتصرف. 
  6.  [6]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم (2995). 
  7.  [7]. الفاقة: الفقر والحاجة. 
  8.  [8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنازة، باب من قام لجنازة يهودي (1250)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة (2269).
  9.  [9]. التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، د. ت، ص62، 63 بتصرف. 
  10.  [10]. البتر: الفصل والقطع.