نص السؤال

دعوى أن إبراهيم - عليه السلام - كان يهوديًّا أو نصرانيًّا وكذلك أبناؤه

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي


دعوى أن إبراهيم - عليه السلام - كان يهوديا أو نصرانيا وكذلك أبناؤه (*)

مضمون الشبهة:                                      

يدعي كل من النصارى واليهود أن إبراهيم - عليه السلام - كان منهم؛ فيقول اليهود: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وتقول النصارى: ما كان إلا نصرانيا، وكذلك ادعوا أن إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا على ملتهم اليهودية أو النصرانية،

قال سبحانه وتعالى:

(أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى)

(البقرة:١٤٠).

وجوه إبطال الشبهة:

1)  مقولة اليهود سببها قلة العقل وسوء الفهم، ولا دليل عليها.

2)  اليهود كتموا ما هو موجود في كتابهم من أن إبراهيم - عليه السلام - وهؤلاء الأنبياء كانوا مسلمين.

3)  التوراة والإنجيل أنزلا بعد إبراهيم - عليه السلام - فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا؟!

4)  المحاجة بلا علم تؤدي إلى الخطأ.

التفصيل:

أولا. سوء فهم اليهود والنصارى هو سبب دعواهم التي لا دليل عليها:

أنكر الله - عز وجل - على هؤلاء دعواهم أن إبراهيم - عليه السلام - ومن ذكروا من الأنبياء مثل: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط كانوا على ملة اليهودية أو النصرانية، وإن كنتم تقولون هذا فإن الله يكذبكم فيه، وأنتم تعلمون أيضا أن اسمي اليهودية والنصرانية حدثا بعد هؤلاء، بل حدث اسم اليهودية بعد موسى، واسم النصرانية بعد عيسى، كما حدث لليهود تقاليد كثيرة صار مجموعها مميزا لهم، وأما النصارى فجميع تقاليدهم الخاصة بهم المميزة للنصرانية حادثة، لم يأت بها عيسى عليه السلام.. وقال الله - عز وجل - في الرد على هؤلاء:

(قل أأنتم أعلم أم الله)

(البقرة: 140)

يعني: بل الله أعلم وقد أخبر - عز وجل - بأنهم لم يكونوا يهودا ولا نصارى،

كما قال عز وجل:

(ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين)

(آل عمران:67)

فإن اليهودية والنصرانية غير الحنيفية، لأن موسى وعيسى - عليهما السلام - لم يخبرا بأنهما على الحنيفية، فأنتج أن إبراهيم - عليه السلام - لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية؛ إذ لم يؤثر ذلك عن موسى ولا عيسى - عليهما السلام - فهذا سنده خلو كتبهم عن ادعاء ذلك، وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحنيفية مع خلوها عن فريضة الحج، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تمكن منه، ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة:

(لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)

(البقرة:136)

عن عكرمة قال: لما نزلت الآية قال أهل الملل: "قد أسلمنا قبلك، ونحن المسلمون، فقال الله له: فحجهم يا محمد، وأنزل الله:

(ولله على الناس حج البيت)

(آل عمران: 97)

فحج المسلمون وقعد الكفار.

ثم تـمم الله ذلك بقوله: (وما كان من المشركين (67)، فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث، وقوله عز وجل: (ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) أفاد الاستدراك بعد نفي الضد حصرا لحال إبراهيم - عليه السلام - فيما يوافق أصول الإسلام، ولذلك بين حنيفا بقوله: (مسلما)؛ لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام، فأعلمهم أن الإسلام هو الحنيفية، وقال: (وما كان من المشركين) فنفى عن إبراهيم موافقة اليهودية، وموافقة النصرانية، وموافقة المشركين، وإنه كان مسلما، فثبتت موافقته الإسلام.

ومن الثابت أن إبراهيم - عليه السلام - سأل أن يكون مسلما، وأن الله أمره أن يكون مسلما، وأنه كان حنيفا، وأن الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان جاء به إبراهيم:

(وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)

(البقرة:135)

وكل ذلك لا يبقي شكا في أن الإسلام هو إسلام إبراهيم عليه السلام[1]. ولذا قال لهم في موضع آخر:

(فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)

(آل عمران:66)

ثانيا. كتمان اليهود والنصارى للحق:

وهؤلاء اليهود والنصارى قد كتموا شهادة عندهم من الله وهي كون إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب عليهم السلام، والأسباط مسلمين، وقد ذكر بعض أهل التأويل أنهم كانوا يقرأون ذلك في كتاب الله - الذي أتاهم - أن هؤلاء الأنبياء، والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك،

قال سبحانه وتعالى:

(ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون)

(البقرة:140)

إن هؤلاء إلا مجادلون في الحق بعدما تبين، مباهتون للنبي مع العلم بأنه نبي، إذ ما كان لهم أن يشتبهوا في أمره بعد شهادة كتابهم له، فإذا كان ظلمهم أنفسهم قد انتهى بهم إلى آخر حدود الظلم، وهو كتمان شهادة الله تعالى تعصبا لجنسيتهم الدينية التي ارتبط به الرؤساء بالمرءوسين بروابط المنافع الدنيوية من مال وجاه، فكيف ينتظر منهم أن يصغوا إلى بيان أو يخضعوا لبرهان؟ والاستفهام هنا يتضمن التوبيخ والتقريع المؤكدين بالوعيد في قوله:

(وما الله بغافل عما تعملون)

(البقرة:74)

وإنما الجزاء على الأعمال، ثم ختم المحاجة بتأكيد أمر العمل وعدم فائدة النسب فقال:

(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون)

(البقرة:134)

وإنما تسألون عن أعمالكم وتجاوزن عليها، فلا ينفعكم ولا يضركم سواها، وهذه قاعدة يثبتها كل دين قويم، وكل عقل سليم، ولكن قاعدة الوثنية القاضية باعتماد الناس في طلب سعادة الآخرة وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين تغلب مع الجهل كل دين وكل عقل، ومنبع الجهل التقليد المانع من النظر في الأدلة العقلية والدينية جميعا؛ اللهم إلا مكابرة الحس والعقل، وتأويل نصوص الشرع، تطبيقا لها على ما يقول المقلدون المتبعون، وقد أول المؤولون نصوص أديانهم تقريرا لاتباع رؤسائهم والاعتماد على جاههم في الآخرة؛ لذلك جاء القرآن يبالغ في تقرير قاعدة ارتباط السعادة بالعمل والكسب وتبيينها، ونفى الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يتأس بهم في العمل الصالح[2].

ثالثا. نزول التوراة والإنجيل بعد إبراهيم - عليه السلام - بدهر طويل:

ومن ردود القرآن عليهم أيضا في موضع آخر ما أنكره عليهم في محاجتهم في إبراهيم الخليل - عليه السلام - ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم،

فقال الله لهم:

(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون)

(آل عمران:65)

فكيف يدعي هؤلاء اليهود أنه كان يهوديا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف يدعي هؤلاء النصارى أنه كان نصرانيا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟ وهذه حجة عقلية بدهية، ولذا قال لهم: (أفلا تعقلون) أي: أفلا تعقلون دحوض حجتكم وبطلان قولكم؛ ولذا قال الزجاج: هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى، إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده، وليس فيها اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتابة.

وقوله: (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) يكون على حسب الرواية الأولى منعا لقولهم: فقد زدت فيه ما ليس منه، المقصود منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم عليه السلام، وتفصيل هذا المنع: إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم عليه السلام، فمن أين لكم أن الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم عليه السلام؟ فإنكم لا مستند لكم في علمكم بأمور الدين إلا التوراة والإنجيل، وهما قد نزلا من بعد إبراهيم، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلم المزيد عليها، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل. ويكون على حسب الرواية الثانية نفيا لدعوى كل فريق منهما أنه على دين إبراهيم، بأن دين اليهود هو التوراة، ودين النصارى هو الإنجيل، وكلاهما نزل بعد إبراهيم، فكيف يكون شريعة له. قال الفخر: يعني ولم يصرح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابق لشريعة إبراهيم، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود، وذكر الإنجيل لإبطال قول النصارى، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة.

والأظهر في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله عز وجل: (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده)،

وقوله عز وجل:

(فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم)

(آل عمران:66)

وقوله عز وجل: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (آل عمران: 66)، فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم، ودعواهم أن الإسلام ليس على دين إبراهيم، ويثبت عليهم أن الإسلام على دين إبراهيم، وذلك أن قوله عز وجل: (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) يدل على أن علمهم في الدين منحصر فيهما، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا يجوز أن يكونا عين صحف إبراهيم.

وقوله عز وجل: (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) يبطل قولهم: إن الإسلام زاد على دين إبراهيم، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم؛ لأن التوراة والإنجيل لم يرد فيهما التصريح بذلك، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه، فلا يقولون: وكيف يدعى أن الإسلام دين إبراهيم مع أن القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده؟

وقوله: (والله يعلم) يدل على أن الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام دين إبراهيم، وهو أعلم منكم بذلك، ولم يسبق أن امتن عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية، واستيقظتم لذلك حسدا على هذه النعمة، فنهضت الحجة عليهم، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا: إن مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترك الإلزام لنا ولكم؛ فإن القرآن أنزل بعد إبراهيم، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لكان مشترك الإلزام[3].

رابعا. الجدال بغير علم يؤدي إلى الخطأ:

أنكر الله عليهم محاجتهم فيما لا علم لهم به، وأمر برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها،

فقال سبحانه وتعالى:

(فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)

(آل عمران:66)

والاستفهام في قوله: (فلم تحاجون) مقصود منه التنبيه على الغلط.

وقد أعرض في هذا الاحتجاح عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - على الدين الذي جاء به إبراهيم عليه السلام، وبين وصف الإسلام بأنه ملة إبراهيم عليه السلام: لأنهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع، واتحاد الأصول، وأن مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما فاكتفي في المحاجة بإبطال مستندهم في قولهم: "فقد زدت فيه ما ليس فيه" على طريقة المنع،

ثم بقوله عز وجل:

(ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين)

(آل عمران:67)

على طريقة الدعوى بناء على أن انقطاع المعترض كاف في اتجاه دعوى المستدل[4].

وقوله عز وجل:

(والله يعلم وأنتم لا تعلمون)

(البقرة:216)

تكميل للحجة؛ أي: إن القرآن الذي هو من عند الله أثبت أنه ملة إبراهيم، وأنتم لم تهتدوا لذلك، لأنكم لا تعلمون[5]، ولذلك عقب بعد ذلك

بقوله تعالى:

(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)

(آل عمران:68)

فالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه أولى بإبراهيم لأنهم تخلقوا بأصول شرعه، وعرفوا قدره، وكانوا له لسان صدق دائبا بذكره فهؤلاء أحق به ممن انتسبوا إليه، لكنهم نقضوا أصول شرعه، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه وهم اليهود والنصارى، والله ولي إبراهيم والذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا؛ لأن التذييل يشمل المذيل قطعا، ثم يشمل غيره تكميلا كالعام على سبب خاص، وفي قوله عز وجل: (والله ولي المؤمنين) بعد قوله عز وجل: (ما كان إبراهيم يهوديا) تعريض بأن الذين لم يكن إبراهيم منهم ليسوا مؤمنين[6].

الخلاصة:

·اليهود - كعادتهم - كتموا ما هو موجود في كتابهم من أن إبراهيم - عليه السلام - وهؤلاء الأنبياء كانوا مسلمين.

·التوراة والإنجيل أنزلا بعد إبراهيم - عليه السلام - فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا؟ا

·الآيات المذكورة تنفي كون إبراهيم - عليه السلام - يهوديا أو نصرانيا، وتعرض في الوقت ذاته بأن الذين لم يكن إبراهيم - عليه السلام - منهم ليسوا مؤمنين.

 

المراجع

  1. (*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (البقرة/ 140).
  2.  الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (آل عمران/ 65: 68، البقرة/ 140، 141). 
  3. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص274، 275 بتصرف.
  4. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج1، ص490، 491 بتصرف.
  5.  التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت ، مج3، ج3، ص272. 
  6. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت ، مج3، ج3، ص273.
  7.  التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت ، مج3، ج3، ص274. 
  8.  التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت ، مج3، ج3، ص277، 278.