نص السؤال
المصدر: شبهات المشككين في الإسلام
الجواب التفصيلي
دعوى كفار مكة أن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يتبعه عدم الأمان(*)
مضمون الشبهة:
ادعى بعض المشركين في مكة أن اتباع الهدى الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ومخالفتهم من حولهم من أحياء العرب المشركين يعرضهم إلى أن يتخطفهم العرب من أرضهم وأن يقصدوهم بالأذى والمحاربة، ولا طاقة لأهل مكة بذلك؛ وهذا ما صرفهم عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى:
(وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون)
(القصص:57)
وجوه إبطال الشبهة:
1) رغم أن هذه المقولة تعلل باطل وزعم لا دليل عليه، إلا أنها اعتراف منهم بأن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حق.
2) الله أمنهم وهم يشركون به فكيف يتخطفون وهم مؤمنون به!
3) علة الهلاك الحقيقية في البطر وكفر النعمة وتكذيب الرسل.
4) حتى لو تخطفهم الناس - إن آمنوا - فما عند الله خير وأبقى لهم.
التفصيل:
أولا. رغم بطلان زعمهم إلا أنه اعتراف بأن محمد - صلى الله عليه وسلم - على حق:
إن قولتهم التي قالوها للرسول - صلى الله عليه وسلم - معتذرين عن اتباعه مخافة أن يفقدوا سلطانهم على قبائل العرب المجاورة التي تعظم الكعبة، وتدين لسدنتها، وتعظم أصنامها، فتتخطفهم تلك القبائل.
هذه الشبهة من تعللات أهل مكة من المشركين، وهو تعلل باطل وعذر عاطل، حيث يزعمون أنهم إن دخلوا في دين محمد - صلى الله عليه وسلم - فسوف يتخطفهم العرب من أرضهم، ولا طاقة لأهل مكة بهم.
(وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطهم لتبدلت نظرتهم للقوي، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه. وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة؛ وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب. إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوى إلى ركن شديد في واقع الحياة[1].
إن هدى الله منهج حياة صحيحة. حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؛ ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معا برباط واحد: صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى الله. والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة.
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)
(القصص: ٥٧)
فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان[2].
ثانيا. كيف يتخطفون وهم مؤمنون وقد أمنهم الله وهم مشركون؟!
وقد رد الله على المشركين ردا مصدرا باستفهام التوبيخ والتقريع، فقال: )أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا( (القصص: ٥٧).
والمعنى: فقد جعلنا لهم حرما ذا أمن وطمأنينة، وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فأجاب الله عن العلة التي اعتلوا بها بأنه قد أمنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم، وكأنه يقول لهم: كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبدون غيري أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي أن يتخطفكم الناس؟!
كما أخبرهم الله - عز وجل - أن هذا الحرم الآمن تجبى إليه الثمرات المختلفة على اختلاف أنواعها من الأراضي المختلفة وتحمل إليه، ولكنهم غافلون عن الاستدلال الصحيح، وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا وآمنوا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم، فمقالتهم هذه ناشئة عن فرط جهلهم ومزيد غفلتهم وقلة علمهم وعدم تفكرهم في أمر معادهم ورشادهم؛
ولذا قال عز وجل:
(أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون)
(القصص:57)
وبهذا رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا؟ تتجمع في الحرم من كل أرض، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا) (القصص: 57).
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟! (ولكن أكثرهم لا يعلمون) (القصص:57)، لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله[3].
ثالثا. علة الهلاك الحقيقية في البطر وكفر النعمة وتكديب الرسل:
وإذا كانت مقولة هؤلاء المشركين تدل على أنهم معترفون بالحق في الظاهر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الهدى، لذا أعقب الله هذه الآية السابقة بتخويفهم عذاب الأمم الخالية التي استكبرت وبطرت النعم الإلهية، فأكلوا رزق الله وعبدوا غيره،
فقال عز وجل:
(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين)
(القصص:58)
فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقا، وأن يأمنوا التخطف حقا، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها: )
(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين)
(القصص:58)
إن بطر النعمة، وعدم الشكر عليها، هو سبب هلاك القرى. وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن؛ فليحذروا إذن أن يبطروا، وألا يشكروا، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية. (لم تسكن من بعدهم إلا قليلا). وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها. وتروى قصة البطر بالنعمة؛ وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحدا، ولم يرثها بعدهم أحد
(وكنا نحن الوارثين)
(القصص:58)
على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولا. فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده:
(وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)
(القصص:59)
وحكمة إرسال الرسول في أم القرى أي كبراها أو عاصمتها أن تكون مركزا تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد. وقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة أم القرى العربية. فهو ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير. )وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (59)( (القصص). يكذبون بالآيات عن معرفة وعن يقين!
رابعا. لو تخطفهم الناس إن آمنوا، فما عند الله خير وأبقى لهم:
على أن متاع الحياة الدنيا بكامله، وعرض الحياة الدنيا جميعه، وما مكنهم الله فيه من الأرض، وما وهبهم إياه من الثمرات، وما يتسنى للبشر كلهم طوال هذه الحياة، إن هو إلا شيء ضئيل زهيد، إذا قيس بما عند الله:
(وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون)
(القصص:60)
وهذا هو التقويم الأخير لا لما يخشون فوته من الأمن والأرض والمتاع وحده، ولا لما يمن به الله عليهم من التمكين والثمار والأمان وحده؛ ولا لما وهبه الله للقرى ثم أهلكها بالتبطر فيه وحده؛ إنما هو التقويم الأخير لكل ما في هذه الحياة الدنيا حتى لو ساغ، وحتى لو دام، فلم يعقبه الهلاك والدمار، إنه كله
(وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون)
(القصص:60)
خير في طبيعته وأبقى في مدته.
والمفاضلة بين هذا وذاك تحتاج إلى عقل يدرك طبيعة هذا وذاك. ومن ثم يجيء التعقيب في هذه الصيغة للتنبيه لإعمال العقل في الاختيار!
وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم صفحتي الدنيا والآخرة، ولمن شاء أن يختار:
(أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين)
(القصص:61)
فهذه صفحة من وعده الله وعدا حسنا فوجده في الآخرة حقا وهو لا بد لاقيه. وهذه صفحة من نال متاع الحياة الدنيا القصير الزهيد، ثم ها هو ذا في الآخرة محضرا إحضارا للحساب. والتعبير يوحي بالإكراه (من المحضرين) الذين يجاء بهم مكرهين خائفين يودون أن لم يكونوا محضرين؛ لما ينتظرهم من وراء الحساب على ذلك المتاع القصير الزهيد!
وتلك نهاية المطاف في الرد على مقالتهم: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) (القصص)، فحتى لو كان ذلك كذلك فهو خير من أن يكونوا في الآخرة من المحضرين! فكيف واتباع هدى الله معه الأمن في الدنيا والتمكين، ومعه العطاء في الآخرة والأمان؟ ألا إنه لا يترك هدى الله إذن إلا الغافلون الذين لا يدركون حقيقة القوي في هذا الكون. ولا يعرفون أين تكون المخافة وأين يكون الأمن. وإلا الخاسرون الذين لا يحسنون الاختيار لأنفسهم ولا يتقون البوار[4].
الخلاصة:
·دعوى هؤلاء المشركين من أهل مكة أنهم إن آمنوا تخطفهم الناس من حولهم دعوى باطلة وتعلل لا دليل عليه.
·هذه الدعوى على ما تحمله من مغالطة، فإنها تحمل الاعتراف بأن ما جاء به النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الهدى والحق.
·إذا كان الله أمنهم وهم كفار حينما كانت الجزيرة حولهم في حروب متطاحنة لا تكاد تنقطع، فهل يتركهم للناس يتخطفونهم وهم مؤمنون؟!
المراجع
- (*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (القصص/ 57). الآيتان اللتان ورد فيهما الرد على الشبهة: (القصص/ 57، 58).
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج5، ص2703.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ص2704.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ص2704.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ص2705.
الجواب التفصيلي
دعوى كفار مكة أن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يتبعه عدم الأمان(*)
مضمون الشبهة:
ادعى بعض المشركين في مكة أن اتباع الهدى الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ومخالفتهم من حولهم من أحياء العرب المشركين يعرضهم إلى أن يتخطفهم العرب من أرضهم وأن يقصدوهم بالأذى والمحاربة، ولا طاقة لأهل مكة بذلك؛ وهذا ما صرفهم عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى:
(وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون)
(القصص:57)
وجوه إبطال الشبهة:
1) رغم أن هذه المقولة تعلل باطل وزعم لا دليل عليه، إلا أنها اعتراف منهم بأن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حق.
2) الله أمنهم وهم يشركون به فكيف يتخطفون وهم مؤمنون به!
3) علة الهلاك الحقيقية في البطر وكفر النعمة وتكذيب الرسل.
4) حتى لو تخطفهم الناس - إن آمنوا - فما عند الله خير وأبقى لهم.
التفصيل:
أولا. رغم بطلان زعمهم إلا أنه اعتراف بأن محمد - صلى الله عليه وسلم - على حق:
إن قولتهم التي قالوها للرسول - صلى الله عليه وسلم - معتذرين عن اتباعه مخافة أن يفقدوا سلطانهم على قبائل العرب المجاورة التي تعظم الكعبة، وتدين لسدنتها، وتعظم أصنامها، فتتخطفهم تلك القبائل.
هذه الشبهة من تعللات أهل مكة من المشركين، وهو تعلل باطل وعذر عاطل، حيث يزعمون أنهم إن دخلوا في دين محمد - صلى الله عليه وسلم - فسوف يتخطفهم العرب من أرضهم، ولا طاقة لأهل مكة بهم.
(وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطهم لتبدلت نظرتهم للقوي، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه. وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة؛ وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب. إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوى إلى ركن شديد في واقع الحياة[1].
إن هدى الله منهج حياة صحيحة. حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؛ ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معا برباط واحد: صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى الله. والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة.
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)
(القصص: ٥٧)
فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان[2].
ثانيا. كيف يتخطفون وهم مؤمنون وقد أمنهم الله وهم مشركون؟!
وقد رد الله على المشركين ردا مصدرا باستفهام التوبيخ والتقريع، فقال: )أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا( (القصص: ٥٧).
والمعنى: فقد جعلنا لهم حرما ذا أمن وطمأنينة، وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم، فأجاب الله عن العلة التي اعتلوا بها بأنه قد أمنهم بحرمة البيت، ومنع عنهم عدوهم فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم، وكأنه يقول لهم: كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبدون غيري أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي أن يتخطفكم الناس؟!
كما أخبرهم الله - عز وجل - أن هذا الحرم الآمن تجبى إليه الثمرات المختلفة على اختلاف أنواعها من الأراضي المختلفة وتحمل إليه، ولكنهم غافلون عن الاستدلال الصحيح، وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا وآمنوا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم، فمقالتهم هذه ناشئة عن فرط جهلهم ومزيد غفلتهم وقلة علمهم وعدم تفكرهم في أمر معادهم ورشادهم؛
ولذا قال عز وجل:
(أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون)
(القصص:57)
وبهذا رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا؟ تتجمع في الحرم من كل أرض، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا) (القصص: 57).
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟! (ولكن أكثرهم لا يعلمون) (القصص:57)، لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله[3].
ثالثا. علة الهلاك الحقيقية في البطر وكفر النعمة وتكديب الرسل:
وإذا كانت مقولة هؤلاء المشركين تدل على أنهم معترفون بالحق في الظاهر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الهدى، لذا أعقب الله هذه الآية السابقة بتخويفهم عذاب الأمم الخالية التي استكبرت وبطرت النعم الإلهية، فأكلوا رزق الله وعبدوا غيره،
فقال عز وجل:
(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين)
(القصص:58)
فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقا، وأن يأمنوا التخطف حقا، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها: )
(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين)
(القصص:58)
إن بطر النعمة، وعدم الشكر عليها، هو سبب هلاك القرى. وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن؛ فليحذروا إذن أن يبطروا، وألا يشكروا، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية. (لم تسكن من بعدهم إلا قليلا). وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها. وتروى قصة البطر بالنعمة؛ وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحدا، ولم يرثها بعدهم أحد
(وكنا نحن الوارثين)
(القصص:58)
على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولا. فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده:
(وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)
(القصص:59)
وحكمة إرسال الرسول في أم القرى أي كبراها أو عاصمتها أن تكون مركزا تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد. وقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة أم القرى العربية. فهو ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير. )وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (59)( (القصص). يكذبون بالآيات عن معرفة وعن يقين!
رابعا. لو تخطفهم الناس إن آمنوا، فما عند الله خير وأبقى لهم:
على أن متاع الحياة الدنيا بكامله، وعرض الحياة الدنيا جميعه، وما مكنهم الله فيه من الأرض، وما وهبهم إياه من الثمرات، وما يتسنى للبشر كلهم طوال هذه الحياة، إن هو إلا شيء ضئيل زهيد، إذا قيس بما عند الله:
(وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون)
(القصص:60)
وهذا هو التقويم الأخير لا لما يخشون فوته من الأمن والأرض والمتاع وحده، ولا لما يمن به الله عليهم من التمكين والثمار والأمان وحده؛ ولا لما وهبه الله للقرى ثم أهلكها بالتبطر فيه وحده؛ إنما هو التقويم الأخير لكل ما في هذه الحياة الدنيا حتى لو ساغ، وحتى لو دام، فلم يعقبه الهلاك والدمار، إنه كله
(وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون)
(القصص:60)
خير في طبيعته وأبقى في مدته.
والمفاضلة بين هذا وذاك تحتاج إلى عقل يدرك طبيعة هذا وذاك. ومن ثم يجيء التعقيب في هذه الصيغة للتنبيه لإعمال العقل في الاختيار!
وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم صفحتي الدنيا والآخرة، ولمن شاء أن يختار:
(أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين)
(القصص:61)
فهذه صفحة من وعده الله وعدا حسنا فوجده في الآخرة حقا وهو لا بد لاقيه. وهذه صفحة من نال متاع الحياة الدنيا القصير الزهيد، ثم ها هو ذا في الآخرة محضرا إحضارا للحساب. والتعبير يوحي بالإكراه (من المحضرين) الذين يجاء بهم مكرهين خائفين يودون أن لم يكونوا محضرين؛ لما ينتظرهم من وراء الحساب على ذلك المتاع القصير الزهيد!
وتلك نهاية المطاف في الرد على مقالتهم: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) (القصص)، فحتى لو كان ذلك كذلك فهو خير من أن يكونوا في الآخرة من المحضرين! فكيف واتباع هدى الله معه الأمن في الدنيا والتمكين، ومعه العطاء في الآخرة والأمان؟ ألا إنه لا يترك هدى الله إذن إلا الغافلون الذين لا يدركون حقيقة القوي في هذا الكون. ولا يعرفون أين تكون المخافة وأين يكون الأمن. وإلا الخاسرون الذين لا يحسنون الاختيار لأنفسهم ولا يتقون البوار[4].
الخلاصة:
·دعوى هؤلاء المشركين من أهل مكة أنهم إن آمنوا تخطفهم الناس من حولهم دعوى باطلة وتعلل لا دليل عليه.
·هذه الدعوى على ما تحمله من مغالطة، فإنها تحمل الاعتراف بأن ما جاء به النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الهدى والحق.
·إذا كان الله أمنهم وهم كفار حينما كانت الجزيرة حولهم في حروب متطاحنة لا تكاد تنقطع، فهل يتركهم للناس يتخطفونهم وهم مؤمنون؟!
المراجع
- (*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (القصص/ 57). الآيتان اللتان ورد فيهما الرد على الشبهة: (القصص/ 57، 58).
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج5، ص2703.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ص2704.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ص2704.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ص2705.