نص السؤال
مِن المشاهَدِ: أن الطبيعةَ لها قوانينُ ثابتةٌ تسيِّرُ هذا الكونَ وتَضبِطُهُ؛ فلماذا نؤمِنُ بوجودِ إلهٍ؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
هل هناك حاجةٌ للتفسيرِ بربٍّ مدبِّرٍ ومسيِّرٍ لهذا الكون؟ لِمَ لا تكونُ الطبيعةُ هي التي خلَقتْ هذا الكونَ، وهي التي تدبِّرُ شأنَه؟
الجواب التفصيلي
الأدلَّةُ على وجودِ اللهِ تعالى كثيرةٌ جِدًّا، والعاقلُ متى ثبَتتْ عنده صحَّةُ الشيءِ بأدلَّةٍ ظاهرةٍ متواتِرةٍ، لم يُنقَضْ عنده لأجلِ دليلٍ محتمِلٍ، فضلًا إذا تبيَّن أنه ضعيفٌ، أو على الأقلِّ مجرَّدُ احتمالٍ أو توهُّمٍ عقليٍّ؛ لأن الاحتمالاتِ والتوهُّماتِ يُمكِنُ إجراؤُها على كلِّ الحقائقِ البدَهيَّة؛ فتُسمَّى هذه الاحتمالاتُ حينئذٍ: «سَفسَطةً».
فشُبَهُ المعترِضينَ لا تنتهي، وما يُنتِجُهُ العقلُ البشَريُّ مِن السَّفسَطةِ لا يُمكِنُ أن ينتهِيَ إلى حدٍّ، ومِن الخطورةِ بمكانٍ: أن يكونَ اشتغالُ الإنسانِ في بنائِهِ للحقِّ، بنقضِ الباطلِ الذي يرُدُّ عليه فقطْ؛ فإن الاقتصارَ على نقضِ الباطلِ لا يَبْني حقًّا، وإنما يكونُ بناءُ الحقِّ ببناءِ أدلَّتِهِ الصحيحةِ، وأصولِهِ التي قام عليها، ويكونُ ردُّ الباطلِ عارضًا عند الحاجة.
وما سنَعرِضُهُ هو الأهمُّ، والذي عليه المعوَّلُ الرئيس:
- الأصولُ التي يقومُ عليها الإيمانُ بالله تعالى.
- الأدلَّةُ على وجودِ اللهِ تعالى.
أوَّلًا: الأصولُ التي يقومُ عليها الإيمانُ باللهِ تعالى:
الأصلُ الأوَّلُ: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ عقليَّةٌ فطريَّة:
ومعنى هذا الأصلِ: أن الإيمانَ باللهِ ليس قضيَّةً عاطفيَّةً لا تقومُ على أُسُسٍ استدلاليَّةٍ، وليس مجرَّدَ تجرِبةٍ نفسيَّةٍ عِرْفانيَّةٍ لا تستنِدُ إلى برهانٍ موضوعيٍّ، وإنما هو حقيقةٌ معرفيَّةٌ تصديقيَّةٌ يقينيَّة، توافِقُها غريزةٌ باطنيَّة، وتقومُ على أُسُسٍ عقليَّةٍ أصيلة، وتنطلِقُ مِن براهينَ علميَّةٍ يقينيَّة، وترتبِطُ بمبادِئَ فطريَّةٍ جليَّة، يَخضَعُ لها العقلُ السليم، ويُقِرُّ بصحَّتِها.
ومنها: الدليلُ الذي يُسمَّى أحيانًا بـ «مبدأِ السببيَّةِ»، أو «الدليلِ الوجوديِّ»؛ فكلُّ مخلوقٍ لا بدَّ له مِن خالقٍ خلَقهُ، وكلُّ حادثٍ لا بدَّ له مِن مُحدِثٍ أحدَثهُ، ومنها دليلُ استحالةِ الصُّدْفةِ عقليًّا، وبالحساباتِ الرياضيَّةِ كذلك، وكذلك دليلُ الفطرةِ، وغيرُها.
الأصلُ الثاني: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ معرفيَّةٌ استدلاليَّة:
ومعنى هذا الأصلِ: أن المعرِفةَ الإنسانيَّةَ لا يُمكِنُ أن يقومَ لها نظامٌ، ولا يستقيمُ لها قانونٌ، ولا يصلُحُ لها حالٌ، ولا ينضبِطُ لها استدلالٌ، إلا مع الإيمانِ بالله.
فوجودُ اللهِ تعالى ثابتٌ بالأدلَّةِ الضروريَّةِ التي أشيرَ لبعضِها سابقًا، ولا يُمكِنُ إنكارُها إلا بنوعٍ مِن التمحُّلِ والسَّفسَطة، وحين نُبطِلُ هذه المقدِّماتِ الضروريَّةَ، فإنها تُبطِلُ لنا المعرفةَ جميعًا (حتى المعارفَ الدنيويَّةَ)، وليس فقطْ إثباتَ وجودِ اللهِ تعالى.
ولا يَصِحُّ إبطالُها في الاستدلالِ على وجودِ الله، وإثباتُها في غيرِها؛ فهذا نوعٌ مِن التناقُضِ والتحكُّم؛ فالحياةُ الإنسانيَّةُ لا تستقيمُ إلا بالمعرفةِ المنضبِطةِ في تصوُّراتِها، ومنهجِ البحثِ والاستدلالِ فيها؛ وهذا لا يتحقَّقُ إلا بوجودِ الضروراتِ العقليَّة، فإن فسَدتْ تلك المبادئُ، أو اضطرَبَتْ، فسيدخُلُ الخَلَلُ في المعارفِ النظَريَّة؛ لابتنائِها عليها.
وهذا يَعْني: أن المعارفَ البشَريَّةَ:
منها: ما هو «ضروريٌّ»؛ يحصُلُ في النفسِ بغيرِ نظَرٍ، ولا اكتسابٍ.
ومنها: ما هو «نظَريٌّ»؛ لا بدَّ له مِن مستنَدٍ تستنِدُ عليه في إثباتِ صِدقِها، وهذا المستنَدُ لا يخلو: إما أن يكونَ نفسَ القضيَّةِ النظريَّةِ التي يرادُ إثباتُها، وإما أن يكونَ قضيَّةً أخرى:
فإن كان نفسَها، فهو باطلٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى الدَّوْرِ الممتنِعِ، وهو إثباتُ الشيءِ بنفسِه، واستنادُهُ إلى نفسِه.
وإن كان قضيَّةً أخرى، وقد فرَضْنا أنها نظريَّةٌ، فهي تحتاجُ إلى مستنَدٍ آخَرَ؛ وهذا هو التسلسُلُ الممتنِع.
ومِن ثَمَّ: ثبَتَ أن المعرفةَ الإنسانيَّةَ لا بدَّ فيها مِن الاستنادِ إلى الضروراتِ العقليَّةِ التي ينتهي إليها الاستدلالُ العقليّ.
ووجودُ الضروراتِ العقليَّةِ في الواقعِ لا يُمكِنُ تصوُّرُهُ إلا مع وجودِ واجبِ الوجودِ لذاتِهِ، وليس ذلك إلا اللهَ تعالى الأوَّلَ الذي ليس قبله شيءٌ، والآخِرَ الذي ليس بعده شيءٌ، الذي أودَعَ في عقولِنا المعارفَ الضروريَّةَ التي تستقيمُ بها حياتُنا الإنسانيَّة.
فوجودُ اللهِ والإيمانُ به خالقًا للكونِ، هو الأساسُ الأوَّليُّ الذي يقومُ عليه بناءُ المعرفةِ الإنسانيَّة، والضَّمانةُ التي لا استقرارَ للنظامِ المعرفيِّ ولا انضباطَ لها بدونِه، ولا يُمكِنُ للمرءِ أن يَسلَمَ مِن التناقُضِ المعرفيِّ إلا به.
الأصلُ الثالثُ: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ نفسيَّةٌ:
ومعنى هذا الأصلِ: أن الإنسانَ لا يُمكِنُ أن تستقِرَّ نفسُهُ، وتَهدَأَ رُوحُهُ، إلا مع الإيمانِ بوجودِ الله، الأوَّلِ الذي لا شيءَ قبلَه، والآخِرِ الذي لا شيءَ بعدَه.
فالإنسانُ بطبعِهِ لا يُمكِنُ أن يخلُوَ مِن كونِهِ مريدًا قاصدًا؛ لأن هذا الشعورَ وهذه الإرادةَ مِن لوازمِ الحقيقةِ الإنسانيَّة، ولا بدَّ أن تتعلَّقَ النفسُ كذلك وتنتهِيَ إلى شيءٍ مرادٍ لذاتِه، ولا بدَّ أن يكونَ المرادُ لذاتِهِ قديمًا مستقِلًّا في وجودِهِ عن غيرِه، ولن يكونَ ذلك إلا اللهَ تعالى.
الأصلُ الرابعُ: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ أخلاقيَّةٌ اجتماعيَّةٌ:
ومعنى هذا الأصلِ: أن الناسَ لا يُمكِنُ أن يُقِيموا لأنفُسِهم نظامًا أخلاقيًّا صالحًا لضبطِ السلوكِ الإنسانيِّ وتسييرِ حَيَاتِهم في الأرضِ إلا مع وجودِ الله.
وغيرُ ذلك مِن الأصول.
ثانيًا: الأدلَّةُ على وجودِ اللهِ تعالى:
ما أحسَنَ قولَ القائل:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
فاللهُ سبحانه وتعالى يدُلُّ عليه بوضوحٍ كلُّ هذا الوجودِ مِن أصغرِ مخلوقٍ إلى أكبرِه، بل الإنسانُ نفسُهُ مِن أكبرِ الأدلَّةِ على وجودِ اللهِ الحكيمِ الخبير.
فإن الأدلَّةَ على وجودِ اللهِ تعالى حاصلةٌ في قلبِ كلِّ إنسانٍ سليمِ الفطرة، لم تنحِرفْ به شياطينُ الإنسِ والجِنّ؛ فإن اللهَ عزَّ وجلَّ أجلُّ وأعظمُ مِن أن يحتاجَ وجودُهُ إلى شخصٍ مِن الناسِ يُثبِتُه، أو يجادِلُ خصومَهُ لإثباتِ وجودِه.
والأدلَّةُ التي تُثبِتُ وجودَ اللهِ؛ كدليلِ: «الخلقِ والإيجادِ»، ودليلِ: «الإتقانِ والإحكامِ»، وغيرِهما، هي في الحقيقةِ كشفٌ عن الأصولِ الفطريَّةِ والعقليَّةِ الضروريَّةِ في نفسِ كلِّ إنسان، وليس تأسيسًا لمبادئَ جديدةٍ:
دليلُ الخلقِ والإيجاد:
وحقيقةُ هذا الدليلِ: الاستدلالُ على ضرورةِ وجودِ اللهِ بحدوثِ الكونِ بجميعِ مكوِّناتِهِ وأحداثِه؛ فالكونُ حدَثٌ مِن الأحداث، وفِعلٌ مِن الأفعال؛ إذَنْ: فلا بدَّ له مِن مُحدِثٍ وفاعلٍ قام بإحداثِهِ وفِعلِهِ وإيجادِهِ بعد عدَمِ نفسِه؛ فكلُّ شيءٍ يحدُثُ بعد أن لم يكن، فإنه يجبُ أن يكونَ له مُحدِثٌ، أو فاعلٌ، أو موجِدٌ أو خالقٌ.
وهذا الدليلُ قائمٌ على مبدأِ السببيَّةِ الذي يَعرِفُهُ كلُّ عاقل؛ فهو مبدأٌ عقليٌّ فطريٌّ يجدُهُ الإنسانُ في نفسِهِ بداهةً، ويستعمِلُهُ عامَّةُ العقلاءِ في حياتِهم، ولا يحتاجُ إلى تعلُّمٍ أو دراسةٍ أو تفكير.
دليلُ الإحكامِ والإتقان:
وهذا الدليلُ يُستدَلُّ به على ضرورةِ وجودِ اللهِ تعالى: بما في هذا العالَمِ؛ مِن الإتقانِ في الخِلْقة، والإحكامِ في تفاصيلِهِ الدقيقةِ المُذهِلة؛ فالكونُ يتَّصِفُ بالدقَّةِ المُبهِرةِ، ورَوْعةِ التصميمِ، إلى درجةٍ تبلُغُ بالعقولِ حالةَ الانبهارِ والدَّهْشة، وتحقُّقُ ذلك لا يكونُ إلا مِن فاعلٍ مختارٍ يتَّصِفُ بالمشيئةِ والقدرةِ والحكمةِ وسَعَةِ العلم.
وهذا أيضًا دليلٌ عقليٌّ يقينيٌّ، وفطريٌّ بدَهيٌّ، لا يحتاجُ إلى تعلُّمٍ أو دراسةٍ أو تفكير.
دليلُ القِيَمِ والمبادئ:
والمرادُ به: الاستدلالُ على وجودِ اللهِ بما في حياةِ الإنسانِ مِن قِيَمٍ ومبادئَ مُطلَقةٍ موجَّهةٍ نحوَ غاياتٍ محدَّدة.
فحياةُ الإنسانِ تقومُ على مبادئَ معرفيَّةٍ مُطلَقةٍ يقينيَّةٍ، يَقيسُ الإنسانُ عليها تصوُّراتِهِ وأحكامَهُ واستدلالاتِهِ التي يتميَّزُ بها عن سائرِ أجناسِ الحيوان، وتقومُ أيضًا على قِيَمٍ يقينيَّةٍ مطلَقةٍ يَزِنُ بها تصرُّفاتِهِ وأفعالَهُ في الحياة.
وهذه المبادئُ والقِيَمُ يستحيلُ أن تكونَ ناتجةً عن مصدرٍ لا يتَّصِفُ بتمامِ العلمِ والإرادةِ والحكمةِ والقصدِ إلى غايةٍ؛ لأن فِقْدانَ الحكمةِ والقصدِ يُوجِبُ عدمَ استقرارِ تلك المبادئِ والقِيَم، وعدمَ توجُّهِها نحوَ غاياتِها الحميدة، وفِقْدانَ تمامِ العلمِ يُوجِبُ عدمَ كُلِّيَّتِها وشمولِها؛ بحيثُ تستوعِبُ حياةَ الناسِ كلِّهم في كلِّ العصورِ والبلدان.
أقوالُ رُوَّادِ العلمِ التجريبيِّ في مسألةِ وجودِ اللهِ تعالى:
وهاك أمثلةً تُدِينُ الإلحادَ القائمَ كذبًا مِن واقعِ ما كتَبهُ بعضُ العلماءِ التجريبيِّين، ولا نسُوقُ هذه الشواهدَ لحاجتِنا إليها، فعندنا في كتابِ اللهِ ما يَكْفي ويَشْفي، ولكننا نسُوقُها لأناسٍ ظنُّوا أن العلمَ التجريبيَّ يقتضي عدمَ الإيمانِ باللهِ تعالى.
ومِن الذين شَهِدوا على ذلك:
«رسل تشارلز أرنست» أستاذُ الأحياءِ والنباتِ بجامعةِ «فرانكفورت» بألمانيا؛ حيثُ قال:
«لقد وُضِعَتْ نظريَّاتٌ عديدةٌ؛ لكي تفسِّرَ نشأةَ الحياةِ مِن عالَمِ الجمادات؛ فذهَبَ بعضُ الباحِثينَ: إلى أن الحياةَ قد نشَأتْ مِن البروتوجِين، أو مِن الفيروس، أو مِن تجمُّعِ بعضِ الجُزَيئاتِ البروتينيَّةِ الكبيرة، وقد يُخيَّلُ إلى بعضِ الناسِ: أن هذه النظريَّاتِ قد سَدَّتِ الفجوةَ التي تَفصِلُ بين عالَمِ الأحياءِ وعالَمِ الجمادات.
ولكنَّ الواقعَ الذي ينبغي أن نسلِّمَ به: أن جميعَ الجهودِ التي بُذِلَتْ للحصولِ على المادَّةِ الحيَّةِ مِن غيرِ الحيَّةِ، قد باءت بفشلٍ وخِذْلانٍ ذَرِيعَيْن، ومع ذلك: فإن مَن يُنكِرُ وجودَ اللهِ، لا يستطيعُ أن يُقيمَ الدليلَ المباشِرَ للعالِمِ المتطلِّع، على أن مجرَّدَ تجميعِ الذرَّاتِ والجُزَيئاتِ مِن طريقِ المصادَفةِ، يُمكِنُ أن يؤدِّيَ إلى ظهورِ الحياةِ وصيانتِها وتوجيهِها بالصورةِ التي شاهَدْناها في الخلايا الحيَّة.
وللشخصِ مطلَقُ الحرِّيَّةِ في أن يَقبَلَ هذا التفسيرَ لنشأةِ الحياة، فهذا شأنُهُ وحدَه، ولكنه إذْ يَفعَلُ ذلك، فإنما يسلِّمُ بأمرٍ أشدَّ إعجازًا وصعوبةً على العقلِ مِن الاعتقادِ بوجودِ اللهِ الذي خلَقَ الأشياءَ ودبَّرها.
إنني أعتقِدُ أن كلَّ خليَّةٍ مِن الخلايا الحيَّةِ قد بلَغتْ مِن التعقُّدِ درَجةً يصعُبُ علينا فهمُها، وأن ملايينَ الملايينِ مِن الخلايا الحيَّةِ الموجودةِ على سطحِ الأرضِ، تَشهَدُ بقدرتِهِ شهادةً تقومُ على الفِكرِ والمنطق؛ ولذلك فإنني أُومِنُ بوجودِ اللهِ إيمانًا راسخًا».
وقال «إِيرْفِنْج وِلْيام»، الحاصلُ على الدكتوراه مِن جامعةِ «آيَوَا»، وأخصَّائيُّ وِراثةِ النباتات، وأستاذُ العلومِ الطبيعيَّةِ بجامعةِ «مِيتْشِجِن»:
«إن العلومَ لا تستطيعُ أن تفسِّرَ لنا كيف نشَأتْ تلك الدقائقُ الصغيرةُ المتناهِيةُ في صِغَرِها، والتي لا يُحْصيها عَدٌّ، وهي التي تتكوَّنُ منها جميعُ الموادِّ، كما لا تستطيعُ العلومُ أن تفسِّرَ لنا - بالاعتمادِ على فكرةِ المصادَفةِ وحدها - كيف تتجمَّعُ هذه الدقائقُ الصغيرةُ لكي تكوِّنَ الحياةَ!».
وقال «أَلْبِرْت ماكومب ونشِستر»، المتخصِّصُ في علمِ الأحياء:
«ولقد اشتغَلْتُ بدراسةِ علمِ الأحياء، وهو مِن الميادينِ العلميَّةِ الفسيحةِ التي تهتمُّ بدراسةِ الحياة، وليس بين مخلوقاتِ اللهِ أروعُ مِن الأحياءِ التي تسكُنُ هذا الكونَ. انظُر إلى نباتِ بِرْسِيمٍ ضئيلٍ، وقد نما على أحدِ جوانبِ الطريق؛ فهل تستطيعُ أن تجدَ له نظيرًا في روعتِهِ بين جميعِ ما صنَعهُ الإنسانُ مِن تلك العُدَدِ والآلاتِ الرائعة؟!
إنه آلةٌ حيَّةٌ تقومُ بصورةٍ دائبةٍ لا تنقطِعُ آناءَ الليلِ، وأطرافَ النهار، بالآلافٍ مِن التفاعُلاتِ الكيميائيَّةِ والطبيعيَّة، ويَتِمُّ ذلك تحت سيطرةِ البُرُوتُوبْلازم، وهو المادَّةُ التي تدخُلُ في تركيبِ جميعِ الكائناتِ الحيَّة؛ فمِن أين جاءت هذه الآلةُ الحيَّةُ المعقَّدة؟! إن اللهَ لم يَصنَعْها هكذا وحدَها، ولكنه خلَقَ الحياةَ وجعَلَها قادرةً على صيانةِ نفسِها، وعلى الاستمرارِ مِن جِيلٍ إلى جِيلٍ، مع الاحتفاظِ بكلِّ الخواصِّ والمميِّزاتِ التي تُعينُها على التمييزِ بين نباتٍ وآخَرَ.
إن دراسةَ التكاثُرِ في الأحياءِ تُعتبَرُ أروَعَ دراساتِ علمِ الأحياءِ، وأكثَرَها إظهارًا لقدرةِ الله».
وقال «فْرَانْكَ أَلِنْ»، عالمُ الطبيعةِ البيولوجيَّة:
«إذا سلَّمنا بأن هذا الكونَ موجودٌ، فكيف نفسِّرُ وجودَهُ ونشأتَه؟! هناك احتمالاتٌ أربعةٌ للإجابةِ على هذا السؤال:
- فإما أن يكونَ هذا الكونُ مجرَّدَ وَهْمٍ وخيال؛ وهذا يتعارَضُ مع ما سلَّمْنا به مِن أنه موجودٌ.
- وإما أن يكونَ هذا الكونُ قد نشَأَ مِن تِلْقاءِ نفسِهِ مِن العدَمِ؛ وهذا مرفوضٌ بَدَاهةً.
- وإما أن يكون هذا الكونُ أزَليَّ الوجودِ، ليس لنشأتِهِ بدايةٌ؛ وهذا الاحتمالُ يساوي ما يقولُهُ المؤمِنون باللهِ مِن أزليَّةِ الخالق.
لكنَّ قوانينَ الكونِ تدُلُّ على أن أصلَهُ وأساسَهُ مرتبِطٌ بزمانٍ بدأ مِن لحظةٍ معيَّنةٍ؛ فهو - إذَنْ - حدَثٌ مِن الأحداث، ولا يُمكِنُ إحالةُ وجودِ هذا الحدَثِ المنظَّمِ البديعِ إلى المصادَفةِ عقلًا؛ ولذلك فهذا الاحتمالُ باطلٌ.
- وإما أن يكونَ لهذا الكونِ خالقٌ أزليٌّ أبدَعهُ؛ وهو الاحتمالُ الذي تَقبَلُهُ العقولُ دون اعتراض.
وليس يَرِدُ على إثباتِ هذا الاحتمالِ ما يُبطِلُهُ عقلًا؛ فوجَبَ الاعتمادُ عليه».
وقال «إِدْوَارْد لُوثَرْ كِيسِيل»، أستاذُ الأحياءِ، ورئيسُ القسمِ بجامعةِ «سان فرانسيسكو»:
«يَرَى البعضُ أن الاعتقادَ بأزليَّةِ هذا الكونِ ليس أصعبَ مِن الاعتقادِ بوجودِ إلهٍ أزليٍّ، ولكنَّ القانونَ الثانيَ مِن قوانينِ الديناميكا الحراريَّةِ يُثبِتُ خطأَ هذا الرأي.
فالعلومُ تُثبِتُ بكلِّ وضوحٍ: أن هذا الكونَ لا يُمكِنُ أن يكونَ أزليًّا، ولا يقتصِرُ ما قدَّمَتْهُ العلومُ على إثباتِ أن لهذا الكونَ بدايةً، فقد أثبَتَ فوق ذلك أنه بدأ دُفْعةً واحدةً منذُ نحوِ خمسةِ بلايينِ سنةٍ، ولو أن المشتغِلين بالعلومِ نظَروا إلى ما تُعْطيهم العلومُ مِن أدلَّةٍ على وجودِ الخالقِ، بنفسِ رُوحِ الأمانةِ والبعدِ عن التحيُّزِ الذي ينظُرون به إلى نتائجِ بحوثِهم، ولو أنهم حرَّروا عقولَهم مِن سلطانِ التأثُّرِ بعواطفِهم وانفعالاتِهم -: فإنهم يسلِّمون دون شكٍّ بوجودِ الله، وهذا هو الحَلُّ الوحيدُ الذي يفسِّرُ الحقائقَ؛ فدراسةُ العلومِ بعقلٍ متفتِّحٍ تقُودُنا دون شكٍّ إلى إدراكِ وجودِ السببِ الأوَّلِ الذي هو اللهُ».
وهناك عشَراتُ بل مئاتُ الأدلَّةِ على خالقِ هذا الكونِ ومدبِّرِه، وشهادةُ هؤلاءِ العلماءِ - كلٌّ في مجالِ تخصُّصِه - شهادةُ حقٍّ، والحقُّ مقبولٌ مِن أيِّ شخصٍ كان.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
الاستدلالُ بوجودِ قوانينَ في الطبيعةِ على عدمِ الحاجةِ إلى الإيمانِ بإلهٍ خالق.
مختصَرُ الإجابة:
الأدلَّةُ على وجودِ اللهِ تعالى كثيرةٌ جدًّا، وفيها أدلَّةٌ ظاهرةٌ لا يُمكِنُ نقضُها بدليلٍ هو مجرَّدُ احتمالٍ عقليٍّ، وضعيفٌ أيضًا؛ وهو في الحقيقةِ سَفسَطةٌ ظاهرة.
- والإيمانُ بالله تعالى يقومُ على أصولٍ تُثبِتُهُ وترسِّخُهُ؛ منها: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ عقليَّةٌ فطريَّة، ومعرفيَّةٌ استدلاليَّة، ونفسيَّةٌ، وأخلاقيَّةٌ اجتماعيَّة.
- كما أن الاستدلالَ بدقَّةِ قوانينِ الكونِ على نفيِ الخالقِ استدلالٌ لا مَحَلَّ له؛ لأن الخالقَ هو ربٌّ حكيمٌ عليمٌ قدير؛ فلا تنافِيَ بين الأمرَيْنِ أصلًا؛ إذ كيف يَتنافى الأمرانِ المتلازِمان.
فإن «دليلَ الخلقِ والإيجادِ»، القائمَ على مبدأِ السببيَّةِ: يدُلُّ على وجودِ اللهِ تعالى؛ لأن هذا العالَمَ المحدَثَ، الموجودَ بعد عدمِ نفسِهِ، والمشتمِلَ على الحوادِثِ - كما تدُلُّ على ذلك المشاهَدةُ والحِسُّ - لا بدَّ له مِن مُحدِثٍ أحدَثهُ، وفاعلٍ فعَلهُ؛ وهو اللهُ تعالى.
ومِن أدلَّةِ وجودِهِ أيضًا: «دليلُ القِيَمِ والمبادئِ» الموجَّهةِ في حياةِ الإنسانِ نحوَ غاياتٍ محدَّدة، وهذه المبادئُ والقِيَمُ: يستحيلُ أن تكونَ ناتجةً عن مصدرٍ لا يتَّصِفُ بتمامِ العلمِ والإرادةِ والحكمةِ والقصدِ إلى غايةٍ؛ وليس هذا إلا اللهَ تعالى.
كما أن «إحكامَ الخلقِ» دليلٌ على وجودِهِ سبحانه؛ لأنه شاهدٌ على وجودِهِ وصفاتِهِ وكمالِه.
وهذه القوانينُ والكونُ كلُّه محكَمٌ ومتقَنٌ بدرجةٍ أكبرَ مِن أن يكونَ مجرَّدَ قوانينَ توافَقتْ مِن نفسِها، خصوصًا وأنها ليست قانونًا واحدًا، بل قوانينُ مختلِفةٌ متبايِنة؛ ومع ذلك فهي متوافِقةٌ على مَرِّ الزمانِ، وعلى اختلافِ المواضع.
فخلقُ السمواتِ والأرضِ، وخلقُ الإنسانِ والحيوانِ، ودَوْراتِ الفلَكِ:
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
[يس: 40]
وكلُّ ما تراهُ في هذا الكونِ مِن صغيرٍ وكبيرٍ -: يدُلُّ على خَلْقٍ صادرٍ عن علمٍ وحكمةٍ، وإرادةٍ وقدرة، بل على الكمالِ المطلَقِ في ذلك كلِّه.
فالقوانينُ أو السُّنَنُ الكونيَّةُ دليلٌ على وجودِ علمٍ وإرادةٍ مِن خلفِها، وليست دليلًا على نفيِهما.
وقد شَهِدَ رُوَّادُ العلمِ التجريبيِّ على وجوبِ وجودِ اللهِ تعالى؛ بما ذكَروهُ مِن أقوالِهم وشهاداتِهم؛ وذلك في ردِّهم على أناسٍ ظنُّوا أن العلمَ التجريبيَّ يقتضي عدمَ الإيمانِ باللهِ تعالى، والعلمُ التجريبيُّ في الحقيقةِ شاهدٌ على وجودِ اللهِ تعالى، وعلى أن ما في القرآنِ حقٌّ:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
[فُصِّلَتْ: 53]
وما أصَحَّ قولَ أبي الطيِّبِ المتنبِّي:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
إذْ كيف يُطلَبُ الدليلُ على ما هو دليلٌ على كلِّ شيء؟!
خاتمة الجواب
لا شكَّ أن أبيَنَ ما يقالُ عند مناقَشةِ هذه المسألةِ: قولُ أبي الطيِّبِ المتنبِّي:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
إذْ كيف يُطلَبُ الدليلُ على ما هو دليلٌ على كلِّ شيء؟!
وكفى بالزمانِ الذي نحياهُ سوءًا أن صار إثباتُ وجودِ اللهِ يحتاجُ إلى أدلَّةٍ وبراهينَ!
أَلَا إِنَّنَا كُلُّنَا بَائِدُ وَأَيُّ بَنِي آدَمٍ خَالِدُ؟!
وَبَدْؤُهُمُ كَانَ مِنْ رَبِّهِمْ وَكُلٌّ إِلَى رَبِّهِ عَائِدُ
فَيَا عَجَبَا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَا هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ؟!
وَللهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ وَفِي كُلِّ تَسْكِينَةٍ شَاهِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
الاستدلالُ بوجودِ قوانينَ في الطبيعةِ على عدمِ الحاجةِ إلى الإيمانِ بإلهٍ خالق.
مختصَرُ الإجابة:
الأدلَّةُ على وجودِ اللهِ تعالى كثيرةٌ جدًّا، وفيها أدلَّةٌ ظاهرةٌ لا يُمكِنُ نقضُها بدليلٍ هو مجرَّدُ احتمالٍ عقليٍّ، وضعيفٌ أيضًا؛ وهو في الحقيقةِ سَفسَطةٌ ظاهرة.
- والإيمانُ بالله تعالى يقومُ على أصولٍ تُثبِتُهُ وترسِّخُهُ؛ منها: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ عقليَّةٌ فطريَّة، ومعرفيَّةٌ استدلاليَّة، ونفسيَّةٌ، وأخلاقيَّةٌ اجتماعيَّة.
- كما أن الاستدلالَ بدقَّةِ قوانينِ الكونِ على نفيِ الخالقِ استدلالٌ لا مَحَلَّ له؛ لأن الخالقَ هو ربٌّ حكيمٌ عليمٌ قدير؛ فلا تنافِيَ بين الأمرَيْنِ أصلًا؛ إذ كيف يَتنافى الأمرانِ المتلازِمان.
فإن «دليلَ الخلقِ والإيجادِ»، القائمَ على مبدأِ السببيَّةِ: يدُلُّ على وجودِ اللهِ تعالى؛ لأن هذا العالَمَ المحدَثَ، الموجودَ بعد عدمِ نفسِهِ، والمشتمِلَ على الحوادِثِ - كما تدُلُّ على ذلك المشاهَدةُ والحِسُّ - لا بدَّ له مِن مُحدِثٍ أحدَثهُ، وفاعلٍ فعَلهُ؛ وهو اللهُ تعالى.
ومِن أدلَّةِ وجودِهِ أيضًا: «دليلُ القِيَمِ والمبادئِ» الموجَّهةِ في حياةِ الإنسانِ نحوَ غاياتٍ محدَّدة، وهذه المبادئُ والقِيَمُ: يستحيلُ أن تكونَ ناتجةً عن مصدرٍ لا يتَّصِفُ بتمامِ العلمِ والإرادةِ والحكمةِ والقصدِ إلى غايةٍ؛ وليس هذا إلا اللهَ تعالى.
كما أن «إحكامَ الخلقِ» دليلٌ على وجودِهِ سبحانه؛ لأنه شاهدٌ على وجودِهِ وصفاتِهِ وكمالِه.
وهذه القوانينُ والكونُ كلُّه محكَمٌ ومتقَنٌ بدرجةٍ أكبرَ مِن أن يكونَ مجرَّدَ قوانينَ توافَقتْ مِن نفسِها، خصوصًا وأنها ليست قانونًا واحدًا، بل قوانينُ مختلِفةٌ متبايِنة؛ ومع ذلك فهي متوافِقةٌ على مَرِّ الزمانِ، وعلى اختلافِ المواضع.
فخلقُ السمواتِ والأرضِ، وخلقُ الإنسانِ والحيوانِ، ودَوْراتِ الفلَكِ:
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
[يس: 40]
وكلُّ ما تراهُ في هذا الكونِ مِن صغيرٍ وكبيرٍ -: يدُلُّ على خَلْقٍ صادرٍ عن علمٍ وحكمةٍ، وإرادةٍ وقدرة، بل على الكمالِ المطلَقِ في ذلك كلِّه.
فالقوانينُ أو السُّنَنُ الكونيَّةُ دليلٌ على وجودِ علمٍ وإرادةٍ مِن خلفِها، وليست دليلًا على نفيِهما.
وقد شَهِدَ رُوَّادُ العلمِ التجريبيِّ على وجوبِ وجودِ اللهِ تعالى؛ بما ذكَروهُ مِن أقوالِهم وشهاداتِهم؛ وذلك في ردِّهم على أناسٍ ظنُّوا أن العلمَ التجريبيَّ يقتضي عدمَ الإيمانِ باللهِ تعالى، والعلمُ التجريبيُّ في الحقيقةِ شاهدٌ على وجودِ اللهِ تعالى، وعلى أن ما في القرآنِ حقٌّ:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
[فُصِّلَتْ: 53]
وما أصَحَّ قولَ أبي الطيِّبِ المتنبِّي:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
إذْ كيف يُطلَبُ الدليلُ على ما هو دليلٌ على كلِّ شيء؟!
الجواب التفصيلي
الأدلَّةُ على وجودِ اللهِ تعالى كثيرةٌ جِدًّا، والعاقلُ متى ثبَتتْ عنده صحَّةُ الشيءِ بأدلَّةٍ ظاهرةٍ متواتِرةٍ، لم يُنقَضْ عنده لأجلِ دليلٍ محتمِلٍ، فضلًا إذا تبيَّن أنه ضعيفٌ، أو على الأقلِّ مجرَّدُ احتمالٍ أو توهُّمٍ عقليٍّ؛ لأن الاحتمالاتِ والتوهُّماتِ يُمكِنُ إجراؤُها على كلِّ الحقائقِ البدَهيَّة؛ فتُسمَّى هذه الاحتمالاتُ حينئذٍ: «سَفسَطةً».
فشُبَهُ المعترِضينَ لا تنتهي، وما يُنتِجُهُ العقلُ البشَريُّ مِن السَّفسَطةِ لا يُمكِنُ أن ينتهِيَ إلى حدٍّ، ومِن الخطورةِ بمكانٍ: أن يكونَ اشتغالُ الإنسانِ في بنائِهِ للحقِّ، بنقضِ الباطلِ الذي يرُدُّ عليه فقطْ؛ فإن الاقتصارَ على نقضِ الباطلِ لا يَبْني حقًّا، وإنما يكونُ بناءُ الحقِّ ببناءِ أدلَّتِهِ الصحيحةِ، وأصولِهِ التي قام عليها، ويكونُ ردُّ الباطلِ عارضًا عند الحاجة.
وما سنَعرِضُهُ هو الأهمُّ، والذي عليه المعوَّلُ الرئيس:
- الأصولُ التي يقومُ عليها الإيمانُ بالله تعالى.
- الأدلَّةُ على وجودِ اللهِ تعالى.
أوَّلًا: الأصولُ التي يقومُ عليها الإيمانُ باللهِ تعالى:
الأصلُ الأوَّلُ: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ عقليَّةٌ فطريَّة:
ومعنى هذا الأصلِ: أن الإيمانَ باللهِ ليس قضيَّةً عاطفيَّةً لا تقومُ على أُسُسٍ استدلاليَّةٍ، وليس مجرَّدَ تجرِبةٍ نفسيَّةٍ عِرْفانيَّةٍ لا تستنِدُ إلى برهانٍ موضوعيٍّ، وإنما هو حقيقةٌ معرفيَّةٌ تصديقيَّةٌ يقينيَّة، توافِقُها غريزةٌ باطنيَّة، وتقومُ على أُسُسٍ عقليَّةٍ أصيلة، وتنطلِقُ مِن براهينَ علميَّةٍ يقينيَّة، وترتبِطُ بمبادِئَ فطريَّةٍ جليَّة، يَخضَعُ لها العقلُ السليم، ويُقِرُّ بصحَّتِها.
ومنها: الدليلُ الذي يُسمَّى أحيانًا بـ «مبدأِ السببيَّةِ»، أو «الدليلِ الوجوديِّ»؛ فكلُّ مخلوقٍ لا بدَّ له مِن خالقٍ خلَقهُ، وكلُّ حادثٍ لا بدَّ له مِن مُحدِثٍ أحدَثهُ، ومنها دليلُ استحالةِ الصُّدْفةِ عقليًّا، وبالحساباتِ الرياضيَّةِ كذلك، وكذلك دليلُ الفطرةِ، وغيرُها.
الأصلُ الثاني: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ معرفيَّةٌ استدلاليَّة:
ومعنى هذا الأصلِ: أن المعرِفةَ الإنسانيَّةَ لا يُمكِنُ أن يقومَ لها نظامٌ، ولا يستقيمُ لها قانونٌ، ولا يصلُحُ لها حالٌ، ولا ينضبِطُ لها استدلالٌ، إلا مع الإيمانِ بالله.
فوجودُ اللهِ تعالى ثابتٌ بالأدلَّةِ الضروريَّةِ التي أشيرَ لبعضِها سابقًا، ولا يُمكِنُ إنكارُها إلا بنوعٍ مِن التمحُّلِ والسَّفسَطة، وحين نُبطِلُ هذه المقدِّماتِ الضروريَّةَ، فإنها تُبطِلُ لنا المعرفةَ جميعًا (حتى المعارفَ الدنيويَّةَ)، وليس فقطْ إثباتَ وجودِ اللهِ تعالى.
ولا يَصِحُّ إبطالُها في الاستدلالِ على وجودِ الله، وإثباتُها في غيرِها؛ فهذا نوعٌ مِن التناقُضِ والتحكُّم؛ فالحياةُ الإنسانيَّةُ لا تستقيمُ إلا بالمعرفةِ المنضبِطةِ في تصوُّراتِها، ومنهجِ البحثِ والاستدلالِ فيها؛ وهذا لا يتحقَّقُ إلا بوجودِ الضروراتِ العقليَّة، فإن فسَدتْ تلك المبادئُ، أو اضطرَبَتْ، فسيدخُلُ الخَلَلُ في المعارفِ النظَريَّة؛ لابتنائِها عليها.
وهذا يَعْني: أن المعارفَ البشَريَّةَ:
منها: ما هو «ضروريٌّ»؛ يحصُلُ في النفسِ بغيرِ نظَرٍ، ولا اكتسابٍ.
ومنها: ما هو «نظَريٌّ»؛ لا بدَّ له مِن مستنَدٍ تستنِدُ عليه في إثباتِ صِدقِها، وهذا المستنَدُ لا يخلو: إما أن يكونَ نفسَ القضيَّةِ النظريَّةِ التي يرادُ إثباتُها، وإما أن يكونَ قضيَّةً أخرى:
فإن كان نفسَها، فهو باطلٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى الدَّوْرِ الممتنِعِ، وهو إثباتُ الشيءِ بنفسِه، واستنادُهُ إلى نفسِه.
وإن كان قضيَّةً أخرى، وقد فرَضْنا أنها نظريَّةٌ، فهي تحتاجُ إلى مستنَدٍ آخَرَ؛ وهذا هو التسلسُلُ الممتنِع.
ومِن ثَمَّ: ثبَتَ أن المعرفةَ الإنسانيَّةَ لا بدَّ فيها مِن الاستنادِ إلى الضروراتِ العقليَّةِ التي ينتهي إليها الاستدلالُ العقليّ.
ووجودُ الضروراتِ العقليَّةِ في الواقعِ لا يُمكِنُ تصوُّرُهُ إلا مع وجودِ واجبِ الوجودِ لذاتِهِ، وليس ذلك إلا اللهَ تعالى الأوَّلَ الذي ليس قبله شيءٌ، والآخِرَ الذي ليس بعده شيءٌ، الذي أودَعَ في عقولِنا المعارفَ الضروريَّةَ التي تستقيمُ بها حياتُنا الإنسانيَّة.
فوجودُ اللهِ والإيمانُ به خالقًا للكونِ، هو الأساسُ الأوَّليُّ الذي يقومُ عليه بناءُ المعرفةِ الإنسانيَّة، والضَّمانةُ التي لا استقرارَ للنظامِ المعرفيِّ ولا انضباطَ لها بدونِه، ولا يُمكِنُ للمرءِ أن يَسلَمَ مِن التناقُضِ المعرفيِّ إلا به.
الأصلُ الثالثُ: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ نفسيَّةٌ:
ومعنى هذا الأصلِ: أن الإنسانَ لا يُمكِنُ أن تستقِرَّ نفسُهُ، وتَهدَأَ رُوحُهُ، إلا مع الإيمانِ بوجودِ الله، الأوَّلِ الذي لا شيءَ قبلَه، والآخِرِ الذي لا شيءَ بعدَه.
فالإنسانُ بطبعِهِ لا يُمكِنُ أن يخلُوَ مِن كونِهِ مريدًا قاصدًا؛ لأن هذا الشعورَ وهذه الإرادةَ مِن لوازمِ الحقيقةِ الإنسانيَّة، ولا بدَّ أن تتعلَّقَ النفسُ كذلك وتنتهِيَ إلى شيءٍ مرادٍ لذاتِه، ولا بدَّ أن يكونَ المرادُ لذاتِهِ قديمًا مستقِلًّا في وجودِهِ عن غيرِه، ولن يكونَ ذلك إلا اللهَ تعالى.
الأصلُ الرابعُ: أن الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ أخلاقيَّةٌ اجتماعيَّةٌ:
ومعنى هذا الأصلِ: أن الناسَ لا يُمكِنُ أن يُقِيموا لأنفُسِهم نظامًا أخلاقيًّا صالحًا لضبطِ السلوكِ الإنسانيِّ وتسييرِ حَيَاتِهم في الأرضِ إلا مع وجودِ الله.
وغيرُ ذلك مِن الأصول.
ثانيًا: الأدلَّةُ على وجودِ اللهِ تعالى:
ما أحسَنَ قولَ القائل:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
فاللهُ سبحانه وتعالى يدُلُّ عليه بوضوحٍ كلُّ هذا الوجودِ مِن أصغرِ مخلوقٍ إلى أكبرِه، بل الإنسانُ نفسُهُ مِن أكبرِ الأدلَّةِ على وجودِ اللهِ الحكيمِ الخبير.
فإن الأدلَّةَ على وجودِ اللهِ تعالى حاصلةٌ في قلبِ كلِّ إنسانٍ سليمِ الفطرة، لم تنحِرفْ به شياطينُ الإنسِ والجِنّ؛ فإن اللهَ عزَّ وجلَّ أجلُّ وأعظمُ مِن أن يحتاجَ وجودُهُ إلى شخصٍ مِن الناسِ يُثبِتُه، أو يجادِلُ خصومَهُ لإثباتِ وجودِه.
والأدلَّةُ التي تُثبِتُ وجودَ اللهِ؛ كدليلِ: «الخلقِ والإيجادِ»، ودليلِ: «الإتقانِ والإحكامِ»، وغيرِهما، هي في الحقيقةِ كشفٌ عن الأصولِ الفطريَّةِ والعقليَّةِ الضروريَّةِ في نفسِ كلِّ إنسان، وليس تأسيسًا لمبادئَ جديدةٍ:
دليلُ الخلقِ والإيجاد:
وحقيقةُ هذا الدليلِ: الاستدلالُ على ضرورةِ وجودِ اللهِ بحدوثِ الكونِ بجميعِ مكوِّناتِهِ وأحداثِه؛ فالكونُ حدَثٌ مِن الأحداث، وفِعلٌ مِن الأفعال؛ إذَنْ: فلا بدَّ له مِن مُحدِثٍ وفاعلٍ قام بإحداثِهِ وفِعلِهِ وإيجادِهِ بعد عدَمِ نفسِه؛ فكلُّ شيءٍ يحدُثُ بعد أن لم يكن، فإنه يجبُ أن يكونَ له مُحدِثٌ، أو فاعلٌ، أو موجِدٌ أو خالقٌ.
وهذا الدليلُ قائمٌ على مبدأِ السببيَّةِ الذي يَعرِفُهُ كلُّ عاقل؛ فهو مبدأٌ عقليٌّ فطريٌّ يجدُهُ الإنسانُ في نفسِهِ بداهةً، ويستعمِلُهُ عامَّةُ العقلاءِ في حياتِهم، ولا يحتاجُ إلى تعلُّمٍ أو دراسةٍ أو تفكير.
دليلُ الإحكامِ والإتقان:
وهذا الدليلُ يُستدَلُّ به على ضرورةِ وجودِ اللهِ تعالى: بما في هذا العالَمِ؛ مِن الإتقانِ في الخِلْقة، والإحكامِ في تفاصيلِهِ الدقيقةِ المُذهِلة؛ فالكونُ يتَّصِفُ بالدقَّةِ المُبهِرةِ، ورَوْعةِ التصميمِ، إلى درجةٍ تبلُغُ بالعقولِ حالةَ الانبهارِ والدَّهْشة، وتحقُّقُ ذلك لا يكونُ إلا مِن فاعلٍ مختارٍ يتَّصِفُ بالمشيئةِ والقدرةِ والحكمةِ وسَعَةِ العلم.
وهذا أيضًا دليلٌ عقليٌّ يقينيٌّ، وفطريٌّ بدَهيٌّ، لا يحتاجُ إلى تعلُّمٍ أو دراسةٍ أو تفكير.
دليلُ القِيَمِ والمبادئ:
والمرادُ به: الاستدلالُ على وجودِ اللهِ بما في حياةِ الإنسانِ مِن قِيَمٍ ومبادئَ مُطلَقةٍ موجَّهةٍ نحوَ غاياتٍ محدَّدة.
فحياةُ الإنسانِ تقومُ على مبادئَ معرفيَّةٍ مُطلَقةٍ يقينيَّةٍ، يَقيسُ الإنسانُ عليها تصوُّراتِهِ وأحكامَهُ واستدلالاتِهِ التي يتميَّزُ بها عن سائرِ أجناسِ الحيوان، وتقومُ أيضًا على قِيَمٍ يقينيَّةٍ مطلَقةٍ يَزِنُ بها تصرُّفاتِهِ وأفعالَهُ في الحياة.
وهذه المبادئُ والقِيَمُ يستحيلُ أن تكونَ ناتجةً عن مصدرٍ لا يتَّصِفُ بتمامِ العلمِ والإرادةِ والحكمةِ والقصدِ إلى غايةٍ؛ لأن فِقْدانَ الحكمةِ والقصدِ يُوجِبُ عدمَ استقرارِ تلك المبادئِ والقِيَم، وعدمَ توجُّهِها نحوَ غاياتِها الحميدة، وفِقْدانَ تمامِ العلمِ يُوجِبُ عدمَ كُلِّيَّتِها وشمولِها؛ بحيثُ تستوعِبُ حياةَ الناسِ كلِّهم في كلِّ العصورِ والبلدان.
أقوالُ رُوَّادِ العلمِ التجريبيِّ في مسألةِ وجودِ اللهِ تعالى:
وهاك أمثلةً تُدِينُ الإلحادَ القائمَ كذبًا مِن واقعِ ما كتَبهُ بعضُ العلماءِ التجريبيِّين، ولا نسُوقُ هذه الشواهدَ لحاجتِنا إليها، فعندنا في كتابِ اللهِ ما يَكْفي ويَشْفي، ولكننا نسُوقُها لأناسٍ ظنُّوا أن العلمَ التجريبيَّ يقتضي عدمَ الإيمانِ باللهِ تعالى.
ومِن الذين شَهِدوا على ذلك:
«رسل تشارلز أرنست» أستاذُ الأحياءِ والنباتِ بجامعةِ «فرانكفورت» بألمانيا؛ حيثُ قال:
«لقد وُضِعَتْ نظريَّاتٌ عديدةٌ؛ لكي تفسِّرَ نشأةَ الحياةِ مِن عالَمِ الجمادات؛ فذهَبَ بعضُ الباحِثينَ: إلى أن الحياةَ قد نشَأتْ مِن البروتوجِين، أو مِن الفيروس، أو مِن تجمُّعِ بعضِ الجُزَيئاتِ البروتينيَّةِ الكبيرة، وقد يُخيَّلُ إلى بعضِ الناسِ: أن هذه النظريَّاتِ قد سَدَّتِ الفجوةَ التي تَفصِلُ بين عالَمِ الأحياءِ وعالَمِ الجمادات.
ولكنَّ الواقعَ الذي ينبغي أن نسلِّمَ به: أن جميعَ الجهودِ التي بُذِلَتْ للحصولِ على المادَّةِ الحيَّةِ مِن غيرِ الحيَّةِ، قد باءت بفشلٍ وخِذْلانٍ ذَرِيعَيْن، ومع ذلك: فإن مَن يُنكِرُ وجودَ اللهِ، لا يستطيعُ أن يُقيمَ الدليلَ المباشِرَ للعالِمِ المتطلِّع، على أن مجرَّدَ تجميعِ الذرَّاتِ والجُزَيئاتِ مِن طريقِ المصادَفةِ، يُمكِنُ أن يؤدِّيَ إلى ظهورِ الحياةِ وصيانتِها وتوجيهِها بالصورةِ التي شاهَدْناها في الخلايا الحيَّة.
وللشخصِ مطلَقُ الحرِّيَّةِ في أن يَقبَلَ هذا التفسيرَ لنشأةِ الحياة، فهذا شأنُهُ وحدَه، ولكنه إذْ يَفعَلُ ذلك، فإنما يسلِّمُ بأمرٍ أشدَّ إعجازًا وصعوبةً على العقلِ مِن الاعتقادِ بوجودِ اللهِ الذي خلَقَ الأشياءَ ودبَّرها.
إنني أعتقِدُ أن كلَّ خليَّةٍ مِن الخلايا الحيَّةِ قد بلَغتْ مِن التعقُّدِ درَجةً يصعُبُ علينا فهمُها، وأن ملايينَ الملايينِ مِن الخلايا الحيَّةِ الموجودةِ على سطحِ الأرضِ، تَشهَدُ بقدرتِهِ شهادةً تقومُ على الفِكرِ والمنطق؛ ولذلك فإنني أُومِنُ بوجودِ اللهِ إيمانًا راسخًا».
وقال «إِيرْفِنْج وِلْيام»، الحاصلُ على الدكتوراه مِن جامعةِ «آيَوَا»، وأخصَّائيُّ وِراثةِ النباتات، وأستاذُ العلومِ الطبيعيَّةِ بجامعةِ «مِيتْشِجِن»:
«إن العلومَ لا تستطيعُ أن تفسِّرَ لنا كيف نشَأتْ تلك الدقائقُ الصغيرةُ المتناهِيةُ في صِغَرِها، والتي لا يُحْصيها عَدٌّ، وهي التي تتكوَّنُ منها جميعُ الموادِّ، كما لا تستطيعُ العلومُ أن تفسِّرَ لنا - بالاعتمادِ على فكرةِ المصادَفةِ وحدها - كيف تتجمَّعُ هذه الدقائقُ الصغيرةُ لكي تكوِّنَ الحياةَ!».
وقال «أَلْبِرْت ماكومب ونشِستر»، المتخصِّصُ في علمِ الأحياء:
«ولقد اشتغَلْتُ بدراسةِ علمِ الأحياء، وهو مِن الميادينِ العلميَّةِ الفسيحةِ التي تهتمُّ بدراسةِ الحياة، وليس بين مخلوقاتِ اللهِ أروعُ مِن الأحياءِ التي تسكُنُ هذا الكونَ. انظُر إلى نباتِ بِرْسِيمٍ ضئيلٍ، وقد نما على أحدِ جوانبِ الطريق؛ فهل تستطيعُ أن تجدَ له نظيرًا في روعتِهِ بين جميعِ ما صنَعهُ الإنسانُ مِن تلك العُدَدِ والآلاتِ الرائعة؟!
إنه آلةٌ حيَّةٌ تقومُ بصورةٍ دائبةٍ لا تنقطِعُ آناءَ الليلِ، وأطرافَ النهار، بالآلافٍ مِن التفاعُلاتِ الكيميائيَّةِ والطبيعيَّة، ويَتِمُّ ذلك تحت سيطرةِ البُرُوتُوبْلازم، وهو المادَّةُ التي تدخُلُ في تركيبِ جميعِ الكائناتِ الحيَّة؛ فمِن أين جاءت هذه الآلةُ الحيَّةُ المعقَّدة؟! إن اللهَ لم يَصنَعْها هكذا وحدَها، ولكنه خلَقَ الحياةَ وجعَلَها قادرةً على صيانةِ نفسِها، وعلى الاستمرارِ مِن جِيلٍ إلى جِيلٍ، مع الاحتفاظِ بكلِّ الخواصِّ والمميِّزاتِ التي تُعينُها على التمييزِ بين نباتٍ وآخَرَ.
إن دراسةَ التكاثُرِ في الأحياءِ تُعتبَرُ أروَعَ دراساتِ علمِ الأحياءِ، وأكثَرَها إظهارًا لقدرةِ الله».
وقال «فْرَانْكَ أَلِنْ»، عالمُ الطبيعةِ البيولوجيَّة:
«إذا سلَّمنا بأن هذا الكونَ موجودٌ، فكيف نفسِّرُ وجودَهُ ونشأتَه؟! هناك احتمالاتٌ أربعةٌ للإجابةِ على هذا السؤال:
- فإما أن يكونَ هذا الكونُ مجرَّدَ وَهْمٍ وخيال؛ وهذا يتعارَضُ مع ما سلَّمْنا به مِن أنه موجودٌ.
- وإما أن يكونَ هذا الكونُ قد نشَأَ مِن تِلْقاءِ نفسِهِ مِن العدَمِ؛ وهذا مرفوضٌ بَدَاهةً.
- وإما أن يكون هذا الكونُ أزَليَّ الوجودِ، ليس لنشأتِهِ بدايةٌ؛ وهذا الاحتمالُ يساوي ما يقولُهُ المؤمِنون باللهِ مِن أزليَّةِ الخالق.
لكنَّ قوانينَ الكونِ تدُلُّ على أن أصلَهُ وأساسَهُ مرتبِطٌ بزمانٍ بدأ مِن لحظةٍ معيَّنةٍ؛ فهو - إذَنْ - حدَثٌ مِن الأحداث، ولا يُمكِنُ إحالةُ وجودِ هذا الحدَثِ المنظَّمِ البديعِ إلى المصادَفةِ عقلًا؛ ولذلك فهذا الاحتمالُ باطلٌ.
- وإما أن يكونَ لهذا الكونِ خالقٌ أزليٌّ أبدَعهُ؛ وهو الاحتمالُ الذي تَقبَلُهُ العقولُ دون اعتراض.
وليس يَرِدُ على إثباتِ هذا الاحتمالِ ما يُبطِلُهُ عقلًا؛ فوجَبَ الاعتمادُ عليه».
وقال «إِدْوَارْد لُوثَرْ كِيسِيل»، أستاذُ الأحياءِ، ورئيسُ القسمِ بجامعةِ «سان فرانسيسكو»:
«يَرَى البعضُ أن الاعتقادَ بأزليَّةِ هذا الكونِ ليس أصعبَ مِن الاعتقادِ بوجودِ إلهٍ أزليٍّ، ولكنَّ القانونَ الثانيَ مِن قوانينِ الديناميكا الحراريَّةِ يُثبِتُ خطأَ هذا الرأي.
فالعلومُ تُثبِتُ بكلِّ وضوحٍ: أن هذا الكونَ لا يُمكِنُ أن يكونَ أزليًّا، ولا يقتصِرُ ما قدَّمَتْهُ العلومُ على إثباتِ أن لهذا الكونَ بدايةً، فقد أثبَتَ فوق ذلك أنه بدأ دُفْعةً واحدةً منذُ نحوِ خمسةِ بلايينِ سنةٍ، ولو أن المشتغِلين بالعلومِ نظَروا إلى ما تُعْطيهم العلومُ مِن أدلَّةٍ على وجودِ الخالقِ، بنفسِ رُوحِ الأمانةِ والبعدِ عن التحيُّزِ الذي ينظُرون به إلى نتائجِ بحوثِهم، ولو أنهم حرَّروا عقولَهم مِن سلطانِ التأثُّرِ بعواطفِهم وانفعالاتِهم -: فإنهم يسلِّمون دون شكٍّ بوجودِ الله، وهذا هو الحَلُّ الوحيدُ الذي يفسِّرُ الحقائقَ؛ فدراسةُ العلومِ بعقلٍ متفتِّحٍ تقُودُنا دون شكٍّ إلى إدراكِ وجودِ السببِ الأوَّلِ الذي هو اللهُ».
وهناك عشَراتُ بل مئاتُ الأدلَّةِ على خالقِ هذا الكونِ ومدبِّرِه، وشهادةُ هؤلاءِ العلماءِ - كلٌّ في مجالِ تخصُّصِه - شهادةُ حقٍّ، والحقُّ مقبولٌ مِن أيِّ شخصٍ كان.
خاتمة الجواب
لا شكَّ أن أبيَنَ ما يقالُ عند مناقَشةِ هذه المسألةِ: قولُ أبي الطيِّبِ المتنبِّي:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
إذْ كيف يُطلَبُ الدليلُ على ما هو دليلٌ على كلِّ شيء؟!
وكفى بالزمانِ الذي نحياهُ سوءًا أن صار إثباتُ وجودِ اللهِ يحتاجُ إلى أدلَّةٍ وبراهينَ!
أَلَا إِنَّنَا كُلُّنَا بَائِدُ وَأَيُّ بَنِي آدَمٍ خَالِدُ؟!
وَبَدْؤُهُمُ كَانَ مِنْ رَبِّهِمْ وَكُلٌّ إِلَى رَبِّهِ عَائِدُ
فَيَا عَجَبَا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَا هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ؟!
وَللهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ وَفِي كُلِّ تَسْكِينَةٍ شَاهِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ