نص السؤال
المؤلف: مجموعة مؤلفي بيان الإسلام
المصدر: موسوعة بيان الإسلام
الجواب التفصيلي
دعوى خلو القرآن المكي من الأدلة والبراهين (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن المكي يخلو من الأدلة والبراهين، مستدلين على ذلك بحواره مع مشركي مكة، ممثلين لذلك
بقوله - سبحانه وتعالى:
(قل يا أيها الكافرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2))
(الكافرون)،
فهذه عبارات تقريرية وجمل خبرية خالية من البرهان الساطع والدليل القاطع، وهذا بخلاف القسم المدني الذي يناقش المشركين ويناظرهم بالحجة الهادئة والبرهان القوي
كما في قوله تعالى:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
(الأنبياء: 22).
ويدعون أن الفرق بين الأسلوبين دليل على تأثر القرآن بالبيئتين آنذاك؛ مما يؤكد صحة التشكيك في أن القرآن ليس من عند الله كما زعم هؤلاء.
وجها إبطال الشبهة:
1) الآيات والسور المكية حافلة بالأدلة والبراهين، في إثبات وجود الله وإمكان البعث وصدق النبوة، وكلها تحتاج إلى تلك البراهين، وهذا ما كان من الله في قرآنه.
2) تميز السور المكية بالتركيز البالغ والقوة - رغم قصرها - كان لغايات حكيمة.
التفصيل:
أولا. الآيات والسور المكية حافلة بالأدلة والبراهين:
إن الناظر إلى السور المكية نظرة سريعة ليدرك - بما لا يدع مجالا للريبة أو الشك - أنها استفاضت بالأدلة والبراهين القطعية؛ والأمثلة على ذلك كثيرة، اقرأ - على سبيل المثال - في إثبات وجود الإله الخالق
قوله سبحانه وتعالى:
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20))
(الغاشية)،
وقوله سبحانه وتعالى:
(نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (62) أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون (70) أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74))
(الواقعة).
وقوله عز وجل:
(أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون (36))
(الطور)،
وفي إثبات الوحدانية:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22))
(الأنبياء).
ومهما أسهب الفلاسفة وعلماء الكلام في إقامة الأدلة والبراهين على الوحدانية، فلن يخرجوا عن فلك هذه الآية على وجازتها وقصرها، وهي مكية على عكس ما ذكره من احتجوا بكونها مدنية على أن القرآن المدني حافل بالحجج والبراهين والمناقشات والمجادلات،
وفي سورة المؤمنون المكية:
(ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون (91))
(المؤمنون).
(أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء)
(النمل: ٦٠)
وقوله سبحانه وتعالى:
(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64))
(النمل)،
وقوله سبحانه وتعالى:
(ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21) ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23) ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (24) ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون (25) وله من في السماوات والأرض كل له قانتون (26))
(الروم).
وفي التدليل على إمكان البعث
في سورة يس المكية:
(قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83))
(يس).
وقال سبحانه وتعالى:
(أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير (33))
(الأحقاف)
وفي إثبات صدق النبوة بالمنطق السليم، يقول في جواب المشركين لما قالوا:
(وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)
(الفرقان: ٢٠)،
ولما قالوا:
(هل هذا إلا بشر مثلكم)
(الأنبياء: ٣)،
قال في جوابهم:
(وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7))
(الأنبياء).
ومن الدليل العقلي على البعث والجزاء
قوله سبحانه وتعالى:
(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (18))
(السجدة)،
وقال أيضا:
(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115))
(المؤمنون)،
وفي مناقشة ونقض حجج وأوهام المشركين في احتجاجهم لأباطيلهم بالمشيئة الإلهية يقول
في سورة الأنعام المكية:
(وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38) والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (39))
(الأنعام).
إلى غير ذلك من أدلة ساطعة وبراهين بارعة، لا تكاد تخلو منها سورة من السور المكية، ولكن القوم استحبوا العمى على الهدى، فاستمرأوا هذا الكذب والافتراء.
لقد كان على القرآن أن يحمل حملة قوية للدفاع عن العقيدة الإسلامية الصحيحة ونقض ما سواها من العقائد الفاسدة التي كان عليها مشركو مكة، وما دام أغلب القرآن المكي يتحدث عن عقيدة الإسلام في الإلهيات والنبوات والسمعيات، ويرفع قواعد التوحيد ويزلزل بنيان الشرك، ما دام كذلك، فإنه إن لم يستخدم الأدلة والبراهين الساطعة والقاطعة في العقائد، فأين يستخدمها إذن؟ ولما كان أول أهداف القرآن إصلاح القلوب وتطهيرها من الشرك والوثنية وتقديمها بعقائد الإيمان الصحيح والتوحيد الواضح، وإشعارهم بمسئولية البعث والجزاء، كان لا بد في ذلك كله من الأدلة والبراهين الساطعة القاطعة، التي لا يماري فيها إلا من كان حاجدا كفورا معاندا، ومن أضل ممن اتبع هواه، أما غير هؤلاء فإنهم يستخدمون عقولهم فيدركون ما يريده الله، ويقتنعون بما أورده الله من العقائد الصحيحة والطريقة القويمة.
أما ما ذكره الطاعنون
من سورة
(قل يا أيها الكافرون (1))
(الكافرون)
، فلا يصلح أن يكون دليلا؛ لأن السورة لم تسق مساق الدليل، وإنما سيقت للرد على كفار قريش لما رغبوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، فأنزل الله على نبيه هذه السورة قاطعا لأطماعهم، ولبيان أنهم قوم مخادعون، ولن تكون فيهم عبادة لله الواحد القهار، فنفى الله -عز وجل- أن تحقق أطماعهم.
وأما بخصوص
آية الأنبياء:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
(الأنبياء: ٢٢)،
فقد اعتبرها المدعون الجاهلون من السور المدنية، مع أن السورة كلها من أولها إلى آخرها مكية، إلا آية:
(أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)
(الأنبياء: 44)
فإنها مدنية عند بعض علماء المسلمين، ومهما يكن من شيء،
فالآية التي استدلوا بها
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
مكية بالإجماع، وهذا يجعل الحجة عليهم، فضلا عن أن هذه سقطة لا تكون من مبتدئ، فما بالك بمن زعموا لأنفسهم البحث والعلم والنقد، ولو أجهد المدعون أنفسهم قليلا - وإن كان هذا لا يكلفهم عناء - ففتحوا المصحف وقرأوا ما كتب قبل مفتتح سورة الأنبياء، لوجدوا سورة الأنبياء مكية وآياتها 112، ولما وقعوا في هذا الخلط، ولكن الأمر كما قال الشاعر:
فلربما انتفع الفتى بعدوه
كالسم أحيانا يكون دواء [1]
ثانيا. تتميز السور المكية بالتركيز البالغ والقوة على الرغم من قصرها:
لقد قطعت سورة "الكافرون" أطماع المشركين على أبلغ وجه، ومثلها سورة "الإخلاص" فقد أجمل الله فيها العقيدة الخالصة من غير استدلال؛ لأنها نزلت جوابا للمشركين أو اليهود، لما قالوا للنبيصلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، أي: بين لنا ذاته وصفته، فأنزل الله السورة، ولا يخفى أن السورتين بمنزلة النتيجة لمئات الأدلة والبراهين التي أقامها الله على إثبات وجود الصانع -عز وجل- ووحدانيته وصفاته، واستحقاقه التفرد بالعبادة، ولعل من اللطائف وقوعها في الترتيب الكتابي في آخر القرآن، كما تقع النتيجة من مقدماتها، فلا عجب أن جاءتا على هذا الوضع.
هذا الملمح - الذي نحن بصدده - من ملامح القسم المكي - قصر الآيات والسور وتركيزها - كان لغايات حكيمة، فنزول القرآن المكي بمكة، وأكثر أهلها يومئذ يمتازون بالفصاحة والبيان، وتملكهم لناصية القول والخطابة والشعر، وبلوغهم الغاية في لطف الحس وذكاء العقل وسرعة الخاطر، فكان المناسب لهم النذر بالقارعة، والعبارات الموجزة، والفقرات القصيرة ذات اللفظ الجزل والجرس القوي والمعنى الفحل، فتصخ الآذان، وتستولي على المشاعر، وتعقل ألسنتهم عن المعارضة، وتدعهم في حيرة ودهشة مما يستمعون؛ فلا يلبث البليغ منهم بعد سماعها أن يقر بسموه، ويرسلها قولة صريحة تشهد بالإعجاز، كما قال الوليد بن المغيرة القرشي لما سمع القرآن: "والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته".
ولما أحزنت المشركين مقالته، وأكرهوه على أن يقول في القرآن قولا ينقض قولته الأولى، لم يسعه - بعد الصراع النفسي العنيف، وتكلف الخروج عن فطرته العربية وملكته الأدبية - إلا أن يقول
كما أخبر القرآن:
(إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25))
(المدثر)،
ولكي تتأكد أن الرجل لم يقل ذلك إلا مكرها اقرأ قوله سبحانه وتعالى:
(إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25))
(المدثر).
فانظر كيف صور القرآن حالته النفسية هذا التصوير المعجز الذي يصور لك الوليد، وقد بدت عليه آثار الصراع النفسي العنيف ما بين فطرته اللغوية التي تأبى عليه أن يقول في القرآن غير ما قال، وبين رغبته في إرضاء قومه التي تملى عليه أن يقول في القرآن ما يرضيهم، فلم يستطع إلا أن يقول:
(إن هذا إلا سحر يؤثر (24))
(المدثر)
وآثر أن يناقض نفسه على أن يغضب قومه!!
ولقد كان البليغ منهم - على كفره - يسمع القرآن فيخيل إليه أن العذاب كأنه واقع به، فلا يجد مندوحة عن أن يناشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الله والرحم أن يكف عن قراءته، وكان القرشيون يتواصون فيما بينهم ألا يستمعوا إليه،وأن يضعوا أصابعهم في آذانهم، ويستغشوا ثيابهم، حذرا من أن ينفذ إلى قلوبهم، ثم بعد قليل تغلب عليهم فطرتهم اللغوية، فيتناسون الوصية ويلقون إليه بآذانهم وقلوبهم لما يجدون في الاستماع إليه من لذة، وإرضاء لملكاتهم الأدبية [2].
الخلاصة:
• حفلت الآيات المكية بالأدلة والبراهين، وهذا يدل على عقلية واعية قادرة على استيعاب ذلك بالمناقشة والحجج، فكانت البراهين من جنس الاعتراضات، وبرهان ذلك الأسئلة التي ساقوها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم - وإن لم يكونوا على صواب، فمثلا أدلى القرآن بالعديد من الأدلة في إثبات وجود الله وإثبات الوحدانية، وإمكانية البعث، وإثبات الرسالة والجزاء، وإبطال حجج المشركين.
• إذا كان غالب السور المكية يرسخ العقائد الصحيحة ويزلزل براثن الشرك ويهدمها، فهي أولى باستخدام الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة وهذا ما كان.
• تميزت السور المكية بالتركيز والقوة رغم قصرها، وهذا يناسب بلاغتهم وفصاحتهم، فالآيات قصيرة محكمة شديدة التأثير، قوية الجرس، ولا يقال: إن هذا دليل على سذاجة البيئة وسطحية العقول، فهذا فهم خاطئ وقلب للحقائق.
• إن قوله تعالى في الآية:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
(الأنبياء: ٢٢)
التي استدلوا على أنها عقلية وأنها مدنية - هي آية مكية بالإجماع، كما أن سورة الكافرون التي هي مكية، لا تصلح دليلا على زعمهم، فقد سيقت مساق الرد على كفار قريش لما أرادوا ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم- في أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا هم إلهه سنة.
المراجع
- (*) مع القرآن الكريم: رؤية مستنيرة لحقائق الإيمان والحياة، كتاب يصدر عن شركة " المقاولون العرب "، العدد الأول، ط3. المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م. [1]. المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص240، 241 بتصرف.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص229، 230.
الجواب التفصيلي
دعوى خلو القرآن المكي من الأدلة والبراهين (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن المكي يخلو من الأدلة والبراهين، مستدلين على ذلك بحواره مع مشركي مكة، ممثلين لذلك
بقوله - سبحانه وتعالى:
(قل يا أيها الكافرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2))
(الكافرون)،
فهذه عبارات تقريرية وجمل خبرية خالية من البرهان الساطع والدليل القاطع، وهذا بخلاف القسم المدني الذي يناقش المشركين ويناظرهم بالحجة الهادئة والبرهان القوي
كما في قوله تعالى:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
(الأنبياء: 22).
ويدعون أن الفرق بين الأسلوبين دليل على تأثر القرآن بالبيئتين آنذاك؛ مما يؤكد صحة التشكيك في أن القرآن ليس من عند الله كما زعم هؤلاء.
وجها إبطال الشبهة:
1) الآيات والسور المكية حافلة بالأدلة والبراهين، في إثبات وجود الله وإمكان البعث وصدق النبوة، وكلها تحتاج إلى تلك البراهين، وهذا ما كان من الله في قرآنه.
2) تميز السور المكية بالتركيز البالغ والقوة - رغم قصرها - كان لغايات حكيمة.
التفصيل:
أولا. الآيات والسور المكية حافلة بالأدلة والبراهين:
إن الناظر إلى السور المكية نظرة سريعة ليدرك - بما لا يدع مجالا للريبة أو الشك - أنها استفاضت بالأدلة والبراهين القطعية؛ والأمثلة على ذلك كثيرة، اقرأ - على سبيل المثال - في إثبات وجود الإله الخالق
قوله سبحانه وتعالى:
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20))
(الغاشية)،
وقوله سبحانه وتعالى:
(نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (62) أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون (70) أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74))
(الواقعة).
وقوله عز وجل:
(أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون (36))
(الطور)،
وفي إثبات الوحدانية:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22))
(الأنبياء).
ومهما أسهب الفلاسفة وعلماء الكلام في إقامة الأدلة والبراهين على الوحدانية، فلن يخرجوا عن فلك هذه الآية على وجازتها وقصرها، وهي مكية على عكس ما ذكره من احتجوا بكونها مدنية على أن القرآن المدني حافل بالحجج والبراهين والمناقشات والمجادلات،
وفي سورة المؤمنون المكية:
(ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون (91))
(المؤمنون).
(أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء)
(النمل: ٦٠)
وقوله سبحانه وتعالى:
(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64))
(النمل)،
وقوله سبحانه وتعالى:
(ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21) ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23) ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (24) ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون (25) وله من في السماوات والأرض كل له قانتون (26))
(الروم).
وفي التدليل على إمكان البعث
في سورة يس المكية:
(قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83))
(يس).
وقال سبحانه وتعالى:
(أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير (33))
(الأحقاف)
وفي إثبات صدق النبوة بالمنطق السليم، يقول في جواب المشركين لما قالوا:
(وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)
(الفرقان: ٢٠)،
ولما قالوا:
(هل هذا إلا بشر مثلكم)
(الأنبياء: ٣)،
قال في جوابهم:
(وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7))
(الأنبياء).
ومن الدليل العقلي على البعث والجزاء
قوله سبحانه وتعالى:
(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (18))
(السجدة)،
وقال أيضا:
(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115))
(المؤمنون)،
وفي مناقشة ونقض حجج وأوهام المشركين في احتجاجهم لأباطيلهم بالمشيئة الإلهية يقول
في سورة الأنعام المكية:
(وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38) والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (39))
(الأنعام).
إلى غير ذلك من أدلة ساطعة وبراهين بارعة، لا تكاد تخلو منها سورة من السور المكية، ولكن القوم استحبوا العمى على الهدى، فاستمرأوا هذا الكذب والافتراء.
لقد كان على القرآن أن يحمل حملة قوية للدفاع عن العقيدة الإسلامية الصحيحة ونقض ما سواها من العقائد الفاسدة التي كان عليها مشركو مكة، وما دام أغلب القرآن المكي يتحدث عن عقيدة الإسلام في الإلهيات والنبوات والسمعيات، ويرفع قواعد التوحيد ويزلزل بنيان الشرك، ما دام كذلك، فإنه إن لم يستخدم الأدلة والبراهين الساطعة والقاطعة في العقائد، فأين يستخدمها إذن؟ ولما كان أول أهداف القرآن إصلاح القلوب وتطهيرها من الشرك والوثنية وتقديمها بعقائد الإيمان الصحيح والتوحيد الواضح، وإشعارهم بمسئولية البعث والجزاء، كان لا بد في ذلك كله من الأدلة والبراهين الساطعة القاطعة، التي لا يماري فيها إلا من كان حاجدا كفورا معاندا، ومن أضل ممن اتبع هواه، أما غير هؤلاء فإنهم يستخدمون عقولهم فيدركون ما يريده الله، ويقتنعون بما أورده الله من العقائد الصحيحة والطريقة القويمة.
أما ما ذكره الطاعنون
من سورة
(قل يا أيها الكافرون (1))
(الكافرون)
، فلا يصلح أن يكون دليلا؛ لأن السورة لم تسق مساق الدليل، وإنما سيقت للرد على كفار قريش لما رغبوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، فأنزل الله على نبيه هذه السورة قاطعا لأطماعهم، ولبيان أنهم قوم مخادعون، ولن تكون فيهم عبادة لله الواحد القهار، فنفى الله -عز وجل- أن تحقق أطماعهم.
وأما بخصوص
آية الأنبياء:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
(الأنبياء: ٢٢)،
فقد اعتبرها المدعون الجاهلون من السور المدنية، مع أن السورة كلها من أولها إلى آخرها مكية، إلا آية:
(أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)
(الأنبياء: 44)
فإنها مدنية عند بعض علماء المسلمين، ومهما يكن من شيء،
فالآية التي استدلوا بها
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
مكية بالإجماع، وهذا يجعل الحجة عليهم، فضلا عن أن هذه سقطة لا تكون من مبتدئ، فما بالك بمن زعموا لأنفسهم البحث والعلم والنقد، ولو أجهد المدعون أنفسهم قليلا - وإن كان هذا لا يكلفهم عناء - ففتحوا المصحف وقرأوا ما كتب قبل مفتتح سورة الأنبياء، لوجدوا سورة الأنبياء مكية وآياتها 112، ولما وقعوا في هذا الخلط، ولكن الأمر كما قال الشاعر:
فلربما انتفع الفتى بعدوه
كالسم أحيانا يكون دواء [1]
ثانيا. تتميز السور المكية بالتركيز البالغ والقوة على الرغم من قصرها:
لقد قطعت سورة "الكافرون" أطماع المشركين على أبلغ وجه، ومثلها سورة "الإخلاص" فقد أجمل الله فيها العقيدة الخالصة من غير استدلال؛ لأنها نزلت جوابا للمشركين أو اليهود، لما قالوا للنبيصلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، أي: بين لنا ذاته وصفته، فأنزل الله السورة، ولا يخفى أن السورتين بمنزلة النتيجة لمئات الأدلة والبراهين التي أقامها الله على إثبات وجود الصانع -عز وجل- ووحدانيته وصفاته، واستحقاقه التفرد بالعبادة، ولعل من اللطائف وقوعها في الترتيب الكتابي في آخر القرآن، كما تقع النتيجة من مقدماتها، فلا عجب أن جاءتا على هذا الوضع.
هذا الملمح - الذي نحن بصدده - من ملامح القسم المكي - قصر الآيات والسور وتركيزها - كان لغايات حكيمة، فنزول القرآن المكي بمكة، وأكثر أهلها يومئذ يمتازون بالفصاحة والبيان، وتملكهم لناصية القول والخطابة والشعر، وبلوغهم الغاية في لطف الحس وذكاء العقل وسرعة الخاطر، فكان المناسب لهم النذر بالقارعة، والعبارات الموجزة، والفقرات القصيرة ذات اللفظ الجزل والجرس القوي والمعنى الفحل، فتصخ الآذان، وتستولي على المشاعر، وتعقل ألسنتهم عن المعارضة، وتدعهم في حيرة ودهشة مما يستمعون؛ فلا يلبث البليغ منهم بعد سماعها أن يقر بسموه، ويرسلها قولة صريحة تشهد بالإعجاز، كما قال الوليد بن المغيرة القرشي لما سمع القرآن: "والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته".
ولما أحزنت المشركين مقالته، وأكرهوه على أن يقول في القرآن قولا ينقض قولته الأولى، لم يسعه - بعد الصراع النفسي العنيف، وتكلف الخروج عن فطرته العربية وملكته الأدبية - إلا أن يقول
كما أخبر القرآن:
(إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25))
(المدثر)،
ولكي تتأكد أن الرجل لم يقل ذلك إلا مكرها اقرأ قوله سبحانه وتعالى:
(إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25))
(المدثر).
فانظر كيف صور القرآن حالته النفسية هذا التصوير المعجز الذي يصور لك الوليد، وقد بدت عليه آثار الصراع النفسي العنيف ما بين فطرته اللغوية التي تأبى عليه أن يقول في القرآن غير ما قال، وبين رغبته في إرضاء قومه التي تملى عليه أن يقول في القرآن ما يرضيهم، فلم يستطع إلا أن يقول:
(إن هذا إلا سحر يؤثر (24))
(المدثر)
وآثر أن يناقض نفسه على أن يغضب قومه!!
ولقد كان البليغ منهم - على كفره - يسمع القرآن فيخيل إليه أن العذاب كأنه واقع به، فلا يجد مندوحة عن أن يناشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الله والرحم أن يكف عن قراءته، وكان القرشيون يتواصون فيما بينهم ألا يستمعوا إليه،وأن يضعوا أصابعهم في آذانهم، ويستغشوا ثيابهم، حذرا من أن ينفذ إلى قلوبهم، ثم بعد قليل تغلب عليهم فطرتهم اللغوية، فيتناسون الوصية ويلقون إليه بآذانهم وقلوبهم لما يجدون في الاستماع إليه من لذة، وإرضاء لملكاتهم الأدبية [2].
الخلاصة:
• حفلت الآيات المكية بالأدلة والبراهين، وهذا يدل على عقلية واعية قادرة على استيعاب ذلك بالمناقشة والحجج، فكانت البراهين من جنس الاعتراضات، وبرهان ذلك الأسئلة التي ساقوها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم - وإن لم يكونوا على صواب، فمثلا أدلى القرآن بالعديد من الأدلة في إثبات وجود الله وإثبات الوحدانية، وإمكانية البعث، وإثبات الرسالة والجزاء، وإبطال حجج المشركين.
• إذا كان غالب السور المكية يرسخ العقائد الصحيحة ويزلزل براثن الشرك ويهدمها، فهي أولى باستخدام الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة وهذا ما كان.
• تميزت السور المكية بالتركيز والقوة رغم قصرها، وهذا يناسب بلاغتهم وفصاحتهم، فالآيات قصيرة محكمة شديدة التأثير، قوية الجرس، ولا يقال: إن هذا دليل على سذاجة البيئة وسطحية العقول، فهذا فهم خاطئ وقلب للحقائق.
• إن قوله تعالى في الآية:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
(الأنبياء: ٢٢)
التي استدلوا على أنها عقلية وأنها مدنية - هي آية مكية بالإجماع، كما أن سورة الكافرون التي هي مكية، لا تصلح دليلا على زعمهم، فقد سيقت مساق الرد على كفار قريش لما أرادوا ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم- في أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا هم إلهه سنة.
المراجع
- (*) مع القرآن الكريم: رؤية مستنيرة لحقائق الإيمان والحياة، كتاب يصدر عن شركة " المقاولون العرب "، العدد الأول، ط3. المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م. [1]. المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص240، 241 بتصرف.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص229، 230.