نص السؤال
هل تعدُّدُ القراءاتِ القرآنيَّةِ يدُلُّ على وقوعِ الاختلافِ في القرآنِ الكريم؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
تعدُّدُ الآياتِ القرآنيَّةِ: مِن الاختلافِ في القراءةِ، والقرآنُ يقولُ:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
[النساء: 82].
الجواب التفصيلي
لثبوتِ القراءةِ شروطٌ تَمنَعُها مِن التخالُفِ في المقصدِ، لا في المعنى المتقارِبِ؛ وهذا كافٍ في الردِّ؛ ومع هذا فيُمكِنُ إجمالُ الردِّ على هذه الدعوى مِن خلالِ الوجوهِ التالية:
الوجهُ الأوَّلُ: لقد ثبَتَتِ القراءاتُ المعتمَدةُ سنَدًا ونقلًا:
فكلُّها مسموعةٌ مِن جبريلَ عليه السلامُ للنبيِّ ﷺ، ومنه للصحابةِ الكرامِ، ثم لأئمَّةِ القُرَّاءِ؛ فهي وحيٌ مِن عندِ اللهِ تعالى، والتلقِّي عن طريقِ التواتُرِ: هو المعوَّلُ عليه في كلِّ القراءات؛ وبذلك لا مجالَ للكذبِ فيها؛ لكونِها سلسلةً مِن الرِّجالِ الثقاتِ وصولًا إلى النبيِّ ﷺ.
فمَرجِعُ القراءاتِ هو النبيُّ ﷺ؛ بدليلِ أن كلًّا مِن المختلِفِينَ كان يقولُ: «أَقْرَأَنِيها رسولُ الله ﷺ»، وأن النبيَّ ﷺ كان يعقِّبُ على قراءةِ كُلٍّ مِن المختلِفِينَ بقولِهِ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ».
فقد أخرج البخاريُّ (4992، 6936، 7550)، ومسلم (818)؛ مِن حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، يَقُولُ:
«سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا - وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ - فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ»، فَقَرَأَ عَلَيْهِ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ»، ثُمَّ قَالَ: «اقْرَأْ يَا عُمَرُ»، فَقَرَأْتُ القِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ؛ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ».
فبأيٍّ مِن تلك القراءاتِ قرَأْنا القرآنَ، فهي قراءةٌ صحيحةٌ، وجميعُ القراءاتِ المتواتِرةِ محصورةٌ مضبوطةٌ معلومة، ولا زيادةَ فيها ولا نقصانَ، بل لا يُوجَدُ أيُّ تناقُضٍ فيما بينها، وهذا في حَدِّ ذاتِهِ دليلٌ على الإعجازِ القرآنيّ.
الوجهُ الثاني: مِن رحمةِ الله تعالى بأمَّةِ الإسلامِ، ورأفتِهِ بهم: أن نزَلَ القرآنُ على سبعةِ أحرُفٍ مِن لغةِ العرَب:
عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ:
«أَنَّ النَّبِيَّ ^ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَؤُوا عَلَيْهِ، فَقَدْ أَصَابُوا»؛
رواه مسلم (821).
ومِن المعروفِ: أن لغاتِ العربِ مختلِفةٌ، وألسنِتُهم متبايِنةٌ، ولو كُلِّفوا بقراءةِ القرآنِ بلغةٍ واحدةٍ، لَشَقَّ الأمرُ عليهم، ولأصابَهم مِن العُسْرِ ما لا يُريدُهُ اللهُ سبحانه، فهو لا يريدُ بنا إلا اليُسْرَ.
كما أن القرآنَ الكريمَ كان يخاطِبُ جميعَ العربِ ابتداءً؛ ولهذا فقد جاءت قراءاتُهُ متعدِّدةً مناسِبةً لجميعِ مَن يتلقَّوْنَ القرآنَ.
الوجهُ الثالثُ: أن تعدُّدَ القراءاتِ في جملتِهِ هو تعدُّدٌ لطرُقِ أداءٍ صوتيَّةٍ، وتنوُّعٌ لألفاظِ القرآنِ الكريم، وتَوسِعةٌ في النطقِ به؛ وهذا الاختلافُ لا يضُرُّ:
وذلك لأن الاختلافَ نوعان:
الأوَّلُ: اختلافُ تغايُرٍ وتنوُّعٍ.
والثاني: اختلافُ تبايُنٍ وتضادٍّ.
والنوعُ الأخيرُ لا يُوجَدُ في القرآنِ على الإطلاق؛ فجميعُ القراءاتِ المتعدِّدةِ إنما هي مِن النوعِ الأوَّلِ، وتمايُزُ القراءاتِ بعضِها عن بعضٍ يكونُ في الأصولِ، وفي المفرَدات:
أما «الأصولُ»: فهي الأُسُسُ العامَّةُ لطريقةِ أداءِ الصوتِ عند كلِّ قارئ، ومَن يَرْوي عنه؛ كترقيقِ الحروفِ وتفخيمِها، والإمالةِ والفتحِ، وغيرِها، وكلُّ ذلك لا يؤدِّي إلى أيِّ اختلافٍ في الأحكامِ والمعاني.
وكذلك يكونُ تمايُزُ القراءاتِ في «المفرَداتِ»: (الفَرْشِ)، وهو تغيُّرُ الحرَكةِ الأخيرةِ في الكلمةِ (في الإعرابِ)، أو حتى في بِنْيتِها (الصرفِ)؛ كمَن يشدِّدُ نَبْرةَ الصوتِ عند نطقِ بعضِ الكلمات؛ مِثلُ أن يَنطِقَ: {يَطْهُرْنَ} بتسكينِ الطاء، أو يَنطِقَها: «يَطَّهَّرْنَ» بتشديدِ الطاء، وكلُّ هذا أيضًا حسَبَ قواعدِ العربِ في كلامِهم.
الوجهُ الرابعُ: اشترَطَ العلماءُ في صحَّةِ القراءةِ شروطًا لا بدَّ منها، وإلا كانت قراءةً غيرَ صحيحةٍ:
وهذه الشروطُ هي:
1- أن توافِقَ القراءةُ رَسْمَ المصحفِ العثمانيِّ، ولو احتمالًا.
2- أن تُنقَلَ بالتواتُرِ؛ لأن القراءاتِ الصحيحةَ لا تثبُتُ إلا بالسنَدِ الصحيحِ المتواتِرِ، حتى ولو وافَقَتْ رسمَ المصحفِ الإمام.
3- أن توافِقَ وجهًا مِن وجوهِ اللغةِ العربيَّة.
فإذا تحقَّقتْ هذه الضوابطُ، تحقَّقتْ صحَّةُ القراءة، وإذا اختَلَّ ضابطٌ منها، اختَلَّتِ القراءةُ، وضَعُفَ العملُ بها؛ كما قال ابنُ الجزَريِّ:
فَكُلُّ مَا وَافَقَ وَجْهَ نَحْوِ وَكَانَ لِلرَّسْمِ احْتِمَالًا يَحْوِي
وَصَحَّ إِسْنَادًا هُوَ الْقُرْآنُ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَرْكَانُ
والقراءاتُ القرآنيَّةُ وحيٌ مِن عندِ الله، تلقَّاه الرسولُ ﷺ عن اللهِ بواسطةِ ملَكِ الوحيِ جبريلَ عليه السلامُ، ولقَّنه النبيُّ ﷺ لصحابتِه، وعنه نُقِلَتِ القراءاتُ القرآنيَّةُ بالتواتُر.
الوجهُ الخامسُ: هناك فوائدُ جَمَّةٌ، وحِكَمٌ عظيمةٌ، لتعدُّدِ القراءاتِ؛ منها:
1- الجمعُ بين حُكْمَيْنِ مختلِفَيْن؛ كما في قولِهِ عزَّ وجلَّ:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
[البقرة: 222]
حيثُ قُرِئَتْ كلمةُ {يَطْهُرْنَ} بتشديدِ الطاءِ وتخفيفِها، ومجموعُ القراءتَيْنِ يُفيدُ: أن الحائضَ لا يجوزُ لزوجِها أن يَقرَبَها إلا إذا طَهُرَتْ؛ وذلك بأمرَيْنِ: انقطاعِ الدم، والاغتسالِ.
2- إظهارُ كمالِ الإعجازِ بغايةِ الإيجازِ؛ حيثُ إن كلَّ قراءةٍ مع الأخرى بمنزلةِ الآيةِ مع الآية؛ وهذا مِن إعجازِ القرآن.
3- بيانُ لفظٍ مُبهَمٍ؛ مثلُ قولِهِ تعالى في سورةِ القارعةِ:
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}
[القارعة: 5]
وقُرِئَتْ: «كَالصُّوفِ المَنْفُوشِ»، ومنها تبيَّن أن العِهْنَ هو الصُّوفُ.
4- مراعاةُ اختلافِ لهَجاتِ اللسانِ العربيِّ؛ فتعدُّدُ القراءاتِ دفعٌ للمشقَّةِ عن الناس؛ فكان نزولُ القرآنِ بلغةِ قُريشٍ؛ لأنها مَثَّلَتْ لهَجاتِ العربِ جميعًا؛ وهذا له دَوْرٌ مُهِمٌّ في توحيدِ الأمَّة.
فالحاصلُ: أن تعدُّدَ القراءاتِ ليس اختلافًا، بل هو رحمةٌ مِن اللهِ سبحانه وتعالى، وإحسانٌ إلى خلقِه، وتخفيفٌ لهم، وله فوائدُ علميَّةٌ ومعرفيَّةٌ كبيرة.
وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (39).
مختصر الجواب
مختصَرُ الإجابة:
- اشتراطُ موافَقةِ القراءةِ للرسمِ العثمانيِّ، يَمنَعُ مِن هذه الدعوى؛ كما أن مَرجِعَ كلِّ القراءاتِ المعتمَدةِ، هو النقلُ الثابتُ عن رسولِ اللهِ ﷺ، أي: أنها وحيٌ مِن عندِ اللهِ سبحانه.
- تعدُّدُ القراءاتِ ليس اختلافًا، ولا هو مِن هذا البابِ، بل هو تخفيفٌ ورحمةٌ ورأفةٌ مِن اللهِ بعبادِه، وزيادةٌ في العِلمِ والمعرفة.
- سببُ تعدُّدِ القراءاتِ هو التخفيفُ عن أمَّةِ الإسلام؛ لاختلافِ لهَجاتِها، وتبايُنِ ألسنتِها؛ فإن تعدُّدَ القراءاتِ في جملتِهِ هو تعدُّدٌ لطرُقِ أداءٍ صوتيَّةٍ، وتنوُّعٌ لألفاظِ القرآنِ الكريم، وتَوسِعةٌ في النطقِ به؛ وهذا الاختلافُ لا يضُرُّ؛ لأنه اختلافُ تنوُّعٍ، لا تضادٍّ، واختلافُ التضادِّ: لا يُوجَدُ في القرآنِ على الإطلاق.
- قد اشترَطَ العلماءُ في صحَّةِ القراءةِ شروطًا لا بدَّ منها، وإلا كانت قراءةً غيرَ صحيحةٍ؛ فإذا تحقَّقتْ هذه الضوابطُ، تحقَّقتْ صحَّةُ القراءة، وإذا اختَلَّ ضابطٌ منها، اختَلَّتِ القراءةُ، وضَعُفَ العملُ بها.
- لتعدُّدِ القراءاتِ فوائدُ كثيرةٌ، وحِكَمٌ عظيمةٌ، ولم تختلِفْ أصولُ الدِّينِ وفروعُهُ بتعدُّدِ القراءاتِ، حتى وإن شَذَّتِ القراءةُ.
مختصر الجواب
مختصَرُ الإجابة:
- اشتراطُ موافَقةِ القراءةِ للرسمِ العثمانيِّ، يَمنَعُ مِن هذه الدعوى؛ كما أن مَرجِعَ كلِّ القراءاتِ المعتمَدةِ، هو النقلُ الثابتُ عن رسولِ اللهِ ﷺ، أي: أنها وحيٌ مِن عندِ اللهِ سبحانه.
- تعدُّدُ القراءاتِ ليس اختلافًا، ولا هو مِن هذا البابِ، بل هو تخفيفٌ ورحمةٌ ورأفةٌ مِن اللهِ بعبادِه، وزيادةٌ في العِلمِ والمعرفة.
- سببُ تعدُّدِ القراءاتِ هو التخفيفُ عن أمَّةِ الإسلام؛ لاختلافِ لهَجاتِها، وتبايُنِ ألسنتِها؛ فإن تعدُّدَ القراءاتِ في جملتِهِ هو تعدُّدٌ لطرُقِ أداءٍ صوتيَّةٍ، وتنوُّعٌ لألفاظِ القرآنِ الكريم، وتَوسِعةٌ في النطقِ به؛ وهذا الاختلافُ لا يضُرُّ؛ لأنه اختلافُ تنوُّعٍ، لا تضادٍّ، واختلافُ التضادِّ: لا يُوجَدُ في القرآنِ على الإطلاق.
- قد اشترَطَ العلماءُ في صحَّةِ القراءةِ شروطًا لا بدَّ منها، وإلا كانت قراءةً غيرَ صحيحةٍ؛ فإذا تحقَّقتْ هذه الضوابطُ، تحقَّقتْ صحَّةُ القراءة، وإذا اختَلَّ ضابطٌ منها، اختَلَّتِ القراءةُ، وضَعُفَ العملُ بها.
- لتعدُّدِ القراءاتِ فوائدُ كثيرةٌ، وحِكَمٌ عظيمةٌ، ولم تختلِفْ أصولُ الدِّينِ وفروعُهُ بتعدُّدِ القراءاتِ، حتى وإن شَذَّتِ القراءةُ.
الجواب التفصيلي
لثبوتِ القراءةِ شروطٌ تَمنَعُها مِن التخالُفِ في المقصدِ، لا في المعنى المتقارِبِ؛ وهذا كافٍ في الردِّ؛ ومع هذا فيُمكِنُ إجمالُ الردِّ على هذه الدعوى مِن خلالِ الوجوهِ التالية:
الوجهُ الأوَّلُ: لقد ثبَتَتِ القراءاتُ المعتمَدةُ سنَدًا ونقلًا:
فكلُّها مسموعةٌ مِن جبريلَ عليه السلامُ للنبيِّ ﷺ، ومنه للصحابةِ الكرامِ، ثم لأئمَّةِ القُرَّاءِ؛ فهي وحيٌ مِن عندِ اللهِ تعالى، والتلقِّي عن طريقِ التواتُرِ: هو المعوَّلُ عليه في كلِّ القراءات؛ وبذلك لا مجالَ للكذبِ فيها؛ لكونِها سلسلةً مِن الرِّجالِ الثقاتِ وصولًا إلى النبيِّ ﷺ.
فمَرجِعُ القراءاتِ هو النبيُّ ﷺ؛ بدليلِ أن كلًّا مِن المختلِفِينَ كان يقولُ: «أَقْرَأَنِيها رسولُ الله ﷺ»، وأن النبيَّ ﷺ كان يعقِّبُ على قراءةِ كُلٍّ مِن المختلِفِينَ بقولِهِ: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ».
فقد أخرج البخاريُّ (4992، 6936، 7550)، ومسلم (818)؛ مِن حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، يَقُولُ:
«سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا - وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ - فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ»، فَقَرَأَ عَلَيْهِ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ»، ثُمَّ قَالَ: «اقْرَأْ يَا عُمَرُ»، فَقَرَأْتُ القِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ؛ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ».
فبأيٍّ مِن تلك القراءاتِ قرَأْنا القرآنَ، فهي قراءةٌ صحيحةٌ، وجميعُ القراءاتِ المتواتِرةِ محصورةٌ مضبوطةٌ معلومة، ولا زيادةَ فيها ولا نقصانَ، بل لا يُوجَدُ أيُّ تناقُضٍ فيما بينها، وهذا في حَدِّ ذاتِهِ دليلٌ على الإعجازِ القرآنيّ.
الوجهُ الثاني: مِن رحمةِ الله تعالى بأمَّةِ الإسلامِ، ورأفتِهِ بهم: أن نزَلَ القرآنُ على سبعةِ أحرُفٍ مِن لغةِ العرَب:
عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ:
«أَنَّ النَّبِيَّ ^ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَؤُوا عَلَيْهِ، فَقَدْ أَصَابُوا»؛
رواه مسلم (821).
ومِن المعروفِ: أن لغاتِ العربِ مختلِفةٌ، وألسنِتُهم متبايِنةٌ، ولو كُلِّفوا بقراءةِ القرآنِ بلغةٍ واحدةٍ، لَشَقَّ الأمرُ عليهم، ولأصابَهم مِن العُسْرِ ما لا يُريدُهُ اللهُ سبحانه، فهو لا يريدُ بنا إلا اليُسْرَ.
كما أن القرآنَ الكريمَ كان يخاطِبُ جميعَ العربِ ابتداءً؛ ولهذا فقد جاءت قراءاتُهُ متعدِّدةً مناسِبةً لجميعِ مَن يتلقَّوْنَ القرآنَ.
الوجهُ الثالثُ: أن تعدُّدَ القراءاتِ في جملتِهِ هو تعدُّدٌ لطرُقِ أداءٍ صوتيَّةٍ، وتنوُّعٌ لألفاظِ القرآنِ الكريم، وتَوسِعةٌ في النطقِ به؛ وهذا الاختلافُ لا يضُرُّ:
وذلك لأن الاختلافَ نوعان:
الأوَّلُ: اختلافُ تغايُرٍ وتنوُّعٍ.
والثاني: اختلافُ تبايُنٍ وتضادٍّ.
والنوعُ الأخيرُ لا يُوجَدُ في القرآنِ على الإطلاق؛ فجميعُ القراءاتِ المتعدِّدةِ إنما هي مِن النوعِ الأوَّلِ، وتمايُزُ القراءاتِ بعضِها عن بعضٍ يكونُ في الأصولِ، وفي المفرَدات:
أما «الأصولُ»: فهي الأُسُسُ العامَّةُ لطريقةِ أداءِ الصوتِ عند كلِّ قارئ، ومَن يَرْوي عنه؛ كترقيقِ الحروفِ وتفخيمِها، والإمالةِ والفتحِ، وغيرِها، وكلُّ ذلك لا يؤدِّي إلى أيِّ اختلافٍ في الأحكامِ والمعاني.
وكذلك يكونُ تمايُزُ القراءاتِ في «المفرَداتِ»: (الفَرْشِ)، وهو تغيُّرُ الحرَكةِ الأخيرةِ في الكلمةِ (في الإعرابِ)، أو حتى في بِنْيتِها (الصرفِ)؛ كمَن يشدِّدُ نَبْرةَ الصوتِ عند نطقِ بعضِ الكلمات؛ مِثلُ أن يَنطِقَ: {يَطْهُرْنَ} بتسكينِ الطاء، أو يَنطِقَها: «يَطَّهَّرْنَ» بتشديدِ الطاء، وكلُّ هذا أيضًا حسَبَ قواعدِ العربِ في كلامِهم.
الوجهُ الرابعُ: اشترَطَ العلماءُ في صحَّةِ القراءةِ شروطًا لا بدَّ منها، وإلا كانت قراءةً غيرَ صحيحةٍ:
وهذه الشروطُ هي:
1- أن توافِقَ القراءةُ رَسْمَ المصحفِ العثمانيِّ، ولو احتمالًا.
2- أن تُنقَلَ بالتواتُرِ؛ لأن القراءاتِ الصحيحةَ لا تثبُتُ إلا بالسنَدِ الصحيحِ المتواتِرِ، حتى ولو وافَقَتْ رسمَ المصحفِ الإمام.
3- أن توافِقَ وجهًا مِن وجوهِ اللغةِ العربيَّة.
فإذا تحقَّقتْ هذه الضوابطُ، تحقَّقتْ صحَّةُ القراءة، وإذا اختَلَّ ضابطٌ منها، اختَلَّتِ القراءةُ، وضَعُفَ العملُ بها؛ كما قال ابنُ الجزَريِّ:
فَكُلُّ مَا وَافَقَ وَجْهَ نَحْوِ وَكَانَ لِلرَّسْمِ احْتِمَالًا يَحْوِي
وَصَحَّ إِسْنَادًا هُوَ الْقُرْآنُ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَرْكَانُ
والقراءاتُ القرآنيَّةُ وحيٌ مِن عندِ الله، تلقَّاه الرسولُ ﷺ عن اللهِ بواسطةِ ملَكِ الوحيِ جبريلَ عليه السلامُ، ولقَّنه النبيُّ ﷺ لصحابتِه، وعنه نُقِلَتِ القراءاتُ القرآنيَّةُ بالتواتُر.
الوجهُ الخامسُ: هناك فوائدُ جَمَّةٌ، وحِكَمٌ عظيمةٌ، لتعدُّدِ القراءاتِ؛ منها:
1- الجمعُ بين حُكْمَيْنِ مختلِفَيْن؛ كما في قولِهِ عزَّ وجلَّ:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
[البقرة: 222]
حيثُ قُرِئَتْ كلمةُ {يَطْهُرْنَ} بتشديدِ الطاءِ وتخفيفِها، ومجموعُ القراءتَيْنِ يُفيدُ: أن الحائضَ لا يجوزُ لزوجِها أن يَقرَبَها إلا إذا طَهُرَتْ؛ وذلك بأمرَيْنِ: انقطاعِ الدم، والاغتسالِ.
2- إظهارُ كمالِ الإعجازِ بغايةِ الإيجازِ؛ حيثُ إن كلَّ قراءةٍ مع الأخرى بمنزلةِ الآيةِ مع الآية؛ وهذا مِن إعجازِ القرآن.
3- بيانُ لفظٍ مُبهَمٍ؛ مثلُ قولِهِ تعالى في سورةِ القارعةِ:
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}
[القارعة: 5]
وقُرِئَتْ: «كَالصُّوفِ المَنْفُوشِ»، ومنها تبيَّن أن العِهْنَ هو الصُّوفُ.
4- مراعاةُ اختلافِ لهَجاتِ اللسانِ العربيِّ؛ فتعدُّدُ القراءاتِ دفعٌ للمشقَّةِ عن الناس؛ فكان نزولُ القرآنِ بلغةِ قُريشٍ؛ لأنها مَثَّلَتْ لهَجاتِ العربِ جميعًا؛ وهذا له دَوْرٌ مُهِمٌّ في توحيدِ الأمَّة.
فالحاصلُ: أن تعدُّدَ القراءاتِ ليس اختلافًا، بل هو رحمةٌ مِن اللهِ سبحانه وتعالى، وإحسانٌ إلى خلقِه، وتخفيفٌ لهم، وله فوائدُ علميَّةٌ ومعرفيَّةٌ كبيرة.
وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (39).