نص السؤال
المؤلف: مجموعة مؤلفي بيان الإسلام
المصدر: موسوعة بيان الإسلام
الجواب التفصيلي
توهم تناقض القرآن بشأن بشارة مريم بعيسى عليهما السلام
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تناقضا بين
قوله - عز وجل -:
فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالـت إنـي أعـوذ بالرحمن منـك إن كنـت تقيـا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21)
(مريم).
وقوله - عز وجل -:
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47)
(آل عمران).
ويتساءلون: كيف يذكر القرآن أقوالا عديدة متناقضة في وصف موقف واحد؟ ويستدلون بذلك - في توهمهم - على أن القرآن ليس من عند الله تبارك وتعالى؛ ما دام فيه هذا التناقض!
وجه إبطال الشبهة:
تعددت الأقوال في بشارة مريم بعيسى - عليه السلام ـ؛ لأن الموقف يحوي داخله مواقف متعددة، فلا يمكن أن يعبر عنه بجملة واحدة، وهذه المواقف المتعددة المتضمنة:
· خطاب مريم - عليها السلام - مع جبريل - عليه السلام - وإخباره إياها بأنه سيهب لها غلاما زكيا بأمر من الله - عز وجل -.
· الملائكة - بلسان جبريل - عليه السلام - تبشر مريم باسم ولدها وصفاته ومعجزاته.
التفصيل:
هذه الأقوال يجمعها موقف واحد، لكنه موقف مطول احتوى موقفين متتاليين:
وقد عرضت سورة مريم الموقف الأول (وفيه ظهور الملك لمريم وارتياعها منه، ثم مجمل البشارة)، ثم عرضت سورة آل عمران الموقف الثاني (وفيه تفصيل البشارة بذكر اسم الولد وصفاته ومعجزاته)، وذلك على ما نفصله فيما يلي:
1. خطاب مريم لجبريل - عليه السلام -، وإخباره لها أن الله سيهب لها غلاما زكيا:
تمثل جبريل - عليه السلام - لمريم وهي في المحراب على صورة بشرية في غاية الجمال، فخافت مريم،
وقالت:
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18)
(مريم)
، أرادت أن تحتمي بالله، وسألته: أهو إنسان طيب يعرف الله ويتقيه؟
فجاء جوابه ليطمئنها بأنه يخاف الله ويتقيه:
قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
(19) (مريم)،
استغربت مريم العذراء[1] ذلك، فلم يمسسها بشر من قبل، ولم تتزوج، فكيف تنجب بغير زواج؟!
فقالت لرسول ربها:
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا
(20)(مريم)،
قال الروح الأمين:
قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا
(21) (مريم)
، استقبل عقل مريم كلمات الروح الأمين، ألم يقل لها: إن هذا هو أمر الله؟ وكل شيء ينفذ إذا أمر الله - عز وجل - به، ثم أي غرابة في أن تلد بغير أن يمسسها بشر؟ لقد خلق الله تبارك وتعالى آدم من غير أب أو أم؛ إذ لم يكن هناك ذكر وأنثى قبل خلق آدم، وخلقت حواء من آدم، فهي من ذكر بغير أنثى، ويخلق الله عيسى ابن مريم من أنثى من غير أب، والعادة أن يكون للإنسان أب وأم، إذ المعجزة تقع عندما يأذن الله تعالى بوقوعها.
2. الملائكة - بلسان جبريل - عليه السلام - تبشر مريم بالمسيح، وما اختص به من معجزات وآيات بصورة مفصلة:
جاء جبريل - عليه السلام - مريم العذراء، وذكر لها الصفات التي منحها الله - عز وجل - هذا الغلام بصورة مفصلة
فقال:
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46)
(آل عمران)،
مما زاد دهشة مريم بهذه البشارة، فكيف قبل أن تحمله في بطنها تعرف اسمه! وتعرف أنه سيكون وجيها عند الله وعند الناس! وأنه سيكلم الناس وهو طفل رضيع وكذا وهو شيخ كبير، بيد أن السؤال المطروح الآن: إذا كان الحديث في المهد معجزة وآية على براءة مريم عليها السلام، فما شأن الكلام في الكهولة وهل يعد معجزة؟!
نقول إذا كان في المهد معجزة لبراءة مريم عليها السلام، فإن الكلام في الكهولة معجزة وآية على براءة عيسى - عليه السلام - من الصلب المزعوم عند النصارى إن الصلب - كما يدعون - كان في الشباب، غير أن القرآن بهذا اللفظ "كهلا" يثبت خطأ هذه العقيدة ويوضح صراحة بأن مرحلة كلام عيسى - عليه السلام - لم تحدث بعد؛ إذ إن عيسى رفع إلى السماء وسوف ينزل قبيل الساعة حكما عدلا يدعو إلى الإسلام ويحكم بشريعته وأنه سيكون من الصالحين؟!
(أنى يكون لي ولد)
[2].
إن النظرة الفاحصة لمضمون الآيات في سورة مريم تبين أن الحديث عن البشارة بعيسى - عليه السلام - وصفاته التي خصه الله - عز وجل - بها جاء بصورة مجملة، فلم يأت من هذه الصفات إلا كونه زكيا، أي: مطهرا من كل عيب، وانصب بقية الحديث عن الهيئة التي جاء جبريل - عليه السلام - مريم فيها، واستعاذة مريم منه، ودهشتها من هذا الأمر الرباني الذي جاء به جبريل.
أما الآيات التي وردت في سورة آل عمران، فكان التركيز فيها على تفصيل الصفات التي خص بها الله - عز وجل - هذا الغلام الذي بشرت به مريم العذراء، فكان من صفاته أنه: كلمة من الله، المسيح، وجيه في الدنيا والآخرة، من المقربين، ويكلم الناس في المهد وكهلا، ومن الصالحين، فعلى الرغم من أن الموقف واحد، إلا أن المقام مختلف، ولكل مقام مقال كما يقول علماء البلاغة والأدب.
قال ابن عاشور:
ووصف عيسى
(بكلمة)
(آل عمران: ٤٥)
، مراد به: كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين، أي بدون الأسباب المعتادة، وقوله: (منه) من الابتداء المجازي، أي: بدون واسطة أسباب النسل المعتادة،
وقد دل على ذلك قوله:
(إذا قضى أمرا)
(آل عمران: ٤٧)
، ومعنى ?المسيح?: ممسوح بدهن المسحة[3]، وهو الزيت المعطر الذي أمر الله موسى أن يتخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهنا لبني إسرائيل، فصار المسيح عندهم بمعنى: الملك، والوجيه: ذو الوجاهة، وهي: التقدم على الأمثال والكرامة بين القوم، وهي وصف مشتق من الوجه، وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال.
وخص تكليمه بحالين: حال كونه في المهد، وحال كونه كهلا، مع أنه يتكلم فيما بين ذلك؛ لهذين الحالين مزيد اختصاص بتشريف الله إياه، فأما تكليمه الناس في المهد؛ فلأنه خارق عادة، وإرهاصا لنبوءته، وأما تكليمهم كهلا؛ فمراد به دعوته الناس إلى الشريعة، فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين، وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين.
وعطف عليه
(ومن الصالحين)
(آل عمران: ٤٦)؛
فالمجرور ظرف مستقر في موضع الحال، والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم، والصلاح: استقامة الأعمال وطهارة النفس[4].
وعلى هذا، فلا سند لمن ادعى أن بين آيات سورتي مريم وآل عمران تناقضا.
الخلاصة:
العلاقة بين آيات سورة مريم وسورة آل عمران التي تتحدث عن البشارة بعيسى علاقة مجمل ومفصل:
· المجمل: ما جاء في سورة مريم عن صفات هذا الغلام الذي سيهبه الله - عز وجل - لمريم من دون أب، ولم يذكر من هذه الصفات إلا كونه "غلاما زكيا"، أي: منزها عن كل عيب، مع الحديث عن الصفة التي جاء عليها جبريل - عليه السلام - مريم العذراء، واستعاذة مريم منه.
· المفصل: ما جاء في سورة آل عمران عن هذه الصفات التي خص الله - عز وجل - بها هذا الغلام الذي جعله آية للناس، فهو كلمة من الله، وهو المسيح، ووجيه في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، ويكلم الناس في المهد وكهلا، ومن الصالحين، ونظرا لاختلاف المقام فقد اختلف المقال، فلكل مقام مقال كما يقول علماء البلاغة والأدب.
المراجع
- () البيان في درء التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. عاطف المليجي، مكتبة اقرأ، القاهرة، ط1، 2004م. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com. [1]. العذراء: البكر، وهو لقب السيدة مريم عليها السلام.
- ] قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص417: 423 بتصرف. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص449: 452 بتصرف.
- ]. دهن المسحة: هو الزيت المعطر.
- ] التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص245: 247 بتصرف.
الجواب التفصيلي
توهم تناقض القرآن بشأن بشارة مريم بعيسى عليهما السلام
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تناقضا بين
قوله - عز وجل -:
فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالـت إنـي أعـوذ بالرحمن منـك إن كنـت تقيـا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21)
(مريم).
وقوله - عز وجل -:
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47)
(آل عمران).
ويتساءلون: كيف يذكر القرآن أقوالا عديدة متناقضة في وصف موقف واحد؟ ويستدلون بذلك - في توهمهم - على أن القرآن ليس من عند الله تبارك وتعالى؛ ما دام فيه هذا التناقض!
وجه إبطال الشبهة:
تعددت الأقوال في بشارة مريم بعيسى - عليه السلام ـ؛ لأن الموقف يحوي داخله مواقف متعددة، فلا يمكن أن يعبر عنه بجملة واحدة، وهذه المواقف المتعددة المتضمنة:
· خطاب مريم - عليها السلام - مع جبريل - عليه السلام - وإخباره إياها بأنه سيهب لها غلاما زكيا بأمر من الله - عز وجل -.
· الملائكة - بلسان جبريل - عليه السلام - تبشر مريم باسم ولدها وصفاته ومعجزاته.
التفصيل:
هذه الأقوال يجمعها موقف واحد، لكنه موقف مطول احتوى موقفين متتاليين:
وقد عرضت سورة مريم الموقف الأول (وفيه ظهور الملك لمريم وارتياعها منه، ثم مجمل البشارة)، ثم عرضت سورة آل عمران الموقف الثاني (وفيه تفصيل البشارة بذكر اسم الولد وصفاته ومعجزاته)، وذلك على ما نفصله فيما يلي:
1. خطاب مريم لجبريل - عليه السلام -، وإخباره لها أن الله سيهب لها غلاما زكيا:
تمثل جبريل - عليه السلام - لمريم وهي في المحراب على صورة بشرية في غاية الجمال، فخافت مريم،
وقالت:
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18)
(مريم)
، أرادت أن تحتمي بالله، وسألته: أهو إنسان طيب يعرف الله ويتقيه؟
فجاء جوابه ليطمئنها بأنه يخاف الله ويتقيه:
قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
(19) (مريم)،
استغربت مريم العذراء[1] ذلك، فلم يمسسها بشر من قبل، ولم تتزوج، فكيف تنجب بغير زواج؟!
فقالت لرسول ربها:
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا
(20)(مريم)،
قال الروح الأمين:
قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا
(21) (مريم)
، استقبل عقل مريم كلمات الروح الأمين، ألم يقل لها: إن هذا هو أمر الله؟ وكل شيء ينفذ إذا أمر الله - عز وجل - به، ثم أي غرابة في أن تلد بغير أن يمسسها بشر؟ لقد خلق الله تبارك وتعالى آدم من غير أب أو أم؛ إذ لم يكن هناك ذكر وأنثى قبل خلق آدم، وخلقت حواء من آدم، فهي من ذكر بغير أنثى، ويخلق الله عيسى ابن مريم من أنثى من غير أب، والعادة أن يكون للإنسان أب وأم، إذ المعجزة تقع عندما يأذن الله تعالى بوقوعها.
2. الملائكة - بلسان جبريل - عليه السلام - تبشر مريم بالمسيح، وما اختص به من معجزات وآيات بصورة مفصلة:
جاء جبريل - عليه السلام - مريم العذراء، وذكر لها الصفات التي منحها الله - عز وجل - هذا الغلام بصورة مفصلة
فقال:
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46)
(آل عمران)،
مما زاد دهشة مريم بهذه البشارة، فكيف قبل أن تحمله في بطنها تعرف اسمه! وتعرف أنه سيكون وجيها عند الله وعند الناس! وأنه سيكلم الناس وهو طفل رضيع وكذا وهو شيخ كبير، بيد أن السؤال المطروح الآن: إذا كان الحديث في المهد معجزة وآية على براءة مريم عليها السلام، فما شأن الكلام في الكهولة وهل يعد معجزة؟!
نقول إذا كان في المهد معجزة لبراءة مريم عليها السلام، فإن الكلام في الكهولة معجزة وآية على براءة عيسى - عليه السلام - من الصلب المزعوم عند النصارى إن الصلب - كما يدعون - كان في الشباب، غير أن القرآن بهذا اللفظ "كهلا" يثبت خطأ هذه العقيدة ويوضح صراحة بأن مرحلة كلام عيسى - عليه السلام - لم تحدث بعد؛ إذ إن عيسى رفع إلى السماء وسوف ينزل قبيل الساعة حكما عدلا يدعو إلى الإسلام ويحكم بشريعته وأنه سيكون من الصالحين؟!
(أنى يكون لي ولد)
[2].
إن النظرة الفاحصة لمضمون الآيات في سورة مريم تبين أن الحديث عن البشارة بعيسى - عليه السلام - وصفاته التي خصه الله - عز وجل - بها جاء بصورة مجملة، فلم يأت من هذه الصفات إلا كونه زكيا، أي: مطهرا من كل عيب، وانصب بقية الحديث عن الهيئة التي جاء جبريل - عليه السلام - مريم فيها، واستعاذة مريم منه، ودهشتها من هذا الأمر الرباني الذي جاء به جبريل.
أما الآيات التي وردت في سورة آل عمران، فكان التركيز فيها على تفصيل الصفات التي خص بها الله - عز وجل - هذا الغلام الذي بشرت به مريم العذراء، فكان من صفاته أنه: كلمة من الله، المسيح، وجيه في الدنيا والآخرة، من المقربين، ويكلم الناس في المهد وكهلا، ومن الصالحين، فعلى الرغم من أن الموقف واحد، إلا أن المقام مختلف، ولكل مقام مقال كما يقول علماء البلاغة والأدب.
قال ابن عاشور:
ووصف عيسى
(بكلمة)
(آل عمران: ٤٥)
، مراد به: كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين، أي بدون الأسباب المعتادة، وقوله: (منه) من الابتداء المجازي، أي: بدون واسطة أسباب النسل المعتادة،
وقد دل على ذلك قوله:
(إذا قضى أمرا)
(آل عمران: ٤٧)
، ومعنى ?المسيح?: ممسوح بدهن المسحة[3]، وهو الزيت المعطر الذي أمر الله موسى أن يتخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهنا لبني إسرائيل، فصار المسيح عندهم بمعنى: الملك، والوجيه: ذو الوجاهة، وهي: التقدم على الأمثال والكرامة بين القوم، وهي وصف مشتق من الوجه، وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال.
وخص تكليمه بحالين: حال كونه في المهد، وحال كونه كهلا، مع أنه يتكلم فيما بين ذلك؛ لهذين الحالين مزيد اختصاص بتشريف الله إياه، فأما تكليمه الناس في المهد؛ فلأنه خارق عادة، وإرهاصا لنبوءته، وأما تكليمهم كهلا؛ فمراد به دعوته الناس إلى الشريعة، فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين، وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين.
وعطف عليه
(ومن الصالحين)
(آل عمران: ٤٦)؛
فالمجرور ظرف مستقر في موضع الحال، والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم، والصلاح: استقامة الأعمال وطهارة النفس[4].
وعلى هذا، فلا سند لمن ادعى أن بين آيات سورتي مريم وآل عمران تناقضا.
الخلاصة:
العلاقة بين آيات سورة مريم وسورة آل عمران التي تتحدث عن البشارة بعيسى علاقة مجمل ومفصل:
· المجمل: ما جاء في سورة مريم عن صفات هذا الغلام الذي سيهبه الله - عز وجل - لمريم من دون أب، ولم يذكر من هذه الصفات إلا كونه "غلاما زكيا"، أي: منزها عن كل عيب، مع الحديث عن الصفة التي جاء عليها جبريل - عليه السلام - مريم العذراء، واستعاذة مريم منه.
· المفصل: ما جاء في سورة آل عمران عن هذه الصفات التي خص الله - عز وجل - بها هذا الغلام الذي جعله آية للناس، فهو كلمة من الله، وهو المسيح، ووجيه في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، ويكلم الناس في المهد وكهلا، ومن الصالحين، ونظرا لاختلاف المقام فقد اختلف المقال، فلكل مقام مقال كما يقول علماء البلاغة والأدب.
المراجع
- () البيان في درء التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. عاطف المليجي، مكتبة اقرأ، القاهرة، ط1، 2004م. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com. [1]. العذراء: البكر، وهو لقب السيدة مريم عليها السلام.
- ] قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص417: 423 بتصرف. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص449: 452 بتصرف.
- ]. دهن المسحة: هو الزيت المعطر.
- ] التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص245: 247 بتصرف.