نص السؤال

التشكيك في مادة خلق المسيح عليه السلام

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

التشكيك في مادة خلق المسيح عليه السلام (*)

مضمون الشبهة:

يشكك بعض المغرضين في حديث القرآن عن مادة خلق عيسى - عليه السلام - ويستدلون على ذلك

بقوله سبحانه وتعالى:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)

(آل عمران: 59)

وقوله سبحانه وتعالى:

(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح)

(آل عمران: 45)

وقوله:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)

(النساء: 171)

ويتساءلون: هل خلق المسيح من تراب، أو هو كلمة الله وروحه؟!

وجها إبطال الشبهة:

1)  كل مخلوق خلق بكلمة الله (كن)، فآدم خلق بها، وعيسى خلق بها، فهي أمر الله

كما أخبر سبحانه وتعالى:

(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)

(يس:82)

ولا يتنافى ذلك مع مادة أصل خلق عيسى - عليه السلام - التي هي التراب.

2)  المراد بالآية:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)

(مريم)

أن الله خلق عيسى ابن مريم بالكلمة التي أرسل بها جبريل - عليه السلام - إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله، فعيسى قد نشأ عن الكلمة التي قالها له "كن" فكان.

التفصيل:

أولا. كل مخلوق خلق بكلمة "كن" فآدم خلق بها، وعيسى خلق بها:

يقول الله سبحانه وتعالى:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)

(آل عمران:59)

ولقد أثارت ولادة عيسى ابن مريم - عليه السلام - من غير أب شبهات عند النصارى جعلتهم يقولون: إنه ابن الله، تعالى الله عما يشركون.

فإن ولادة عيسى - عليه السلام - من أم بلا أب تعد معجزة دالة على طلاقة قدرة الله التي لا تحدها حدود، ولا يقف أمامها مانع ليظهر للناس أنه - عز وجل - على كل شيء قدير، وقد أوضحت مريم - عليها السلام - هذه الحقيقة بقولها لابن عمها: فمن خلق الإنسان الأول؟ ومعنى هذا أن الله سبحانه قد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وكانت مادة خلقه الأولى التراب:

(إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين)

(ص:71)

وخلق حواء من ذكر بلا أنثى،

فقال سبحانه وتعالى:

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها)

(النساء: 1)

وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر البشر من ذكر وأنثى، وفي ذلك يقول:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)

(آل عمران)

وهذا دليل على أن الله - عز وجل - لا يعجزه شيء، وأن قانون الأسباب والمسببات من وضعه - سبحانه وتعالى - يجريه كيف شاء ومتى شاء، ويلغيه كذلك وفق مشيئته وإرادته، وقد أثارت هذه الشبهة وفد نصارى نجران عندما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: من أبو عيسى؟ فأنزل الله هذه الآية: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)

وواضح أن الآية قد ردت عليهم بأمر قد سلموا له سابقا، بأنه لو لزم من وجود عيسى من أم بلا أب أن يكون ابنا لله، للزم أن يكون آدم ابنا لله بطريق الأولى، فإنه وجد من غير أم ولا أب، باعتراف النصارى!! ثم إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب، فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟! وهذا الدليل ملزم لهم، إذ لم يقولوا بألوهية آدم ولا بنوته لله - تعالى الله عما يفترون - وبهذا الإلزام قطع القرآن الجدال بعد إقامة الحجة[1].

وبذلك يتضح أن كل مخلوق خلق بكلمة الله (كن)، فآدم - عليه السلام - خلق بها، وعيسى - عليه السلام - خلق بها، فأمر الله

كما أخبر سبحانه وتعالى:

(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)

(يس:82)

فلا يعقل أن يدعي أحد عدم اتساق هذه الآية مع حال عيسى ابن مريم، فقد شاء الله وجوده، فأرسل الملك ليبشر أمه، فلما استعظمت أن يكون لها ولد ولم يمسسها بشر

قال لها:

(قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا)

(مريم:21)

وقد قال صاحب "الظلال" في تعليقه على هذه الآية:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)

(آل عمران:59)

ما يلي: "إن ولادة عيسى لعجيبة حقا بالقياس إلى مألوف البشر، ولكن أي غرابة فيها حين تقاس بخلق آدم أبي البشر؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى بسبب مولده، ويصوغون حوله الأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب، وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه الكائن الإنساني، دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى، ودون أن يقولوا عن آدم: إن له طبيعة لاهوتية، على حين أن العنصر الذي صار به آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب، عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك، وإن هي إلا كلمة "كن" تنشئ ما يراد له النشأة فيكون"[2].

ويعلق د. عبد المنعم فؤاد على ذلك قائلا: وهنا نلمس أن القرآن الكريم تحدث عن شيء لدى العقل معلوم، ولم يبدأ ببرهانه من مجهول، وهذا ما يرضاه المنطق السليم. وإذا كان الله - عز وجل - أوجد هذه الأكوان الرهيبة بعجائبها وعظائمها من العدم؛ أي: من لا شيء؛ فإنه أوجد آدم من شيء وهو التراب، والتراب لا روح فيه فهو جماد، ومع ذلك خلق منه آدم ونفخ فيه الروح، وإذا أوجد آدم من جماد لا حياة فيه؛ فإنه أوجد عيسى من امرأة ذات حياة وروح، وهي مريم - عليهما السلام - فأمر عيسى أمر سهل إدراكه على العقل البشري إذا تطرق إلى خلق الأشياء في الكون، ومن ثم لا يصح على أصحاب العقول النيرة أن يذهبوا بعيسى بسبب ميلاده إلى مرتبة الألوهية، ولا يصح أن يكون ميلاده هو مفتاح بنوته لله تعالى، بل هو مفتاح التفكر في كمال قدرة الله عز وجل.

ويقول أبو عبيدة الخزرجي: أليس من الواضح عند ذوي العقول أنه لا يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم - عليه السلام - أن يكون ابنا لله؟ ولما لم يستبعد خلق آدم من التراب، لم يستبعد خلق عيسى - عليه السلام - من الدم الذي كان يجتمع في رحم أمه.

نعم إن الذي خلق الرحم، وجعل الدم يسير فيه هو الذي يجعل الوليد يتحرك في أحشائه، وينفخ فيه من روحه، حتى وإن خالف ذلك مألوف البشر؛ لأن قدرته تفوق عقولهم، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يعلن عن قدرته متى شاء، وكيف شاء، ولمن شاء، ويوم أن تنتبه العقول أمام حدث غريب - كميلاد المسيح - تظهر نداءات الله للمؤمنين قائلة:

(لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء)

(الشورى: ٤٩).

وعن المثلية بين آدم والمسيح، يقول ابن تيمية: إن الله - سبحانه وتعالى - خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال سبحانه وتعالى: )وخلق منها زوجها( وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم أعجب من هذا وذاك، وهو أصل خلق حواء، فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلقه.

وهذا التشابه بين آدم والمسيح الذي أثاره القرآن يمكن حصره في أمرين:

أولهما: النفخ من روح الحق، وهذا كان لآدم عليه السلام:

(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)

(ص:72)

وثانيهما: في كلمة )كن(. وهذان الأمران نجدهما في المسيح، فهو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم وهي "كن" وروح منه، وهي النفخة عن طريق الملاك، وهذا قياس واضح على مثلية الخلق بينهما[3].

والمماثلة بين المشبه والمشبه به تكون في بعض الأوصاف، وليس بلازم أن تكون في كل الأوصاف، كمن يشبه الجندي بالأسد في الشجاعة فقط، والذي يفهم من الجملتين من وجه شبه هو أن عيسى شبه بآدم في أنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، وهما في ذلك نظيران؛ ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم، وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه:

(خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون).

(آل عمران:59)

ثانيا. المراد بالكلمة في قوله:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته)

(النساء: 171)

أن عيسى - عليه السلام - قد نشأ عن الكلمة التي قالها الله - عز وجل - له "كن" فكان بإذنه تعالى:

وإذا عدنا إلى الآيات التي تتحدث عن كون عيسى - عليه السلام - هو كلمة الله مثل:

(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم)

(آل عمران: ٤٥)

نجد أنه من الثابت عقلا أن الله قديم، لا يجوز عليه الحدوث، كما ثبت أنه - سبحانه وتعالى - واحد في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فذاته ليست مركبة من أجزاء كما يزعم النصارى، ولا تقبل الانقسام. وإن القول بأن الكلمة جزء من الذات يوصل إلى القول بالتركيب، وهو من صفات الحوادث، وبناء على ذلك فلا يجوز تفسير أن عيسى كلمة الله بمعنى أنه جزء من ذات الله، وأن الله خلق عيسى ابن مريم بالكلمة التي أرسل بها جبريل - عليه السلام - إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى بإذن الله، فعيسى - عليه السلام - ناشئ عن الكلمة التي قالها له )كن( فكان. وقال شاذ بن يحيى: "ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى"[4].

وقد تكون الكلمة بمعنى: الآية، وفي هذا الإطار يكون معنى أن "عيسى كلمة الله" هو آية دالة على قدرة الله، ويؤيد هذا المعنى

قوله سبحانه وتعالى:

(وجعلنا ابن مريم وأمه آية)

(المؤمنون:50)

وقوله:

(ولنجعله آية للناس)

(مريم: ٢١)[5].

وعلى ضوء هذا الفهم الصحيح لهذه الآيات يتضح لنا، ولكل ذي عقل وبصيرة أنه لا تناقض بين الآيات؛ فهي تتحدث عن نفاذ كلمة الله تعالى نفاذا بلا سبب مألوف، ناسبة إطلاق الكلمة على عيسى إطلاقا غير مألوف، وفي النهاية كل الخلق أثر لنفاذ كلمة الله تعالى.

الخلاصة:

·    كل مخلوق خلق بكلمة الله )كن( فآدم خلق بها، وعيسى خلق بها، فقال سبحانه وتعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران). فآدم خلق من طين جماد بلا روح، وعيسى خلق من مريم، وفيها روح؛ فلذلك شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح؛ فلا عجب من خلق المسيح بهذه الطريقة.

·    المراد بالآية: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه( (النساء: 171) أن الله خلق عيسى - عليه السلام - بالكلمة التي أرسل بها جبريل - عليه السلام - إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى بإذن الله، فعيسى - عليه السلام - ناشئ عن الكلمة )كن( فكان.

·    ومن سياق الآيات ومعانيها الصحيحة والمراد بها يتضح جليا أنه لا تناقض ولا تعارض بين الآيات، بل هناك تشابه ومماثلة بين خلق آدم - عليه السلام - وعيسى - عليه السلام - فكلاهما خلق بكلمة )كن( الدالة على قدرة الله تعالى.

المراجع

  1. (*) أسئلة بلا أجوبة، صموئيل عبد المسيح، موقع الكلمة.
  2.  مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص330، 331.
  3.  في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص404، 405 بتصرف. 
  4.  المسيحية بين التوحيد والتثليث وموقف الإسلام منها، د. عبد المنعم فؤاد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1422 هـ/ 2002م، ص59، 60.
  5. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 453) برقم (6343). 
  6.  مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص331، 332.

الجواب التفصيلي

التشكيك في مادة خلق المسيح عليه السلام (*)

مضمون الشبهة:

يشكك بعض المغرضين في حديث القرآن عن مادة خلق عيسى - عليه السلام - ويستدلون على ذلك

بقوله سبحانه وتعالى:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)

(آل عمران: 59)

وقوله سبحانه وتعالى:

(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح)

(آل عمران: 45)

وقوله:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)

(النساء: 171)

ويتساءلون: هل خلق المسيح من تراب، أو هو كلمة الله وروحه؟!

وجها إبطال الشبهة:

1)  كل مخلوق خلق بكلمة الله (كن)، فآدم خلق بها، وعيسى خلق بها، فهي أمر الله

كما أخبر سبحانه وتعالى:

(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)

(يس:82)

ولا يتنافى ذلك مع مادة أصل خلق عيسى - عليه السلام - التي هي التراب.

2)  المراد بالآية:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)

(مريم)

أن الله خلق عيسى ابن مريم بالكلمة التي أرسل بها جبريل - عليه السلام - إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله، فعيسى قد نشأ عن الكلمة التي قالها له "كن" فكان.

التفصيل:

أولا. كل مخلوق خلق بكلمة "كن" فآدم خلق بها، وعيسى خلق بها:

يقول الله سبحانه وتعالى:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)

(آل عمران:59)

ولقد أثارت ولادة عيسى ابن مريم - عليه السلام - من غير أب شبهات عند النصارى جعلتهم يقولون: إنه ابن الله، تعالى الله عما يشركون.

فإن ولادة عيسى - عليه السلام - من أم بلا أب تعد معجزة دالة على طلاقة قدرة الله التي لا تحدها حدود، ولا يقف أمامها مانع ليظهر للناس أنه - عز وجل - على كل شيء قدير، وقد أوضحت مريم - عليها السلام - هذه الحقيقة بقولها لابن عمها: فمن خلق الإنسان الأول؟ ومعنى هذا أن الله سبحانه قد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وكانت مادة خلقه الأولى التراب:

(إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين)

(ص:71)

وخلق حواء من ذكر بلا أنثى،

فقال سبحانه وتعالى:

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها)

(النساء: 1)

وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر البشر من ذكر وأنثى، وفي ذلك يقول:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)

(آل عمران)

وهذا دليل على أن الله - عز وجل - لا يعجزه شيء، وأن قانون الأسباب والمسببات من وضعه - سبحانه وتعالى - يجريه كيف شاء ومتى شاء، ويلغيه كذلك وفق مشيئته وإرادته، وقد أثارت هذه الشبهة وفد نصارى نجران عندما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: من أبو عيسى؟ فأنزل الله هذه الآية: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)

وواضح أن الآية قد ردت عليهم بأمر قد سلموا له سابقا، بأنه لو لزم من وجود عيسى من أم بلا أب أن يكون ابنا لله، للزم أن يكون آدم ابنا لله بطريق الأولى، فإنه وجد من غير أم ولا أب، باعتراف النصارى!! ثم إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب، فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟! وهذا الدليل ملزم لهم، إذ لم يقولوا بألوهية آدم ولا بنوته لله - تعالى الله عما يفترون - وبهذا الإلزام قطع القرآن الجدال بعد إقامة الحجة[1].

وبذلك يتضح أن كل مخلوق خلق بكلمة الله (كن)، فآدم - عليه السلام - خلق بها، وعيسى - عليه السلام - خلق بها، فأمر الله

كما أخبر سبحانه وتعالى:

(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)

(يس:82)

فلا يعقل أن يدعي أحد عدم اتساق هذه الآية مع حال عيسى ابن مريم، فقد شاء الله وجوده، فأرسل الملك ليبشر أمه، فلما استعظمت أن يكون لها ولد ولم يمسسها بشر

قال لها:

(قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا)

(مريم:21)

وقد قال صاحب "الظلال" في تعليقه على هذه الآية:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)

(آل عمران:59)

ما يلي: "إن ولادة عيسى لعجيبة حقا بالقياس إلى مألوف البشر، ولكن أي غرابة فيها حين تقاس بخلق آدم أبي البشر؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى بسبب مولده، ويصوغون حوله الأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب، وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه الكائن الإنساني، دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى، ودون أن يقولوا عن آدم: إن له طبيعة لاهوتية، على حين أن العنصر الذي صار به آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب، عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك، وإن هي إلا كلمة "كن" تنشئ ما يراد له النشأة فيكون"[2].

ويعلق د. عبد المنعم فؤاد على ذلك قائلا: وهنا نلمس أن القرآن الكريم تحدث عن شيء لدى العقل معلوم، ولم يبدأ ببرهانه من مجهول، وهذا ما يرضاه المنطق السليم. وإذا كان الله - عز وجل - أوجد هذه الأكوان الرهيبة بعجائبها وعظائمها من العدم؛ أي: من لا شيء؛ فإنه أوجد آدم من شيء وهو التراب، والتراب لا روح فيه فهو جماد، ومع ذلك خلق منه آدم ونفخ فيه الروح، وإذا أوجد آدم من جماد لا حياة فيه؛ فإنه أوجد عيسى من امرأة ذات حياة وروح، وهي مريم - عليهما السلام - فأمر عيسى أمر سهل إدراكه على العقل البشري إذا تطرق إلى خلق الأشياء في الكون، ومن ثم لا يصح على أصحاب العقول النيرة أن يذهبوا بعيسى بسبب ميلاده إلى مرتبة الألوهية، ولا يصح أن يكون ميلاده هو مفتاح بنوته لله تعالى، بل هو مفتاح التفكر في كمال قدرة الله عز وجل.

ويقول أبو عبيدة الخزرجي: أليس من الواضح عند ذوي العقول أنه لا يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم - عليه السلام - أن يكون ابنا لله؟ ولما لم يستبعد خلق آدم من التراب، لم يستبعد خلق عيسى - عليه السلام - من الدم الذي كان يجتمع في رحم أمه.

نعم إن الذي خلق الرحم، وجعل الدم يسير فيه هو الذي يجعل الوليد يتحرك في أحشائه، وينفخ فيه من روحه، حتى وإن خالف ذلك مألوف البشر؛ لأن قدرته تفوق عقولهم، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يعلن عن قدرته متى شاء، وكيف شاء، ولمن شاء، ويوم أن تنتبه العقول أمام حدث غريب - كميلاد المسيح - تظهر نداءات الله للمؤمنين قائلة:

(لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء)

(الشورى: ٤٩).

وعن المثلية بين آدم والمسيح، يقول ابن تيمية: إن الله - سبحانه وتعالى - خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال سبحانه وتعالى: )وخلق منها زوجها( وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم أعجب من هذا وذاك، وهو أصل خلق حواء، فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلقه.

وهذا التشابه بين آدم والمسيح الذي أثاره القرآن يمكن حصره في أمرين:

أولهما: النفخ من روح الحق، وهذا كان لآدم عليه السلام:

(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)

(ص:72)

وثانيهما: في كلمة )كن(. وهذان الأمران نجدهما في المسيح، فهو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم وهي "كن" وروح منه، وهي النفخة عن طريق الملاك، وهذا قياس واضح على مثلية الخلق بينهما[3].

والمماثلة بين المشبه والمشبه به تكون في بعض الأوصاف، وليس بلازم أن تكون في كل الأوصاف، كمن يشبه الجندي بالأسد في الشجاعة فقط، والذي يفهم من الجملتين من وجه شبه هو أن عيسى شبه بآدم في أنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، وهما في ذلك نظيران؛ ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم، وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه:

(خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون).

(آل عمران:59)

ثانيا. المراد بالكلمة في قوله:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته)

(النساء: 171)

أن عيسى - عليه السلام - قد نشأ عن الكلمة التي قالها الله - عز وجل - له "كن" فكان بإذنه تعالى:

وإذا عدنا إلى الآيات التي تتحدث عن كون عيسى - عليه السلام - هو كلمة الله مثل:

(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم)

(آل عمران: ٤٥)

نجد أنه من الثابت عقلا أن الله قديم، لا يجوز عليه الحدوث، كما ثبت أنه - سبحانه وتعالى - واحد في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فذاته ليست مركبة من أجزاء كما يزعم النصارى، ولا تقبل الانقسام. وإن القول بأن الكلمة جزء من الذات يوصل إلى القول بالتركيب، وهو من صفات الحوادث، وبناء على ذلك فلا يجوز تفسير أن عيسى كلمة الله بمعنى أنه جزء من ذات الله، وأن الله خلق عيسى ابن مريم بالكلمة التي أرسل بها جبريل - عليه السلام - إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى بإذن الله، فعيسى - عليه السلام - ناشئ عن الكلمة التي قالها له )كن( فكان. وقال شاذ بن يحيى: "ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى"[4].

وقد تكون الكلمة بمعنى: الآية، وفي هذا الإطار يكون معنى أن "عيسى كلمة الله" هو آية دالة على قدرة الله، ويؤيد هذا المعنى

قوله سبحانه وتعالى:

(وجعلنا ابن مريم وأمه آية)

(المؤمنون:50)

وقوله:

(ولنجعله آية للناس)

(مريم: ٢١)[5].

وعلى ضوء هذا الفهم الصحيح لهذه الآيات يتضح لنا، ولكل ذي عقل وبصيرة أنه لا تناقض بين الآيات؛ فهي تتحدث عن نفاذ كلمة الله تعالى نفاذا بلا سبب مألوف، ناسبة إطلاق الكلمة على عيسى إطلاقا غير مألوف، وفي النهاية كل الخلق أثر لنفاذ كلمة الله تعالى.

الخلاصة:

·    كل مخلوق خلق بكلمة الله )كن( فآدم خلق بها، وعيسى خلق بها، فقال سبحانه وتعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران). فآدم خلق من طين جماد بلا روح، وعيسى خلق من مريم، وفيها روح؛ فلذلك شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح؛ فلا عجب من خلق المسيح بهذه الطريقة.

·    المراد بالآية: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه( (النساء: 171) أن الله خلق عيسى - عليه السلام - بالكلمة التي أرسل بها جبريل - عليه السلام - إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى بإذن الله، فعيسى - عليه السلام - ناشئ عن الكلمة )كن( فكان.

·    ومن سياق الآيات ومعانيها الصحيحة والمراد بها يتضح جليا أنه لا تناقض ولا تعارض بين الآيات، بل هناك تشابه ومماثلة بين خلق آدم - عليه السلام - وعيسى - عليه السلام - فكلاهما خلق بكلمة )كن( الدالة على قدرة الله تعالى.

المراجع

  1. (*) أسئلة بلا أجوبة، صموئيل عبد المسيح، موقع الكلمة.
  2.  مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص330، 331.
  3.  في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص404، 405 بتصرف. 
  4.  المسيحية بين التوحيد والتثليث وموقف الإسلام منها، د. عبد المنعم فؤاد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1422 هـ/ 2002م، ص59، 60.
  5. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 453) برقم (6343). 
  6.  مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص331، 332.