نص السؤال
هل وصَلَنا الشِّعْرُ الجاهليُّ مِن طريقٍ صحيح؟ ولِمَ اعتنى المسلِمون به؟ |
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
هل كان الشِّعْرُ الجاهليُّ موجودًا بالفعلِ قبل عصرِ الإسلام؟
هل انتحَلَ المسلِمون الشِّعْرَ الجاهليَّ؛ ليُثبِتوا به عربيَّةَ القرآن؟
هل عربيَّةُ القرآنِ تحتاجُ إلى الشِّعْرِ الجاهليِّ لإثباتِها؟
لو غاب الشِّعْرُ الجاهليُّ، هل نستطيعُ إثباتَ عربيَّةِ القرآن؟
هل كان للشعراءِ الجاهليِّين حضورٌ فِعليٌّ قبل الإسلام؟
الجواب التفصيلي
ظهَرَ ادِّعاءٌ بأن المسلِمين انتحَلوا الشِّعْرَ الجاهليَّ لإثباتِ أصالةِ عربيَّةِ القرآن؛ والجوابُ على هذا الادِّعاءِ مِن وجوه: أوَّلًا: منهجُ الاحتجاجِ بالشِّعْرِ على المعاني: إن القولَ بأن منهجَ الاحتجاجِ بالشِّعْرِ كان لإثباتِ عربيَّةِ القرآنِ قولٌ غيرُ دقيقٍ، وإنما احتجاجُ أهلِ العلمِ بالشعرِ جاء لغرضِ بيانِ معاني القرآن؛ فالمسلِمون أرادوا بيانَ الألفاظِ الغريبةِ في القرآنِ بالشعرِ، لا أنهم جعَلوا الشعرَ أصلًا أو حاكمًا على القرآنِ، وإنما استدَلُّوا بالشعرِ لأن القرآنَ عربيٌّ، واللهُ تعالى يقولُ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]. فإذا احتاج «الشارحُ»، أو «المفسِّرُ» إلى توثيقِ المعنى الذي أُورِدَ في تفسيرِ الآيةِ، أو شرحِ الحديثِ -: فإنه يستدِلُّ عليه بالشعرِ، حتى لا يتردَّدَ في قَبولِ التفسيرِ مَن لم يَقِفْ على أن هذه الكلمةَ قد تُستعمَلُ في هذا المعنى في العربيَّة. وفي القرآنِ كلماتٌ غريبةٌ يحتاجُ المفسِّرُ عند بيانِ معناها إلى الاستشهادِ بشيءٍ مِن كلامِ العرَبِ؛ حتى يَعلَمَ طالبُ العلمِ أن التفسيرَ لم يخرُجْ عن حدودِ اللسانِ العربيِّ؛ فيطمئِنَّ إلى صحَّةِ التفسيرِ، لا إلى أن القرآنَ عربيٌّ. وفي القرآنِ آياتٌ تحتمِلُ أوجُهًا مِن الإعرابِ، ومِن الواضحِ أن معنى الآيةِ يختلِفُ باختلافِ وجهِ إعرابِها؛ فقد يختارُ المفسِّرُ مِن الإعرابِ وجهًا يراهُ أليَقَ بالبلاغةِ، أو أثبَتَ بحكمةِ المعنى، ويكونُ هذا الوجهُ مِن الإعرابِ يستنِدُ إلى حُكْمٍ عربيٍّ غيرِ معهودٍ لبعضِ أهلِ العلمِ؛ فيَخْشَى إنكارَهم لأن يكونَ هذا الوجهُ صحيحًا مِن جهةِ العربيَّة؛ فيَعمِدُ إلى دفعِ هذا الإنكارِ بإقامةِ شاهدٍ مِن لسانِ العرَبِ على صحَّةِ ما ذهَبَ إليه مِن الإعراب. فالاستشهادُ بالشعرِ على القرآنِ قائمٌ على دواعٍ معقولة. ثانيًا: الفرقُ بين الشعرِ الجاهليِّ، وشعرِ صدرِ الإسلام: مع اتِّحادِ العربيَّةِ في شعرِ الجاهليَّةِ والإسلامِ، إلا أن الأغراضَ تبايَنَتْ تبايُنًا عجيبًا ومَفصِليًّا: لقد كان الشعرُ في الجاهليَّةِ معبِّرًا عن رُوحِها، وهو في الإسلامِ معبِّرٌ عن نقائِهِ وصفائِه. ولينظُرِ الناظرُ إلى شعرِ لَبِيدٍ، أو حَسَّانَ، أو كعبِ بنِ زُهَيرٍ، أو غيرِهم مِن الشُّعَراءِ ممَّن أدرَكَ الجاهليَّةَ والإسلامَ؛ ليَقِفَ على حقيقةِ ذلك، في الأغراضِ والمعاني وغيرِها. وقد حَفِظَ المسلِمون ما قيل مِن شعرٍ ضِدَّهم في المناسَباتِ المختلِفةِ؛ أفيكونُ هذا أيضًا منتحَلًا؟! إن مِن شأنِ المنتحِلِ أن ينتحِلَ ما يَدعَمُهُ لا ما يُضعِفُه، وما يتوافِقُ مع معتقَدِهِ لا ما يخالِفُه. ثالثًا: غيابُ الشعرِ الجاهليِّ لا يَمَسُّ القرآنَ بسُوءٍ: إن العلماءَ الذين قاموا على تفسيرِ مفرَداتِ القرآنِ، قد رجَعوا في بيانِها إلى شِعرٍ أو نثرٍ سَمِعوهُ مِن العربِ الخُلَّص، وسواءٌ عليهم أكان هذا الشعرُ أو النثرُ، صدَرَ مِن الإسلاميِّين، أم كان مضافًا إلى الجاهليِّين، بحقٍّ أو بغيرِ حقٍّ؛ وهذا حالُ ما يتمسَّكون به في قواعدِ النحو؛ فإن هذه القواعدَ ستَبقَى ثابتةً، ولو قامت الآياتُ البيِّناتُ على أن هذا الشعرَ الذي يضافُ إلى الجاهليِّين كلَّه أُنشِئَ بعد ظهورِ الإسلام. رابعًا: عربيَّةُ القرآنِ حكمٌ ثابتٌ: القرآنُ محفوظٌ في الصدورِ منذُ عهدِ النبوَّةِ، وليس مِن أنصارِ القديمِ، ولا مِن أنصارِ الجديدِ أيضًا مَن يستطيعُ أن ينازِعَ في أن المسلِمين قد احتاطوا في جمعِهِ وكتابتِهِ وتفسيرِه، وليس في العارِفين بفنونِ التفسيرِ مَن ينازِعُ في أن مِن معاني حروفِهِ، أو وجوهِ تأويلِهِ: ما يَليقُ بالمفسِّرِ أن يُقيمَ عليه الشاهدَ مِن كلامِ العرَب؛ لأنه أُنزِلَ بلسانٍ عربيٍّ مبين؛ فهم لا يَقصِدون بإقامةِ الشاهدِ تصحيحَ عربيَّةِ القرآن؛ فإن عربيَّتَهُ حكمٌ مسمَّطٌ لا يُنقَضُ، وإنما يُقِيمون الشاهدَ لتقريرِ المعنى، أو تصحيحِ وجهِ الإعرابِ الذي يختارونه في التأويل. بَقِيَ الحديثُ عن مصدريَّةِ الشعرِ الجاهليِّ نفسِهِ؛ فقد وصَلَنا الشعرُ الجاهليُّ بطُرُقٍ صحيحةٍ لا تدَعُ مجالًا للارتيابِ، ومنها: الطريقُ الأوَّلُ: التدوينُ الكتابيُّ: كان الشعرُ للقبيلةِ والفردِ مِن العرَبِ ذا خطَرٍ وقِيمةٍ؛ لأنه ديوانُ أمجادِهم وأحسابِهم، وسِجِلُّ مَفاخرِهم ومَآثِرِهم. ومع ما ثبَتَ مِن تدوينِ العرَبِ الأقدَمِين لعهودِهم ومواثيقِهم، أَلَا يرجِّحُ ذلك أنهم قيَّدوا أشعارَهم، واعتنَوْا بها؟! ولقد كان الشعرُ في الفخرِ ونحوِهِ يَسْري في العرَبِ سَرَيانَ الضوءِ؛ أفيَعجِزُ الملوكُ وذوو الحَسَبِ عن تدوينِهِ وكتابتِه؟! ونحن وإن كنا لا نُنكِرُ أن بعضَ الشعراءِ كانوا يرتجِلون الشعرَ ارتجالًا، وأن بعضَهم كان يندلِثُ منهم الشعرُ اندلاثًا هَيِّنًا سَمْحًا، وأن هاتَيْنِ الطائفتَيْنِ أو بعضَ رجالِهما لا تضطَرُّهم طبيعةُ هذا الضربِ مِن الشعرِ إلى تقييدِهِ وإثباتِهِ بالكتابة -: إذا كنا لا نُنكِرُ ذلك؛ فإنه لا بدَّ لنا مِن أن نتريَّثَ قليلًا عند الفِئَةِ الأخرى مِن الشعراءِ وشِعْرِهم، وأن نتوقَّفَ عن أن نَسحَبَ عليهم حُكْمَ الضربِ الأوَّل. ويبدو لنا: أنه لا بدَّ مِن أن نرجِّحَ أن الشاعرَ الذي كانت تمكُثُ عنده القصيدةُ حَوْلًا كاملًا، أو زمَنًا طويلًا، يردِّدُ فيها نظَرَه، ويُجِيلُ فيها عَقْلَه، ويقلِّبُ فيها رأيَه،، والشاعرَ الذي كان يَعرِضُ له في الشعرِ - مِن الصبرِ عليه، والملاطَفةِ له، والتلوُّمِ على رياضتِه، وإحكامِ صنعتِهِ - نحوٌ مما يَعرِضُ لكثيرٍ مِن المولَّدين،، والشاعرَ الذي كانت تكثُرُ عليه القوافي، فيَذُودُها عنه ذِيَادًا، ثم يَنْتقي منها الجيِّدَ انتقاءً، وينظُرُ إلى قوافيهِ وألفاظِهِ نَظْرةَ الجَوهَريِّ إلى لآلئِه، يَعزِلُ مَرْجانَها جانبًا، ويأخُذُ المستجادَ مِن دُرِّها،، والشاعرَ الذي يتنخَّلُ كلامَهُ تنخُّلًا، ويثقِّفُ ألفاظَهُ وقوافيَهُ حتى تَلِينَ متونُها -: نرجِّحُ أن هؤلاءِ الشعراءَ لم يكونوا ليستطيعوا أن يقُومُوا بهذا العمَلِ العقليِّ الذي يستغرِقُ هذا الوقتَ الطويلَ، دون أن يكونَ الشعرُ مقيَّدًا أمامَهم على صحيفةٍ يَرْجِعون إليها بين وقتٍ وآخَرَ: يَزِيدون عليه، أو ينقُصُون منه، أو يستبدِلون لفظةً بلفظةٍ، وقافيةً بقافيةٍ. الطريقُ الثاني: التدوينُ الذِّهْنيُّ، والاتصالُ الرِّوائيّ: قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه: «كان الشِّعْرُ عِلْمَ قومٍ لم يكن لهم عِلْمٌ أصَحُّ منه». «كنزُ العمَّال» (3/ 853)، و«طبَقاتُ فحولِ الشعراء» (1/ 24، 524)، و«العُمْدةُ، في صناعةِ الشِّعْرِ ونقدِه» لابن رَشِيقٍ (1/ 22).
لم يكتفِ العرَبُ الأوائلُ بإنشادِ الشعرِ، بل أُقيمَتْ للشعرِ أسواقٌ؛ كسُوقِ «عُكَاظَ»، وكان للشعرِ حُكَّامُهُ ومدارِسُه، وكان الشعراءُ يتبارَوْنَ أيُّهم يكونُ أفضلَ مِن الآخَر. واستمَرَّ الأمرُ في أوَّلِ الإسلامِ، وكان القومُ في القرنِ الأوَّلِ لا يكتفُون بروايةِ الشعرِ الجاهليِّ وإنشادِهِ في المجالسِ والمحافلِ، وإنما كانوا يعلِّمونه الصِّبْيانَ تعليمًا؛ يروُّونهم إيَّاه، ويؤدِّبونهم به. والحاصلُ: أن روايةَ الجاهليَّةِ أشعارَها وأخبارَها لم تنقطِعْ منذ الجاهليَّةِ، بل لقد اتَّصَلَتْ في زمنِ رسولِ اللهِ ^ وصحابتِهِ وخلفائِهِ الراشِدين رضيَ اللهُ عنهم أجمعين، واستمَرَّتْ طَوَالَ القرنِ الأوَّلِ حتى تسلَّمها العلماءُ الرواةُ مِن رجالِ القرنِ الثاني، ولم تكن ثَمَّةَ فجوةٌ تَفصِلُ هؤلاءِ الرواةَ العلماءَ عن العصرِ الجاهليِّ، وإنما تلقَّفوه عمَّن تقدَّمهم، ووَرِثوهُ عمَّن سبَقَهم، روايةً متصِلةً وسلسلةً محكَمةً، يأخُذُها الخلفُ عن السلف، ويَرْويها الجِيلُ بعد الجِيل، حريصِين عليها، مَعْنيِّين بها. الطريقُ الثالثُ: التدوينُ الإسلاميّ: لقد دُوِّنَ الشعرُ في عهدٍ مبكِّرٍ مِن العهودِ الإسلاميَّةِ ضِمنَ ما كتَبهُ علماءُ الإسلامِ في الحديثِ والتفسيرِ والمغازي ونحوِها؛ للاستشهادِ به، أو الاحتجاجِ، أو التمثُّلِ، أو تفسيرِ الألفاظِ وشرحِ غريبِها. وكان مدوِّنو الحديثِ والتفسيرِ، والمغازي والسِّيرةِ، هم مِن رُواةِ الشعرِ وحُفَّاظِه. بل دُوِّنَ فضلًا عن ذلك تدوينًا خاصًّا مستقِلًّا. |
مختصر الجواب
ظهَرَ ادِّعاءٌ بأن المسلِمين انتحَلوا الشِّعْرَ الجاهليَّ لإثباتِ أصالةِ عربيَّةِ القرآن؛ وهو قولٌ باطلٌ لا حقيقةَ له:
فقد ظَلَّ الشعرُ يحتلُّ مكانةً ساميةً عند العرَبِ؛ لأنه يَحفَظُ لها ما لا تَحفَظُهُ الأيَّام.
وقد استمَرَّ هذا الأمرُ في جاهليَّةِ العرَبِ وإسلامِهم على حَدٍّ سواءٍ؛ فحَفِظوا مِن الشعرِ في أذهانِهم ما دوَّنوه، وما استدَلُّوا به على ألفاظِهم ومعانيهم.
وقد حُفِظَ هذا الشِّعْرُ الجاهليُّ في المدوَّناتِ القديمةِ، وبخاصَّةٍ المدوَّناتُ الإسلاميَّة، وحُفِظَ كذلك في المدوَّنةِ الأهمِّ،
وهي ذاكرةُ العرَبِ التي لا تُدانيها ذاكرةٌ، واتِّصالُ الأسانيدِ برواةِ الشعرِ مِن العرَبِ، حتى دُوِّنَ بعد ذلك في الكُتُبِ التي وصَلتْ إلينا؛ مما لا يدَعُ مجالًا للشكِّ في كونِ هذا الشعرِ مما لا يُمكِنُ انتحالُه.
كما أن المسلِمين قد حَفِظوا ما قيل مِن شعرٍ ضِدَّهم في المناسَباتِ المختلِفةِ؛ فكيف يكونُ هذا منتحَلًا؟! إن مِن شأنِ المنتحِلِ أن ينتحِلَ ما يَدعَمُهُ لا ما يُضعِفُه، وما يتوافِقُ مع معتقَدِهِ لا ما يخالِفُه.
والقرآنُ محفوظٌ في الصدورِ منذُ عهدِ النبوَّةِ، ولا ينازِعُ أحدٌ في أن المسلِمين قد احتاطوا في جمعِهِ وكتابتِهِ وتفسيرِه، كما لا ينازِعُ أحدٌ في أن مِن معاني حروفِهِ، أو وجوهِ تأويلِهِ: ما يَليقُ بالمفسِّرِ أن يُقيمَ عليه الشاهدَ مِن كلامِ العرَب؛ لأنه أُنزِلَ بلسانٍ عربيٍّ مبين.
ومنهجُ الاحتجاجِ بالشعرِ على معاني القرآنِ: يبيِّنُ لنا أن ما احتجَّ به المسلِمون مِن الشعرِ، لم يكونوا يَقصِدون به تصحيحَ عربيَّةِ القرآنِ، ولا إثباتَ أصالتِه؛
فلم يكن عندهم شكٌّ في هذا؛ فإن عربيَّتَهُ حكمٌ مسمَّطٌ لا يُنقَضُ، وإنما كانوا يُقِيمون الشاهدَ؛ لإثباتِ وتقريرِ صحَّةِ ما يُورِدونه مِن معانٍ في بعضِ آياتِ القرآن،
أو تصحيحِ وجهِ الإعرابِ الذي يختارونه في التأويل؛ ولذلك لم يلتزِمْ أحدٌ منهم إيرادَ شعرٍ على كلِّ كلمةٍ كلمةٍ مِن القرآن.
على أن الشعرَ الجاهليَّ نفسَهُ قد وصَلَنا بطُرُقٍ صحيحةٍ لا تدَعُ مجالًا للارتيابِ، ومنها: طريقُ التدوينِ الكتابيّ،
وطريقُ التدوينِ الذِّهْنيِّ والاتصالِ الرِّوائيّ، وطريقُ التدوينِ الإسلاميّ.
مختصر الجواب
ظهَرَ ادِّعاءٌ بأن المسلِمين انتحَلوا الشِّعْرَ الجاهليَّ لإثباتِ أصالةِ عربيَّةِ القرآن؛ وهو قولٌ باطلٌ لا حقيقةَ له:
فقد ظَلَّ الشعرُ يحتلُّ مكانةً ساميةً عند العرَبِ؛ لأنه يَحفَظُ لها ما لا تَحفَظُهُ الأيَّام.
وقد استمَرَّ هذا الأمرُ في جاهليَّةِ العرَبِ وإسلامِهم على حَدٍّ سواءٍ؛ فحَفِظوا مِن الشعرِ في أذهانِهم ما دوَّنوه، وما استدَلُّوا به على ألفاظِهم ومعانيهم.
وقد حُفِظَ هذا الشِّعْرُ الجاهليُّ في المدوَّناتِ القديمةِ، وبخاصَّةٍ المدوَّناتُ الإسلاميَّة، وحُفِظَ كذلك في المدوَّنةِ الأهمِّ،
وهي ذاكرةُ العرَبِ التي لا تُدانيها ذاكرةٌ، واتِّصالُ الأسانيدِ برواةِ الشعرِ مِن العرَبِ، حتى دُوِّنَ بعد ذلك في الكُتُبِ التي وصَلتْ إلينا؛ مما لا يدَعُ مجالًا للشكِّ في كونِ هذا الشعرِ مما لا يُمكِنُ انتحالُه.
كما أن المسلِمين قد حَفِظوا ما قيل مِن شعرٍ ضِدَّهم في المناسَباتِ المختلِفةِ؛ فكيف يكونُ هذا منتحَلًا؟! إن مِن شأنِ المنتحِلِ أن ينتحِلَ ما يَدعَمُهُ لا ما يُضعِفُه، وما يتوافِقُ مع معتقَدِهِ لا ما يخالِفُه.
والقرآنُ محفوظٌ في الصدورِ منذُ عهدِ النبوَّةِ، ولا ينازِعُ أحدٌ في أن المسلِمين قد احتاطوا في جمعِهِ وكتابتِهِ وتفسيرِه، كما لا ينازِعُ أحدٌ في أن مِن معاني حروفِهِ، أو وجوهِ تأويلِهِ: ما يَليقُ بالمفسِّرِ أن يُقيمَ عليه الشاهدَ مِن كلامِ العرَب؛ لأنه أُنزِلَ بلسانٍ عربيٍّ مبين.
ومنهجُ الاحتجاجِ بالشعرِ على معاني القرآنِ: يبيِّنُ لنا أن ما احتجَّ به المسلِمون مِن الشعرِ، لم يكونوا يَقصِدون به تصحيحَ عربيَّةِ القرآنِ، ولا إثباتَ أصالتِه؛
فلم يكن عندهم شكٌّ في هذا؛ فإن عربيَّتَهُ حكمٌ مسمَّطٌ لا يُنقَضُ، وإنما كانوا يُقِيمون الشاهدَ؛ لإثباتِ وتقريرِ صحَّةِ ما يُورِدونه مِن معانٍ في بعضِ آياتِ القرآن،
أو تصحيحِ وجهِ الإعرابِ الذي يختارونه في التأويل؛ ولذلك لم يلتزِمْ أحدٌ منهم إيرادَ شعرٍ على كلِّ كلمةٍ كلمةٍ مِن القرآن.
على أن الشعرَ الجاهليَّ نفسَهُ قد وصَلَنا بطُرُقٍ صحيحةٍ لا تدَعُ مجالًا للارتيابِ، ومنها: طريقُ التدوينِ الكتابيّ،
وطريقُ التدوينِ الذِّهْنيِّ والاتصالِ الرِّوائيّ، وطريقُ التدوينِ الإسلاميّ.
الجواب التفصيلي
ظهَرَ ادِّعاءٌ بأن المسلِمين انتحَلوا الشِّعْرَ الجاهليَّ لإثباتِ أصالةِ عربيَّةِ القرآن؛ والجوابُ على هذا الادِّعاءِ مِن وجوه: أوَّلًا: منهجُ الاحتجاجِ بالشِّعْرِ على المعاني: إن القولَ بأن منهجَ الاحتجاجِ بالشِّعْرِ كان لإثباتِ عربيَّةِ القرآنِ قولٌ غيرُ دقيقٍ، وإنما احتجاجُ أهلِ العلمِ بالشعرِ جاء لغرضِ بيانِ معاني القرآن؛ فالمسلِمون أرادوا بيانَ الألفاظِ الغريبةِ في القرآنِ بالشعرِ، لا أنهم جعَلوا الشعرَ أصلًا أو حاكمًا على القرآنِ، وإنما استدَلُّوا بالشعرِ لأن القرآنَ عربيٌّ، واللهُ تعالى يقولُ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]. فإذا احتاج «الشارحُ»، أو «المفسِّرُ» إلى توثيقِ المعنى الذي أُورِدَ في تفسيرِ الآيةِ، أو شرحِ الحديثِ -: فإنه يستدِلُّ عليه بالشعرِ، حتى لا يتردَّدَ في قَبولِ التفسيرِ مَن لم يَقِفْ على أن هذه الكلمةَ قد تُستعمَلُ في هذا المعنى في العربيَّة. وفي القرآنِ كلماتٌ غريبةٌ يحتاجُ المفسِّرُ عند بيانِ معناها إلى الاستشهادِ بشيءٍ مِن كلامِ العرَبِ؛ حتى يَعلَمَ طالبُ العلمِ أن التفسيرَ لم يخرُجْ عن حدودِ اللسانِ العربيِّ؛ فيطمئِنَّ إلى صحَّةِ التفسيرِ، لا إلى أن القرآنَ عربيٌّ. وفي القرآنِ آياتٌ تحتمِلُ أوجُهًا مِن الإعرابِ، ومِن الواضحِ أن معنى الآيةِ يختلِفُ باختلافِ وجهِ إعرابِها؛ فقد يختارُ المفسِّرُ مِن الإعرابِ وجهًا يراهُ أليَقَ بالبلاغةِ، أو أثبَتَ بحكمةِ المعنى، ويكونُ هذا الوجهُ مِن الإعرابِ يستنِدُ إلى حُكْمٍ عربيٍّ غيرِ معهودٍ لبعضِ أهلِ العلمِ؛ فيَخْشَى إنكارَهم لأن يكونَ هذا الوجهُ صحيحًا مِن جهةِ العربيَّة؛ فيَعمِدُ إلى دفعِ هذا الإنكارِ بإقامةِ شاهدٍ مِن لسانِ العرَبِ على صحَّةِ ما ذهَبَ إليه مِن الإعراب. فالاستشهادُ بالشعرِ على القرآنِ قائمٌ على دواعٍ معقولة. ثانيًا: الفرقُ بين الشعرِ الجاهليِّ، وشعرِ صدرِ الإسلام: مع اتِّحادِ العربيَّةِ في شعرِ الجاهليَّةِ والإسلامِ، إلا أن الأغراضَ تبايَنَتْ تبايُنًا عجيبًا ومَفصِليًّا: لقد كان الشعرُ في الجاهليَّةِ معبِّرًا عن رُوحِها، وهو في الإسلامِ معبِّرٌ عن نقائِهِ وصفائِه. ولينظُرِ الناظرُ إلى شعرِ لَبِيدٍ، أو حَسَّانَ، أو كعبِ بنِ زُهَيرٍ، أو غيرِهم مِن الشُّعَراءِ ممَّن أدرَكَ الجاهليَّةَ والإسلامَ؛ ليَقِفَ على حقيقةِ ذلك، في الأغراضِ والمعاني وغيرِها. وقد حَفِظَ المسلِمون ما قيل مِن شعرٍ ضِدَّهم في المناسَباتِ المختلِفةِ؛ أفيكونُ هذا أيضًا منتحَلًا؟! إن مِن شأنِ المنتحِلِ أن ينتحِلَ ما يَدعَمُهُ لا ما يُضعِفُه، وما يتوافِقُ مع معتقَدِهِ لا ما يخالِفُه. ثالثًا: غيابُ الشعرِ الجاهليِّ لا يَمَسُّ القرآنَ بسُوءٍ: إن العلماءَ الذين قاموا على تفسيرِ مفرَداتِ القرآنِ، قد رجَعوا في بيانِها إلى شِعرٍ أو نثرٍ سَمِعوهُ مِن العربِ الخُلَّص، وسواءٌ عليهم أكان هذا الشعرُ أو النثرُ، صدَرَ مِن الإسلاميِّين، أم كان مضافًا إلى الجاهليِّين، بحقٍّ أو بغيرِ حقٍّ؛ وهذا حالُ ما يتمسَّكون به في قواعدِ النحو؛ فإن هذه القواعدَ ستَبقَى ثابتةً، ولو قامت الآياتُ البيِّناتُ على أن هذا الشعرَ الذي يضافُ إلى الجاهليِّين كلَّه أُنشِئَ بعد ظهورِ الإسلام. رابعًا: عربيَّةُ القرآنِ حكمٌ ثابتٌ: القرآنُ محفوظٌ في الصدورِ منذُ عهدِ النبوَّةِ، وليس مِن أنصارِ القديمِ، ولا مِن أنصارِ الجديدِ أيضًا مَن يستطيعُ أن ينازِعَ في أن المسلِمين قد احتاطوا في جمعِهِ وكتابتِهِ وتفسيرِه، وليس في العارِفين بفنونِ التفسيرِ مَن ينازِعُ في أن مِن معاني حروفِهِ، أو وجوهِ تأويلِهِ: ما يَليقُ بالمفسِّرِ أن يُقيمَ عليه الشاهدَ مِن كلامِ العرَب؛ لأنه أُنزِلَ بلسانٍ عربيٍّ مبين؛ فهم لا يَقصِدون بإقامةِ الشاهدِ تصحيحَ عربيَّةِ القرآن؛ فإن عربيَّتَهُ حكمٌ مسمَّطٌ لا يُنقَضُ، وإنما يُقِيمون الشاهدَ لتقريرِ المعنى، أو تصحيحِ وجهِ الإعرابِ الذي يختارونه في التأويل. بَقِيَ الحديثُ عن مصدريَّةِ الشعرِ الجاهليِّ نفسِهِ؛ فقد وصَلَنا الشعرُ الجاهليُّ بطُرُقٍ صحيحةٍ لا تدَعُ مجالًا للارتيابِ، ومنها: الطريقُ الأوَّلُ: التدوينُ الكتابيُّ: كان الشعرُ للقبيلةِ والفردِ مِن العرَبِ ذا خطَرٍ وقِيمةٍ؛ لأنه ديوانُ أمجادِهم وأحسابِهم، وسِجِلُّ مَفاخرِهم ومَآثِرِهم. ومع ما ثبَتَ مِن تدوينِ العرَبِ الأقدَمِين لعهودِهم ومواثيقِهم، أَلَا يرجِّحُ ذلك أنهم قيَّدوا أشعارَهم، واعتنَوْا بها؟! ولقد كان الشعرُ في الفخرِ ونحوِهِ يَسْري في العرَبِ سَرَيانَ الضوءِ؛ أفيَعجِزُ الملوكُ وذوو الحَسَبِ عن تدوينِهِ وكتابتِه؟! ونحن وإن كنا لا نُنكِرُ أن بعضَ الشعراءِ كانوا يرتجِلون الشعرَ ارتجالًا، وأن بعضَهم كان يندلِثُ منهم الشعرُ اندلاثًا هَيِّنًا سَمْحًا، وأن هاتَيْنِ الطائفتَيْنِ أو بعضَ رجالِهما لا تضطَرُّهم طبيعةُ هذا الضربِ مِن الشعرِ إلى تقييدِهِ وإثباتِهِ بالكتابة -: إذا كنا لا نُنكِرُ ذلك؛ فإنه لا بدَّ لنا مِن أن نتريَّثَ قليلًا عند الفِئَةِ الأخرى مِن الشعراءِ وشِعْرِهم، وأن نتوقَّفَ عن أن نَسحَبَ عليهم حُكْمَ الضربِ الأوَّل. ويبدو لنا: أنه لا بدَّ مِن أن نرجِّحَ أن الشاعرَ الذي كانت تمكُثُ عنده القصيدةُ حَوْلًا كاملًا، أو زمَنًا طويلًا، يردِّدُ فيها نظَرَه، ويُجِيلُ فيها عَقْلَه، ويقلِّبُ فيها رأيَه،، والشاعرَ الذي كان يَعرِضُ له في الشعرِ - مِن الصبرِ عليه، والملاطَفةِ له، والتلوُّمِ على رياضتِه، وإحكامِ صنعتِهِ - نحوٌ مما يَعرِضُ لكثيرٍ مِن المولَّدين،، والشاعرَ الذي كانت تكثُرُ عليه القوافي، فيَذُودُها عنه ذِيَادًا، ثم يَنْتقي منها الجيِّدَ انتقاءً، وينظُرُ إلى قوافيهِ وألفاظِهِ نَظْرةَ الجَوهَريِّ إلى لآلئِه، يَعزِلُ مَرْجانَها جانبًا، ويأخُذُ المستجادَ مِن دُرِّها،، والشاعرَ الذي يتنخَّلُ كلامَهُ تنخُّلًا، ويثقِّفُ ألفاظَهُ وقوافيَهُ حتى تَلِينَ متونُها -: نرجِّحُ أن هؤلاءِ الشعراءَ لم يكونوا ليستطيعوا أن يقُومُوا بهذا العمَلِ العقليِّ الذي يستغرِقُ هذا الوقتَ الطويلَ، دون أن يكونَ الشعرُ مقيَّدًا أمامَهم على صحيفةٍ يَرْجِعون إليها بين وقتٍ وآخَرَ: يَزِيدون عليه، أو ينقُصُون منه، أو يستبدِلون لفظةً بلفظةٍ، وقافيةً بقافيةٍ. الطريقُ الثاني: التدوينُ الذِّهْنيُّ، والاتصالُ الرِّوائيّ: قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه: «كان الشِّعْرُ عِلْمَ قومٍ لم يكن لهم عِلْمٌ أصَحُّ منه». «كنزُ العمَّال» (3/ 853)، و«طبَقاتُ فحولِ الشعراء» (1/ 24، 524)، و«العُمْدةُ، في صناعةِ الشِّعْرِ ونقدِه» لابن رَشِيقٍ (1/ 22).
لم يكتفِ العرَبُ الأوائلُ بإنشادِ الشعرِ، بل أُقيمَتْ للشعرِ أسواقٌ؛ كسُوقِ «عُكَاظَ»، وكان للشعرِ حُكَّامُهُ ومدارِسُه، وكان الشعراءُ يتبارَوْنَ أيُّهم يكونُ أفضلَ مِن الآخَر. واستمَرَّ الأمرُ في أوَّلِ الإسلامِ، وكان القومُ في القرنِ الأوَّلِ لا يكتفُون بروايةِ الشعرِ الجاهليِّ وإنشادِهِ في المجالسِ والمحافلِ، وإنما كانوا يعلِّمونه الصِّبْيانَ تعليمًا؛ يروُّونهم إيَّاه، ويؤدِّبونهم به. والحاصلُ: أن روايةَ الجاهليَّةِ أشعارَها وأخبارَها لم تنقطِعْ منذ الجاهليَّةِ، بل لقد اتَّصَلَتْ في زمنِ رسولِ اللهِ ^ وصحابتِهِ وخلفائِهِ الراشِدين رضيَ اللهُ عنهم أجمعين، واستمَرَّتْ طَوَالَ القرنِ الأوَّلِ حتى تسلَّمها العلماءُ الرواةُ مِن رجالِ القرنِ الثاني، ولم تكن ثَمَّةَ فجوةٌ تَفصِلُ هؤلاءِ الرواةَ العلماءَ عن العصرِ الجاهليِّ، وإنما تلقَّفوه عمَّن تقدَّمهم، ووَرِثوهُ عمَّن سبَقَهم، روايةً متصِلةً وسلسلةً محكَمةً، يأخُذُها الخلفُ عن السلف، ويَرْويها الجِيلُ بعد الجِيل، حريصِين عليها، مَعْنيِّين بها. الطريقُ الثالثُ: التدوينُ الإسلاميّ: لقد دُوِّنَ الشعرُ في عهدٍ مبكِّرٍ مِن العهودِ الإسلاميَّةِ ضِمنَ ما كتَبهُ علماءُ الإسلامِ في الحديثِ والتفسيرِ والمغازي ونحوِها؛ للاستشهادِ به، أو الاحتجاجِ، أو التمثُّلِ، أو تفسيرِ الألفاظِ وشرحِ غريبِها. وكان مدوِّنو الحديثِ والتفسيرِ، والمغازي والسِّيرةِ، هم مِن رُواةِ الشعرِ وحُفَّاظِه. بل دُوِّنَ فضلًا عن ذلك تدوينًا خاصًّا مستقِلًّا. |