نص السؤال

كيف يُمكِنُ التحقُّقُ مِن صحَّةِ النبوَّةِ؛ لأهمِّيَّتِها وتأثيرِها، خصوصًا مع وجودِ الشبهاتِ بكونِها جاءت نتيجةَ تأثيراتٍ خارجيَّةٍ مِن سِحْرٍ، 

أو شياطينَ، أو مِن تأثيرِ الكواكبِ، أو غيرِها.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

هل هناك طرُقٌ مبَرهَنةٌ لإثباتِ صحَّةِ النبوَّة؟

الجواب التفصيلي

هذه الشبهةُ حقيقتُها الطعنُ في النبوَّةِ؛ بدعوى أنه لا يستطيعُ أحدٌ التحقُّقَ مِن إثباتِ صدقِ النبوَّةِ بحالٍ، ولا يُمكِنُ إقامةُ الدليلِ على امتناعِ أن يكونَ المخاطِبُ للنبيِّ أحدًا غيرَ الله.

غيرَ أنك إذا نظَرْتَ في حقيقةِ المسألةِ، وجَدتَّ أن الناقِدين للنبوَّةِ بهذا الاعتراضِ ليس لهم عِلمٌ محقَّق، وإنما هي ظنونٌ وتخرُّصاتٌ لا أساسَ لها ولا قَرَارَ،

 ويقابِلُهُمُ المؤمِنون بالنبوَّةِ بأدلَّتِهم وبراهينِهمُ الوجوديَّةِ العقليَّة، والعاقلُ إذا وازَنَ بين الحالَيْنِ، يَعلَمُ الفرقَ بينهما، ويُدرِكُ حقيقةَ كلِّ حالٍ منهما.

والجوابُ عنها يحتاجُ إلى بيانِ الفرقِ بين مُثيرِي هذه الشبهةِ، وبين مُثبِتي النبوَّاتِ، في منهجيَّةِ الاستدلالِ؛ وبيانُ ذلك تفصيلًا مِن وجهَيْن:

1- للنبوَّةِ براهينُ وأدلَّةٌ، وليست قائمةً على الافتراضاتِ العقليَّةِ غيرِ المبرهَنة:

فالمؤمِنون بالنبوَّةِ بنَوْها على منهجيَّةٍ مِن الاستدلالِ؛ فهم لا يقولون: إن دعوى النبوَّةِ تُقبَلُ مِن أيِّ رجُلٍ، حتى ولو كان غيرَ معروفٍ في سِيرتِهِ وحياتِه، أو كان معروفًا بالكذبِ وفسادِ الأخلاق،

 أو معروفًا بضعفِ العقلِ والعِلْم.

والمؤمِنون بالنبوَّةِ لا يقولون: إن النبوَّةَ تُصدَّقُ بأيِّ دليلٍ ولو كان ضعيفًا، أو ممكِنَ الحصولِ مِن الخلقِ لغيرِ الأنبياء.

والمؤمِنون لا يقولون: إن على الناسِ أن يتَّبِعوا أيَّ مُدَّعٍ للنبوَّةِ، حتى لو كان ما أتى به مِن أدلَّةٍ غيرَ يقينيٍّ في دَلالتِهِ وثبوتِه.

وإنما المؤمِنون على النقيضِ مِن ذلك كلِّه.

فهم يؤكِّدون دائمًا على أن النبوَّةَ لا تكونُ إلا في رجُلٍ معروفٍ بالصدقِ والأمانةِ، وقوَّةِ العقلِ، وكمالِ النَّسَبِ، وشرَفِ المكانة.

ويؤكِّدون دائمًا: أن النبيَّ لا بدَّ أن يأتِيَ بدليلٍ خارقٍ للسُّنَنِ الكونيَّة؛ بحيثُ نَعلَمُ أنه لا يَقدِرُ أحدٌ على إحداثِهِ إلا اللهُ تعالى؛ فلا يَقدِرُ عليها إنسٌ ولا جنٌّ، حتى الأنبياءُ لا يَقدِرون عليها؛ لأنها مِن خصائصِ الربوبيَّةِ، ويُقيمون الأدلَّةَ على ذلك.

ويؤكِّدون دائمًا: أن دلائلَ النبوَّةِ قاطعةٌ يقينيَّةٌ، لا تَقبَلُ التشكيكَ ولا اللَّبْس.

2- الافتراضاتُ المذكورةُ افتراضاتٌ عقليَّةٌ غيرُ مُبَرهَنةٍ، لا يَصِحُّ الاعتمادُ عليها في بناءِ التصوُّراتِ والمواقفِ، وهي مناقِضةٌ لمناهِجِ العِلمِ المستقيم، ومسالِكِ الاستدلالِ الصحيحةِ عند العقلاء:

وبيانُ ذلك يحتاجُ أن نقفَ معها واحدًا واحدًا مِن خلالِ بيانِ منهجيَّةِ الاستدلالِ عند غيرِ المؤمِنين:

أ- فاحتمالُ أن يكونَ «أحدٌ مِن الجِنِّ» هو الذي أَوْحى إلى النبيِّ، احتمالٌ لا قِيمةَ له؛ لكونِهِ مجرَّدَ احتمالٍ عقليٍّ في مقابِلِ براهينَ عقليَّةٍ وجوديَّةٍ ظاهرةٍ.

فلا قِيمةَ له؛ لكونِ الأنبياءِ أتَوْا بأفعالٍ خارقةٍ للسُّنَنِ الكونيَّةِ، لا يستطيعُ الجِنُّ والإنسُ فِعلَها.

فهذه البراهينُ لا يَصِحُّ في مناهجِ الاستدلالِ المعتبَرةِ أن يُقدَحَ فيها بمجرَّدِ فرضٍ عقليٍّ؛ فإنه لو صَحَّ ذلك، لأمكَنَ القدحُ في كلِّ الضروريَّات، بل لأمكَنَ القدحُ في ذلك الفرضِ نفسِهِ بأن يُقالَ: لو كان الوحيُ مِن الشياطينِ، فما الذي يَمنَعُ الشياطينَ الأخرى أن تقومَ بالعملِ نفسِهِ، مع عدَدٍ آخرَ مِن الناس؟! وما الذي يَمنَعُ الشياطينَ مِن الوحيِ للناسِ في كلِّ زمانٍ ومكان؟! وما الذي يَمنَعُ الشياطينَ أن تختلِفَ فيما بينها فيقَعَ التناقُضُ بين مَن أوحَتْ إليهم؟!

ثم إن الجِنَّ عالَمٌ غيبيٌّ لا يُمكِنُ أن نَعلَمَ الكثيرَ مِن تفاصيلِهِ، إلا عن طريقِ إخبارِ الأنبياءِ، وإذا كنَّا نعتمِدُ على النبوَّةِ في تحديدِ صفاتِ الجِنِّ، فإنا قد جاءنا الخبرُ بأنهم لا يستطيعون أن يعارِضوا القرآنَ، ولا يستطيعون أن يُخبِروا بالغيوبِ الكثيرةِ الصادِقة.

فإذا كان الأمرُ كذلك، فإن مَن يعتمِدُ على القدحِ في النبوَّةِ بذلك الاحتمالِ، متناقِضٌ مع نفسِهِ؛ لكونِهِ لم يطرُدِ الدليلَ الذي اعتمَدَ عليه في معرفةِ صفاتِ الجِنِّ وحالِهم.

ب- وأما احتمالُ أن يكونَ المُوحِي إلى النبيِّ «أحَدَ الملائكةِ»، فهو مِن أسقطِ الاحتمالاتِ وأبطلِها؛ لكونِ الملائكةِ عالَمًا غيبيًّا لم نَعلَمْ عنه إلا بخبرِ الرسول، والرسولُ ^ أخبَرَنا أنهم مجبولون على طاعةِ الله، وأنهم لا يَعْصُون اللهَ ما أمَرَهم، ويَفعَلون ما يُؤمَرون، فإذا كنَّا نعتمِدُ في أصلِ إثباتِ وجودِهم على الوحي، فإنه يَلزَمُنا بلا شكٍّ أن نعتمِدَ عليه في إثباتِ ما نُضِيفُهُ إليهم مِن الصفات.

ولكنَّ المعترِضَ بذلك الاحتمالِ لم يُراعِ الاطِّرادَ في مَواقِفِه؛ لأنه ليس هناك دليلٌ على إثباتِ الملائكةِ إلا خبرُ الرسولِ؛ فكيف يحدِّدُ للملائكةِ مِن الصفاتِ ما يشاء، ويَقدَحُ بها في النبوَّة؟!

جـ- وأما احتمالُ أن يكونَ الرسولُ وجَدَ «بعضَ الأدويةِ والعقاقيرِ» التي تؤثِّرُ في المِزاجِ، وفي طبائعِ الأشياءِ، فهو احتمالٌ لا يَقِلُّ سقوطًا عما قبله؛ لكونِ صاحبِهِ يَقفِزُ على كلِّ الدلائلِ والبراهينِ الدالَّةِ على صدقِ النبيِّ وأمانتِه، وكمالِهِ ونزاهتِه، وكأنه يتعامَلُ مع رجُلٍ لا يَعرِفُ الناسُ عن حياتِهِ وأخلاقِهِ شيئًا.

ثم إن العقاقيرَ لا يُمكِنُها أن تؤدِّيَ إلى معرفةِ الغيوبِ المستقبليَّةِ المَحْضةِ، والصدقِ فيها جميعًا، ولا يُمكِنُها أن تؤدِّيَ إلى معرفةِ تاريخِ الأممِ السابقةِ وقَصَصِها، ولا يُمكِنُها تغييرُ السُّنَنِ الكونيَّة؛ بحيثُ إنها تُحدِثُ أفعالًا خارِجةً عن مقدورِ الجِنِّ والإنسِ معًا، والعقاقيرُ لا يُمكِنُها أن تؤدِّيَ إلى إخراجِ الناقةِ مِن الهضَبة، وقلبِ العصا حيَّةً، وانفلاقِ البحرِ وانقسامِهِ إلى طُرُقٍ معبَّدةٍ صالِحةٍ للسَّيْر، وانشقاقِ القمَرِ.

د- وأما احتمالُ أن ما يأتي به النبيُّ كان مِن تأثيرِ «النجومِ والأفلاك»، فهو احتمالٌ ساقطٌ؛ لأنه مبنيٌّ على تخرُّصاتٍ وظنونٍ؛ فعلى التسليمِ بأن الأحوالَ الفلَكيَّةَ قد تؤثِّرُ في بعضِ الأحداثِ الأرضيَّةِ، إلا أن ذلك لا يَعْني أنها تؤدِّي إلى الإيحاءِ بشريعةٍ كاملةٍ مشتمِلةٍ على عباداتٍ تتوجَّهُ إلى اللهِ تعالى، وإلى معامَلاتٍ تستوعِبُ تصرُّفاتِ الإنسانِ كلَّها، ولا يَعْني أنها تؤدِّي إلى الأمرِ بالمعروف، والنهيِ عن المنكَر.

ثم إن التأثيراتِ التي تُنسَبُ إلى الكواكبِ والأفلاكِ لا تَصِلُ إلى خَرْقِ السُّنَنِ الكونيَّةِ التي تخرُجُ عن مقدورِ الجِنِّ والإنس؛ بحيثُ إنها تؤدِّي إلى انقلابِ العصا إلى حيَّةٍ تَسْعى، وانفلاقِ البحرِ وانقسامِهِ إلى طُرُقٍ معبَّدةٍ صالِحةٍ للسَّيْر، وانشقاقِ القمَر.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن احتمالاتٍ كثيرةً لا تزالُ قائمةً - بحسَبِ وجهةِ نظَرِ السائل - على أن ما جاء به الأنبياءُ ليس وحيًا مِن السماء؛ مما يدُلُّ -

 بحسَبِ زعمِ السائلِ- على أن القولَ بالنبوَّاتِ أمرٌ فيه مجازَفةٌ.

مختصَرُ الإجابة:

جميعُ الافتراضاتِ المذكورةِ في السؤالِ افتراضاتٌ عقليَّةٌ غيرُ مبرهَنةٍ، والعاقلُ لو وازَنَ بين هذه الافتراضاتِ، وبين ما يجدُهُ عند المسلِمين مِن آياتٍ وبراهينَ على صدقِ النبيِّ ^، 

واستحالةِ أن يكونَ ما جاء به مِن عندِ أحدٍ مِن الخلقِ؛ فلا يَقدِرُ عليها إنسٌ ولا جنٌّ، حتى الأنبياءُ لا يَقدِرون عليها؛ لأنها مِن خصائصِ الربوبيَّةِ -: لو وازَنَ العاقلُ بين هذه وهذه، 

لأدرَكَ مِقدارَ الفَرْقِ بين تلك الافتراضاتِ غيرِ المبرهَنةِ، وبين براهينِ صدقِ النبيِّ ^ في القرآنِ والسنَّة، وانكشَفَ له حجمُ السخافةِ في هذه الشبهةِ وأضرابِها، 

ومدى مناقَضتِها لمناهِجِ العِلمِ المستقيم، ومسالِكِ الاستدلالِ الصحيحةِ عند العقلاء:

فاحتمالُ أن يكونَ أحدٌ مِن الجِنِّ، أو أحدٌ مِن الملائكةِ، أوحى إلى النبيِّ ^، أو أن ما يأتي به النبيُّ كان مِن تأثيرِ النجومِ والأفلاك، أو احتمالُ أن يكونَ النبيُّ وجَدَ بعضَ الأدويةِ والعقاقيرِ التي تؤثِّرُ في المِزاجِ،

 وفي طبائعِ الأشياءِ -: فكلُّها احتمالاتٌ ساقطةٌ بأدنى تأمُّل؛ فهي مجرَّدُ احتمالاتٍ عقليَّةٍ في مقابِلِ براهينَ عقليَّةٍ وجوديَّةٍ ظاهرةٍ؛ فإن الأنبياءَ أتَوْا بأفعالٍ خارقةٍ للسُّنَنِ الكونيَّةِ، التي تخرُجُ عن مقدورِ الجِنِّ والإنس؛

 بحيثُ إنها تؤدِّي إلى انقلابِ العصا إلى حيَّةٍ تَسْعى، وانفلاقِ البحرِ وانقسامِهِ إلى طُرُقٍ معبَّدةٍ صالِحةٍ للسَّيْر، وانشقاقِ القمَر.

خاتمة الجواب

هذه الشبهةُ مما طُرِحَ في وقتٍ سابقٍ مِن التاريخِ الإسلاميِّ؛ فقد نقَلَها أبو عبدِ اللهِ الرازيُّ عن بعضِ المعترِضين على النبوَّة.

فالطعنُ في النبوَّاتِ أمرٌ قديمٌ بقِدَمِها، ولا يزالُ المنكِرون لها يردِّدون كلامَ أسلافِهم؛ فيتبنَّاها عددٌ مِن المستشرِقين الغربيِّين، 

ثم يبتنَّاها عددٌ مِن تلاميذِهم العرَب، ومع إفحامِ كلِّ واحدٍ منهم في وقتِهِ، إلا أنهم يَحرِصون على تَكْرارِها؛ لإضلالِ بعضِ العامَّةِ الجُدُد.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن احتمالاتٍ كثيرةً لا تزالُ قائمةً - بحسَبِ وجهةِ نظَرِ السائل - على أن ما جاء به الأنبياءُ ليس وحيًا مِن السماء؛ مما يدُلُّ -

 بحسَبِ زعمِ السائلِ- على أن القولَ بالنبوَّاتِ أمرٌ فيه مجازَفةٌ.

مختصَرُ الإجابة:

جميعُ الافتراضاتِ المذكورةِ في السؤالِ افتراضاتٌ عقليَّةٌ غيرُ مبرهَنةٍ، والعاقلُ لو وازَنَ بين هذه الافتراضاتِ، وبين ما يجدُهُ عند المسلِمين مِن آياتٍ وبراهينَ على صدقِ النبيِّ ^، 

واستحالةِ أن يكونَ ما جاء به مِن عندِ أحدٍ مِن الخلقِ؛ فلا يَقدِرُ عليها إنسٌ ولا جنٌّ، حتى الأنبياءُ لا يَقدِرون عليها؛ لأنها مِن خصائصِ الربوبيَّةِ -: لو وازَنَ العاقلُ بين هذه وهذه، 

لأدرَكَ مِقدارَ الفَرْقِ بين تلك الافتراضاتِ غيرِ المبرهَنةِ، وبين براهينِ صدقِ النبيِّ ^ في القرآنِ والسنَّة، وانكشَفَ له حجمُ السخافةِ في هذه الشبهةِ وأضرابِها، 

ومدى مناقَضتِها لمناهِجِ العِلمِ المستقيم، ومسالِكِ الاستدلالِ الصحيحةِ عند العقلاء:

فاحتمالُ أن يكونَ أحدٌ مِن الجِنِّ، أو أحدٌ مِن الملائكةِ، أوحى إلى النبيِّ ^، أو أن ما يأتي به النبيُّ كان مِن تأثيرِ النجومِ والأفلاك، أو احتمالُ أن يكونَ النبيُّ وجَدَ بعضَ الأدويةِ والعقاقيرِ التي تؤثِّرُ في المِزاجِ،

 وفي طبائعِ الأشياءِ -: فكلُّها احتمالاتٌ ساقطةٌ بأدنى تأمُّل؛ فهي مجرَّدُ احتمالاتٍ عقليَّةٍ في مقابِلِ براهينَ عقليَّةٍ وجوديَّةٍ ظاهرةٍ؛ فإن الأنبياءَ أتَوْا بأفعالٍ خارقةٍ للسُّنَنِ الكونيَّةِ، التي تخرُجُ عن مقدورِ الجِنِّ والإنس؛

 بحيثُ إنها تؤدِّي إلى انقلابِ العصا إلى حيَّةٍ تَسْعى، وانفلاقِ البحرِ وانقسامِهِ إلى طُرُقٍ معبَّدةٍ صالِحةٍ للسَّيْر، وانشقاقِ القمَر.

الجواب التفصيلي

هذه الشبهةُ حقيقتُها الطعنُ في النبوَّةِ؛ بدعوى أنه لا يستطيعُ أحدٌ التحقُّقَ مِن إثباتِ صدقِ النبوَّةِ بحالٍ، ولا يُمكِنُ إقامةُ الدليلِ على امتناعِ أن يكونَ المخاطِبُ للنبيِّ أحدًا غيرَ الله.

غيرَ أنك إذا نظَرْتَ في حقيقةِ المسألةِ، وجَدتَّ أن الناقِدين للنبوَّةِ بهذا الاعتراضِ ليس لهم عِلمٌ محقَّق، وإنما هي ظنونٌ وتخرُّصاتٌ لا أساسَ لها ولا قَرَارَ،

 ويقابِلُهُمُ المؤمِنون بالنبوَّةِ بأدلَّتِهم وبراهينِهمُ الوجوديَّةِ العقليَّة، والعاقلُ إذا وازَنَ بين الحالَيْنِ، يَعلَمُ الفرقَ بينهما، ويُدرِكُ حقيقةَ كلِّ حالٍ منهما.

والجوابُ عنها يحتاجُ إلى بيانِ الفرقِ بين مُثيرِي هذه الشبهةِ، وبين مُثبِتي النبوَّاتِ، في منهجيَّةِ الاستدلالِ؛ وبيانُ ذلك تفصيلًا مِن وجهَيْن:

1- للنبوَّةِ براهينُ وأدلَّةٌ، وليست قائمةً على الافتراضاتِ العقليَّةِ غيرِ المبرهَنة:

فالمؤمِنون بالنبوَّةِ بنَوْها على منهجيَّةٍ مِن الاستدلالِ؛ فهم لا يقولون: إن دعوى النبوَّةِ تُقبَلُ مِن أيِّ رجُلٍ، حتى ولو كان غيرَ معروفٍ في سِيرتِهِ وحياتِه، أو كان معروفًا بالكذبِ وفسادِ الأخلاق،

 أو معروفًا بضعفِ العقلِ والعِلْم.

والمؤمِنون بالنبوَّةِ لا يقولون: إن النبوَّةَ تُصدَّقُ بأيِّ دليلٍ ولو كان ضعيفًا، أو ممكِنَ الحصولِ مِن الخلقِ لغيرِ الأنبياء.

والمؤمِنون لا يقولون: إن على الناسِ أن يتَّبِعوا أيَّ مُدَّعٍ للنبوَّةِ، حتى لو كان ما أتى به مِن أدلَّةٍ غيرَ يقينيٍّ في دَلالتِهِ وثبوتِه.

وإنما المؤمِنون على النقيضِ مِن ذلك كلِّه.

فهم يؤكِّدون دائمًا على أن النبوَّةَ لا تكونُ إلا في رجُلٍ معروفٍ بالصدقِ والأمانةِ، وقوَّةِ العقلِ، وكمالِ النَّسَبِ، وشرَفِ المكانة.

ويؤكِّدون دائمًا: أن النبيَّ لا بدَّ أن يأتِيَ بدليلٍ خارقٍ للسُّنَنِ الكونيَّة؛ بحيثُ نَعلَمُ أنه لا يَقدِرُ أحدٌ على إحداثِهِ إلا اللهُ تعالى؛ فلا يَقدِرُ عليها إنسٌ ولا جنٌّ، حتى الأنبياءُ لا يَقدِرون عليها؛ لأنها مِن خصائصِ الربوبيَّةِ، ويُقيمون الأدلَّةَ على ذلك.

ويؤكِّدون دائمًا: أن دلائلَ النبوَّةِ قاطعةٌ يقينيَّةٌ، لا تَقبَلُ التشكيكَ ولا اللَّبْس.

2- الافتراضاتُ المذكورةُ افتراضاتٌ عقليَّةٌ غيرُ مُبَرهَنةٍ، لا يَصِحُّ الاعتمادُ عليها في بناءِ التصوُّراتِ والمواقفِ، وهي مناقِضةٌ لمناهِجِ العِلمِ المستقيم، ومسالِكِ الاستدلالِ الصحيحةِ عند العقلاء:

وبيانُ ذلك يحتاجُ أن نقفَ معها واحدًا واحدًا مِن خلالِ بيانِ منهجيَّةِ الاستدلالِ عند غيرِ المؤمِنين:

أ- فاحتمالُ أن يكونَ «أحدٌ مِن الجِنِّ» هو الذي أَوْحى إلى النبيِّ، احتمالٌ لا قِيمةَ له؛ لكونِهِ مجرَّدَ احتمالٍ عقليٍّ في مقابِلِ براهينَ عقليَّةٍ وجوديَّةٍ ظاهرةٍ.

فلا قِيمةَ له؛ لكونِ الأنبياءِ أتَوْا بأفعالٍ خارقةٍ للسُّنَنِ الكونيَّةِ، لا يستطيعُ الجِنُّ والإنسُ فِعلَها.

فهذه البراهينُ لا يَصِحُّ في مناهجِ الاستدلالِ المعتبَرةِ أن يُقدَحَ فيها بمجرَّدِ فرضٍ عقليٍّ؛ فإنه لو صَحَّ ذلك، لأمكَنَ القدحُ في كلِّ الضروريَّات، بل لأمكَنَ القدحُ في ذلك الفرضِ نفسِهِ بأن يُقالَ: لو كان الوحيُ مِن الشياطينِ، فما الذي يَمنَعُ الشياطينَ الأخرى أن تقومَ بالعملِ نفسِهِ، مع عدَدٍ آخرَ مِن الناس؟! وما الذي يَمنَعُ الشياطينَ مِن الوحيِ للناسِ في كلِّ زمانٍ ومكان؟! وما الذي يَمنَعُ الشياطينَ أن تختلِفَ فيما بينها فيقَعَ التناقُضُ بين مَن أوحَتْ إليهم؟!

ثم إن الجِنَّ عالَمٌ غيبيٌّ لا يُمكِنُ أن نَعلَمَ الكثيرَ مِن تفاصيلِهِ، إلا عن طريقِ إخبارِ الأنبياءِ، وإذا كنَّا نعتمِدُ على النبوَّةِ في تحديدِ صفاتِ الجِنِّ، فإنا قد جاءنا الخبرُ بأنهم لا يستطيعون أن يعارِضوا القرآنَ، ولا يستطيعون أن يُخبِروا بالغيوبِ الكثيرةِ الصادِقة.

فإذا كان الأمرُ كذلك، فإن مَن يعتمِدُ على القدحِ في النبوَّةِ بذلك الاحتمالِ، متناقِضٌ مع نفسِهِ؛ لكونِهِ لم يطرُدِ الدليلَ الذي اعتمَدَ عليه في معرفةِ صفاتِ الجِنِّ وحالِهم.

ب- وأما احتمالُ أن يكونَ المُوحِي إلى النبيِّ «أحَدَ الملائكةِ»، فهو مِن أسقطِ الاحتمالاتِ وأبطلِها؛ لكونِ الملائكةِ عالَمًا غيبيًّا لم نَعلَمْ عنه إلا بخبرِ الرسول، والرسولُ ^ أخبَرَنا أنهم مجبولون على طاعةِ الله، وأنهم لا يَعْصُون اللهَ ما أمَرَهم، ويَفعَلون ما يُؤمَرون، فإذا كنَّا نعتمِدُ في أصلِ إثباتِ وجودِهم على الوحي، فإنه يَلزَمُنا بلا شكٍّ أن نعتمِدَ عليه في إثباتِ ما نُضِيفُهُ إليهم مِن الصفات.

ولكنَّ المعترِضَ بذلك الاحتمالِ لم يُراعِ الاطِّرادَ في مَواقِفِه؛ لأنه ليس هناك دليلٌ على إثباتِ الملائكةِ إلا خبرُ الرسولِ؛ فكيف يحدِّدُ للملائكةِ مِن الصفاتِ ما يشاء، ويَقدَحُ بها في النبوَّة؟!

جـ- وأما احتمالُ أن يكونَ الرسولُ وجَدَ «بعضَ الأدويةِ والعقاقيرِ» التي تؤثِّرُ في المِزاجِ، وفي طبائعِ الأشياءِ، فهو احتمالٌ لا يَقِلُّ سقوطًا عما قبله؛ لكونِ صاحبِهِ يَقفِزُ على كلِّ الدلائلِ والبراهينِ الدالَّةِ على صدقِ النبيِّ وأمانتِه، وكمالِهِ ونزاهتِه، وكأنه يتعامَلُ مع رجُلٍ لا يَعرِفُ الناسُ عن حياتِهِ وأخلاقِهِ شيئًا.

ثم إن العقاقيرَ لا يُمكِنُها أن تؤدِّيَ إلى معرفةِ الغيوبِ المستقبليَّةِ المَحْضةِ، والصدقِ فيها جميعًا، ولا يُمكِنُها أن تؤدِّيَ إلى معرفةِ تاريخِ الأممِ السابقةِ وقَصَصِها، ولا يُمكِنُها تغييرُ السُّنَنِ الكونيَّة؛ بحيثُ إنها تُحدِثُ أفعالًا خارِجةً عن مقدورِ الجِنِّ والإنسِ معًا، والعقاقيرُ لا يُمكِنُها أن تؤدِّيَ إلى إخراجِ الناقةِ مِن الهضَبة، وقلبِ العصا حيَّةً، وانفلاقِ البحرِ وانقسامِهِ إلى طُرُقٍ معبَّدةٍ صالِحةٍ للسَّيْر، وانشقاقِ القمَرِ.

د- وأما احتمالُ أن ما يأتي به النبيُّ كان مِن تأثيرِ «النجومِ والأفلاك»، فهو احتمالٌ ساقطٌ؛ لأنه مبنيٌّ على تخرُّصاتٍ وظنونٍ؛ فعلى التسليمِ بأن الأحوالَ الفلَكيَّةَ قد تؤثِّرُ في بعضِ الأحداثِ الأرضيَّةِ، إلا أن ذلك لا يَعْني أنها تؤدِّي إلى الإيحاءِ بشريعةٍ كاملةٍ مشتمِلةٍ على عباداتٍ تتوجَّهُ إلى اللهِ تعالى، وإلى معامَلاتٍ تستوعِبُ تصرُّفاتِ الإنسانِ كلَّها، ولا يَعْني أنها تؤدِّي إلى الأمرِ بالمعروف، والنهيِ عن المنكَر.

ثم إن التأثيراتِ التي تُنسَبُ إلى الكواكبِ والأفلاكِ لا تَصِلُ إلى خَرْقِ السُّنَنِ الكونيَّةِ التي تخرُجُ عن مقدورِ الجِنِّ والإنس؛ بحيثُ إنها تؤدِّي إلى انقلابِ العصا إلى حيَّةٍ تَسْعى، وانفلاقِ البحرِ وانقسامِهِ إلى طُرُقٍ معبَّدةٍ صالِحةٍ للسَّيْر، وانشقاقِ القمَر.

خاتمة الجواب

هذه الشبهةُ مما طُرِحَ في وقتٍ سابقٍ مِن التاريخِ الإسلاميِّ؛ فقد نقَلَها أبو عبدِ اللهِ الرازيُّ عن بعضِ المعترِضين على النبوَّة.

فالطعنُ في النبوَّاتِ أمرٌ قديمٌ بقِدَمِها، ولا يزالُ المنكِرون لها يردِّدون كلامَ أسلافِهم؛ فيتبنَّاها عددٌ مِن المستشرِقين الغربيِّين، 

ثم يبتنَّاها عددٌ مِن تلاميذِهم العرَب، ومع إفحامِ كلِّ واحدٍ منهم في وقتِهِ، إلا أنهم يَحرِصون على تَكْرارِها؛ لإضلالِ بعضِ العامَّةِ الجُدُد.