نص السؤال

إن البشَرَ ليسوا في حاجةٍ إلى النبوَّةِ في إصلاحِ حالِهم، وعَلاقتِهم مع الله، ويُمكِنُ تحقيقُ أعلى مراتبِ الصلاحِ والاستقامةِ مِن غيرِ أن يَنزِلَ إليهم وحيٌ مِن اللهِ لتوجيهِهم وإرشادِهم؛

 فالبشَرُ لديهم مِن البدائلِ الصالحةِ - كالعقلِ، والضميرِ - ما يُمكِنُ أن يحقِّقوا به المصالحَ التي يدَّعي المؤمِنون بالنبوَّةِ أنها لا تتحقَّقُ إلا بها.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

هل نحنُ بحاجةٍ إلى الأنبياء؟

الجواب التفصيلي

هذه الشبهةُ لا تَعْدو أن تكونَ مشاغَبةً كلاميَّةً تسعى إلى الانتصارِ للموقِفِ بأيِّ تركيبةٍ مِن الكلامِ يُدَّعى فيها أنها متضمِّنةٌ لحُجَّةٍ ملزِمةٍ؛ فإنها مبنيَّةٌ على سوءِ فهمٍ لطبيعةِ النبوَّة،

 ولوظيفتِها الأساسيَّة، وكشفُ هذه الشبهةِ يحتاجُ إلى تَجْليةِ أوجُهِ الاحتياجِ إلى النبوَّةِ والوحي.

وبيانُ ذلك تفصيلًا مِن وجوهٍ:

1- الغرضُ الأساسيُّ للنبوَّةِ ليس إرشادَ الناسِ إلى ما يُمكِنُهم إدراكُهُ بعقولِهم، ومجالُ النبوَّةِ يتجاوَزُ القَدْرَ الذي يُمكِنُ للعقلِ الإنسانيِّ البلوغُ إليه بنفسِه:

فإن الأنبياءَ لم يأتوا ليدُلُّوا الناسَ على ما يُمكِنُهم معرفتُه، وإنما أتَوْا ليُرشِدوهم إلى أمورٍ جليلةٍ عظيمةٍ لا يُمكِنُهم البلوغُ إليها إلا عن طريقِ الخبرِ مِن اللهِ تعالى؛

 فإن مِن أعظمِ وظائفِ الأنبياءِ: تعريفَ الناسِ بصفاتِ خالِقِهم، وكمالِهِ، وأسمائِهِ، وتعريفَهم بالأعمالِ التي تَضبِطُ عَلاقتَهم مع الله، وتَجعَلُها في أحسنِ حالٍ، وأكملِ صورةٍ؛ 

فيبيِّنون للناسِ ما يحبُّهُ اللهُ ويرضاهُ مِن الأقوالِ والأعمالِ والأفعالِ الظاهرةِ والباطنة، وما يَكرَهُهُ منها.

فالنبوَّةُ إذَنْ تتعلَّقُ مِن حيثُ الأساسُ بمجالاتٍ لا يُمكِنُ الوصولُ إليها على وجهِ الكمالِ والتفصيلِ إلا عن طريقِ النبوَّةِ فقطْ، وتَلِجُ في قضايا مغلَقةٍ أمام كلِّ الطرُقِ إلا طريقَها؛

 فلا غِنَى للبشَرِ عنها بحالٍ، ولا يُمكِنُهمُ الاكتفاءُ بما لدَيْهم مِن قُدُراتٍ البتَّةَ؛ فالقولُ بأن العقلَ الإنسانيَّ يكفي عن النبوَّةِ قولٌ ساقطٌ.

فمع تسليمِنا: بأن النبوَّةَ لا تخالِفُ ما تقرِّرُهُ العقولُ السليمة، إلا أن مَجَالَها يتجاوَزُ القَدْرَ الذي يُمكِنُ للعقلِ الإنسانيِّ البلوغُ إليه بنفسِهِ؛ فهي تُخبِرُ عن الغيوبِ المتعلِّقةِ بإرادةِ الله، ومحبَّتِه، 

ومشيئتِه، وأفعالِه، وما يُعِدُّ اللهُ سبحانه مِن الثوابِ للطائِعين، والعقابِ للعاصِين، وهذه الغيوبُ لا يُمكِنُ للعقلِ الإنسانيِّ الوصولُ إليها بنفسِهِ أبدًا.

ومِن أين له معرفةُ تفاصيلِ شرعِهِ ودينِهِ الذي شرَعهُ لعبادِه؟! ومِن أين له تفاصيلُ مواقعِ محبَّتِهِ ورضاهُ، وما أعَدَّ لأعدائِه، ومقاديرِ الثوابِ والعقاب،

 وكيفيَّتِهما، ودرَجاتِهما؟! ومِن أين له معرفةُ الغيبِ الذي لم يُظهِرِ اللهُ عليه أحدًا مِن خلقِهِ إلا مَن ارتضاهُ مِن رسُلِه؟! إلى غيرِ ذلك مما جاءت به الرسُلُ، وبلَّغتْهُ عن الله، وليس في العقلِ طريقٌ إلى معرفتِه.

ولا يَعْني هذا الأمرُ القدحَ في دَلالةِ العقلِ وقُدُراتِه، ولكنَّ غايةَ ما يَعْني: أن العقلَ له حدودٌ لا يُمكِنُ أن يتجاوَزَها؛ فإن مَن يريدُ أن يُوزَنَ بالعقلِ كلُّ شيءٍ، حالُهُ كحالِ مَن رأى المِيزانَ الذي يُوزَنُ به الذهَبُ، فطَمِعَ أن يَزِنَ به الجِبالَ.

2- العقلُ لا يُدرِكُ جميعَ التفاصيلِ المتعلِّقةِ بما يَنفَعُهُ وما يضُرُّه:

فللعقلِ مجالٌ في إثباتِ صفاتِ الباري سبحانه وتعالى على جهةِ الإجمال:

فبالعقلِ: يُثبِتُ أهلُ السُّنَّةِ للهِ تعالى جنسَ صفاتِ الكلامِ، والسمعِ، والبصَرِ، والحِكْمة.

غيرَ أن العقلَ لا يستقِلُّ بمعرفةِ جميعِ التفاصيلِ المتعلِّقةِ بصفاتِ اللهِ تعالى، وإنما يُرجَعُ في ذلك إلى الوحيِ، فما أخبَرَتْ به الرسُلُ مِن تفصيلِ أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ لا يَعلَمُهُ الناسُ بعقولِهم، وإن كانوا قد يَعلَمون بعقولِهم جُمَلَ ذلك؛ ففي الفطرةِ: الإقرارُ بالكمالِ المطلَقِ الذي لا نقصَ فيه للخالقِ سبحانه، ولكنَّ معرفةَ هذا الكمالِ على التفصيلِ مما يَتوقَّفُ على الرسُل.

كما أن العقلَ يُدرِكُ حُسْنَ وقُبْحَ الأمورِ إدراكًا إجماليًّا، ولا يبلُغُ إلى معرفةِ التفاصيل، ويبقى الإنسانُ في حاجةٍ إلى معرفتِها، ومعرفةِ ضوابطِ تطبيقِها في الواقع؛ فيأتي الوحيُ بتوضيحِ تلك التفاصيلِ مِن عندِ الخالقِ الحكيم؛ فيكونُ تفصيلُهُ الأكملَ لجنسِ الإنسان، والأفضلَ لحالِه:

فالعقلُ يُدرِكُ حُسْنَ العدلِ، وأما كونُ هذا الفعلِ المعيَّنِ عدلًا أو ظلمًا، فهذا مما يَعجِزُ العقلُ عن إدراكِهِ في كلِّ فِعلٍ وعَقدٍ.

وكذلك: يَعجِزُ عن إدراكِ حُسنِ كلِّ فعلٍ وقُبحِه، إلى أن تأتِيَ الشرائعُ بتفصيلِ ذلك وتبيِّنَهُ.

وما أدرَكهُ العقلُ الصريحُ مِن ذلك، أتتِ الشرائعُ بتقريرِه، وما كان حَسَنًا في وقتٍ، وقبيحًا في وقتٍ، ولم يهتدِ العقلُ لوقتِ حُسنِهِ مِن وقتِ قُبحِهِ، أتتِ الشرائعُ بالأمرِ به في وقتِ حُسنِه، وبالنهيِ عنه في وقتِ قُبحِه.

وكذلك: الفعلُ يكونُ مشتمِلًا على مصلحةٍ ومفسدةٍ، ولا تَعلَمُ العقولُ مفسدتُهُ أرجحُ أم مصلحتُهُ، فيتوقَّفُ العقلُ في ذلك؛ فتأتي الشرائعُ ببيانِ ذلك، وتأمُرُ براجحِ المصلحة، وتَنْهى عن راجحِ المفسدة.

وكذلك: الفعلُ يكونُ مصلحةً لشخصٍ، مفسدةً لغيرِه، والعقلُ لا يُدرِكُ ذلك؛ فتأتي الشرائعُ ببيانِهِ؛ فتأمُرُ به مِن حيثُ هو مصلحةٌ له، وتَنْهى عنه مِن حيثُ هو مفسدةٌ في حقِّه.

وكذلك: الفعلُ يكونُ مفسدةً في الظاهرِ، وفي ضِمنِهِ مصلحةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل.

3- الاعتمادُ الخالصُ على العقلِ منفكًّا عن الوحيِ، يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرةٍ:

ومِن أظهرِ الشواهدِ التاريخيَّةِ على ذلك: أن أتباعَ نَزْعةِ التنويرِ في الفكرِ الغربيِّ، طَفِقوا يبشِّرون الناسَ بأنهم إذا تخلَّوْا عن الأديانِ المنزَّلةِ، واعتمَدوا على عقولِهم في بناءِ حياتِهم، وتشييدِ أنظِمَتِهم،

 سيَصِلون حتمًا إلى النعيمِ المُقيم، والحياةِ الفاضلةِ التي لا كدَرَ فيها ولا نصَبَ، ولكنها أدخَلتِ العقلَ الغربيَّ في فَوْضَى عارمةٍ مِن الانقساماتِ الفِكْريَّة، والتشظِّي المعرفيّ، ولم تحقِّقْ للإنسانيَّةِ الحياةَ الرغيدةَ التي وعَدوا بها، بل ازدادتِ المشاكلُ المُحيطةُ بالإنسان، وتعقَّدتِ الأمورُ فيها، وانتهى الأمرُ بكثيرٍ مِن التيَّاراتِ المؤثِّرةِ إلى اتِّخاذِ مواقفَ تؤدِّي بالحياةِ الإنسانيَّةِ إلى الفسادِ والدمار.

وحين رأى بعضُ فلاسفةِ الغربِ - مِثلُ (جان جاك رُوسُّو) - الآثارَ المدمِّرةَ التي يُمكِنُ أن تترتَّبَ على الدعوةِ إلى الاعتمادِ الخالصِ على العقلِ، حاوَلَ أن يأتِيَ بمصدرٍ جديدٍ يتخلَّصُ به مِن تلك الآثار،

 فابتكَرَ (مفهومَ الضمير)، ولكن (رُوسُّو) لم يبيِّنْ لنا حقيقةَ المقصودِ بـ «الضمير»، ولم يحدِّدْ معالِمَهُ وقوانينَهُ، ولم يَكشِفْ عن منطلَقاتِهِ ومستنَداتِه؛ 

فهو - في الحقيقةِ - لم يأتِ ببديلٍ جديدٍ مختلِفٍ في قُدُراتِهِ، ومصادرِهِ، وطبيعتِهِ، عن العقل؛ فحُكمُ البديلِ الذي أتى به حُكمُ العقلِ، ولا فرقَ!

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن البشَرَ - من وجهةِ نظَرِ السائلِ - ليسوا في حاجةٍ إلى النبوَّةِ في إصلاحِ حالِهم، وعَلاقتِهم مع الله، ويُمكِنُ - مِن وجهةِ نظَرِ السائلِ - تحقيقُ أعلى مراتبِ الصلاحِ والاستقامةِ مِن غيرِ أن يَنزِلَ إليهم وحيٌ مِن اللهِ لتوجيهِهم وإرشادِهم؛ فالبشَرُ لديهم مِن البدائلِ الصالحةِ - مِن وجهةِ نظَرِ السائلِ - كالعقلِ، والضمير: ما يُمكِنُ أن يحقِّقوا به المصالحَ التي يدَّعي المؤمِنون بالنبوَّةِ أنها لا تتحقَّقُ إلا بها.

مختصَرُ الإجابة:

الكلامُ المذكورُ مجرَّدُ إمكانٍ عقليٍّ؛ ولا ينبغي إبطالُ النبوَّةِ الثابتةِ بالأدلَّةِ بمثلِ هذه الافتراضاتِ ولو صحَّت؛ إذْ لا يبطُلُ صحيحٌ بصحيحٍ، بل يُجمَعُ بينهما؛

 فكيف وهي غيرُ صحيحةٍ، وغيرُ مطابِقةٍ للواقعِ، ويَعرِفُ بطلانَها كلُّ مَن عاشَرَ الناسَ، وعرَفَ حالَ الأفرادِ والمجتمَعات؟!

فالغرضُ الأساسيُّ للنبوَّةِ ليس إرشادَ الناسِ إلى ما يُمكِنُهم إدراكُهُ بعقولِهم؛ فإن مجالَ النبوَّةِ يتجاوَزُ القَدْرَ الذي يُمكِنُ للعقلِ الإنسانيِّ البلوغُ إليه بنفسِه،

 كما أن العقلَ الإنسانيَّ لا يُدرِكُ جميعَ التفاصيلِ المتعلِّقةِ بما يَنفَعُ الإنسانَ وما يضُرُّه؛ فالاعتمادُ الخالصُ على العقلِ منفكًّا عن الوحيِ، يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرةٍ.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

وهذه الشبهةُ قديمةٌ جِدًّا، ومِن أقدمِ مَنِ ادَّعاها بعضُ البَرَاهِمة؛ فقد نقَلَ عنهم عددٌ مِن المؤرِّخين والمصنِّفين في المقالاتِ القَدْحَ في النبوَّاتِ بـ «استغناءِ العقولِ عنها»،

ثم تكرَّرتْ هذه الدعوى بصورةٍ أخرى مع عصرِ التنويرِ الأوروبيِّ؛ فإن حركةَ التنويرِ كلَّها تقومُ على تأليهِ عقلِ الإنسان، وجعلِهِ الحكَمَ الذي لا معقِّبَ لحُكمِه، 

والقاضيَ الذي لا نقضَ لقضائِه، والمِيزانَ الذي لا جَوْرَ ولا انحرافَ في موازينِه.

وهي تعودُ في كلِّ عصرٍ بلغةٍ جديدة، ومع أنها لا تقفُ أمامَ الأدلَّة، لكنهم يحاوِلون أن يُضِلُّوا بها الذين يَسمَعونَها أوَّلَ مرَّة.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن البشَرَ - من وجهةِ نظَرِ السائلِ - ليسوا في حاجةٍ إلى النبوَّةِ في إصلاحِ حالِهم، وعَلاقتِهم مع الله، ويُمكِنُ - مِن وجهةِ نظَرِ السائلِ - تحقيقُ أعلى مراتبِ الصلاحِ والاستقامةِ مِن غيرِ أن يَنزِلَ إليهم وحيٌ مِن اللهِ لتوجيهِهم وإرشادِهم؛ فالبشَرُ لديهم مِن البدائلِ الصالحةِ - مِن وجهةِ نظَرِ السائلِ - كالعقلِ، والضمير: ما يُمكِنُ أن يحقِّقوا به المصالحَ التي يدَّعي المؤمِنون بالنبوَّةِ أنها لا تتحقَّقُ إلا بها.

مختصَرُ الإجابة:

الكلامُ المذكورُ مجرَّدُ إمكانٍ عقليٍّ؛ ولا ينبغي إبطالُ النبوَّةِ الثابتةِ بالأدلَّةِ بمثلِ هذه الافتراضاتِ ولو صحَّت؛ إذْ لا يبطُلُ صحيحٌ بصحيحٍ، بل يُجمَعُ بينهما؛

 فكيف وهي غيرُ صحيحةٍ، وغيرُ مطابِقةٍ للواقعِ، ويَعرِفُ بطلانَها كلُّ مَن عاشَرَ الناسَ، وعرَفَ حالَ الأفرادِ والمجتمَعات؟!

فالغرضُ الأساسيُّ للنبوَّةِ ليس إرشادَ الناسِ إلى ما يُمكِنُهم إدراكُهُ بعقولِهم؛ فإن مجالَ النبوَّةِ يتجاوَزُ القَدْرَ الذي يُمكِنُ للعقلِ الإنسانيِّ البلوغُ إليه بنفسِه،

 كما أن العقلَ الإنسانيَّ لا يُدرِكُ جميعَ التفاصيلِ المتعلِّقةِ بما يَنفَعُ الإنسانَ وما يضُرُّه؛ فالاعتمادُ الخالصُ على العقلِ منفكًّا عن الوحيِ، يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرةٍ.

الجواب التفصيلي

هذه الشبهةُ لا تَعْدو أن تكونَ مشاغَبةً كلاميَّةً تسعى إلى الانتصارِ للموقِفِ بأيِّ تركيبةٍ مِن الكلامِ يُدَّعى فيها أنها متضمِّنةٌ لحُجَّةٍ ملزِمةٍ؛ فإنها مبنيَّةٌ على سوءِ فهمٍ لطبيعةِ النبوَّة،

 ولوظيفتِها الأساسيَّة، وكشفُ هذه الشبهةِ يحتاجُ إلى تَجْليةِ أوجُهِ الاحتياجِ إلى النبوَّةِ والوحي.

وبيانُ ذلك تفصيلًا مِن وجوهٍ:

1- الغرضُ الأساسيُّ للنبوَّةِ ليس إرشادَ الناسِ إلى ما يُمكِنُهم إدراكُهُ بعقولِهم، ومجالُ النبوَّةِ يتجاوَزُ القَدْرَ الذي يُمكِنُ للعقلِ الإنسانيِّ البلوغُ إليه بنفسِه:

فإن الأنبياءَ لم يأتوا ليدُلُّوا الناسَ على ما يُمكِنُهم معرفتُه، وإنما أتَوْا ليُرشِدوهم إلى أمورٍ جليلةٍ عظيمةٍ لا يُمكِنُهم البلوغُ إليها إلا عن طريقِ الخبرِ مِن اللهِ تعالى؛

 فإن مِن أعظمِ وظائفِ الأنبياءِ: تعريفَ الناسِ بصفاتِ خالِقِهم، وكمالِهِ، وأسمائِهِ، وتعريفَهم بالأعمالِ التي تَضبِطُ عَلاقتَهم مع الله، وتَجعَلُها في أحسنِ حالٍ، وأكملِ صورةٍ؛ 

فيبيِّنون للناسِ ما يحبُّهُ اللهُ ويرضاهُ مِن الأقوالِ والأعمالِ والأفعالِ الظاهرةِ والباطنة، وما يَكرَهُهُ منها.

فالنبوَّةُ إذَنْ تتعلَّقُ مِن حيثُ الأساسُ بمجالاتٍ لا يُمكِنُ الوصولُ إليها على وجهِ الكمالِ والتفصيلِ إلا عن طريقِ النبوَّةِ فقطْ، وتَلِجُ في قضايا مغلَقةٍ أمام كلِّ الطرُقِ إلا طريقَها؛

 فلا غِنَى للبشَرِ عنها بحالٍ، ولا يُمكِنُهمُ الاكتفاءُ بما لدَيْهم مِن قُدُراتٍ البتَّةَ؛ فالقولُ بأن العقلَ الإنسانيَّ يكفي عن النبوَّةِ قولٌ ساقطٌ.

فمع تسليمِنا: بأن النبوَّةَ لا تخالِفُ ما تقرِّرُهُ العقولُ السليمة، إلا أن مَجَالَها يتجاوَزُ القَدْرَ الذي يُمكِنُ للعقلِ الإنسانيِّ البلوغُ إليه بنفسِهِ؛ فهي تُخبِرُ عن الغيوبِ المتعلِّقةِ بإرادةِ الله، ومحبَّتِه، 

ومشيئتِه، وأفعالِه، وما يُعِدُّ اللهُ سبحانه مِن الثوابِ للطائِعين، والعقابِ للعاصِين، وهذه الغيوبُ لا يُمكِنُ للعقلِ الإنسانيِّ الوصولُ إليها بنفسِهِ أبدًا.

ومِن أين له معرفةُ تفاصيلِ شرعِهِ ودينِهِ الذي شرَعهُ لعبادِه؟! ومِن أين له تفاصيلُ مواقعِ محبَّتِهِ ورضاهُ، وما أعَدَّ لأعدائِه، ومقاديرِ الثوابِ والعقاب،

 وكيفيَّتِهما، ودرَجاتِهما؟! ومِن أين له معرفةُ الغيبِ الذي لم يُظهِرِ اللهُ عليه أحدًا مِن خلقِهِ إلا مَن ارتضاهُ مِن رسُلِه؟! إلى غيرِ ذلك مما جاءت به الرسُلُ، وبلَّغتْهُ عن الله، وليس في العقلِ طريقٌ إلى معرفتِه.

ولا يَعْني هذا الأمرُ القدحَ في دَلالةِ العقلِ وقُدُراتِه، ولكنَّ غايةَ ما يَعْني: أن العقلَ له حدودٌ لا يُمكِنُ أن يتجاوَزَها؛ فإن مَن يريدُ أن يُوزَنَ بالعقلِ كلُّ شيءٍ، حالُهُ كحالِ مَن رأى المِيزانَ الذي يُوزَنُ به الذهَبُ، فطَمِعَ أن يَزِنَ به الجِبالَ.

2- العقلُ لا يُدرِكُ جميعَ التفاصيلِ المتعلِّقةِ بما يَنفَعُهُ وما يضُرُّه:

فللعقلِ مجالٌ في إثباتِ صفاتِ الباري سبحانه وتعالى على جهةِ الإجمال:

فبالعقلِ: يُثبِتُ أهلُ السُّنَّةِ للهِ تعالى جنسَ صفاتِ الكلامِ، والسمعِ، والبصَرِ، والحِكْمة.

غيرَ أن العقلَ لا يستقِلُّ بمعرفةِ جميعِ التفاصيلِ المتعلِّقةِ بصفاتِ اللهِ تعالى، وإنما يُرجَعُ في ذلك إلى الوحيِ، فما أخبَرَتْ به الرسُلُ مِن تفصيلِ أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ لا يَعلَمُهُ الناسُ بعقولِهم، وإن كانوا قد يَعلَمون بعقولِهم جُمَلَ ذلك؛ ففي الفطرةِ: الإقرارُ بالكمالِ المطلَقِ الذي لا نقصَ فيه للخالقِ سبحانه، ولكنَّ معرفةَ هذا الكمالِ على التفصيلِ مما يَتوقَّفُ على الرسُل.

كما أن العقلَ يُدرِكُ حُسْنَ وقُبْحَ الأمورِ إدراكًا إجماليًّا، ولا يبلُغُ إلى معرفةِ التفاصيل، ويبقى الإنسانُ في حاجةٍ إلى معرفتِها، ومعرفةِ ضوابطِ تطبيقِها في الواقع؛ فيأتي الوحيُ بتوضيحِ تلك التفاصيلِ مِن عندِ الخالقِ الحكيم؛ فيكونُ تفصيلُهُ الأكملَ لجنسِ الإنسان، والأفضلَ لحالِه:

فالعقلُ يُدرِكُ حُسْنَ العدلِ، وأما كونُ هذا الفعلِ المعيَّنِ عدلًا أو ظلمًا، فهذا مما يَعجِزُ العقلُ عن إدراكِهِ في كلِّ فِعلٍ وعَقدٍ.

وكذلك: يَعجِزُ عن إدراكِ حُسنِ كلِّ فعلٍ وقُبحِه، إلى أن تأتِيَ الشرائعُ بتفصيلِ ذلك وتبيِّنَهُ.

وما أدرَكهُ العقلُ الصريحُ مِن ذلك، أتتِ الشرائعُ بتقريرِه، وما كان حَسَنًا في وقتٍ، وقبيحًا في وقتٍ، ولم يهتدِ العقلُ لوقتِ حُسنِهِ مِن وقتِ قُبحِهِ، أتتِ الشرائعُ بالأمرِ به في وقتِ حُسنِه، وبالنهيِ عنه في وقتِ قُبحِه.

وكذلك: الفعلُ يكونُ مشتمِلًا على مصلحةٍ ومفسدةٍ، ولا تَعلَمُ العقولُ مفسدتُهُ أرجحُ أم مصلحتُهُ، فيتوقَّفُ العقلُ في ذلك؛ فتأتي الشرائعُ ببيانِ ذلك، وتأمُرُ براجحِ المصلحة، وتَنْهى عن راجحِ المفسدة.

وكذلك: الفعلُ يكونُ مصلحةً لشخصٍ، مفسدةً لغيرِه، والعقلُ لا يُدرِكُ ذلك؛ فتأتي الشرائعُ ببيانِهِ؛ فتأمُرُ به مِن حيثُ هو مصلحةٌ له، وتَنْهى عنه مِن حيثُ هو مفسدةٌ في حقِّه.

وكذلك: الفعلُ يكونُ مفسدةً في الظاهرِ، وفي ضِمنِهِ مصلحةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل.

3- الاعتمادُ الخالصُ على العقلِ منفكًّا عن الوحيِ، يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرةٍ:

ومِن أظهرِ الشواهدِ التاريخيَّةِ على ذلك: أن أتباعَ نَزْعةِ التنويرِ في الفكرِ الغربيِّ، طَفِقوا يبشِّرون الناسَ بأنهم إذا تخلَّوْا عن الأديانِ المنزَّلةِ، واعتمَدوا على عقولِهم في بناءِ حياتِهم، وتشييدِ أنظِمَتِهم،

 سيَصِلون حتمًا إلى النعيمِ المُقيم، والحياةِ الفاضلةِ التي لا كدَرَ فيها ولا نصَبَ، ولكنها أدخَلتِ العقلَ الغربيَّ في فَوْضَى عارمةٍ مِن الانقساماتِ الفِكْريَّة، والتشظِّي المعرفيّ، ولم تحقِّقْ للإنسانيَّةِ الحياةَ الرغيدةَ التي وعَدوا بها، بل ازدادتِ المشاكلُ المُحيطةُ بالإنسان، وتعقَّدتِ الأمورُ فيها، وانتهى الأمرُ بكثيرٍ مِن التيَّاراتِ المؤثِّرةِ إلى اتِّخاذِ مواقفَ تؤدِّي بالحياةِ الإنسانيَّةِ إلى الفسادِ والدمار.

وحين رأى بعضُ فلاسفةِ الغربِ - مِثلُ (جان جاك رُوسُّو) - الآثارَ المدمِّرةَ التي يُمكِنُ أن تترتَّبَ على الدعوةِ إلى الاعتمادِ الخالصِ على العقلِ، حاوَلَ أن يأتِيَ بمصدرٍ جديدٍ يتخلَّصُ به مِن تلك الآثار،

 فابتكَرَ (مفهومَ الضمير)، ولكن (رُوسُّو) لم يبيِّنْ لنا حقيقةَ المقصودِ بـ «الضمير»، ولم يحدِّدْ معالِمَهُ وقوانينَهُ، ولم يَكشِفْ عن منطلَقاتِهِ ومستنَداتِه؛ 

فهو - في الحقيقةِ - لم يأتِ ببديلٍ جديدٍ مختلِفٍ في قُدُراتِهِ، ومصادرِهِ، وطبيعتِهِ، عن العقل؛ فحُكمُ البديلِ الذي أتى به حُكمُ العقلِ، ولا فرقَ!

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

وهذه الشبهةُ قديمةٌ جِدًّا، ومِن أقدمِ مَنِ ادَّعاها بعضُ البَرَاهِمة؛ فقد نقَلَ عنهم عددٌ مِن المؤرِّخين والمصنِّفين في المقالاتِ القَدْحَ في النبوَّاتِ بـ «استغناءِ العقولِ عنها»،

ثم تكرَّرتْ هذه الدعوى بصورةٍ أخرى مع عصرِ التنويرِ الأوروبيِّ؛ فإن حركةَ التنويرِ كلَّها تقومُ على تأليهِ عقلِ الإنسان، وجعلِهِ الحكَمَ الذي لا معقِّبَ لحُكمِه، 

والقاضيَ الذي لا نقضَ لقضائِه، والمِيزانَ الذي لا جَوْرَ ولا انحرافَ في موازينِه.

وهي تعودُ في كلِّ عصرٍ بلغةٍ جديدة، ومع أنها لا تقفُ أمامَ الأدلَّة، لكنهم يحاوِلون أن يُضِلُّوا بها الذين يَسمَعونَها أوَّلَ مرَّة.