نص السؤال
المصدر: شبهات المشككين في الإسلام
الجواب التفصيلي
ادعاء أن سليمان - عليه السلام - ليس نبيا، وأنه ساحر (*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المتوهمين نبوة سليمان عليه السلام، ويدعون أنه - عليه السلام - ساحر، ويستدلون على زعمهم هذا بأن الشياطين كتبوا السحر في كتاب، وختموه بخاتم سليمان.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد أيد الله تعالى سليمان - عليه السلام - بالآيات المعجزات التي تثبت صدق نبوته؛ من ذلك: تسخير الجن والشياطين، ومعرفة منطق النمل والطير وتسبيحهم، وتسخير الريح، ولم تكن هذه المسخرات من تعاطي سليمان للسحر.
2) لقد أنزل الله - عز وجل - آيات يبرئ فيها سليمان - عليه السلام - من أنه صار ملكا وثريا بفضل ما تعلمه من السحر، كما أوضح الله - عز وجل - في تلك الآيات أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، وليس من سليمان عليه السلام.
3) هناك كثير من العبر التي تستفاد من قصة سليمان عليه السلام؛ مما يدل علي أن هذه قصة نبي وليست قصة ساحر.
التفصيل:
أولا. لقد أيد الله - سبحانه وتعالى - سليمان - عليه السلام - بالآيات المعجزات التي تثبت صدق نبوته:
كان نبي الله سليمان - عليه السلام - بارا بوالديه مطيعا لهما، وقد حباه الله - سبحانه وتعالى - كثيرا من الخصال والصفات إثر دعوته لله - عز وجل - أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فضلا عن وراثة النبوة عن أبيه داود عليه السلام، وعن هذا يحدثنا الأستاذ أحمد الصباحي فيذكر
قول الله سبحانه وتعالى:
(وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)
(النمل:16)
فسليمان ورث أباه في نبوته وحكمه وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود - عليه السلام - أولاد أصغرهم سليمان، ومعلوم أن الأنبياء - عليهم السلام - لا يورثون مالا ولا جاها، وإنما يورثون العلم والحكمة.
قال سبحانه وتعالى:
(ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين)
(النمل:15)
وقال الله - سبحانه وتعالى - إخبارا عنه:
(قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب)
(ص:35)
فأجاب الله دعاءه وأكرمه بخصائص لم يكرم بها أحدا من قبله ولا من بعده؛ منها:
· تسخير الريح:
قال الله سبحانه وتعالى:
(فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب)
(ص:36)
أي: حيث أراد، وفي آية أخرى:
(ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين)
(الأنبياء:81)
أي: الريح العاصفة تجري بأمره رخاء.
·تعلم منطق النمل: علمه الله منطق النمل والدواب؛ كما في
قوله سبحانه وتعالى:
(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17) حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمـل صالحـا ترضـاه وأدخلنـي برحمتـك في عبــادك الصالحين (19)
(النمل).
·تعلم منطق الطير وتسبيحه: من آيات الله ونعمه على سليمان - عليه السلام - أن علمه منطق الطير؛
كما في قوله سبحانه وتعالى:
(وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطـق الطيـر وأوتينــا مــن كـل شيء إن هـذا لهــو الفضـل المبيـن)
(النمل:16)
والمراد بقول: )من كل شيء( كثرة نعم الله عليه ومنها: تعليمه كلام الطير وتسبيحه.
·تسخير الجن والشياطين: أخبر الله - عز وجل - في كتابه الكريم بأنه سخر الجن لسليمان - عليه السلام -
إذ قال:
(ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13)
(سبأ).
فبعد أن ذكر الله تسخير الريح له تجري بأمره رخاء حيث أصاب،
قال:
(والشياطين كل بناء وغواص)
(ص:37)
وقال سبحانه وتعالى:
(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون)
(النمل:17)
وذلك بأن الله تعالى وكل بهم ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان - عليه السلام - ضربه ضربة أحرقته، فكانت الجن والشياطين تطيعه وتنفذ أمره، وكانوا يعملون له ما يشاء من أضخم المباني والعمائر والتماثيل والقدور الراسيات والجفان التي كأنها حياض السفن العظام[1].
ثانيا. بين الله تعالى أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر وليس من سليمان عليه السلام:
لقد أنزل الله تعالى آيات تبرئ سليمان - عليه السلام - مما زعمه المدعون من أنه صار ملكا وثريا بفضل ما تعلمه من السحر، كما أوضحت الآيات أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، وليس من سليمان عليه السلام.
ولما توفي سليمان - عليه السلام - وجدت فرقة من بني إسرائيل تعلم السحر بعده، بدعوى أن السحر كان علم سليمان ولا شيء سواه.
فالشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم استخرجوا علما يغيرون به الأشياء بسرعة أكبر من سرعة البشر وبدقة أكبر، فذلك مما علموه لهاروت وماروت، فكانا يعلمان الناس بدورهم أحاجي يفرقون بها بين المرء وزوجه. فهل كانت أحاجيهم تفعل فعلها وتؤتي ثمارها؟
يقول القرآن:
(واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)
(البقرة:102)
إذن فلم يكن سليمان - عليه السلام - يستعمل السحر، ولا كان يتعلمه ولا كان يعلمه وكما قال الله سبحانه وتعالى: )وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا(؛ لأنهم بعده صاروا يعلمون السحر، وأما سليمان فكان التقي الورع.
ويعلق الشيخ الشعراوي على ذلك قائلا: "وهكذا يتضح لنا أن بعضا من بني إسرائيل قد ترك كتاب الله المصدق لما معهم من التوراة، ولم يقفوا عند الترك لآيات الحق، بل اتبعوا ما جاء به الباطل.. فالكتاب الذي كان يجب أن يتبعوه تركوه وخالفوه، والبهتان الذي كان يجب أن يجتنبوه اتبعوه، وهذا سلوك مخالف لقضية الحق بين الخير والشر.
والآية الكريمة تعرضت لأمر قد شاع عند بعض من بني إسرائيل، لقد قالوا: إن سليمان إنما صار ملكا ثريا بفضل ما تعلمه من سحر، وهذا قول باطل برأ الله منه سليمان - عليه السلام - في قوله عز وجل: )وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا( إن سليمان لم يكفر، وإنما تلقى نعمة الله بالعرفان والشكر، وسخر الله له ما شاء من خلقه؛ تكريما له وإرادة الحق في ذلك لها حكمة بالغة، ومن حكمته تعالى أن يعطيه ملكا لا ينبغي لأحد من العالمين، لقد شاءت إرادة الحق ذلك، ليكون سليمان رسولا له مكانه في قومه؛ أي: مكانة تليق بالزمن الذي جاء فيه سليمان.
إن المتأمل للموكب الرسالي يجد أن كل رسول قد صادف في قومه المكابرين والمعاندين والكافرين والمتربصين به الدوائر، لماذا؟ لأن الرسول لا يجيء إلا وقد استشرى الشر، وما دام الشر قد استشرى فلا بد أن يكون للشر قوم ينتفعون به، وحين يأتي رسول لينهي سيادة الشر في الأرض، فهو يواجه أول ما يواجه المنتفعين بالشر، ولا يتبع النبي إلا الضعفاء؛ ليخلصهم الرسول برسالته من شر الأقوياء، وقد أراد الله برسالة سليمان - عليه السلام - أن يبين لنا طبيعة الإنسان.. حين يؤيد رسولا بملك لا يمكن لأحد أن يخالفه، إنه رسول وملك من نوع خاص.
فالملوك يملكون ما يدخل تحت قدرتهم بالإمكانيات المادية، لكن الله أعطى سليمان - عليه السلام - ملكا لا ينبغي لأحد من العالمين؛ لأنه سخر له القوى التي لا يمكن أن تسخر لبشر عادي، فكأن الله يريد أن ينبه الإنسان أنه لو أراد حكما من السماء مسنودا بحكم ملكي، فلن يستطيع إنسان أن يرفع رأسه؛ لأن الخالق - عز وجل - قادر على أن يسخر لمثل ذلك الحكم ما يجعله يقهر الجميع على أن يذعنوا له، لكن الحق لا يريد ذلك، إنما يريد سبحانه طواعية الإيمان واختيارية اليقين؛ لذلك يترك الرسل ضعفاء ليعلم من يقبل عليهم بنداء الإيمان لا بمجرد القهر؛ ولذلك خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون نبيا ملكا فرفض لماذا؟ لأنه إذا كان ملكا نبيا ستكون له من أسباب القوة ما لا يستطيع أحد أن يخالف دعوته قهرا وعنوة، لذلك اختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسالة والنبوة دون الملك... اختار أن يدعو الناس إلى الله فيأتونه رغبا في منهج الله لا رهبا من ملكه هو، ولقد اتهم بعض بني إسرائيل سليمان - عليه السلام - بأنه كفر، ويقرر الحق عدم كفره فيقول عز وجل: )وما كفر سليمان( ويدلنا على أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، ونكتشف من ذلك أن النبي سليمان لم يكن يعلم السحر وأن ملكه واستتباب الأمر له لم تكن قضية سحر إنما هي مشيئة الحق سبحانه وتعالى"[2].
ثالثا. هناك العديد من العبر التي تستفاد من قصة سليمان عليه السلام:
يشير الأستاذ محمد بسام الزين إلى أن قصة سليمان - عليه السلام - اشتملت على عديد من الحكم والمواعظ، منها:
1. المملكة الصالحة:
بنى نبي الله سليمان - عليه السلام - المملكة الصالحة، وكان للحضارة في مملكته جانبان:
أحدهما: صناعي وعمراني، وهذه تسمى في عصرنا بالمدنية.
الآخر: أخلاقي وروحي، وهذه تسمى في عصرنا بالإنسانية.
ولا يجوز بحال من الأحوال أن ينشغل الإنسان بالحضارة المدنية لذاتها دون أن يسخرها لخدمة الحضارة الإنسانية، وإن الدارس لسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسى أسس الحضارة الإنسانية دون أن يغفل العناية بالحضارة المدنية.
أما حضارة القرن العشرين فهي حضارة مدنية فيها قلوب الناس كالأحجار، تتسابق فيها الأمم بناطحات السحاب، والقصور المشيدة والصناعات الحربية والمدنية، غير أن الإنسان فيها مسحوق مظلوم، ليس له من الحقوق المقررة في الأمم المتحدة سوى الشعارات البراقة واللافتات الكبيرة، والنداءات التي لا يستجيب لها ضمير.
2. حسن استغلال الطاقات التي سخرها الله له بالبناء فملكة الصالحة:
استعمل نبي الله سليمان - عليه السلام - لبناء المملكة الصالحة كل الطاقات التي سخرها الله له؛ إذ استغل الريح وحركتها، واستغل البحار وغاص فيها، واستخرج المواد الخام وصنعها، واستغل الطير في جو السماء، وكان كل عضو أو جندي في مملكته له مكانه المناسب، حيث تتضافر الجهود في عملية البناء، وتتعاون الأيدي لتحقيق أهداف المملكة الصالحة، التي لا تؤذى فيها نملة، ولا تهدر فيها طاقة.
وقد ضل قوم سبأ إذ لم يضعوا الأشياء في مواضعها، فبدلا من أن يستغلوا منافع الشمس عبدوها من دون الله، كما ضل الإنسان قديما إذ عبد الرياح بدلا من الإفادة من حركتها!! والمشركون ضلوا أيضا إذ عبدوا الحجر بدلا من تسخيره في البناء، وإن الله أرسل الأنبياء والمرسلين لتخليص الناس من الوثنية، وإزالة التحجر عن عقولهم، وتطهير اعتقادهم من الضلال، وإرشادهم إلى وضع كل شيء في مكانه المناسب.
أما إنسان اليوم فعلى الرغم من أنه استفاد مما سخره الله للإنسان إذ تمكن من استغلال حركة الرياح، وأرسل الطائرة في جو السماء، واستفاد من الطاقة الشمسية واستخرج الحديد والمواد الخام وقام بتصنيعها، على الرغم من ذلك كله فإنه لم يضع الأشياء في مواضعها؛ إذ ما زال المال الغاية المنشودة عنده، يكنزه ويشعل الحروب ويفتعل الفتن لأجل تحصيل المزيد من الأموال والأرباح. ولذلك فهو لا ينعم بالسعادة وفي الحديث: «تعس عبد الدينار والدرهم»[3]؛ أي: لن يذوق السعادة.
3. مكاتبة الملوك:
· ولو دققنا النظر في كتاب نبي الله سليمان - عليه السلام - إلى ملكة سبأ نجده يحتوي على كلمات قليلة ومركزة:
(اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (28) قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين (31)
(النمل)
، وفي السنة السابعة للهجرة بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسائل إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام بعبارات مختصرة مفيدة تشبه إلى حد كبير كتاب سليمان عليه السلام:
· فقد أرسل كتابا إلى هرقل عظيم الروم، حمله دحية بن خليفة الكلبي، جاء فيه: «أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين»[4].
· وأرسل كتابا إلى كسرى عظيم الفرس، حمله عبد الله بن حذافة السهمي جاء فيه "أسلم تسلم فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك "[5].
· وأرسل كتابا إلى النجاشي ملك الحبشة، حمله عمرو بن أمية الضمري.
· وأرسل كتابا إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، حمله العلاء بن الحضرمي.
· وأرسل كتابا إلى المقوقس عظيم القبط، حمله حاطب بن أبي بلتعة.
· وأرسل كتابا إلى جيفر بن الجلندي ملك عمان، حمله عمرو بن العاص.
4. الشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون:
إن ضعاف النفوس يعيشون حياتهم في الأوهام، ويكثر حديثهم عن السحر والجن والربط والنفاثات في العقد؛ إذ تملأ رءوسهم الوساوس من الخناس، ويلقون أسباب الإخفاق في حياتهم الزوجية والمهنية والاجتماعية على الجن والشياطين، وقد يفسرون بعض الأمراض بأنها ناجمة عن جني أو شيطان!!
وللبيان نضع بين يدي القارئ الحقائق التالية:
· الجن حقيقة غيبية أخبرنا الله بها، وحدثنا أنه يوجد عالم آخر غير عالم الإنس، وهم مخلوقات نارية، منهم المؤمن ومنهم الكافر، وقد استمع نفر منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن، وقد سميت سورة في القرآن باسمهم، غير أن القرآن الكريم أكد على أمرين:
o أن الجن لا سلطان لهم على المؤمنين، وذلك في قوله - سبحانه وتعالى - عن الشيطان: )إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99)( (النحل). بل إن الله سبحانه قد جعل لنبيه سليمان - عليه السلام - سلطانا عليهم وسخرهم له كما ذكرنا آنفا.
o أن الجن لا يعلمون الغيب الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، وقد حرس الله السماء بمبعث نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن استرق السمع أتبعه شهاب ثاقب، وقد حكى القرآن عن الجن قولهم: )وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9)( (الجن). وهذه قصة سليمان - عليه السلام - فيها دليل قاطع على أن الجن لا يعلمون الغيب؛ إذ قد مات سليمان وهم بين يديه ولم يعلموا بموته!
وبناء على ذلك فقد حرم الإسلام أن يذهب مسلم إلى كاهن أو عراف؛ ليسأله ويصدقه قال صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم»[6].
· إن الله تعالى ذم فريقا من بني اسرائيل إذ نبذوا التوراة وراء ظهورهم، واتبعوا أوامر الشيطان، وضلالات السحرة؛ كما جاء في القرآن الكريم:
(ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101) واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)
(البقرة)
، وإن الله سبحانه قد أنزل في القرآن الكريم تشريعات صالحة لكل زمان ومكان، ذكر فيها أسس الحياة الاجتماعية السليمة؛ إذ بين كيفية العلاقة الزوجية الصحيحة، ووضع قوانين المعاملات المادية بين الناس، ووضح طريقة النجاح في الحياة الإنسانية. وإنه لمن الضلال أن ينبذ المسلم مبادئ القرآن وراء ظهره كأنه لا يعلمها، ثم يمضي إلى السحرة أو الكهنة أو المشعوذين ليستفتيهم في أمور حياته، أو ليسألهم عن أسباب إخفاقه[7]!!
انطلاقا مما سبق يتضح لكل ذي عقل وبصيرة أن سليمان نبي الله ورسوله اختصه الله بكثير من النعم والفضائل والمعجزات، وقابل - عليه السلام - هذه النعم بالشكر والإيمان وليس كما يدعي الواهمون من تعلمه السحر، بل هو الرسول المعصوم من ذلك؛ فعليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
الخلاصة:
· سليمان - عليه السلام - نبي من أنبياء الله تعالى، وقد أيده الله بالعديد من الآيات والمعجزات التي تدل على صدق نبوته منها: تسخير الجن والشياطين، وتعلم منطق الطير، ومنطق النمل، وتسخير الريح وغيرها.
· الله - سبحانه وتعالى - برأ سليمان - عليه السلام - من الدعاوى التي زعمها الزاعمون من أنه صار ملكا ثريا بفضل ما تعلمه من السحر، فلم يكن سليمان يستعمل السحر ولا كان يتعلمه ولا كان يعلمه، كما أن سليمان - عليه السلام - لم يكفر وإنما تلقى نعمة ربه بالشكر والعرفان.
· هناك العديد من العبر التي تستفاد من قصة سليمان - عليه السلام - منها خصائص المملكة الصالحة، وحسن استغلال الطاقات المختلفة لبناء تلك المملكة، وطريقة مكاتبة الملوك، وكذلك ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
المراجع
- (*) العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي، د. أحمد بن عبد الله الزغبي، مكتبة العبيكان، السعودية، ط1، 1998م.
- حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص247: 253 بتصرف.
- قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص383، 384.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2730).
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، وفي مواضع أخري، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).
- حسن: أخرجه الطبري في تاريخ الأمم والملوك (2/ 133)، وحسنه الألباني في فقه السيرة (356).
- حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (9532)، وحسنه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
- مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام رشدي الزين، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 2001م، ص295: 299.
الجواب التفصيلي
ادعاء أن سليمان - عليه السلام - ليس نبيا، وأنه ساحر (*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المتوهمين نبوة سليمان عليه السلام، ويدعون أنه - عليه السلام - ساحر، ويستدلون على زعمهم هذا بأن الشياطين كتبوا السحر في كتاب، وختموه بخاتم سليمان.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد أيد الله تعالى سليمان - عليه السلام - بالآيات المعجزات التي تثبت صدق نبوته؛ من ذلك: تسخير الجن والشياطين، ومعرفة منطق النمل والطير وتسبيحهم، وتسخير الريح، ولم تكن هذه المسخرات من تعاطي سليمان للسحر.
2) لقد أنزل الله - عز وجل - آيات يبرئ فيها سليمان - عليه السلام - من أنه صار ملكا وثريا بفضل ما تعلمه من السحر، كما أوضح الله - عز وجل - في تلك الآيات أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، وليس من سليمان عليه السلام.
3) هناك كثير من العبر التي تستفاد من قصة سليمان عليه السلام؛ مما يدل علي أن هذه قصة نبي وليست قصة ساحر.
التفصيل:
أولا. لقد أيد الله - سبحانه وتعالى - سليمان - عليه السلام - بالآيات المعجزات التي تثبت صدق نبوته:
كان نبي الله سليمان - عليه السلام - بارا بوالديه مطيعا لهما، وقد حباه الله - سبحانه وتعالى - كثيرا من الخصال والصفات إثر دعوته لله - عز وجل - أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فضلا عن وراثة النبوة عن أبيه داود عليه السلام، وعن هذا يحدثنا الأستاذ أحمد الصباحي فيذكر
قول الله سبحانه وتعالى:
(وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)
(النمل:16)
فسليمان ورث أباه في نبوته وحكمه وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود - عليه السلام - أولاد أصغرهم سليمان، ومعلوم أن الأنبياء - عليهم السلام - لا يورثون مالا ولا جاها، وإنما يورثون العلم والحكمة.
قال سبحانه وتعالى:
(ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين)
(النمل:15)
وقال الله - سبحانه وتعالى - إخبارا عنه:
(قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب)
(ص:35)
فأجاب الله دعاءه وأكرمه بخصائص لم يكرم بها أحدا من قبله ولا من بعده؛ منها:
· تسخير الريح:
قال الله سبحانه وتعالى:
(فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب)
(ص:36)
أي: حيث أراد، وفي آية أخرى:
(ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين)
(الأنبياء:81)
أي: الريح العاصفة تجري بأمره رخاء.
·تعلم منطق النمل: علمه الله منطق النمل والدواب؛ كما في
قوله سبحانه وتعالى:
(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17) حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمـل صالحـا ترضـاه وأدخلنـي برحمتـك في عبــادك الصالحين (19)
(النمل).
·تعلم منطق الطير وتسبيحه: من آيات الله ونعمه على سليمان - عليه السلام - أن علمه منطق الطير؛
كما في قوله سبحانه وتعالى:
(وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطـق الطيـر وأوتينــا مــن كـل شيء إن هـذا لهــو الفضـل المبيـن)
(النمل:16)
والمراد بقول: )من كل شيء( كثرة نعم الله عليه ومنها: تعليمه كلام الطير وتسبيحه.
·تسخير الجن والشياطين: أخبر الله - عز وجل - في كتابه الكريم بأنه سخر الجن لسليمان - عليه السلام -
إذ قال:
(ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13)
(سبأ).
فبعد أن ذكر الله تسخير الريح له تجري بأمره رخاء حيث أصاب،
قال:
(والشياطين كل بناء وغواص)
(ص:37)
وقال سبحانه وتعالى:
(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون)
(النمل:17)
وذلك بأن الله تعالى وكل بهم ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان - عليه السلام - ضربه ضربة أحرقته، فكانت الجن والشياطين تطيعه وتنفذ أمره، وكانوا يعملون له ما يشاء من أضخم المباني والعمائر والتماثيل والقدور الراسيات والجفان التي كأنها حياض السفن العظام[1].
ثانيا. بين الله تعالى أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر وليس من سليمان عليه السلام:
لقد أنزل الله تعالى آيات تبرئ سليمان - عليه السلام - مما زعمه المدعون من أنه صار ملكا وثريا بفضل ما تعلمه من السحر، كما أوضحت الآيات أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، وليس من سليمان عليه السلام.
ولما توفي سليمان - عليه السلام - وجدت فرقة من بني إسرائيل تعلم السحر بعده، بدعوى أن السحر كان علم سليمان ولا شيء سواه.
فالشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم استخرجوا علما يغيرون به الأشياء بسرعة أكبر من سرعة البشر وبدقة أكبر، فذلك مما علموه لهاروت وماروت، فكانا يعلمان الناس بدورهم أحاجي يفرقون بها بين المرء وزوجه. فهل كانت أحاجيهم تفعل فعلها وتؤتي ثمارها؟
يقول القرآن:
(واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)
(البقرة:102)
إذن فلم يكن سليمان - عليه السلام - يستعمل السحر، ولا كان يتعلمه ولا كان يعلمه وكما قال الله سبحانه وتعالى: )وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا(؛ لأنهم بعده صاروا يعلمون السحر، وأما سليمان فكان التقي الورع.
ويعلق الشيخ الشعراوي على ذلك قائلا: "وهكذا يتضح لنا أن بعضا من بني إسرائيل قد ترك كتاب الله المصدق لما معهم من التوراة، ولم يقفوا عند الترك لآيات الحق، بل اتبعوا ما جاء به الباطل.. فالكتاب الذي كان يجب أن يتبعوه تركوه وخالفوه، والبهتان الذي كان يجب أن يجتنبوه اتبعوه، وهذا سلوك مخالف لقضية الحق بين الخير والشر.
والآية الكريمة تعرضت لأمر قد شاع عند بعض من بني إسرائيل، لقد قالوا: إن سليمان إنما صار ملكا ثريا بفضل ما تعلمه من سحر، وهذا قول باطل برأ الله منه سليمان - عليه السلام - في قوله عز وجل: )وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا( إن سليمان لم يكفر، وإنما تلقى نعمة الله بالعرفان والشكر، وسخر الله له ما شاء من خلقه؛ تكريما له وإرادة الحق في ذلك لها حكمة بالغة، ومن حكمته تعالى أن يعطيه ملكا لا ينبغي لأحد من العالمين، لقد شاءت إرادة الحق ذلك، ليكون سليمان رسولا له مكانه في قومه؛ أي: مكانة تليق بالزمن الذي جاء فيه سليمان.
إن المتأمل للموكب الرسالي يجد أن كل رسول قد صادف في قومه المكابرين والمعاندين والكافرين والمتربصين به الدوائر، لماذا؟ لأن الرسول لا يجيء إلا وقد استشرى الشر، وما دام الشر قد استشرى فلا بد أن يكون للشر قوم ينتفعون به، وحين يأتي رسول لينهي سيادة الشر في الأرض، فهو يواجه أول ما يواجه المنتفعين بالشر، ولا يتبع النبي إلا الضعفاء؛ ليخلصهم الرسول برسالته من شر الأقوياء، وقد أراد الله برسالة سليمان - عليه السلام - أن يبين لنا طبيعة الإنسان.. حين يؤيد رسولا بملك لا يمكن لأحد أن يخالفه، إنه رسول وملك من نوع خاص.
فالملوك يملكون ما يدخل تحت قدرتهم بالإمكانيات المادية، لكن الله أعطى سليمان - عليه السلام - ملكا لا ينبغي لأحد من العالمين؛ لأنه سخر له القوى التي لا يمكن أن تسخر لبشر عادي، فكأن الله يريد أن ينبه الإنسان أنه لو أراد حكما من السماء مسنودا بحكم ملكي، فلن يستطيع إنسان أن يرفع رأسه؛ لأن الخالق - عز وجل - قادر على أن يسخر لمثل ذلك الحكم ما يجعله يقهر الجميع على أن يذعنوا له، لكن الحق لا يريد ذلك، إنما يريد سبحانه طواعية الإيمان واختيارية اليقين؛ لذلك يترك الرسل ضعفاء ليعلم من يقبل عليهم بنداء الإيمان لا بمجرد القهر؛ ولذلك خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون نبيا ملكا فرفض لماذا؟ لأنه إذا كان ملكا نبيا ستكون له من أسباب القوة ما لا يستطيع أحد أن يخالف دعوته قهرا وعنوة، لذلك اختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسالة والنبوة دون الملك... اختار أن يدعو الناس إلى الله فيأتونه رغبا في منهج الله لا رهبا من ملكه هو، ولقد اتهم بعض بني إسرائيل سليمان - عليه السلام - بأنه كفر، ويقرر الحق عدم كفره فيقول عز وجل: )وما كفر سليمان( ويدلنا على أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، ونكتشف من ذلك أن النبي سليمان لم يكن يعلم السحر وأن ملكه واستتباب الأمر له لم تكن قضية سحر إنما هي مشيئة الحق سبحانه وتعالى"[2].
ثالثا. هناك العديد من العبر التي تستفاد من قصة سليمان عليه السلام:
يشير الأستاذ محمد بسام الزين إلى أن قصة سليمان - عليه السلام - اشتملت على عديد من الحكم والمواعظ، منها:
1. المملكة الصالحة:
بنى نبي الله سليمان - عليه السلام - المملكة الصالحة، وكان للحضارة في مملكته جانبان:
أحدهما: صناعي وعمراني، وهذه تسمى في عصرنا بالمدنية.
الآخر: أخلاقي وروحي، وهذه تسمى في عصرنا بالإنسانية.
ولا يجوز بحال من الأحوال أن ينشغل الإنسان بالحضارة المدنية لذاتها دون أن يسخرها لخدمة الحضارة الإنسانية، وإن الدارس لسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسى أسس الحضارة الإنسانية دون أن يغفل العناية بالحضارة المدنية.
أما حضارة القرن العشرين فهي حضارة مدنية فيها قلوب الناس كالأحجار، تتسابق فيها الأمم بناطحات السحاب، والقصور المشيدة والصناعات الحربية والمدنية، غير أن الإنسان فيها مسحوق مظلوم، ليس له من الحقوق المقررة في الأمم المتحدة سوى الشعارات البراقة واللافتات الكبيرة، والنداءات التي لا يستجيب لها ضمير.
2. حسن استغلال الطاقات التي سخرها الله له بالبناء فملكة الصالحة:
استعمل نبي الله سليمان - عليه السلام - لبناء المملكة الصالحة كل الطاقات التي سخرها الله له؛ إذ استغل الريح وحركتها، واستغل البحار وغاص فيها، واستخرج المواد الخام وصنعها، واستغل الطير في جو السماء، وكان كل عضو أو جندي في مملكته له مكانه المناسب، حيث تتضافر الجهود في عملية البناء، وتتعاون الأيدي لتحقيق أهداف المملكة الصالحة، التي لا تؤذى فيها نملة، ولا تهدر فيها طاقة.
وقد ضل قوم سبأ إذ لم يضعوا الأشياء في مواضعها، فبدلا من أن يستغلوا منافع الشمس عبدوها من دون الله، كما ضل الإنسان قديما إذ عبد الرياح بدلا من الإفادة من حركتها!! والمشركون ضلوا أيضا إذ عبدوا الحجر بدلا من تسخيره في البناء، وإن الله أرسل الأنبياء والمرسلين لتخليص الناس من الوثنية، وإزالة التحجر عن عقولهم، وتطهير اعتقادهم من الضلال، وإرشادهم إلى وضع كل شيء في مكانه المناسب.
أما إنسان اليوم فعلى الرغم من أنه استفاد مما سخره الله للإنسان إذ تمكن من استغلال حركة الرياح، وأرسل الطائرة في جو السماء، واستفاد من الطاقة الشمسية واستخرج الحديد والمواد الخام وقام بتصنيعها، على الرغم من ذلك كله فإنه لم يضع الأشياء في مواضعها؛ إذ ما زال المال الغاية المنشودة عنده، يكنزه ويشعل الحروب ويفتعل الفتن لأجل تحصيل المزيد من الأموال والأرباح. ولذلك فهو لا ينعم بالسعادة وفي الحديث: «تعس عبد الدينار والدرهم»[3]؛ أي: لن يذوق السعادة.
3. مكاتبة الملوك:
· ولو دققنا النظر في كتاب نبي الله سليمان - عليه السلام - إلى ملكة سبأ نجده يحتوي على كلمات قليلة ومركزة:
(اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (28) قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين (31)
(النمل)
، وفي السنة السابعة للهجرة بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسائل إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام بعبارات مختصرة مفيدة تشبه إلى حد كبير كتاب سليمان عليه السلام:
· فقد أرسل كتابا إلى هرقل عظيم الروم، حمله دحية بن خليفة الكلبي، جاء فيه: «أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين»[4].
· وأرسل كتابا إلى كسرى عظيم الفرس، حمله عبد الله بن حذافة السهمي جاء فيه "أسلم تسلم فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك "[5].
· وأرسل كتابا إلى النجاشي ملك الحبشة، حمله عمرو بن أمية الضمري.
· وأرسل كتابا إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، حمله العلاء بن الحضرمي.
· وأرسل كتابا إلى المقوقس عظيم القبط، حمله حاطب بن أبي بلتعة.
· وأرسل كتابا إلى جيفر بن الجلندي ملك عمان، حمله عمرو بن العاص.
4. الشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون:
إن ضعاف النفوس يعيشون حياتهم في الأوهام، ويكثر حديثهم عن السحر والجن والربط والنفاثات في العقد؛ إذ تملأ رءوسهم الوساوس من الخناس، ويلقون أسباب الإخفاق في حياتهم الزوجية والمهنية والاجتماعية على الجن والشياطين، وقد يفسرون بعض الأمراض بأنها ناجمة عن جني أو شيطان!!
وللبيان نضع بين يدي القارئ الحقائق التالية:
· الجن حقيقة غيبية أخبرنا الله بها، وحدثنا أنه يوجد عالم آخر غير عالم الإنس، وهم مخلوقات نارية، منهم المؤمن ومنهم الكافر، وقد استمع نفر منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن، وقد سميت سورة في القرآن باسمهم، غير أن القرآن الكريم أكد على أمرين:
o أن الجن لا سلطان لهم على المؤمنين، وذلك في قوله - سبحانه وتعالى - عن الشيطان: )إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99)( (النحل). بل إن الله سبحانه قد جعل لنبيه سليمان - عليه السلام - سلطانا عليهم وسخرهم له كما ذكرنا آنفا.
o أن الجن لا يعلمون الغيب الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، وقد حرس الله السماء بمبعث نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن استرق السمع أتبعه شهاب ثاقب، وقد حكى القرآن عن الجن قولهم: )وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9)( (الجن). وهذه قصة سليمان - عليه السلام - فيها دليل قاطع على أن الجن لا يعلمون الغيب؛ إذ قد مات سليمان وهم بين يديه ولم يعلموا بموته!
وبناء على ذلك فقد حرم الإسلام أن يذهب مسلم إلى كاهن أو عراف؛ ليسأله ويصدقه قال صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم»[6].
· إن الله تعالى ذم فريقا من بني اسرائيل إذ نبذوا التوراة وراء ظهورهم، واتبعوا أوامر الشيطان، وضلالات السحرة؛ كما جاء في القرآن الكريم:
(ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101) واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)
(البقرة)
، وإن الله سبحانه قد أنزل في القرآن الكريم تشريعات صالحة لكل زمان ومكان، ذكر فيها أسس الحياة الاجتماعية السليمة؛ إذ بين كيفية العلاقة الزوجية الصحيحة، ووضع قوانين المعاملات المادية بين الناس، ووضح طريقة النجاح في الحياة الإنسانية. وإنه لمن الضلال أن ينبذ المسلم مبادئ القرآن وراء ظهره كأنه لا يعلمها، ثم يمضي إلى السحرة أو الكهنة أو المشعوذين ليستفتيهم في أمور حياته، أو ليسألهم عن أسباب إخفاقه[7]!!
انطلاقا مما سبق يتضح لكل ذي عقل وبصيرة أن سليمان نبي الله ورسوله اختصه الله بكثير من النعم والفضائل والمعجزات، وقابل - عليه السلام - هذه النعم بالشكر والإيمان وليس كما يدعي الواهمون من تعلمه السحر، بل هو الرسول المعصوم من ذلك؛ فعليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
الخلاصة:
· سليمان - عليه السلام - نبي من أنبياء الله تعالى، وقد أيده الله بالعديد من الآيات والمعجزات التي تدل على صدق نبوته منها: تسخير الجن والشياطين، وتعلم منطق الطير، ومنطق النمل، وتسخير الريح وغيرها.
· الله - سبحانه وتعالى - برأ سليمان - عليه السلام - من الدعاوى التي زعمها الزاعمون من أنه صار ملكا ثريا بفضل ما تعلمه من السحر، فلم يكن سليمان يستعمل السحر ولا كان يتعلمه ولا كان يعلمه، كما أن سليمان - عليه السلام - لم يكفر وإنما تلقى نعمة ربه بالشكر والعرفان.
· هناك العديد من العبر التي تستفاد من قصة سليمان - عليه السلام - منها خصائص المملكة الصالحة، وحسن استغلال الطاقات المختلفة لبناء تلك المملكة، وطريقة مكاتبة الملوك، وكذلك ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
المراجع
- (*) العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي، د. أحمد بن عبد الله الزغبي، مكتبة العبيكان، السعودية، ط1، 1998م.
- حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص247: 253 بتصرف.
- قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص383، 384.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2730).
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، وفي مواضع أخري، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).
- حسن: أخرجه الطبري في تاريخ الأمم والملوك (2/ 133)، وحسنه الألباني في فقه السيرة (356).
- حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (9532)، وحسنه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
- مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام رشدي الزين، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 2001م، ص295: 299.