نص السؤال
المصدر: شبهات المشككين في الإسلام
الجواب التفصيلي
الزعم أن سليمان عليه السلام غفل عن ذكر ربه (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن سليمان - عليه السلام - قد شغل باستعراض الخيل حتى فاتته صلاة العصر، أو فاته ورد من الذكر كان له، فندم سليمان - عليه السلام - على ذلك، وأمر برد الخيل، فقام بقطع أعناقها وسوقها بالسيف وهو منهي عنه، ويستدلون على ذلك
بقوله سبحانه وتعالى:
(إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد (31) فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32) ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33)
(ص)
وذلك يتنافى مع طاعة الأنبياء لربهم، وعصمتهم من انشغالهم بأمور الدنيا.
وجها إبطال الشبهة:
1) هذا الزعم قد يؤيده ظاهر الآيات، لكنه لا دليل عليه ولا يصح، حتى وإن اعتذر الجمهور بأن ترك الصلاة كان نسيانا، وذبح الخيل كان قربانا.
2) ما ذهبوا إليه قول ساقط لا دليل عليه ولا يقبله عقل، ولا يليق بعصمة نبي الله سليمان عليه السلام، والصحيح أن سليمان أحب الخيل المجاهدة في سبيل الله لحبه لذكر ربه وطاعته.
التفصيل:
أولا. هذا الزعم قد يؤيده ظاهر الآيات، لكنه لا دليل عليه ولا يصح:
ذهب بعض المفسرين إلى أن سليمان - عليه السلام - قد شغل باستعراضه الخيل حتى فاتته صلاة العصر، أو فاته ورد من الذكر كان له حتى غربت الشمس، وذلك قوله سبحانه وتعالى: )حتى توارت بالحجاب( (ص: 32)؛ فندم سليمان، وأمر برد الخيل، فطفق يقطع أعناقها وسوقها؛ تقربا إلى الله، وذلك قوله سبحانه وتعالى: )ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33)( (ص). والحقيقة أن مدلولات الألفاظ ليست واضحة فيما ذهبوا إليه، وإنما الذي قالوه في معاني الألفاط محتمل، ومحتمل بعيد، فهم يقولون: إن الضمير في قوله سبحانه وتعالى: )حتى توارت(، إنما هو للشمس، المفهومة من قوله بالعشي، كما يقولون: إن معنى: )فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي( (ص: 32) أنه أحب هذه الخيل معرضا عن ذكر ربه، فلما ندم أبدله الله تعالى ما هو أسرع منها وهو الريح، وهذا ما ذهب إليه الجمهور، وقد اعتذر الجمهور عن ترك سليمان - عليه السلام - صلاة العصر بأنه كان نسيانا، أو ربما كان هذا سائغا في شريعة سليمان فأخر الصلاة لأجل أسباب الجهاد، وعرضه الخيل، ويستدلون على جواز ذلك بانشغال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب. يقول ابن كثير: ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال، والخيل تراد للقتال، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف[1].
ويرى آخرون أن هذه الادعاءات في حق نبي الله سليمان عليه السلام، إنما هي أقوال باطلة، لا تليق بمقام هذا النبي الكريم، ولا تتفق مع سياق الآيات، ولا مع مجريات الأمور، ومصالح المملكة السليمانية، فضلا عن أنه لم يدل عليها حديث صحيح ويرفضها سياق الآيات الكريمة.
ثانيا. ما ذهبوا إليه قول ساقط لا دليل عليه ولا يقبله عقل، ولا يليق بعصمة نبي الله سليمان؛ والصحيح الذي لا معدل عنه غير ذلك:
إن الصحيح الذي لا معدل عنه - كما يرى ابن حزم والرازي وغيرهما - أن سليمان - عليه السلام - قد طلب من جنده أن يعرضوا الخيل عليه؛ ليرى مدى كثرتها وقوتها وقدرتها على العدو والثبات فعرضت عليه، وهي كما وصفها الله صافنات جياد. والصافنات هي التي تقف على قوائمها الثلاثة وترفع الرابعة، فتقف على مقدم حافرها متهيئة للعدو إذا حركها راكبها، والجياد هي: التي تجيد العدو، وتسرع للقاء العدو، كأنها الريح المرسلة، فلما رآها سليمان وأعجب بكثرتها وقوتها، وشكر الله - عز وجل - على هذه النعمة العظيمة، وقال في نفسه أو للمقربين إليه: إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي، أي من أجل أن أكون لربي ذاكرا، والذكر يبعث على الشكر، ويبعث على التفاني في الخضوع والطاعة، فالحرف "عن" في الآية للتعليل؛ أي: أحببتها حبا ناشئا عن ذكرى لربي، فلولا الذكر ما أحببت الخيل ولا أعددتها؛ لأن هواي في طاعة الله، والجهاد في سبيله[2].
والمراد بالخير في الآية: الخيل؛
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث:
«الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»[3].
وظل سليمان - عليه السلام - يستعرض الخيل حتى توارت الخيل بالحجاب، أي: استترت بظلمة الليل. وقيل: حتى توارت الشمس بالحجاب، وهو الليل الذي سترها عن الأبصار. وأيما كان فإن المآل واحد، ثم طلب سليمان ردها إليه مرة أخرى فطفق[4] يمسح بيده الشريفة على سوقها وأعناقها إعجابا بها وحنوا عليها، وإيماء للجند بأنه قد وهبها لله - عز وجل - ووقفها على الجهاد في سبيله[5].
يقول الفخر الرازي في تفسيره: إن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقب
قوله سبحانه وتعالى:
(وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب)
(ص:16)
وإن الكفار لما بلغوا من السفاهة إلى هذا الحد قال - عليه السلام - لمحمد صلى الله عليه وسلم:
(اصبـر على مـا يقولــون واذكـر عبدنــا داوود ذا الأيــد إنــه أواب)
(ص:17)
وذكر قصة داود ثم ذكر عقبها قصة سليمان، وهذا الكلام لا يكون لائقا إلا بقولنا: إن سليمان - عليه السلام - أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة، والأخلاق الحميدة، وصبر على طاعة الله، وأعرض عن الشهوات واللذات، فلو كان المقصود من قصة سليمان - عليه السلام - في هذه المواضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة، والذنوب الجسيمة لم يكن ذكر القصة لائقا بهذا الموضع، فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على هذه الأقوال بالرد والإفساد والإبطال، بل التفسير المطابق للحق ولألفاظ القرآن، والصواب أن نقول: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه مندوب إليه في دين محمد - صلى الله عليه وسلم - فاحتاج إلى الغزو، فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها، وذكر أنه لا يحبها لأمر الدنيا ونصيب النفس، وإنما يحبها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه، وهو المراد من قوله: )عن ذكر ربي(، ثم إنه - عليه السلام - أمر بتسييرها حتى توارت بالحجاب، أي غابت عن بصره، ثم أمر الرائضين أن يردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، والغرض من ذلك المسح أمور:
· تشريفها وبيان عزتها لكونها من أعظم الأعوان لدفع العدو.
· أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك متطلع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
· أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض.
فهذا التفسير الذي ذكرناه يتفق مع عصمة نبي الله سليمان - عليه السلام - ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات المحظورات إلى سليمان عليه السلام، ثم قال الرازي: وأنا شديد التعجب من الناس! كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن النقل والعقل يردها، وليس لهم فيها شبهة فضلا عن حجة[6]؟!
وقد ذكرنا أن الجمهور اعتذر عن ترك سليمان - عليه السلام - صلاة العصر بالنسيان، ثم ذكرنا حقيقة هذا الأمر، ولقد اعتذر الجمهور مرة أخرى عن ذبح سليمان - عليه السلام - للخيل بأنه كان قربانا، وكان هذا مشروعا في دينه. لكن لئن سلم للجمهور اعتذارهم عن ترك سليمان - عليه السلام - صلاة العصر بالنسيان، فلا يسلم له ذبح الخيل لأمور:
1. أن كونه شغل بها حتى نسي الصلاة، لا يدعو إلى التخلص منها بذبحها تقربا أو غيره؛ لأن النسيان يرفع إثم التأخير.
2. أن فيه تضييع عدته في جهاد أعداء الله، والحفاظ على دينه، وهذا لا يليق من النبي، إذ إن الخيل - وقتها - كانت عدة لا يستهان بها في قتال الأعداء، وفي ذبحها إضعاف لقوة يحتاج إليها قطعا في مواجهة أعدائه، وتمكين للعدو من نفسه.
3. أنه لو كان المراد بمسحه بالسوق والأعناق تقطيعها الذي يتطلب جهدا كبيرا ومشقة شديدة، لكان يكفي سليمان - عليه السلام - أن يعهد إلى بعض رعيته بهذا، ولا يحمل نفسه هذه المهمة الشاقة، أما مسحها بيده فأمر سهل، ويناسب أن يباشره - عليه السلام - بنفسه.
4. من أين للجمهور دليلهم على أن تقريب القربان بالخيل كان مشروعا في دينه؟ فإن قالوا بأن الدليل هو فعله عليه السلام، فيرد عليهم بأن
قوله سبحانه وتعالى:
(ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق)
(ص:33)
ليس نصا صريحا محددا في الذبح، وإنما يحتمل المسح باليد، وهو الأظهر فلا يصلح دليلا لهم.
5. أن الأرجح في عود الضمير في "توارت" للخيل لا للشمس؛ لذكر الخيل صريحا في "الصافنات الجياد"، ولأنها الأقرب إلى الضمير في الذكر، والأنسب في عود الضمير أن يكون إلى أقرب مذكور[7].
فقولهم: إنه ذبحها وفرق لحمها على الفقراء والمساكين؛ لأنها شغلته عن صلاة كان يصليها قبل غروب الشمس، فهو قول ساقط لا يقبله عقل؛ إذ كيف يقضي على هذه القوة الضاربة فيأخذها من مرابطها؛ ليضعها في بطون الجائعين؟ وما ذنب هذه الخيل؟ هل هي التي أنسته صلاته؟ وهبه نسي صلاته، هل في النسيان ذنب يوجب ذبح الخيل كلها من أجل أن يكفر الله عنه ذنبه؟ ولم ذلك والله - عز وجل - يغفر لمن استغفره من غير أن يتقرب بمثل هذا القربان الذي يترتب عليه إهدار قوة لا غنى للجيش عنها، وهي لا تقل عن الريح شأنا من حيث إنها تلاحق العدو، وتتوسط جمعه، وتدخل الرعب في قلبه، وتصنع الأعاجيب في إحراز النصر بإذن الله عز وجل [8]؟!
يقول ابن حزم في الرد على هذه الشبهة: "وهذه خرافة مكذوبة سخيفة باردة، قد جمعت أفانين من القول، والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك؛ لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها، والتمثيل بها وإتلاف مال منتفع به بلا معنى، ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل، ثم يعاقب الخيل على ذنبه، لا على ذنبها، وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن سبع سنين، فكيف بنبي مرسل"[9]؟!
ولقد كان على أولئك المفسرين الذين شغفوا بالنقل عن أهل الكتاب أن يتحروا الدقة في هذا النقل، وأن يكونوا على حذر منه، وأن يعتمدوا على النص القرآني ذاته؛ فيأخذوا المعنى من كلماته وحروفه، ويربطوا بين سابقه ولاحقه، ويأخذوا في اعتبارهم الجو الذي يسبح النص في أجوائه، فبذلك يصلون إلى المعاني المرادة من كلامه بتوفيق الله وعونه، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.
الخلاصة:
.لقد زعم بعض المتوهمين أن نبي الله سليمان - عليه السلام - قد شغل باستعراض الخيل حتى فاتته صلاة العصر، أو فاته ورد من الذكر كان له حتى غربت الشمس، فلما أحس بالذنب أمر بإحضار الخيل، وطفق يقطع أعناقها وسوقها بالسيف تقربا إلى الله. والحقيقة أن ما ذهبوا إليه مجرد زعم لا دليل عليه، ولم يرد فيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· اعتذر جمهور العلماء بأن ذبح الخيل كان قربانا وأن الغفلة عن صلاة العصر كانت نسيانا، والصواب أن هذا أمر لا يليق بعصمة نبي الله سليمان - عليه السلام - ولا يتفق مع مصالح المملكة السليمانية، فسليمان قد طلب من جنده أن يعرضوا عليه الخيل؛ ليرى مدى قوتها وكثرتها وقدرتها على العدو والثبات، فعرضت عليه فرآها وأعجب بها وشكر الله عليها، ثم ذكر أن حبه لها حب ناشئ عن ذكره لربه؛ لأن هواه في طاعة الله والجهاد في سبيله، ثم أخذ سليمان - بعد أن مضت وتوارت عنه وطلب بردها عليه - يمسح بيده الشريفة على سوقها وأعناقها؛ إعجابا وحنوا عليها.
· لا يصح أن يكون سليمان - عليه السلام - قد قام بذبحها؛ لأنها ألهته عن ذكر ربه؛ إذ كيف يقضي على هذه القوة الضاربة؟ وما ذنب هذه الخيل؟ وهل هي التي ألهته عن الصلاة؟ وهل في النسيان ذنب يوجب ذبح الخيل كلها؟ ولم ذاك والله - عز وجل - يغفر لمن استغفره؟!
المراجع
- (*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.
- قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص374.
- قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص284.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد ماضي مع البر والفاجر (2640)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (3480).
- طفق: أخذ.
- قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص380، 381.
- مفاتيح الغيب، الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م، عند تفسيره الآية.
- عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص380: 382.
- قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص284.
- انظر: الفصل في الملل والنحل، ابن حزم، مكتبة الخانجي، القاهرة، د. ت، ج4، ص16.
الجواب التفصيلي
الزعم أن سليمان عليه السلام غفل عن ذكر ربه (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن سليمان - عليه السلام - قد شغل باستعراض الخيل حتى فاتته صلاة العصر، أو فاته ورد من الذكر كان له، فندم سليمان - عليه السلام - على ذلك، وأمر برد الخيل، فقام بقطع أعناقها وسوقها بالسيف وهو منهي عنه، ويستدلون على ذلك
بقوله سبحانه وتعالى:
(إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد (31) فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32) ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33)
(ص)
وذلك يتنافى مع طاعة الأنبياء لربهم، وعصمتهم من انشغالهم بأمور الدنيا.
وجها إبطال الشبهة:
1) هذا الزعم قد يؤيده ظاهر الآيات، لكنه لا دليل عليه ولا يصح، حتى وإن اعتذر الجمهور بأن ترك الصلاة كان نسيانا، وذبح الخيل كان قربانا.
2) ما ذهبوا إليه قول ساقط لا دليل عليه ولا يقبله عقل، ولا يليق بعصمة نبي الله سليمان عليه السلام، والصحيح أن سليمان أحب الخيل المجاهدة في سبيل الله لحبه لذكر ربه وطاعته.
التفصيل:
أولا. هذا الزعم قد يؤيده ظاهر الآيات، لكنه لا دليل عليه ولا يصح:
ذهب بعض المفسرين إلى أن سليمان - عليه السلام - قد شغل باستعراضه الخيل حتى فاتته صلاة العصر، أو فاته ورد من الذكر كان له حتى غربت الشمس، وذلك قوله سبحانه وتعالى: )حتى توارت بالحجاب( (ص: 32)؛ فندم سليمان، وأمر برد الخيل، فطفق يقطع أعناقها وسوقها؛ تقربا إلى الله، وذلك قوله سبحانه وتعالى: )ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33)( (ص). والحقيقة أن مدلولات الألفاظ ليست واضحة فيما ذهبوا إليه، وإنما الذي قالوه في معاني الألفاط محتمل، ومحتمل بعيد، فهم يقولون: إن الضمير في قوله سبحانه وتعالى: )حتى توارت(، إنما هو للشمس، المفهومة من قوله بالعشي، كما يقولون: إن معنى: )فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي( (ص: 32) أنه أحب هذه الخيل معرضا عن ذكر ربه، فلما ندم أبدله الله تعالى ما هو أسرع منها وهو الريح، وهذا ما ذهب إليه الجمهور، وقد اعتذر الجمهور عن ترك سليمان - عليه السلام - صلاة العصر بأنه كان نسيانا، أو ربما كان هذا سائغا في شريعة سليمان فأخر الصلاة لأجل أسباب الجهاد، وعرضه الخيل، ويستدلون على جواز ذلك بانشغال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب. يقول ابن كثير: ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال، والخيل تراد للقتال، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف[1].
ويرى آخرون أن هذه الادعاءات في حق نبي الله سليمان عليه السلام، إنما هي أقوال باطلة، لا تليق بمقام هذا النبي الكريم، ولا تتفق مع سياق الآيات، ولا مع مجريات الأمور، ومصالح المملكة السليمانية، فضلا عن أنه لم يدل عليها حديث صحيح ويرفضها سياق الآيات الكريمة.
ثانيا. ما ذهبوا إليه قول ساقط لا دليل عليه ولا يقبله عقل، ولا يليق بعصمة نبي الله سليمان؛ والصحيح الذي لا معدل عنه غير ذلك:
إن الصحيح الذي لا معدل عنه - كما يرى ابن حزم والرازي وغيرهما - أن سليمان - عليه السلام - قد طلب من جنده أن يعرضوا الخيل عليه؛ ليرى مدى كثرتها وقوتها وقدرتها على العدو والثبات فعرضت عليه، وهي كما وصفها الله صافنات جياد. والصافنات هي التي تقف على قوائمها الثلاثة وترفع الرابعة، فتقف على مقدم حافرها متهيئة للعدو إذا حركها راكبها، والجياد هي: التي تجيد العدو، وتسرع للقاء العدو، كأنها الريح المرسلة، فلما رآها سليمان وأعجب بكثرتها وقوتها، وشكر الله - عز وجل - على هذه النعمة العظيمة، وقال في نفسه أو للمقربين إليه: إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي، أي من أجل أن أكون لربي ذاكرا، والذكر يبعث على الشكر، ويبعث على التفاني في الخضوع والطاعة، فالحرف "عن" في الآية للتعليل؛ أي: أحببتها حبا ناشئا عن ذكرى لربي، فلولا الذكر ما أحببت الخيل ولا أعددتها؛ لأن هواي في طاعة الله، والجهاد في سبيله[2].
والمراد بالخير في الآية: الخيل؛
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث:
«الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»[3].
وظل سليمان - عليه السلام - يستعرض الخيل حتى توارت الخيل بالحجاب، أي: استترت بظلمة الليل. وقيل: حتى توارت الشمس بالحجاب، وهو الليل الذي سترها عن الأبصار. وأيما كان فإن المآل واحد، ثم طلب سليمان ردها إليه مرة أخرى فطفق[4] يمسح بيده الشريفة على سوقها وأعناقها إعجابا بها وحنوا عليها، وإيماء للجند بأنه قد وهبها لله - عز وجل - ووقفها على الجهاد في سبيله[5].
يقول الفخر الرازي في تفسيره: إن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقب
قوله سبحانه وتعالى:
(وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب)
(ص:16)
وإن الكفار لما بلغوا من السفاهة إلى هذا الحد قال - عليه السلام - لمحمد صلى الله عليه وسلم:
(اصبـر على مـا يقولــون واذكـر عبدنــا داوود ذا الأيــد إنــه أواب)
(ص:17)
وذكر قصة داود ثم ذكر عقبها قصة سليمان، وهذا الكلام لا يكون لائقا إلا بقولنا: إن سليمان - عليه السلام - أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة، والأخلاق الحميدة، وصبر على طاعة الله، وأعرض عن الشهوات واللذات، فلو كان المقصود من قصة سليمان - عليه السلام - في هذه المواضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة، والذنوب الجسيمة لم يكن ذكر القصة لائقا بهذا الموضع، فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على هذه الأقوال بالرد والإفساد والإبطال، بل التفسير المطابق للحق ولألفاظ القرآن، والصواب أن نقول: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه مندوب إليه في دين محمد - صلى الله عليه وسلم - فاحتاج إلى الغزو، فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها، وذكر أنه لا يحبها لأمر الدنيا ونصيب النفس، وإنما يحبها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه، وهو المراد من قوله: )عن ذكر ربي(، ثم إنه - عليه السلام - أمر بتسييرها حتى توارت بالحجاب، أي غابت عن بصره، ثم أمر الرائضين أن يردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، والغرض من ذلك المسح أمور:
· تشريفها وبيان عزتها لكونها من أعظم الأعوان لدفع العدو.
· أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك متطلع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
· أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض.
فهذا التفسير الذي ذكرناه يتفق مع عصمة نبي الله سليمان - عليه السلام - ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات المحظورات إلى سليمان عليه السلام، ثم قال الرازي: وأنا شديد التعجب من الناس! كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن النقل والعقل يردها، وليس لهم فيها شبهة فضلا عن حجة[6]؟!
وقد ذكرنا أن الجمهور اعتذر عن ترك سليمان - عليه السلام - صلاة العصر بالنسيان، ثم ذكرنا حقيقة هذا الأمر، ولقد اعتذر الجمهور مرة أخرى عن ذبح سليمان - عليه السلام - للخيل بأنه كان قربانا، وكان هذا مشروعا في دينه. لكن لئن سلم للجمهور اعتذارهم عن ترك سليمان - عليه السلام - صلاة العصر بالنسيان، فلا يسلم له ذبح الخيل لأمور:
1. أن كونه شغل بها حتى نسي الصلاة، لا يدعو إلى التخلص منها بذبحها تقربا أو غيره؛ لأن النسيان يرفع إثم التأخير.
2. أن فيه تضييع عدته في جهاد أعداء الله، والحفاظ على دينه، وهذا لا يليق من النبي، إذ إن الخيل - وقتها - كانت عدة لا يستهان بها في قتال الأعداء، وفي ذبحها إضعاف لقوة يحتاج إليها قطعا في مواجهة أعدائه، وتمكين للعدو من نفسه.
3. أنه لو كان المراد بمسحه بالسوق والأعناق تقطيعها الذي يتطلب جهدا كبيرا ومشقة شديدة، لكان يكفي سليمان - عليه السلام - أن يعهد إلى بعض رعيته بهذا، ولا يحمل نفسه هذه المهمة الشاقة، أما مسحها بيده فأمر سهل، ويناسب أن يباشره - عليه السلام - بنفسه.
4. من أين للجمهور دليلهم على أن تقريب القربان بالخيل كان مشروعا في دينه؟ فإن قالوا بأن الدليل هو فعله عليه السلام، فيرد عليهم بأن
قوله سبحانه وتعالى:
(ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق)
(ص:33)
ليس نصا صريحا محددا في الذبح، وإنما يحتمل المسح باليد، وهو الأظهر فلا يصلح دليلا لهم.
5. أن الأرجح في عود الضمير في "توارت" للخيل لا للشمس؛ لذكر الخيل صريحا في "الصافنات الجياد"، ولأنها الأقرب إلى الضمير في الذكر، والأنسب في عود الضمير أن يكون إلى أقرب مذكور[7].
فقولهم: إنه ذبحها وفرق لحمها على الفقراء والمساكين؛ لأنها شغلته عن صلاة كان يصليها قبل غروب الشمس، فهو قول ساقط لا يقبله عقل؛ إذ كيف يقضي على هذه القوة الضاربة فيأخذها من مرابطها؛ ليضعها في بطون الجائعين؟ وما ذنب هذه الخيل؟ هل هي التي أنسته صلاته؟ وهبه نسي صلاته، هل في النسيان ذنب يوجب ذبح الخيل كلها من أجل أن يكفر الله عنه ذنبه؟ ولم ذلك والله - عز وجل - يغفر لمن استغفره من غير أن يتقرب بمثل هذا القربان الذي يترتب عليه إهدار قوة لا غنى للجيش عنها، وهي لا تقل عن الريح شأنا من حيث إنها تلاحق العدو، وتتوسط جمعه، وتدخل الرعب في قلبه، وتصنع الأعاجيب في إحراز النصر بإذن الله عز وجل [8]؟!
يقول ابن حزم في الرد على هذه الشبهة: "وهذه خرافة مكذوبة سخيفة باردة، قد جمعت أفانين من القول، والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك؛ لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها، والتمثيل بها وإتلاف مال منتفع به بلا معنى، ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل، ثم يعاقب الخيل على ذنبه، لا على ذنبها، وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن سبع سنين، فكيف بنبي مرسل"[9]؟!
ولقد كان على أولئك المفسرين الذين شغفوا بالنقل عن أهل الكتاب أن يتحروا الدقة في هذا النقل، وأن يكونوا على حذر منه، وأن يعتمدوا على النص القرآني ذاته؛ فيأخذوا المعنى من كلماته وحروفه، ويربطوا بين سابقه ولاحقه، ويأخذوا في اعتبارهم الجو الذي يسبح النص في أجوائه، فبذلك يصلون إلى المعاني المرادة من كلامه بتوفيق الله وعونه، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.
الخلاصة:
.لقد زعم بعض المتوهمين أن نبي الله سليمان - عليه السلام - قد شغل باستعراض الخيل حتى فاتته صلاة العصر، أو فاته ورد من الذكر كان له حتى غربت الشمس، فلما أحس بالذنب أمر بإحضار الخيل، وطفق يقطع أعناقها وسوقها بالسيف تقربا إلى الله. والحقيقة أن ما ذهبوا إليه مجرد زعم لا دليل عليه، ولم يرد فيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· اعتذر جمهور العلماء بأن ذبح الخيل كان قربانا وأن الغفلة عن صلاة العصر كانت نسيانا، والصواب أن هذا أمر لا يليق بعصمة نبي الله سليمان - عليه السلام - ولا يتفق مع مصالح المملكة السليمانية، فسليمان قد طلب من جنده أن يعرضوا عليه الخيل؛ ليرى مدى قوتها وكثرتها وقدرتها على العدو والثبات، فعرضت عليه فرآها وأعجب بها وشكر الله عليها، ثم ذكر أن حبه لها حب ناشئ عن ذكره لربه؛ لأن هواه في طاعة الله والجهاد في سبيله، ثم أخذ سليمان - بعد أن مضت وتوارت عنه وطلب بردها عليه - يمسح بيده الشريفة على سوقها وأعناقها؛ إعجابا وحنوا عليها.
· لا يصح أن يكون سليمان - عليه السلام - قد قام بذبحها؛ لأنها ألهته عن ذكر ربه؛ إذ كيف يقضي على هذه القوة الضاربة؟ وما ذنب هذه الخيل؟ وهل هي التي ألهته عن الصلاة؟ وهل في النسيان ذنب يوجب ذبح الخيل كلها؟ ولم ذاك والله - عز وجل - يغفر لمن استغفره؟!
المراجع
- (*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.
- قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص374.
- قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص284.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد ماضي مع البر والفاجر (2640)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (3480).
- طفق: أخذ.
- قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص380، 381.
- مفاتيح الغيب، الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م، عند تفسيره الآية.
- عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص380: 382.
- قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص284.
- انظر: الفصل في الملل والنحل، ابن حزم، مكتبة الخانجي، القاهرة، د. ت، ج4، ص16.