نص السؤال

كيف نَبْني أحكامَ الشريعةِ والعقيدةِ على أحاديثَ رواها واحدٌ فقطْ؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

حجِّيَّةُ خبرِ الآحاد

 شبهاتٌ حول حجِّيَّةِ خبرِ الآحاد.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

ينقسِمُ الحديثُ مِن حيثُ عددُ رواتِهِ إلى: متواترٍ، وآحادٍ:

فالمتواتِرُ: ما رواه جمعٌ تُحيلُ العادةُ تواطُؤَهم على الكذبِ، أو صدورَهُ منهم اتفاقًا مِن غيرِ قصدٍ، ويستمِرُّ ذلك مِن أوَّلِ إسنادِ الحديثِ إلى آخِرِه، ويكونُ مَرجِعُهُ إلى الحسِّ مِن مشاهَدٍ أو مسموعٍ، أو نحوِهما.

والآحادُ، أو خبَرُ الواحدِ: هو ما لم تجتمِعْ فيه شروطُ المتواتِرِ؛ فيَشمَلُ ما رواه واحدٌ في طبقةٍ أو في جميعِ الطبقات، وما رواه اثنان، وما رواه ثلاثةٌ فصاعدًا، ما لم يصلْ إلى عددِ التواتُر.

وينقسِمُ الحديثُ الآحادُ إلى أقسامٍ ثلاثة:

1- غريبٌ: وهو ما ينفرِدُ بروايتِهِ راوٍ واحدٌ؛ إما في كلِّ طبقةٍ مِن طبَقاتِ السنَدِ، أو في بعضِها.

ومثالُهُ: حديثُ: 

«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»؛

رواه البخاري (1)، ومسلم (1907)

فهو حديثٌ فردٌ غريبٌ في أوَّلِه، مستفيضٌ في آخِرِه، وهو صحيحٌ بلا شكٍّ في ذلك.

2- عزيزٌ: وهو ما يَرْويهِ اثنانِ في جميعِ الطبقات، وقد يزيدُ في بعضِ طبَقاتِهِ على الاثنَيْن.

مثالُهُ: حديثُ أنَسٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال النبيُّ ﷺ: 

«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»؛ متَّفَقٌ عليه؛

رواه البخاري (14)، ومسلم (44)

فقد رواه عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنه: قتادةُ، وعبدُ العزيزِ بنُ صُهَيبٍ، ورواه عن قتادةَ: شُعْبةُ، وسعيدٌ، ورواه عن عبدِ العزيزِ: إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ، وعبدُ الوارثِ، ورواه عن كُلٍّ جماعةٌ.

3- مشهورٌ: وهو ما رواه ثلاثةٌ فصاعدًا في كلِّ طبقةٍ، ولم يصلْ إلى حدِّ التواتُر.

ومثالُهُ: حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضيَ اللهُ عنهما؛ أن رسولَ اللهِ ﷺ قال: 

«إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»؛

متفَقٌ عليه؛ رواه البخاري (100)، ومسلم (2673)

فهذا الحديثُ رواه عن ابنِ عمرٍو في جميعِ طبقاتِ السنَدِ ثلاثةٌ فأكثرُ؛ كما هو مفصَّلٌ في أسانيدِه.

وبعد أن تعرَّفْنا على حديثِ الآحادِ وأنواعِهِ، نبيِّنُ خطأَ القولِ بتعطيلِ حجِّيَّةِ خبرِ الآحادِ وعدمِ اعتقادِ موجَبِهِ، وعدمِ العملِ به؛ بدعوى أنه لا يُفِيدُ إلا الظنَّ؛ وذلك مِن عدَّةِ أوجُه:

أوَّلًا: الأدلَّةُ على حجِّيَّةِ خبرِ الآحاد:

خبرُ الآحادِ حجَّةٌ في العقيدةِ والفروعِ على السواء، ولم يفرِّقْ أحدٌ مِن العلماءِ في ذلك بين أصولِ الدِّينِ وفروعِه؛ وأدلَّةُ ذلك ما يلي:

1- الأدلَّةُ على حجِّيَّةِ خبرِ الآحادِ مِن القرآن:

فمن ذلك: الآياتُ الكثيرةُ في بَعْثةِ الأنبياء؛ فكلُّ رسالاتِ الأنبياءِ تدُلُّ على قَبولِ خبرِ الواحدِ في الإيمانيَّاتِ والشرعيَّات؛ لأن اللهَ يُرسِلُ نبيًّا واحدًا لعددٍ كبيرٍ مِن الناس.

ومنه: قولُهُ تعالى: 

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}

[التوبة: 122]

والطائفةُ مِن الشيءِ: جزءٌ منه؛ فهي تُطلَقُ على الرجُلِ الواحدِ فما فوقَهُ، وفي هذه الآيةِ: يأمُرُنا اللهُ تعالى أن تخرُجَ طائفةٌ مِن كلِّ فرقةٍ - ولو كان رجلًا واحدًا - لتتعلَّمَ العلمَ وتعلِّمَهُ لقومِها؛ وهذا العلمُ مطلَقٌ، يَشمَلُ العقائدَ والتشريعات، وليس في الآيةِ ما يُخرِجُ ما يخُصُّ العقائدَ منها، وهذه الطائفةُ مصدَّقةٌ فيما تقولُ، وفي هذا دليلٌ على قَبولِ خبَرِ الواحدِ، وأن الحجَّةَ تقومُ به في العقائدِ والأحكامِ جميعًا.

ومنه: قولُهُ تعالى أيضًا: 

{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

[يس: 20-22]

ففي هذه الآيةِ: يُثبِتُ اللهُ تعالى أنه يُقبَلُ خبرُ الواحدِ في تبليغِ أمورِ العقيدة، ومنها اتِّباعُ المرسَلين، وما يأتُون به مِن الأمرِ بعبادةِ اللهِ وحدَهُ الذي فطَرَهم، وإليه يُرجَعون.

وكذلك: قولُ اللهِ تعالى: 

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}

[يس: 13- 15]:

قال الشافعيُّ في «الرسالة» (1/ 437) - بعد ذكرِهِ هذه الآيةَ - قال: «فظاهَرَ الحُجَجَ عليهم باثنَيْن، ثم ثالثٍ، وكذا أقام الحجَّةَ على الأممِ بواحدٍ، وليستِ الزيادةُ في التأكيدِ مانِعةً أن تقومَ الحجَّةُ بالواحدِ؛ إذْ أعطاهُ ما يبايِنُ به الخَلْقَ غيرَ النبيِّين».

وفي هذه الآيةِ: دليلٌ قويٌّ على أن أخبارَ الآحادِ يُؤخَذُ بها، سواءٌ كان راوِيها واحدًا أو اثنَيْنِ أو ثلاثةً، وهو ما دون المتواتِرِ، ولو كانت غيرَ مقبولةٍ - كما يزعُمون - لَمَا ذكَرَها اللهُ حُجَّةً في تبليغِ الدعوةِ لهذه القَرْيةِ؛ خاصَّةً في عبادةِ اللهِ وتوحيدِه.

2- الأدلَّةُ على حجِّيَّةِ خبَرِ الآحادِ مِن السنَّة:

تواتَرتِ الرواياتُ القطعيَّةُ في السنَّةِ على قَبولِ خبرِ الواحد:

ومِن ذلك: ما رواه عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما، قال: 

«بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ»؛

رواه البخاري (403)، ومسلم (526)

فنجدُ في هذا الحديثِ: أن صحابةَ رسولِ اللهِ ﷺ قد قَبِلوا خبرًا عظيمًا مِن واحدٍ؛ لعِلمِهم بجوازِ الأخذِ بخبرِ الواحدِ إذا توافَرتْ فيه شروطُ نقلِ الخبر، واستداروا إلى الكعبة، ولم يقولوا له: «لا بدَّ مِن أن تأتِيَنا بكافَّةٍ حتى نصدِّقَك».

ودليلٌ آخَرُ مِن السنَّةِ: وهو ما رواه البخاريُّ (1496)، ومسلِمٌ (19)، 

عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ الله ﷺ لمعاذِ بنِ جبَلٍ حين بعَثهُ إلى اليمَنِ

 «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»

فالحديثُ صريحٌ في الدعوةِ إلى الإيمانِ بالله، والإيمانِ بالرسولِ ﷺ، وجاءت في طليعةِ وصيَّةِ الرسولِ ﷺ لمعاذٍ بالتبليغِ عنه، مع الدعوةِ إلى ما ورَدَ في الحديثِ مِن أحكام؛ فكانت مُهِمَّتُهُ تتعلَّقُ بالدعوةِ إلى العقيدةِ، وأحكامِ الشريعة؛ وهذا حديثُ آحاد.

3- اتفَقَ الصحابةُ جميعُهم وتواتَرَ عنهم العملُ بحديثِ الآحادِ، والتصديقُ بموجَبِهِ؛ وهذا أمرٌ قطعيٌّ لا ريبَ فيه.

4- الأدلَّةُ العقليَّةُ على حجِّيَّةِ خبرِ الآحاد:

إن العقلَ والمنطقَ السليمَيْنِ المجرَّدَيْنِ مِن الهوى والزيغِ لَيَقْبَلانِ خبرَ الآحادِ الذي ورَدَ عن رسولِ اللهِ ﷺ، دون اشتراطِ حدِّ التواتُرِ فيه؛ فمِن المستحيلِ أن يسيرَ الرسولُ ﷺ في كلِّ أحيانِهِ مع مجموعةٍ مِن الصحابةِ، لا يَقِلُّ عددُهم عن حدِّ التواتُرِ المعروف، ولا يترُكونه في حِلِّه وتَرْحالِه، وفي نومِهِ ويقَظتِه؛ وذلك لينقُلوا لنا سُنَّتَهُ ﷺ؛ حتى تكونَ كلُّها متواترةً لا آحادًا؛ هذا ما لا يَذهَبُ إليه عاقل.

ولذلك كان الصحابةُ يتناوَبون المجيءَ إلى رسولِ اللهِ ﷺ؛ على أن يُخبِرَ الشاهدُ الغائبَ، وربما يَسمَعُ الحديثَ مِن النبيِّ ﷺ جمعٌ مِن أصحابِه، ولكنْ لا يبلِّغُهُ إلا واحدٌ منهم؛ إذْ لم تأتِ مناسَبةٌ لأحدِهم أن يذكُرَهُ إلا لهذا الفردِ بعَيْنِه.

كما أننا لو قلنا: «إن الأحكامَ لا تثبُتُ بخبرِ الواحدِ»، لاختلَفَ المسلِمون فيما يجبُ عليهم مِن أحكام؛ فيكونُ مَن سَمِعَ مِن النبيِّ ﷺ حُكْمًا، فقد لَزِمَهُ، أما مَن لم يَسمَعْهُ، فإنه لا يَلزَمُهُ إذا كان آحادًا؛ مما يؤدِّي إلى اختلافِ الصحابةِ والناسِ مِن بعدِهم في أحكامِ دِينِهم.

وقد كانت زوجاتُهُ ﷺ يَروِينَ عنه ما يحدُثُ في حُجُراتِهنَّ مِن أمورِهِ ﷺ، كلٌّ منهُنَّ على حِدَةٍ، ويستحيلُ أن يَرْويَها غيرُهُنَّ مِن الصحابة، وهذه الأمورُ هل نترُكُها لأن راويَها واحد؟! إن هذا ما لا يَقبَلُهُ العقلُ السليم.

5- الإجماعُ وعملُ الأئمَّةِ على حجِّيَّةِ خبرِ الآحاد:

لقد مضى أمرُ علماءِ المسلِمين قديمًا وحديثًا على الاحتجاجِ بخبرِ الآحادِ في العقائدِ والشرائع، ووجوبِ التصديقِ بمضمونِهِ، والعملِ به:

قال الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ في «شرحِ اللمعِ» (2/578-579): «وخبَرُ الواحدِ إذا تلقَّتْهُ الأمَّةُ بالقَبولِ، يُوجِبُ العلمَ والعملَ؛ سواءٌ عَمِلَ به الكلُّ أو البعضُ».

وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ في «جوابِ الاعتراضاتِ المصريَّة» (ص 43): «والقسمُ الثاني مِن الأخبار: ما لم يَرْوِهِ إلا الواحدُ العدلُ ونحوُه، ولم يتواتَرْ لا لفظُهُ ولا معناه، ولكنْ تلقَّتْهُ الأمَّةُ بالقَبولِ، عملًا به، أو تصديقًا له ... فهذا يُفيدُ العلمَ اليقينيَّ أيضًا عند جماهيرِ أمَّةِ محمَّدٍ ﷺ مِن الأوَّلين والآخِرين، أما السلفُ، فلم يكن بينهم في ذلك نزاعٌ، وأما الخلفُ، فهذا مذهبُ الفقهاءِ الكبارِ مِن أصحابِ الأئمَّةِ الأربعةِ، والمسألةُ منقولةٌ في كتبِ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ والشافعيَّةِ والحنبليَّةِ؛ مثلُ السَّرَخْسيِّ، (وأبي بكرٍ الرازيِّ مِن الحنفيَّة)، ومِثلُ الشيخِ أبي حامدٍ، وأبي الطيِّبِ، وأبي إسحاقَ، وغيرِهم (مِن الشافعيَّة، وابنِ خُوازمِنْدادَ، وغيرِهِ مِن المالكيَّة)، ومِثلُ القاضي أبي يَعْلى، (وابنِ أبي موسى)، وأبي الخطَّابِ، وابنِ الزاغُونيِّ، وغيرِهم (مِن الحنبليَّة)، ومثلُ القاضي عبدِ الوهَّابِ، وغيرِه، وكذلك أكثرُ المتكلِّمين مِن المعتزِلةِ والأشعريَّةِ؛ مِثلُ أبي إسحاقَ الإسفَرَايينيِّ، وأبي بكرِ بنِ فُورَكَ، وغيرِهما، (وأبي إسحاقَ النظَّامِ مِن المتكلِّمين)، وإنما نازَعَ في ذلك طائفةٌ كابنِ الباقلَّانيِّ، و(مَن) تَبِعَهُ؛ مثلُ أبي المعالي، والغَزَاليِّ، وابنِ عَقِيلٍ، وابنِ الجَوْزيِّ، ونحوِهم».

وينظر: «مختصَرِ الصواعق» (4/1465-1491).

ثانيًا: التفسيرُ الخاطئُ لحديثِ الآحاد:

مِن التعريفِ السابقِ يتَّضِحُ أن خبرَ الآحادِ ليس - كما يَفهَمُهُ بعضُ الناسِ - أنه فقطْ: «هو الخبرُ الذي انفرَدَ به راوٍ واحد»؛ إذ هذا قسمٌ مِن أقسامِهِ الثلاثة؛ لذلك كانت أخبارُ الآحادِ هي القسمَ الأكبرَ في السنَّةِ النبويَّة؛ لأن المتواترَ - وخاصَّةً اللفظيَّ - قليلٌ بالنسبةِ إلى مجموعِ ما رُوِيَ مِن السنَّة.

ثالثًا: شروطُ المحدِّثين لقَبولِ أحاديثِ الآحاد:

يُشترَطُ لقَبولِ خبرِ الآحادِ:

- العدالةُ.

- والضبطُ.

- وأن يكونَ الراوي قد سَمِعَ الحديثَ عمَّن يَرْويهِ عنه بأن يكونَ اللقاءُ بينهما ثابتًا، أو ممكِنًا.

- وألا يكونَ في متنِ الحديثِ شذوذٌ بألا يكونَ مخالِفًا للمقرَّرِ الثابتِ عند أهلِ الحديث، أو ما عُلِمَ مِن الدينِ بالضرورة، أو مخالِفًا للقطعيِّ مِن القرآن.

- وألا يكونَ فيه علَّةٌ خفيَّةٌ تَقدَحُ في صحَّةِ الحديثِ، وهي أوهامُ الثقاتِ؛ كتفرُّدِ الراوي، ومخالَفةِ غيرِهِ له، وإرسالٍ في الموصولِ، أو وقفٍ في المرفوعِ، أو دخولِ حديثٍ في حديثٍ، ونحوِ ذلك، والسبيلُ إلى معرفةِ علَّةِ الحديثِ: أن يُجمَعَ بين طُرُقِهِ، ويُنظَرَ في اختلافِ رُواتِه، ويُعتبَرَ بمكانِهم مِن الحفظ، ومنزلتِهم في الإتقانِ والضبط، ورُوِيَ عن عليِّ بنِ المدينيِّ أنه قال: «إن الحديثَ إذا لم تُجمَعْ طرُقُهْ، لم يَتبيَّنْ خطَؤُهْ»؛ رواه الخطيبُ في «الجامع» (2/212).

والعدالةُ معناها: ألا يكونَ معروفًا بالكذبِ، وأن يكونَ مؤدِّيًا للفرائضِ، منتهيًا عن النواهي في الدِّين؛ فلا تُقبَلُ روايةٌ في الدِّينِ ممَّن لا يتحرَّجُ مِن مخالَفةِ أوامرِ الدِّينِ ونواهيهِ، ومِن العدالةِ: ألا يكونَ صاحبَ بدعةٍ في الدِّينِ يدعو إليها.

وأما الضبطُ: فإن تفسيرَهُ هو سماعُ الكلامِ كما يَحِقُّ سماعُهُ، ثم فَهْمُهُ بمعناهُ الذي أُريدَ به، ثم حِفظُهُ ببذلِ المجهودِ له، ثم الثباتُ عليه بمحافَظةِ حدودِه، ومراقَبتُهُ بمذاكَرتِهِ - على إساءةِ الظنِّ بنفسِهِ - إلى حينِ أدائِه، وهو نوعانِ، أحدُهما: ضبطُ المتنِ بصيغتِه، والثاني: أن يُضَمَّ إلى ضبطِهِ لصيغةِ المتنِ: ضبطُ معناهُ فقهًا وشرعًا؛ وهذا أكمَلُها.

وهذه الشروطُ التي وضَعَها المحدِّثون، منها: ما هو في راوي الحديث، ومنها: ما هو في متنِ الحديث:

فأما الشروطُ الخاصَّةُ براوي الحديثِ، فنستطيعُ أن نبيِّنَها كالتالي:

- العدالة.

- الضبط.

- أن يكونَ فقيهًا (عند بعضِ المذاهب).

- أن يَعمَلَ الراوي بما يوافِقُ الخبرَ، ولا يخالِفَهُ (عند بعضِ المذاهب).

- أن يكونَ عالمًا بالحديثِ الذي يستدِلُّ به.

- أن يكونَ عالمًا بما يُحيلُ معانيَ الحديثِ مِن اللفظِ؛ إذا روَى الحديثَ بالمعنى.

وأما الشروطُ الخاصَّةُ بمتنِ الحديثِ، فهي:

- أن يكونَ متَّصِلَ السنَدِ إلى رسولِ اللهِ ﷺ.

- خلُوُّهُ مِن الشذوذِ والعِلَّة.

- ألا يخالِفَ السنَّةَ المشهورةَ؛ قوليَّةً كانت أو فعليَّةً.

وهكذا احتاط العلماءُ في قَبولِ خبرِ الواحد؛ فاشترَطوا له الشروطَ الكافية، ووضَعوا لراويهِ الصفاتِ اللازمةَ التي تَجمَعُ بين الثقةِ في الدِّينِ، والصدقِ في الحديث.

وإذا كان خبرُ الواحدِ يتوافَرُ فيه وفي روايتِهِ مثلُ هذه الشروط، فهل مِن المعقولِ أن يُقالَ: «إنه لا يُحتَجُّ به، ولا يُفِيدُ العِلمَ، أو لا يُعمَلُ به»؟!

إن هذه المقاييسَ الدقيقةَ، والشروطَ القويَّةَ المحكَمةَ التي وضَعَها علماءُ الحديث، والتي لا يُعرَفُ في الدنيا مثيلٌ لها، تَدفَعُ كلَّ شبهةٍ يحاوِلُ أعداءُ السنَّةِ إلصاقَها بالحديثِ النبويّ.

وبهذه الشروطِ يتَّضِحُ معنى قولِ العلماء: «إن حديثَ الآحادِ مُتَّفَقٌ على العملِ به، وعلى اعتقادِ مضمونِه، وعدمِ تركِه بالكليَّة».

رابعًا: مناقَشةُ القولِ بعدمِ الاحتجاجِ بخبَرِ الآحادِ؛ بدَعْوى إفادتِهِ للظنِّ، وورودِ القرآنِ بعدمِ اتِّباعِ الظنّ:

ذكَرْنا إفادةَ خبرِ الآحادِ المحتَفِّ بالقرائنِ للعلمِ واليقينِ عند جماهيرِ أمَّةِ محمَّدٍ ﷺ، وأنه حجَّةٌ في العقيدةِ والشريعةِ جميعًا، وأنه لا يفيدُ الظنَّ؛ كما يزعُمُ السائل.

ومع ذلك: فالمقصودُ بـ «الظنِّ» الواردِ في قولِهِ عزَّ وجلَّ:

{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 

[النجم: 28]

 هو تركُ الحقِّ الثابتِ قطعًا، واتِّباعُ الظنِّ الذي لا دليلَ عليه، والذي لا يَدفَعُ شيئًا مِن هذا الحقِّ الثابت؛ إذ الآيةُ تتحدَّثُ عن ادِّعاءِ الكفَّارِ أن الملائكةَ إناثٌ، وأنهم بناتُ الله، وأن اللهَ اصطفى البناتِ على البنينَ؛ يقولُ تعالى: 

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 

[النجم: 27- 28]

 فهذا إنكارٌ مِن اللهِ تعالى على المشرِكين في تسميتِهمُ الملائكةَ تسميةَ الأنثى، وجعلِهمُ الملائكةَ بناتِ اللهِ تعالى، أي: ليس لهم علمٌ صحيحٌ يصدِّقُ ما قالوه، بل هو كذبٌ وزُورٌ وافتراءٌ، وكفرٌ شنيعٌ؛ لهذا فإنَّ ظنَّهم هذا لا يُجْدي شيئًا، ولا يقومُ أبدًا مقامَ الحقّ.

أما الظنُّ الواردُ في الحديثِ في قولِهِ ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»؛ رواه البخاري (5143)، ومسلم (2563) -: فإن المرادَ منه: النهيُ عن ظنِّ السَّوْء، والمحرَّمُ مِن الظنِّ ما يستمِرُّ صاحبُهُ عليه، ويستقِرُّ في قلبِه، دون ما يَعرِضُ في القلبِ ولا يستقِرُّ؛ فإن هذا لا يُكلَّفُ باجتنابِه.

خاتِمةٌ:

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

الذي عليه جماهيرُ المسلِمين مِن الصحابةِ والتابِعين، فمَن بعدَهم مِن المحدِّثين والفقهاءِ وأصحابِ الأصول -: أن خبرَ الواحدِ الثقةِ حجَّةٌ مِن حُجَجِ الشرع، يَلزَمُ اعتقادُ مُوجَبِهِ، والعملُ به؛ وهو إذا ثبَتَ بطريقٍ صحيحٍ يُفيدُ العلمَ واليقينَ، خاصَّةً إذا احتَفَّتْ به القرائن؛ وهذا مِن مقتضى حفظِ اللهِ تعالى لدِينِه.

ويدُلُّ عليه فعلُ النبيِّ ﷺ بإرسالِهِ الرسُلَ مِن الصحابة، وهم آحادٌ، ينقُلون أمورَ العقائدِ والفقه، وأمورَ السِّلْمِ والحَرْب، ويرتِّبُ على ذلك الأحكامَ العظيمةَ في أمورِ الناس، وكذلك استمَرَّ شأنُ المسلِمين على قَبولِها.

وقد دَلَّ على حجِّيَّةِ أخبارِ الآحادِ في العقيدةِ والفروعِ أدلَّةٌ كثيرة؛ منها: أدلَّةٌ مِن القرآنِ، ومِن السنَّة، وإجماعُ الصحابةِ جميعِهم، كما أن هناك أدلَّةً عقليَّةً على حجِّيَّةِ أخبارِ الآحاد.

وقد قال العلماء: إن خبَرَ الواحدِ العدلِ، الذي لم يتواتَرْ لا لفظُهُ ولا معناه، ولكنْ تلقَّتْهُ الأمَّةُ بالقَبولِ -: يُفيدُ العلمَ اليقينيَّ عند جماهيرِ أمَّةِ محمَّدٍ ﷺ مِن الأوَّلين والآخِرين؛ فيجبُ الاحتجاجُ به في العقائدِ والأحكام، وهذا يقتضي تصديقَهُ والعمَلَ به؛ أما السلفُ، فلم يكن بينهم في ذلك نزاعٌ، وأما الخلفُ، فهو مذهبُ الفقهاءِ الكبارِ مِن أصحابِ الأئمَّةِ الأربعةِ؛ كما في كُتُبِ الحنفيَّةِ والمالكيَّة، والشافعيَّةِ والحنبليَّة، كما هو مذهبُ أكثرِ المتكلِّمين مِن المعتزِلةِ والأشعريَّة.

وبهذا يتبيَّنُ أن العملَ بحديثِ الآحادِ، بعيدٌ كلَّ البعدِ عن العملِ بالظنِّ المنهيِّ عنه في الآيةِ الكريمةِ، والحديثِ الشريف، بل هو يُفيدُ العِلمَ واليقينَ، مما اقتضى الوثوقَ به والاحتجاجَ في مسائلِ الدِّينِ جميعًا عقيدةً وفقهًا؛ وهذا مِن لوازمِ حفظِ اللهِ لدينِهِ وشريعتِه.


خاتمة الجواب

خاتِمةٌ:

معامَلاتُ الناسِ في دينِهم ودُنياهم ومَعايِشهم، قائمةٌ كلُّها على قَبولِ خبرِ العدلِ الرِّضا؛ فالمؤذِّنُ يَقبَلُ الناسُ دَلَالةَ أذانِهِ على دخولِ الوقت، فيصلُّون، ويُمسِكُ الصائِمون عن المفطِراتِ، ويُفطِرون بأذانِهِ؛ إذا كان معروفًا عندهم بالعَدَالةِ والرضا، ولا يقولون له: «إن نداءَكَ نداءُ آحادٍ لا يُفيدُ اليقينَ، وإنما هو ظنٌّ لا يُغْني مِن الحقِّ شيئًا».

والابنُ أو الخادمُ الذي يُخبِرُكَ بثمَنِ الشايِ أو السُّكَّرِ أو اللحمِ، وهو عدلٌ رضًا عندك، لا تقولُ له: «إن خبرَكَ خبرُ آحادٍ، لا يُفيدُ اليقينَ، وإنما هو ظنٌّ لا يُغْني مِن الحقِّ شيئًا»، وهكذا.

إن أماراتِ الصدقِ، وسماتِ الصادِقين، وعلاماتِ الكذبِ والكاذِبين، أمرٌ بيِّنٌ في فِطَرِ الناسِ وعقولِهم وتمييزِهم، وهو سبيلُ الانتفاعِ بصدقِ الصادِقين، والتجنُّبِ لكذبِ الكاذِبين.

فبهذا يتبيَّنُ أن العملَ بحديثِ الآحادِ، بعيدٌ كلَّ البعدِ عن العملِ بالظنِّ المنهيِّ عنه في الآيةِ الكريمةِ، والحديثِ الشريف، بل هو يُفيدُ العِلمَ واليقينَ، مما اقتضى الوثوقَ به والاحتجاجَ في مسائلِ الدِّينِ جميعًا عقيدةً وفقهًا؛ وهذا مِن لوازمِ حفظِ اللهِ لدينِهِ وشريعتِه.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

الذي عليه جماهيرُ المسلِمين مِن الصحابةِ والتابِعين، فمَن بعدَهم مِن المحدِّثين والفقهاءِ وأصحابِ الأصول -: أن خبرَ الواحدِ الثقةِ حجَّةٌ مِن حُجَجِ الشرع، يَلزَمُ اعتقادُ مُوجَبِهِ، والعملُ به؛ وهو إذا ثبَتَ بطريقٍ صحيحٍ يُفيدُ العلمَ واليقينَ، خاصَّةً إذا احتَفَّتْ به القرائن؛ وهذا مِن مقتضى حفظِ اللهِ تعالى لدِينِه.

ويدُلُّ عليه فعلُ النبيِّ ﷺ بإرسالِهِ الرسُلَ مِن الصحابة، وهم آحادٌ، ينقُلون أمورَ العقائدِ والفقه، وأمورَ السِّلْمِ والحَرْب، ويرتِّبُ على ذلك الأحكامَ العظيمةَ في أمورِ الناس، وكذلك استمَرَّ شأنُ المسلِمين على قَبولِها.

وقد دَلَّ على حجِّيَّةِ أخبارِ الآحادِ في العقيدةِ والفروعِ أدلَّةٌ كثيرة؛ منها: أدلَّةٌ مِن القرآنِ، ومِن السنَّة، وإجماعُ الصحابةِ جميعِهم، كما أن هناك أدلَّةً عقليَّةً على حجِّيَّةِ أخبارِ الآحاد.

وقد قال العلماء: إن خبَرَ الواحدِ العدلِ، الذي لم يتواتَرْ لا لفظُهُ ولا معناه، ولكنْ تلقَّتْهُ الأمَّةُ بالقَبولِ -: يُفيدُ العلمَ اليقينيَّ عند جماهيرِ أمَّةِ محمَّدٍ ﷺ مِن الأوَّلين والآخِرين؛ فيجبُ الاحتجاجُ به في العقائدِ والأحكام، وهذا يقتضي تصديقَهُ والعمَلَ به؛ أما السلفُ، فلم يكن بينهم في ذلك نزاعٌ، وأما الخلفُ، فهو مذهبُ الفقهاءِ الكبارِ مِن أصحابِ الأئمَّةِ الأربعةِ؛ كما في كُتُبِ الحنفيَّةِ والمالكيَّة، والشافعيَّةِ والحنبليَّة، كما هو مذهبُ أكثرِ المتكلِّمين مِن المعتزِلةِ والأشعريَّة.

وبهذا يتبيَّنُ أن العملَ بحديثِ الآحادِ، بعيدٌ كلَّ البعدِ عن العملِ بالظنِّ المنهيِّ عنه في الآيةِ الكريمةِ، والحديثِ الشريف، بل هو يُفيدُ العِلمَ واليقينَ، مما اقتضى الوثوقَ به والاحتجاجَ في مسائلِ الدِّينِ جميعًا عقيدةً وفقهًا؛ وهذا مِن لوازمِ حفظِ اللهِ لدينِهِ وشريعتِه.


الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

ينقسِمُ الحديثُ مِن حيثُ عددُ رواتِهِ إلى: متواترٍ، وآحادٍ:

فالمتواتِرُ: ما رواه جمعٌ تُحيلُ العادةُ تواطُؤَهم على الكذبِ، أو صدورَهُ منهم اتفاقًا مِن غيرِ قصدٍ، ويستمِرُّ ذلك مِن أوَّلِ إسنادِ الحديثِ إلى آخِرِه، ويكونُ مَرجِعُهُ إلى الحسِّ مِن مشاهَدٍ أو مسموعٍ، أو نحوِهما.

والآحادُ، أو خبَرُ الواحدِ: هو ما لم تجتمِعْ فيه شروطُ المتواتِرِ؛ فيَشمَلُ ما رواه واحدٌ في طبقةٍ أو في جميعِ الطبقات، وما رواه اثنان، وما رواه ثلاثةٌ فصاعدًا، ما لم يصلْ إلى عددِ التواتُر.

وينقسِمُ الحديثُ الآحادُ إلى أقسامٍ ثلاثة:

1- غريبٌ: وهو ما ينفرِدُ بروايتِهِ راوٍ واحدٌ؛ إما في كلِّ طبقةٍ مِن طبَقاتِ السنَدِ، أو في بعضِها.

ومثالُهُ: حديثُ: 

«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»؛

رواه البخاري (1)، ومسلم (1907)

فهو حديثٌ فردٌ غريبٌ في أوَّلِه، مستفيضٌ في آخِرِه، وهو صحيحٌ بلا شكٍّ في ذلك.

2- عزيزٌ: وهو ما يَرْويهِ اثنانِ في جميعِ الطبقات، وقد يزيدُ في بعضِ طبَقاتِهِ على الاثنَيْن.

مثالُهُ: حديثُ أنَسٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال النبيُّ ﷺ: 

«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»؛ متَّفَقٌ عليه؛

رواه البخاري (14)، ومسلم (44)

فقد رواه عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنه: قتادةُ، وعبدُ العزيزِ بنُ صُهَيبٍ، ورواه عن قتادةَ: شُعْبةُ، وسعيدٌ، ورواه عن عبدِ العزيزِ: إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ، وعبدُ الوارثِ، ورواه عن كُلٍّ جماعةٌ.

3- مشهورٌ: وهو ما رواه ثلاثةٌ فصاعدًا في كلِّ طبقةٍ، ولم يصلْ إلى حدِّ التواتُر.

ومثالُهُ: حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضيَ اللهُ عنهما؛ أن رسولَ اللهِ ﷺ قال: 

«إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»؛

متفَقٌ عليه؛ رواه البخاري (100)، ومسلم (2673)

فهذا الحديثُ رواه عن ابنِ عمرٍو في جميعِ طبقاتِ السنَدِ ثلاثةٌ فأكثرُ؛ كما هو مفصَّلٌ في أسانيدِه.

وبعد أن تعرَّفْنا على حديثِ الآحادِ وأنواعِهِ، نبيِّنُ خطأَ القولِ بتعطيلِ حجِّيَّةِ خبرِ الآحادِ وعدمِ اعتقادِ موجَبِهِ، وعدمِ العملِ به؛ بدعوى أنه لا يُفِيدُ إلا الظنَّ؛ وذلك مِن عدَّةِ أوجُه:

أوَّلًا: الأدلَّةُ على حجِّيَّةِ خبرِ الآحاد:

خبرُ الآحادِ حجَّةٌ في العقيدةِ والفروعِ على السواء، ولم يفرِّقْ أحدٌ مِن العلماءِ في ذلك بين أصولِ الدِّينِ وفروعِه؛ وأدلَّةُ ذلك ما يلي:

1- الأدلَّةُ على حجِّيَّةِ خبرِ الآحادِ مِن القرآن:

فمن ذلك: الآياتُ الكثيرةُ في بَعْثةِ الأنبياء؛ فكلُّ رسالاتِ الأنبياءِ تدُلُّ على قَبولِ خبرِ الواحدِ في الإيمانيَّاتِ والشرعيَّات؛ لأن اللهَ يُرسِلُ نبيًّا واحدًا لعددٍ كبيرٍ مِن الناس.

ومنه: قولُهُ تعالى: 

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}

[التوبة: 122]

والطائفةُ مِن الشيءِ: جزءٌ منه؛ فهي تُطلَقُ على الرجُلِ الواحدِ فما فوقَهُ، وفي هذه الآيةِ: يأمُرُنا اللهُ تعالى أن تخرُجَ طائفةٌ مِن كلِّ فرقةٍ - ولو كان رجلًا واحدًا - لتتعلَّمَ العلمَ وتعلِّمَهُ لقومِها؛ وهذا العلمُ مطلَقٌ، يَشمَلُ العقائدَ والتشريعات، وليس في الآيةِ ما يُخرِجُ ما يخُصُّ العقائدَ منها، وهذه الطائفةُ مصدَّقةٌ فيما تقولُ، وفي هذا دليلٌ على قَبولِ خبَرِ الواحدِ، وأن الحجَّةَ تقومُ به في العقائدِ والأحكامِ جميعًا.

ومنه: قولُهُ تعالى أيضًا: 

{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

[يس: 20-22]

ففي هذه الآيةِ: يُثبِتُ اللهُ تعالى أنه يُقبَلُ خبرُ الواحدِ في تبليغِ أمورِ العقيدة، ومنها اتِّباعُ المرسَلين، وما يأتُون به مِن الأمرِ بعبادةِ اللهِ وحدَهُ الذي فطَرَهم، وإليه يُرجَعون.

وكذلك: قولُ اللهِ تعالى: 

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}

[يس: 13- 15]:

قال الشافعيُّ في «الرسالة» (1/ 437) - بعد ذكرِهِ هذه الآيةَ - قال: «فظاهَرَ الحُجَجَ عليهم باثنَيْن، ثم ثالثٍ، وكذا أقام الحجَّةَ على الأممِ بواحدٍ، وليستِ الزيادةُ في التأكيدِ مانِعةً أن تقومَ الحجَّةُ بالواحدِ؛ إذْ أعطاهُ ما يبايِنُ به الخَلْقَ غيرَ النبيِّين».

وفي هذه الآيةِ: دليلٌ قويٌّ على أن أخبارَ الآحادِ يُؤخَذُ بها، سواءٌ كان راوِيها واحدًا أو اثنَيْنِ أو ثلاثةً، وهو ما دون المتواتِرِ، ولو كانت غيرَ مقبولةٍ - كما يزعُمون - لَمَا ذكَرَها اللهُ حُجَّةً في تبليغِ الدعوةِ لهذه القَرْيةِ؛ خاصَّةً في عبادةِ اللهِ وتوحيدِه.

2- الأدلَّةُ على حجِّيَّةِ خبَرِ الآحادِ مِن السنَّة:

تواتَرتِ الرواياتُ القطعيَّةُ في السنَّةِ على قَبولِ خبرِ الواحد:

ومِن ذلك: ما رواه عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما، قال: 

«بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ»؛

رواه البخاري (403)، ومسلم (526)

فنجدُ في هذا الحديثِ: أن صحابةَ رسولِ اللهِ ﷺ قد قَبِلوا خبرًا عظيمًا مِن واحدٍ؛ لعِلمِهم بجوازِ الأخذِ بخبرِ الواحدِ إذا توافَرتْ فيه شروطُ نقلِ الخبر، واستداروا إلى الكعبة، ولم يقولوا له: «لا بدَّ مِن أن تأتِيَنا بكافَّةٍ حتى نصدِّقَك».

ودليلٌ آخَرُ مِن السنَّةِ: وهو ما رواه البخاريُّ (1496)، ومسلِمٌ (19)، 

عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ الله ﷺ لمعاذِ بنِ جبَلٍ حين بعَثهُ إلى اليمَنِ

 «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»

فالحديثُ صريحٌ في الدعوةِ إلى الإيمانِ بالله، والإيمانِ بالرسولِ ﷺ، وجاءت في طليعةِ وصيَّةِ الرسولِ ﷺ لمعاذٍ بالتبليغِ عنه، مع الدعوةِ إلى ما ورَدَ في الحديثِ مِن أحكام؛ فكانت مُهِمَّتُهُ تتعلَّقُ بالدعوةِ إلى العقيدةِ، وأحكامِ الشريعة؛ وهذا حديثُ آحاد.

3- اتفَقَ الصحابةُ جميعُهم وتواتَرَ عنهم العملُ بحديثِ الآحادِ، والتصديقُ بموجَبِهِ؛ وهذا أمرٌ قطعيٌّ لا ريبَ فيه.

4- الأدلَّةُ العقليَّةُ على حجِّيَّةِ خبرِ الآحاد:

إن العقلَ والمنطقَ السليمَيْنِ المجرَّدَيْنِ مِن الهوى والزيغِ لَيَقْبَلانِ خبرَ الآحادِ الذي ورَدَ عن رسولِ اللهِ ﷺ، دون اشتراطِ حدِّ التواتُرِ فيه؛ فمِن المستحيلِ أن يسيرَ الرسولُ ﷺ في كلِّ أحيانِهِ مع مجموعةٍ مِن الصحابةِ، لا يَقِلُّ عددُهم عن حدِّ التواتُرِ المعروف، ولا يترُكونه في حِلِّه وتَرْحالِه، وفي نومِهِ ويقَظتِه؛ وذلك لينقُلوا لنا سُنَّتَهُ ﷺ؛ حتى تكونَ كلُّها متواترةً لا آحادًا؛ هذا ما لا يَذهَبُ إليه عاقل.

ولذلك كان الصحابةُ يتناوَبون المجيءَ إلى رسولِ اللهِ ﷺ؛ على أن يُخبِرَ الشاهدُ الغائبَ، وربما يَسمَعُ الحديثَ مِن النبيِّ ﷺ جمعٌ مِن أصحابِه، ولكنْ لا يبلِّغُهُ إلا واحدٌ منهم؛ إذْ لم تأتِ مناسَبةٌ لأحدِهم أن يذكُرَهُ إلا لهذا الفردِ بعَيْنِه.

كما أننا لو قلنا: «إن الأحكامَ لا تثبُتُ بخبرِ الواحدِ»، لاختلَفَ المسلِمون فيما يجبُ عليهم مِن أحكام؛ فيكونُ مَن سَمِعَ مِن النبيِّ ﷺ حُكْمًا، فقد لَزِمَهُ، أما مَن لم يَسمَعْهُ، فإنه لا يَلزَمُهُ إذا كان آحادًا؛ مما يؤدِّي إلى اختلافِ الصحابةِ والناسِ مِن بعدِهم في أحكامِ دِينِهم.

وقد كانت زوجاتُهُ ﷺ يَروِينَ عنه ما يحدُثُ في حُجُراتِهنَّ مِن أمورِهِ ﷺ، كلٌّ منهُنَّ على حِدَةٍ، ويستحيلُ أن يَرْويَها غيرُهُنَّ مِن الصحابة، وهذه الأمورُ هل نترُكُها لأن راويَها واحد؟! إن هذا ما لا يَقبَلُهُ العقلُ السليم.

5- الإجماعُ وعملُ الأئمَّةِ على حجِّيَّةِ خبرِ الآحاد:

لقد مضى أمرُ علماءِ المسلِمين قديمًا وحديثًا على الاحتجاجِ بخبرِ الآحادِ في العقائدِ والشرائع، ووجوبِ التصديقِ بمضمونِهِ، والعملِ به:

قال الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ في «شرحِ اللمعِ» (2/578-579): «وخبَرُ الواحدِ إذا تلقَّتْهُ الأمَّةُ بالقَبولِ، يُوجِبُ العلمَ والعملَ؛ سواءٌ عَمِلَ به الكلُّ أو البعضُ».

وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ في «جوابِ الاعتراضاتِ المصريَّة» (ص 43): «والقسمُ الثاني مِن الأخبار: ما لم يَرْوِهِ إلا الواحدُ العدلُ ونحوُه، ولم يتواتَرْ لا لفظُهُ ولا معناه، ولكنْ تلقَّتْهُ الأمَّةُ بالقَبولِ، عملًا به، أو تصديقًا له ... فهذا يُفيدُ العلمَ اليقينيَّ أيضًا عند جماهيرِ أمَّةِ محمَّدٍ ﷺ مِن الأوَّلين والآخِرين، أما السلفُ، فلم يكن بينهم في ذلك نزاعٌ، وأما الخلفُ، فهذا مذهبُ الفقهاءِ الكبارِ مِن أصحابِ الأئمَّةِ الأربعةِ، والمسألةُ منقولةٌ في كتبِ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ والشافعيَّةِ والحنبليَّةِ؛ مثلُ السَّرَخْسيِّ، (وأبي بكرٍ الرازيِّ مِن الحنفيَّة)، ومِثلُ الشيخِ أبي حامدٍ، وأبي الطيِّبِ، وأبي إسحاقَ، وغيرِهم (مِن الشافعيَّة، وابنِ خُوازمِنْدادَ، وغيرِهِ مِن المالكيَّة)، ومِثلُ القاضي أبي يَعْلى، (وابنِ أبي موسى)، وأبي الخطَّابِ، وابنِ الزاغُونيِّ، وغيرِهم (مِن الحنبليَّة)، ومثلُ القاضي عبدِ الوهَّابِ، وغيرِه، وكذلك أكثرُ المتكلِّمين مِن المعتزِلةِ والأشعريَّةِ؛ مِثلُ أبي إسحاقَ الإسفَرَايينيِّ، وأبي بكرِ بنِ فُورَكَ، وغيرِهما، (وأبي إسحاقَ النظَّامِ مِن المتكلِّمين)، وإنما نازَعَ في ذلك طائفةٌ كابنِ الباقلَّانيِّ، و(مَن) تَبِعَهُ؛ مثلُ أبي المعالي، والغَزَاليِّ، وابنِ عَقِيلٍ، وابنِ الجَوْزيِّ، ونحوِهم».

وينظر: «مختصَرِ الصواعق» (4/1465-1491).

ثانيًا: التفسيرُ الخاطئُ لحديثِ الآحاد:

مِن التعريفِ السابقِ يتَّضِحُ أن خبرَ الآحادِ ليس - كما يَفهَمُهُ بعضُ الناسِ - أنه فقطْ: «هو الخبرُ الذي انفرَدَ به راوٍ واحد»؛ إذ هذا قسمٌ مِن أقسامِهِ الثلاثة؛ لذلك كانت أخبارُ الآحادِ هي القسمَ الأكبرَ في السنَّةِ النبويَّة؛ لأن المتواترَ - وخاصَّةً اللفظيَّ - قليلٌ بالنسبةِ إلى مجموعِ ما رُوِيَ مِن السنَّة.

ثالثًا: شروطُ المحدِّثين لقَبولِ أحاديثِ الآحاد:

يُشترَطُ لقَبولِ خبرِ الآحادِ:

- العدالةُ.

- والضبطُ.

- وأن يكونَ الراوي قد سَمِعَ الحديثَ عمَّن يَرْويهِ عنه بأن يكونَ اللقاءُ بينهما ثابتًا، أو ممكِنًا.

- وألا يكونَ في متنِ الحديثِ شذوذٌ بألا يكونَ مخالِفًا للمقرَّرِ الثابتِ عند أهلِ الحديث، أو ما عُلِمَ مِن الدينِ بالضرورة، أو مخالِفًا للقطعيِّ مِن القرآن.

- وألا يكونَ فيه علَّةٌ خفيَّةٌ تَقدَحُ في صحَّةِ الحديثِ، وهي أوهامُ الثقاتِ؛ كتفرُّدِ الراوي، ومخالَفةِ غيرِهِ له، وإرسالٍ في الموصولِ، أو وقفٍ في المرفوعِ، أو دخولِ حديثٍ في حديثٍ، ونحوِ ذلك، والسبيلُ إلى معرفةِ علَّةِ الحديثِ: أن يُجمَعَ بين طُرُقِهِ، ويُنظَرَ في اختلافِ رُواتِه، ويُعتبَرَ بمكانِهم مِن الحفظ، ومنزلتِهم في الإتقانِ والضبط، ورُوِيَ عن عليِّ بنِ المدينيِّ أنه قال: «إن الحديثَ إذا لم تُجمَعْ طرُقُهْ، لم يَتبيَّنْ خطَؤُهْ»؛ رواه الخطيبُ في «الجامع» (2/212).

والعدالةُ معناها: ألا يكونَ معروفًا بالكذبِ، وأن يكونَ مؤدِّيًا للفرائضِ، منتهيًا عن النواهي في الدِّين؛ فلا تُقبَلُ روايةٌ في الدِّينِ ممَّن لا يتحرَّجُ مِن مخالَفةِ أوامرِ الدِّينِ ونواهيهِ، ومِن العدالةِ: ألا يكونَ صاحبَ بدعةٍ في الدِّينِ يدعو إليها.

وأما الضبطُ: فإن تفسيرَهُ هو سماعُ الكلامِ كما يَحِقُّ سماعُهُ، ثم فَهْمُهُ بمعناهُ الذي أُريدَ به، ثم حِفظُهُ ببذلِ المجهودِ له، ثم الثباتُ عليه بمحافَظةِ حدودِه، ومراقَبتُهُ بمذاكَرتِهِ - على إساءةِ الظنِّ بنفسِهِ - إلى حينِ أدائِه، وهو نوعانِ، أحدُهما: ضبطُ المتنِ بصيغتِه، والثاني: أن يُضَمَّ إلى ضبطِهِ لصيغةِ المتنِ: ضبطُ معناهُ فقهًا وشرعًا؛ وهذا أكمَلُها.

وهذه الشروطُ التي وضَعَها المحدِّثون، منها: ما هو في راوي الحديث، ومنها: ما هو في متنِ الحديث:

فأما الشروطُ الخاصَّةُ براوي الحديثِ، فنستطيعُ أن نبيِّنَها كالتالي:

- العدالة.

- الضبط.

- أن يكونَ فقيهًا (عند بعضِ المذاهب).

- أن يَعمَلَ الراوي بما يوافِقُ الخبرَ، ولا يخالِفَهُ (عند بعضِ المذاهب).

- أن يكونَ عالمًا بالحديثِ الذي يستدِلُّ به.

- أن يكونَ عالمًا بما يُحيلُ معانيَ الحديثِ مِن اللفظِ؛ إذا روَى الحديثَ بالمعنى.

وأما الشروطُ الخاصَّةُ بمتنِ الحديثِ، فهي:

- أن يكونَ متَّصِلَ السنَدِ إلى رسولِ اللهِ ﷺ.

- خلُوُّهُ مِن الشذوذِ والعِلَّة.

- ألا يخالِفَ السنَّةَ المشهورةَ؛ قوليَّةً كانت أو فعليَّةً.

وهكذا احتاط العلماءُ في قَبولِ خبرِ الواحد؛ فاشترَطوا له الشروطَ الكافية، ووضَعوا لراويهِ الصفاتِ اللازمةَ التي تَجمَعُ بين الثقةِ في الدِّينِ، والصدقِ في الحديث.

وإذا كان خبرُ الواحدِ يتوافَرُ فيه وفي روايتِهِ مثلُ هذه الشروط، فهل مِن المعقولِ أن يُقالَ: «إنه لا يُحتَجُّ به، ولا يُفِيدُ العِلمَ، أو لا يُعمَلُ به»؟!

إن هذه المقاييسَ الدقيقةَ، والشروطَ القويَّةَ المحكَمةَ التي وضَعَها علماءُ الحديث، والتي لا يُعرَفُ في الدنيا مثيلٌ لها، تَدفَعُ كلَّ شبهةٍ يحاوِلُ أعداءُ السنَّةِ إلصاقَها بالحديثِ النبويّ.

وبهذه الشروطِ يتَّضِحُ معنى قولِ العلماء: «إن حديثَ الآحادِ مُتَّفَقٌ على العملِ به، وعلى اعتقادِ مضمونِه، وعدمِ تركِه بالكليَّة».

رابعًا: مناقَشةُ القولِ بعدمِ الاحتجاجِ بخبَرِ الآحادِ؛ بدَعْوى إفادتِهِ للظنِّ، وورودِ القرآنِ بعدمِ اتِّباعِ الظنّ:

ذكَرْنا إفادةَ خبرِ الآحادِ المحتَفِّ بالقرائنِ للعلمِ واليقينِ عند جماهيرِ أمَّةِ محمَّدٍ ﷺ، وأنه حجَّةٌ في العقيدةِ والشريعةِ جميعًا، وأنه لا يفيدُ الظنَّ؛ كما يزعُمُ السائل.

ومع ذلك: فالمقصودُ بـ «الظنِّ» الواردِ في قولِهِ عزَّ وجلَّ:

{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 

[النجم: 28]

 هو تركُ الحقِّ الثابتِ قطعًا، واتِّباعُ الظنِّ الذي لا دليلَ عليه، والذي لا يَدفَعُ شيئًا مِن هذا الحقِّ الثابت؛ إذ الآيةُ تتحدَّثُ عن ادِّعاءِ الكفَّارِ أن الملائكةَ إناثٌ، وأنهم بناتُ الله، وأن اللهَ اصطفى البناتِ على البنينَ؛ يقولُ تعالى: 

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 

[النجم: 27- 28]

 فهذا إنكارٌ مِن اللهِ تعالى على المشرِكين في تسميتِهمُ الملائكةَ تسميةَ الأنثى، وجعلِهمُ الملائكةَ بناتِ اللهِ تعالى، أي: ليس لهم علمٌ صحيحٌ يصدِّقُ ما قالوه، بل هو كذبٌ وزُورٌ وافتراءٌ، وكفرٌ شنيعٌ؛ لهذا فإنَّ ظنَّهم هذا لا يُجْدي شيئًا، ولا يقومُ أبدًا مقامَ الحقّ.

أما الظنُّ الواردُ في الحديثِ في قولِهِ ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»؛ رواه البخاري (5143)، ومسلم (2563) -: فإن المرادَ منه: النهيُ عن ظنِّ السَّوْء، والمحرَّمُ مِن الظنِّ ما يستمِرُّ صاحبُهُ عليه، ويستقِرُّ في قلبِه، دون ما يَعرِضُ في القلبِ ولا يستقِرُّ؛ فإن هذا لا يُكلَّفُ باجتنابِه.

خاتِمةٌ:

خاتمة الجواب

خاتِمةٌ:

معامَلاتُ الناسِ في دينِهم ودُنياهم ومَعايِشهم، قائمةٌ كلُّها على قَبولِ خبرِ العدلِ الرِّضا؛ فالمؤذِّنُ يَقبَلُ الناسُ دَلَالةَ أذانِهِ على دخولِ الوقت، فيصلُّون، ويُمسِكُ الصائِمون عن المفطِراتِ، ويُفطِرون بأذانِهِ؛ إذا كان معروفًا عندهم بالعَدَالةِ والرضا، ولا يقولون له: «إن نداءَكَ نداءُ آحادٍ لا يُفيدُ اليقينَ، وإنما هو ظنٌّ لا يُغْني مِن الحقِّ شيئًا».

والابنُ أو الخادمُ الذي يُخبِرُكَ بثمَنِ الشايِ أو السُّكَّرِ أو اللحمِ، وهو عدلٌ رضًا عندك، لا تقولُ له: «إن خبرَكَ خبرُ آحادٍ، لا يُفيدُ اليقينَ، وإنما هو ظنٌّ لا يُغْني مِن الحقِّ شيئًا»، وهكذا.

إن أماراتِ الصدقِ، وسماتِ الصادِقين، وعلاماتِ الكذبِ والكاذِبين، أمرٌ بيِّنٌ في فِطَرِ الناسِ وعقولِهم وتمييزِهم، وهو سبيلُ الانتفاعِ بصدقِ الصادِقين، والتجنُّبِ لكذبِ الكاذِبين.

فبهذا يتبيَّنُ أن العملَ بحديثِ الآحادِ، بعيدٌ كلَّ البعدِ عن العملِ بالظنِّ المنهيِّ عنه في الآيةِ الكريمةِ، والحديثِ الشريف، بل هو يُفيدُ العِلمَ واليقينَ، مما اقتضى الوثوقَ به والاحتجاجَ في مسائلِ الدِّينِ جميعًا عقيدةً وفقهًا؛ وهذا مِن لوازمِ حفظِ اللهِ لدينِهِ وشريعتِه.