نص السؤال

كيف نُؤمِنُ بأن السنَّةَ التي بين أيدينا الآنَ قالها النبيُّ ﷺ، مع وجودِ روايةٍ للحديثِ بالمعنى؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

عدمُ التزامِ الرواةِ بألفاظِ الأحاديث، والاكتفاءُ بروايتِها بالمعنى.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

لا شَكَّ أن المتتبِّعَ للسِّيرةِ النبويَّة، والمُطَّلِعَ على تاريخِ السنَّة، يَعلَمُ أن الأصلَ هو روايةُ السنَّةِ باللفظِ الذي قاله النبيُّ ﷺ، ومَن قال بغيرِ ذلك، فعليه أن يأتِيَ بدليلٍ على ذلك.

ويبيِّنُ هذا أمورٌ:

  • لقد حرَصَ الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم على حِفظِ سنَّةِ النبيِّ ﷺ، كما حرَصوا على حفظِ القرآن:
  • حرَصَ النبيُّ ﷺ على روايةِ أحاديثِهِ بألفاظِها؛ وحَثَّ أصحابَهُ على ذلك:
  • كان الصحابةُ يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ أحاديثِ النبيِّ ﷺ خشيةَ الكذبِ عليه:
  • وليس هذا بعجيبٍ أن يَحفَظَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم السنَّةَ بدرجةٍ فائقةِ الإتقان؛ فيدقِّقون حتى في التشديدِ والحرَكات:
  • وأما عن مسألةِ الروايةِ بالمعنى للأحاديث، فإن العلماءَ الذين يُجِيزون الروايةَ بالمعنى، قد وضَعوا شروطًا حازمةً يجبُ توافُرُها في الراوي للحديثِ بالمعنى لقَبولِ روايتِهِ؛ فليس لكلِّ أحدٍ أن يَروِيَ الحديثَ بالمعنى هكذا بلا قيودٍ:

فحَفِظوها بأدقِّ ألفاظِها؛ فكانوا يلازِمون النبيَّ ﷺ، ويَحفَظون كلامَه، ويراقِبون أفعالَه، ويَشهَدون أحكامَهُ وقضاياهُ وفتاويَه، وكان الذي لم يَشهَدْ، يأخُذُ مِن الذي شَهِدَ؛ كما كان يَفعَلُ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ مع جارِهِ الأنصاريِّ رضيَ اللهُ عنهما، وكان النبيُّ ﷺ يحُثُّ أصحابَهُ على حفظِ السنَّةِ وفهمِها وتبليغِها للناسِ، كما سَمِعُوها بلفظِها منه؛ كما قال ﷺ:

«نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقالَتِي، فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَهَا»؛

رواه التِّرمِذيُّ (2658)، والبزَّار (3416)

وقال ﷺ:

«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛

رواه البخاري (3461)

ومِن ذلك: قولُهُ ﷺ للبَرَاءِ بنِ عازِبٍ رضيَ اللهُ عنه:

«إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ»، قَالَ: «فَرَدَّدتُّهَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا بَلَغْتُ: «اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ»، قُلْتُ: «وَرَسُولِكَ»، قَالَ: «لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ»؛

رواه البخاري (247)، و مسلم (2710).

ومِن ذلك:

ما رُوِيَ عن عَمْرِو بنِ مَيمُونٍ؛ أنه قال: «مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ إِلَّا أَتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ»، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ»، قَالَ: فَنَكَسَ، قَالَ: «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَهُوَ قَائِمٌ مُحَلَّلَةً أَزْرَارُ قَمِيصِهِ، قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ»، قَالَ: «أَوْ دُونَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ»؛

رواه ابنُ ماجهْ (23)

هذا هو الحالُ الذي كان عليه الصدرُ الأوَّلُ مِن الإسلام.

فالتزَمَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم ومَن بعدَهم هذا الحرصَ الشديدَ قدرَ استطاعتِهم؛ حتى إن بعضَهم ما كان يَرْضى أن يبدِّلَ حرفًا بحرفٍ، حتى ولو لم يغيِّرِ المعنى؛ فلم يكونوا يروُون الحديثَ بمعناه إلا عند الضرورةِ فقطْ:

وتأمَّلْ هذا المَشهَدَ لعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما، وقد كان جالسًا في مَجلِسٍ، وعُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ يقُصُّ على أهلِ مَكَّةَ حديثَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، إِنْ أَقْبَلَتْ إِلَى هَذِهِ الْغَنَمِ، نَطَحَتْهَا، وَإِنْ أَقْبَلَتْ إِلَى هَذِهِ، نَطَحَتْهَا»، فقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: «ليس هكذا»، فغَضِبَ عُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ، وفي المَجلِسِ عبدُ اللهِ بنُ صَفْوانَ، فقال: يا أبا عبدِ الرحمنِ، كيف قال رَحِمَكَ الله؟ فقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ:

«مَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ بَيْنَ الرَّبِيضَيْنِ؛ إِنْ أَقْبَلَتْ إِلَى ذَا الرَّبِيضِ، نَطَحَتْهَا، وَإِنْ أَقْبَلَتْ إِلَى ذَا الرَّبِيضِ، نَطَحَتْهَا»، فقال: رَحِمَكَ اللهُ؛ هما واحدٌ، قال: «هكذا سَمِعتُ»؛

رواه أحمد (9/ 382 رقم 5546)

بل بلَغَ حِرصُ الصحابةِ: أنهم كانوا لا يشدِّدون حرفًا ثقيلًا، ولا يخفِّفون حرفًا مشدَّدًا؛ فليس مِن المعقولِ بقومٍ هذا حالُهم حتى وإن اضطُرُّوا إلى روايةِ السنَّةِ بالمعنى: أن يروُوها بطريقةٍ تغيِّرُ معناها، وتؤدِّي إلى تحريفِها.

فقد وهَبَ اللهُ هذا الجِيلَ الفريدَ حافظةً عظيمةً؛ ليَحفَظوا بها وحيَهُ ودينَه.

والمُطَّلِعُ على أخبارِ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم في الحفظِ، يَرَى عجَبًا؛ فيجدُ فيهم عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ، وقد حَفِظَ قصيدةً مكوَّنةً مِن ثمانينَ بيتًا لابنِ أبي رَبِيعةَ مِن المرَّةِ الأُولى؛ ينظر: «تاريخُ دِمَشْقَ» لابن عساكر (45/ 93)، وزيدَ بنَ ثابتٍ الذي حَفِظَ القرآنَ كلَّه في حياةِ النبيِّ ﷺ، وتعلَّم السُّرْيانيَّةَ (لغةَ اليهودِ) في سبعةَ عشَرَ يومًا؛ رواه أحمد (35/ 463 رقم 21587)، وغيرُهما كثيرٌ.

وفي التابِعين: نافعٌ مولى عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وابنُ شِهابٍ الزُّهْريُّ، والشَّعْبيُّ، وقتادةُ؛ وهؤلاءِ كانوا مَضرِبَ المثَلِ في الحفظِ والضبط.

وهذا كلُّه أحدُ وسائلِ العنايةِ بالسنَّةِ عن طريقِ حفظِ الصدور.

أما عن حفظِ السطورِ والكتابةِ: فقد كانت هناك عمليَّاتٌ واسعةٌ للكتابةِ والتدوينِ بعد استقرارِ كتابةِ المصاحف، وكان كثيرٌ مِن المحدِّثين لا يحدِّثُ طُلَّابَهُ إلا إذا كتَبُوا عنه ما يقولُ؛ فلم تكُنِ السنَّةُ بشكلٍ أساسيٍّ - كما يزعُمُ المشكِّكون في السنَّةِ - مرويَّةً بالمعنى.

ومِن شروطِ الروايةِ بالمعنى:

- أن يكونَ الراوي مضطرًّا إلى الروايةِ بالمعنى.

- أن يكونَ الراوي بالمعنى ثقةً في دِينِهِ، ضابطًا لما ينقُلُه.

- أنه لا تجُوزُ الروايةُ بالمعنى لمَن لم يكن عالمًا بالعربيَّة، ولم يَعلَمْ مدلولَ الألفاظِ في لسانِ العرَبِ ومقاصِدَها، وما يُحيلُ معناها، والمرادِفَ منها، والمحتمِلَ مِن غيرِه؛ لأن مَن اتَّصَفَ بذلك، لا يُؤمَنُ أن تؤدِّيَ روايتُهُ إلى خلَلٍ في المعنى.

- أن يكونَ الراوي بصيرًا بالمعاني والفِقْه.

- أن يبيِّنَ الراوي أن هذا هو معنى الحديثِ، وليس لفظَه.

- ألا يكونَ الحديثُ المرويُّ بالمعنى أحدَ ثلاثةٍ: مما يُتعبَّدُ بلفظِه؛ كالشهادةِ، والتشهُّدِ، والإقامةِ، والدعاءِ، وغيرِه، أو مِن جوامعِ كَلِمِهِ ﷺ، أو أن يكونَ مما يُستدَلُّ بلفظِهِ على حكمٍ معيَّنٍ.

وعليه: فلا يُعقَلُ أن يكونَ حديثٌ رُوِيَ بالمعنى، ومَرَّ بهذه الشروطِ: أن يكونَ محرَّفًا أو مبدَّلًا؛ كما يزعُمُ المغرِضون.

وغيرُ ذلك مما حرَّر فيه العلماءُ الكلامَ، ونُقِلَتْ فيه الأخبارُ الدقيقة.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

الأصلُ في السنَّةِ: روايتُها بألفاظِها؛ كما قال ﷺ:

«نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقالَتِي، فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَهَا»؛

رواه التِّرمِذيُّ (2658)، والبزَّارُ (3416)

 وقال ﷺ:

«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛

رواه البخاري (3461).

ولقد حرَصَ النبيُّ ﷺ على روايةِ أحاديثِهِ بألفاظِها، وحَثَّ أصحابَهُ على ذلك، ومِن هنا حرَصَ الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم على حِفظِ سنَّةِ النبيِّ ﷺ، كما حرَصوا على حفظِ القرآن، بل كان الصحابةُ يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ أحاديثِ النبيِّ ﷺ خشيةَ الكذبِ عليه، وليس هذا بعجيبٍ أن يَحفَظَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم السنَّةَ بدرجةٍ فائقةِ الإتقان؛ فيدقِّقون حتى في التشديدِ والحرَكات.

وهذا مِن حفظِ السنَّةِ عن طريقِ حفظِ الصدور، أما عن حفظِ السطورِ والكتابةِ: فقد كانت هناك عمليَّاتٌ واسعةٌ للكتابةِ والتدوينِ بعد استقرارِ كتابةِ المصاحف، وكان كثيرٌ مِن المحدِّثين لا يحدِّثُ طُلَّابَهُ إلا إذا كتَبُوا عنه ما يقولُ؛ فلم تكن السنَّةُ بشكلٍ أساسيٍّ - كما يزعُمُ المشكِّكون في السنَّةِ - مرويَّةً بالمعنى.

هذا؛ ولا يُصارُ إلى الروايةِ بالمعنى إلا عند الضرورةِ، وبشروطٍ حازمةٍ يستحيلُ أن تؤدِّيَ إلى إخلالٍ بالمعنى، أو تحريفٍ، أو تبديلٍ.

وأخيرًا: فهذا الزعمُ مبنيٌّ على إمكانِ ضياعِ السنَّةِ، أو إمكانِ عدمِ حفظِها؛ وهذا أمرٌ يستحيلُ عقلًا؛ فإن مقتضى الإيمانِ باللهِ تعالى، والإيمانِ بالنبوَّةِ: أن تؤمِنَ أن الشرعَ والرسالةَ التي أرسَلَها اللهُ إلى خلقِهِ، لا بدَّ أن تظَلَّ محفوظةً في خلقِهِ دُونَ ضياعٍ أو تحريفٍ؛ لأنه حجَّةُ اللهِ تعالى على خلقِه، وبها سبيلُ النجاةِ الوحيدُ يومَ القيامةِ، وقد قال اللهُ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وحِفظُ الذكرِ يتضمَّنُ حِفظَ لفظِه، وحِفظَ معناه؛ وبذلك تقومُ الحجَّة، وتتَّضِحُ المَحَجَّة.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب:

وهناك أمرٌ أخيرٌ نَختِمُ به هذه الإجابةَ، وهو أن هذا الزعمَ مبنيٌّ على إمكانِ ضياعِ السنَّةِ، أو إمكانِ عدمِ حفظِها؛ وهذا أمرٌ يستحيلُ عقلًا، ودلائلُهُ مبنيَّةٌ على أمرٍ مسبَقٍ، وهو الإيمانُ باللهِ تعالى، والإيمانُ بالنبوَّة: فمقتضى الإيمانِ باللهِ، والإيمانِ بالنبوَّةِ: أن تؤمِنَ أن الشرعَ والرسالةَ التي أرسَلَها اللهُ إلى خلقِهِ، لا بدَّ أن تظَلَّ محفوظةً في خلقِهِ دُونَ ضياعٍ أو تحريفٍ؛ لأنه حجَّةُ اللهِ تعالى على خلقِه، وبها سبيلُ النجاةِ الوحيدُ يومَ القيامةِ، وقد قال اللهُ تعالى:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

[الحجر: 9]

 وحِفظُ الذكرِ يتضمَّنُ حِفظَ لفظِه، وحِفظَ معناه؛ وبذلك تقومُ الحجَّة، وتتَّضِحُ المَحَجَّة.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

الأصلُ في السنَّةِ: روايتُها بألفاظِها؛ كما قال ﷺ:

«نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقالَتِي، فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَهَا»؛

رواه التِّرمِذيُّ (2658)، والبزَّارُ (3416)

 وقال ﷺ:

«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛

رواه البخاري (3461).

ولقد حرَصَ النبيُّ ﷺ على روايةِ أحاديثِهِ بألفاظِها، وحَثَّ أصحابَهُ على ذلك، ومِن هنا حرَصَ الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم على حِفظِ سنَّةِ النبيِّ ﷺ، كما حرَصوا على حفظِ القرآن، بل كان الصحابةُ يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ أحاديثِ النبيِّ ﷺ خشيةَ الكذبِ عليه، وليس هذا بعجيبٍ أن يَحفَظَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم السنَّةَ بدرجةٍ فائقةِ الإتقان؛ فيدقِّقون حتى في التشديدِ والحرَكات.

وهذا مِن حفظِ السنَّةِ عن طريقِ حفظِ الصدور، أما عن حفظِ السطورِ والكتابةِ: فقد كانت هناك عمليَّاتٌ واسعةٌ للكتابةِ والتدوينِ بعد استقرارِ كتابةِ المصاحف، وكان كثيرٌ مِن المحدِّثين لا يحدِّثُ طُلَّابَهُ إلا إذا كتَبُوا عنه ما يقولُ؛ فلم تكن السنَّةُ بشكلٍ أساسيٍّ - كما يزعُمُ المشكِّكون في السنَّةِ - مرويَّةً بالمعنى.

هذا؛ ولا يُصارُ إلى الروايةِ بالمعنى إلا عند الضرورةِ، وبشروطٍ حازمةٍ يستحيلُ أن تؤدِّيَ إلى إخلالٍ بالمعنى، أو تحريفٍ، أو تبديلٍ.

وأخيرًا: فهذا الزعمُ مبنيٌّ على إمكانِ ضياعِ السنَّةِ، أو إمكانِ عدمِ حفظِها؛ وهذا أمرٌ يستحيلُ عقلًا؛ فإن مقتضى الإيمانِ باللهِ تعالى، والإيمانِ بالنبوَّةِ: أن تؤمِنَ أن الشرعَ والرسالةَ التي أرسَلَها اللهُ إلى خلقِهِ، لا بدَّ أن تظَلَّ محفوظةً في خلقِهِ دُونَ ضياعٍ أو تحريفٍ؛ لأنه حجَّةُ اللهِ تعالى على خلقِه، وبها سبيلُ النجاةِ الوحيدُ يومَ القيامةِ، وقد قال اللهُ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وحِفظُ الذكرِ يتضمَّنُ حِفظَ لفظِه، وحِفظَ معناه؛ وبذلك تقومُ الحجَّة، وتتَّضِحُ المَحَجَّة.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

لا شَكَّ أن المتتبِّعَ للسِّيرةِ النبويَّة، والمُطَّلِعَ على تاريخِ السنَّة، يَعلَمُ أن الأصلَ هو روايةُ السنَّةِ باللفظِ الذي قاله النبيُّ ﷺ، ومَن قال بغيرِ ذلك، فعليه أن يأتِيَ بدليلٍ على ذلك.

ويبيِّنُ هذا أمورٌ:

  • لقد حرَصَ الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم على حِفظِ سنَّةِ النبيِّ ﷺ، كما حرَصوا على حفظِ القرآن:
  • حرَصَ النبيُّ ﷺ على روايةِ أحاديثِهِ بألفاظِها؛ وحَثَّ أصحابَهُ على ذلك:
  • كان الصحابةُ يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ أحاديثِ النبيِّ ﷺ خشيةَ الكذبِ عليه:
  • وليس هذا بعجيبٍ أن يَحفَظَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم السنَّةَ بدرجةٍ فائقةِ الإتقان؛ فيدقِّقون حتى في التشديدِ والحرَكات:
  • وأما عن مسألةِ الروايةِ بالمعنى للأحاديث، فإن العلماءَ الذين يُجِيزون الروايةَ بالمعنى، قد وضَعوا شروطًا حازمةً يجبُ توافُرُها في الراوي للحديثِ بالمعنى لقَبولِ روايتِهِ؛ فليس لكلِّ أحدٍ أن يَروِيَ الحديثَ بالمعنى هكذا بلا قيودٍ:

فحَفِظوها بأدقِّ ألفاظِها؛ فكانوا يلازِمون النبيَّ ﷺ، ويَحفَظون كلامَه، ويراقِبون أفعالَه، ويَشهَدون أحكامَهُ وقضاياهُ وفتاويَه، وكان الذي لم يَشهَدْ، يأخُذُ مِن الذي شَهِدَ؛ كما كان يَفعَلُ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ مع جارِهِ الأنصاريِّ رضيَ اللهُ عنهما، وكان النبيُّ ﷺ يحُثُّ أصحابَهُ على حفظِ السنَّةِ وفهمِها وتبليغِها للناسِ، كما سَمِعُوها بلفظِها منه؛ كما قال ﷺ:

«نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقالَتِي، فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَهَا»؛

رواه التِّرمِذيُّ (2658)، والبزَّار (3416)

وقال ﷺ:

«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛

رواه البخاري (3461)

ومِن ذلك: قولُهُ ﷺ للبَرَاءِ بنِ عازِبٍ رضيَ اللهُ عنه:

«إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ»، قَالَ: «فَرَدَّدتُّهَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا بَلَغْتُ: «اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ»، قُلْتُ: «وَرَسُولِكَ»، قَالَ: «لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ»؛

رواه البخاري (247)، و مسلم (2710).

ومِن ذلك:

ما رُوِيَ عن عَمْرِو بنِ مَيمُونٍ؛ أنه قال: «مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ إِلَّا أَتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ»، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ»، قَالَ: فَنَكَسَ، قَالَ: «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَهُوَ قَائِمٌ مُحَلَّلَةً أَزْرَارُ قَمِيصِهِ، قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ»، قَالَ: «أَوْ دُونَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ»؛

رواه ابنُ ماجهْ (23)

هذا هو الحالُ الذي كان عليه الصدرُ الأوَّلُ مِن الإسلام.

فالتزَمَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم ومَن بعدَهم هذا الحرصَ الشديدَ قدرَ استطاعتِهم؛ حتى إن بعضَهم ما كان يَرْضى أن يبدِّلَ حرفًا بحرفٍ، حتى ولو لم يغيِّرِ المعنى؛ فلم يكونوا يروُون الحديثَ بمعناه إلا عند الضرورةِ فقطْ:

وتأمَّلْ هذا المَشهَدَ لعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما، وقد كان جالسًا في مَجلِسٍ، وعُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ يقُصُّ على أهلِ مَكَّةَ حديثَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، إِنْ أَقْبَلَتْ إِلَى هَذِهِ الْغَنَمِ، نَطَحَتْهَا، وَإِنْ أَقْبَلَتْ إِلَى هَذِهِ، نَطَحَتْهَا»، فقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: «ليس هكذا»، فغَضِبَ عُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ، وفي المَجلِسِ عبدُ اللهِ بنُ صَفْوانَ، فقال: يا أبا عبدِ الرحمنِ، كيف قال رَحِمَكَ الله؟ فقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ:

«مَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ بَيْنَ الرَّبِيضَيْنِ؛ إِنْ أَقْبَلَتْ إِلَى ذَا الرَّبِيضِ، نَطَحَتْهَا، وَإِنْ أَقْبَلَتْ إِلَى ذَا الرَّبِيضِ، نَطَحَتْهَا»، فقال: رَحِمَكَ اللهُ؛ هما واحدٌ، قال: «هكذا سَمِعتُ»؛

رواه أحمد (9/ 382 رقم 5546)

بل بلَغَ حِرصُ الصحابةِ: أنهم كانوا لا يشدِّدون حرفًا ثقيلًا، ولا يخفِّفون حرفًا مشدَّدًا؛ فليس مِن المعقولِ بقومٍ هذا حالُهم حتى وإن اضطُرُّوا إلى روايةِ السنَّةِ بالمعنى: أن يروُوها بطريقةٍ تغيِّرُ معناها، وتؤدِّي إلى تحريفِها.

فقد وهَبَ اللهُ هذا الجِيلَ الفريدَ حافظةً عظيمةً؛ ليَحفَظوا بها وحيَهُ ودينَه.

والمُطَّلِعُ على أخبارِ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم في الحفظِ، يَرَى عجَبًا؛ فيجدُ فيهم عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ، وقد حَفِظَ قصيدةً مكوَّنةً مِن ثمانينَ بيتًا لابنِ أبي رَبِيعةَ مِن المرَّةِ الأُولى؛ ينظر: «تاريخُ دِمَشْقَ» لابن عساكر (45/ 93)، وزيدَ بنَ ثابتٍ الذي حَفِظَ القرآنَ كلَّه في حياةِ النبيِّ ﷺ، وتعلَّم السُّرْيانيَّةَ (لغةَ اليهودِ) في سبعةَ عشَرَ يومًا؛ رواه أحمد (35/ 463 رقم 21587)، وغيرُهما كثيرٌ.

وفي التابِعين: نافعٌ مولى عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وابنُ شِهابٍ الزُّهْريُّ، والشَّعْبيُّ، وقتادةُ؛ وهؤلاءِ كانوا مَضرِبَ المثَلِ في الحفظِ والضبط.

وهذا كلُّه أحدُ وسائلِ العنايةِ بالسنَّةِ عن طريقِ حفظِ الصدور.

أما عن حفظِ السطورِ والكتابةِ: فقد كانت هناك عمليَّاتٌ واسعةٌ للكتابةِ والتدوينِ بعد استقرارِ كتابةِ المصاحف، وكان كثيرٌ مِن المحدِّثين لا يحدِّثُ طُلَّابَهُ إلا إذا كتَبُوا عنه ما يقولُ؛ فلم تكُنِ السنَّةُ بشكلٍ أساسيٍّ - كما يزعُمُ المشكِّكون في السنَّةِ - مرويَّةً بالمعنى.

ومِن شروطِ الروايةِ بالمعنى:

- أن يكونَ الراوي مضطرًّا إلى الروايةِ بالمعنى.

- أن يكونَ الراوي بالمعنى ثقةً في دِينِهِ، ضابطًا لما ينقُلُه.

- أنه لا تجُوزُ الروايةُ بالمعنى لمَن لم يكن عالمًا بالعربيَّة، ولم يَعلَمْ مدلولَ الألفاظِ في لسانِ العرَبِ ومقاصِدَها، وما يُحيلُ معناها، والمرادِفَ منها، والمحتمِلَ مِن غيرِه؛ لأن مَن اتَّصَفَ بذلك، لا يُؤمَنُ أن تؤدِّيَ روايتُهُ إلى خلَلٍ في المعنى.

- أن يكونَ الراوي بصيرًا بالمعاني والفِقْه.

- أن يبيِّنَ الراوي أن هذا هو معنى الحديثِ، وليس لفظَه.

- ألا يكونَ الحديثُ المرويُّ بالمعنى أحدَ ثلاثةٍ: مما يُتعبَّدُ بلفظِه؛ كالشهادةِ، والتشهُّدِ، والإقامةِ، والدعاءِ، وغيرِه، أو مِن جوامعِ كَلِمِهِ ﷺ، أو أن يكونَ مما يُستدَلُّ بلفظِهِ على حكمٍ معيَّنٍ.

وعليه: فلا يُعقَلُ أن يكونَ حديثٌ رُوِيَ بالمعنى، ومَرَّ بهذه الشروطِ: أن يكونَ محرَّفًا أو مبدَّلًا؛ كما يزعُمُ المغرِضون.

وغيرُ ذلك مما حرَّر فيه العلماءُ الكلامَ، ونُقِلَتْ فيه الأخبارُ الدقيقة.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب:

وهناك أمرٌ أخيرٌ نَختِمُ به هذه الإجابةَ، وهو أن هذا الزعمَ مبنيٌّ على إمكانِ ضياعِ السنَّةِ، أو إمكانِ عدمِ حفظِها؛ وهذا أمرٌ يستحيلُ عقلًا، ودلائلُهُ مبنيَّةٌ على أمرٍ مسبَقٍ، وهو الإيمانُ باللهِ تعالى، والإيمانُ بالنبوَّة: فمقتضى الإيمانِ باللهِ، والإيمانِ بالنبوَّةِ: أن تؤمِنَ أن الشرعَ والرسالةَ التي أرسَلَها اللهُ إلى خلقِهِ، لا بدَّ أن تظَلَّ محفوظةً في خلقِهِ دُونَ ضياعٍ أو تحريفٍ؛ لأنه حجَّةُ اللهِ تعالى على خلقِه، وبها سبيلُ النجاةِ الوحيدُ يومَ القيامةِ، وقد قال اللهُ تعالى:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

[الحجر: 9]

 وحِفظُ الذكرِ يتضمَّنُ حِفظَ لفظِه، وحِفظَ معناه؛ وبذلك تقومُ الحجَّة، وتتَّضِحُ المَحَجَّة.