نص السؤال
الحديثُ مشكوكٌ في صحَّتِهِ؛ لأن قواعدَ مصطلَحِ الحديثِ كانت متأخِّرةً، ولم يأخُذْ بها مَن جمَعَ الحديثَ مِن الصحابةِ والتابعين.
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
عدمُ ظهورِ قواعدِ النقدِ الحديثيِّ إلا في زمنٍ متأخِّرٍ عن زمنِ النبوَّة.
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
لا شكَّ أن لَبِناتِ النقدِ وأُسُسَه، والتثبُّتَ في فهمِ الشرعِ كتابًا وسُنَّةً، قد وُضِعَتْ على يدِ الصحابةِ الأوائلِ رضيَ اللهُ عنهم منذُ زمنِ النبوَّة، فمِن ذلك:
- مراجَعتُهم لرسولِ اللهِ ﷺ بقصدِ التعلُّمِ والتفهُّم، والوقوفِ على مرادِ اللهِ ورسولِهِ ﷺ مِن الحُكمِ في بعضِ المسائلِ -: مبثوثٌ في كُتُبِ السنَّة.
- كان الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم حَرِيصين على نقلِ سنَّةِ النبيِّ ﷺ وحِفظِها، وكانوا يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في الروايةِ عن رسولِ اللهِ ﷺ؛ عملًا بما حذَّرهم منه مِن الكذبِ عليه؛ كما في الحديثِ:
«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛
رواه البخاري (3461)
- وقد استعمَلَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم مبدأَ المعارَضةِ والمقارَنةِ في توثيقِ الرواياتِ والتثبُّتِ منها، وجاء ذلك عند كثيرٍ منهم؛ نذكُرُ منهم على سبيلِ المثال: عُمَرَ بنَ الخطَّاب، وابنَهُ عبدَ اللهِ، رضيَ اللهُ عنهما:
- ما بعد زمَن النبوة:
فقد ورَدتِ السنَّةُ الصحيحةُ تَحْكي لنا مراجَعاتِ بعضِ الصحابةِ لرسولِ اللهِ ﷺ مِن بابِ التفهُّمِ والوقوفِ على المعاني المقصودةِ مِن أوامرِ اللهِ ورسولِهِ ﷺ؛ فالكلامُ حمَّالُ وجوهٍ، ولغةُ العربِ ثريَّةٌ بالمعاني والدَّلالاتِ القريبةِ والبعيدة؛ ومثالُ ذلك: حديثُ صلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وفيه:
«... فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟! قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟! قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ، فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟!»، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»؛
رواه البخاري (2731)
ففي هذا الحديثِ راجَعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رسولَ اللهِ ﷺ، ولكنْ هل هذه المناقَشةُ والمراجَعةُ خرَجتْ مَخرَجَ الاعتراض؟ أو خرَجتْ مَخرَجَ التفهُّمِ والتثبُّتِ مِن الفهمِ الذي فَهِمَهُ مِن رسولِ اللهِ ﷺ حين وعَدَهم بإتيانِ البيتِ والطوافِ به؟! لا شكَّ أنها مِن قَبيلِ ابتغاءِ الفهمِ والتثبُّت؛ مما يدُلُّ على أن بابَ مناقَشةِ رسولِ اللهِ ﷺ كان مفتوحًا لأصحابِهِ، وحَمَلةِ التشريعِ وأمَنةِ هذه الأمَّةِ مِن بعدِهِ رضيَ اللهُ عنهم؛ ليَنهَلوا مِن علمِهِ، لا ليرُدُّوا عليه حديثَهُ، أو ينتقِدوه - حاشاهم - فإن ذلك يخالِفُ طاعتَهم لأمرِ اللهِ وأمرِ رسولِهِ ﷺ، وكيف لهم ذلك وهم يَعلَمون أنه رسولُ اللهِ الذي لا يَنطِقُ عن الهوى، إنْ هو إلا وحيٌ يُوحَى؛ فكيف ينتقِدون عليه حديثَهُ ﷺ؟!
وكان الصحابةُ يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ السنَّةِ بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ،
وفيما ثبَتَ عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ له، فَرَجَعَ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ فِي إِثْرِهِ، فَقَالَ: لِمَ رَجَعْتَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُجَبْ، فَلْيَرْجِعْ»، فقال له عُمَرُ: «لَتَأْتِيَنِّي على ذلك ببيِّنةٍ، أو لَأَفْعَلَنَّ بك»؛
رواه البخاري (6245، 7353)، ومسلم (2153)
وقال أيضًا: «إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَدِيدٌ»؛
رواه أبو داود (5183)
ثم توارَثَتِ الأمَّةُ هذا الحِرْصَ الشديدَ، وتصدَّى لحفظِ السنَّةِ وجَمعِها وتحريرِها رجالٌ ما عَرَفَتْ أمَّةٌ مِن الأُمَمِ صنيعًا كصَنِيعِهم.
فقد أخرَجَ البخاري (6905، 6906)، ومسلم (1689)،
عن المِسوَرِ بنِ مَخرَمَةَ، قال
«اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ فِي مِلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: «شَهِدتُّ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ»، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمَةَ»
رواه البخاري (6905، 6906)، ومسلم (1689)
أما عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما: فقد توقَّف في قَبولِ حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه؛ تطبيقًا لمبدأ المعارَضة، وتوثيقًا للسنَّة، وليس تكذيبًا للصحابيِّ الجليلِ أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه؛ فقد أخرج البخاريُّ (1323)، ومسلمٌ (945)؛
مِن حديثِ نافِعٍ، قال
«قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً، فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الْأَجْرِ»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَبَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلَهَا، فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ»
رواه البخاريُّ (1323)، ومسلمٌ (945)
تطوَّر علمُ «النقدِ الحديثيِّ» - وهو علمٌ يَبحَثُ في تمييزِ الأحاديثِ الصحيحةِ مِن الضعيفة، وبيانِ عِلَلها، والحكمِ على رُواتِها - جرحًا وتعديلًا - بألفاظٍ مخصوصةٍ، ذاتِ دلائلَ معلومةٍ عند أهلِ هذا الفنِّ - وهذا النقدُ إنما نشأ بسببِ وجودِ رواياتٍ أصابَتْها آفةُ الأخبارِ: (الخطأُ، والكذبُ)، وحصولُ هذا للأخبارِ إنما وقَعَ بسببِ عدمِ انتشارِ التدوينِ؛ فكان الأصلُ هو الروايةَ الشَّفَهيَّة؛ فكان ذلك النقدُ في ذلك الوقتِ قادرًا على تمييزِ الصوابِ مِن غيرِه.
فلو أننا تقصَّيْنا عواملَ ظهورِ النقدِ الحديثيِّ، مع مراعاةِ المرحلةِ الزمنيَّةِ التي مَرَّ بها -: لَوَجَدْنا العواملَ متعدِّدةً:
ففي مراحِلِهِ الأُولى - وهي الفترةُ التي سبَقَتْ ظهورَ الفِتَنِ والبِدَعِ - نجدُ أن هناك عاملًا واحدًا، هو ما جُبِلَ عليه الإنسانُ مِن الوهمِ والنِّسْيان، والغفلةِ والخطأ، والناسُ يتفاوَتون في ذلك بحسَبِ ما منَحَهم اللهُ مِن نعمةِ الحفظِ واليقَظةِ، والانتباهِ والتذكُّرِ، كما تَعْتري الإنسانَ حالاتٌ مِن التغيُّرِ؛ مِن النشاطِ والضعف، والذهولِ وكِبَرِ السِّنّ، وما يصاحِبُ ذلك مِن النِّسْيان.
وفي المراحلِ التاليةِ: يقفُ إلى جانبِ العاملِ الأوَّلِ عاملٌ آخَرُ، كان مِن أهمِّ العواملِ وراءَ حرَكةِ النقدِ في هذه المرحلة؛ وهو الكذب.
وهو عاملٌ تقفُ وراءَهُ مآربُ شتَّى، وأغراضٌ مختلِفةٌ، ومقاصدُ متعدِّدةٌ أدَّت إلى ظهورِه، وأهمُّها التعصُّبُ بأنواعِه، وحُبُّ الانتصارِ لمذهبٍ أو بِدْعةٍ، أو الحَنَقُ على الإسلام، ومِن هؤلاء: الزنادقةُ، أو مَن كان يتكسَّبُ بذلك؛ كالقُصَّاصِ، والمتملِّقين للأمراء، أو ممن كانوا يَحسَبون أنهم يُحسِنون صنعًا مِن الزُّهَّادِ والصالِحين.
وما دام احتمالُ إصابةِ الأخبارِ بآفتَيْها: (الخطأِ، والكذبِ)، سيزدادُ بامتدادِ الزمنِ - فكان لا بدَّ أن تزدادَ عنايةُ علماءِ الأمَّةِ لإيجادِ الوسائلِ التي تخلِّصُ الأخبارَ مِن هاتَيْنِ الآفتَيْنِ، وهذا هو التطوُّرُ الطبيعيُّ للميزانِ النَّقْديّ.
ولما كان سببُ حصولِ هاتَيْنِ الآفتَيْنِ هو الروايةَ الشفَهيَّةَ غيرَ المدوَّنةِ - فقد سارَعَ العلماءُ إلى التدوين؛ للحمايةِ مِن الكذبِ أو الخطأ.
5- وقد امتاز مسلكُ النُّقَّادِ في هذا بالموضوعيَّةِ التامَّة، والعُمقِ في البحث، وكان مِن أبرزِ سِماتِ هذا المنهجِ النَّقْديِّ:
- الأمانةُ العلميَّة، والنزاهةُ في إصدارِ الأحكامِ على الرواة.
- الدقَّةُ العلميَّةُ في تتبُّعِ الرواةِ، وفحصِ مرويَّاتِهم قبل إصدارِ الأحكام؛ إذ يُلاحَظُ أن هذه الأحكامَ تمتازُ بالدقَّةِ البالغةِ في وصفِ الرواةِ ومرويَّاتِهم.
وهذه إضاءاتٌ مختصَرةٌ لبيانِ المنهجيَّةِ النَّقْديَّةِ عند المحدِّثين:
أوَّلًا: اشتراطُ سلامةِ أسانيدِ الرواياتِ في ظاهرِها؛ كاتِّصالِ الإسناد، وعدالةِ رجالِه، وضبطِهم:
فلكي يُقبَلَ الحديثُ ويُحكَمَ عليه بالصحَّةِ: لا بدَّ مِن عدَّةِ شروطٍ أوَّليَّةٍ متعلِّقةٍ بالإسناد، وهذه الشروطُ بمثابةِ التصفيةِ الأوَّليَّةِ للأحاديثِ؛ مثلُ:
- عدالةِ الرواةِ الناقلين لهذه الأحاديث، وأن يُعرَفوا بالصدق، والسلامةِ مِن الفِسْق، وألا يكونَ الراوي مجهولَ الحالِ لا يُعرَفُ عنه شيءٌ.
- أن يُعرَفوا بالضبطِ والإتقان، لا بالسهوِ والغلَط؛ بلا مُحاباة.
فمِن علماءِ الحديثِ مَن تكلَّم في ضعفِ ضبطِ أبيهِ أو ابنِهِ؛ حفظًا لجَنابِ السنَّةِ النبويَّة.
- أن تكونَ أسانيدُهم متَّصِلةً إلى النبيِّ ﷺ، بلا انقطاعٍ؛ فبعد التأكُّدِ مِن سلامةِ رواةِ الخبَرِ مِن جهةِ العدالةِ واستقامةِ السلوك، ومِن جهةِ الضبطِ والإتقان، وبعد اختبارِ صحَّةِ المتنِ بمعارَضتِهِ بمتونِ الثِّقاتِ، وغيرِهِ مِن الأمور، ينظُرون في أمرٍ آخَرَ، وهو: كيف روَى هذا الراوي هذا الحديثَ؟ هل رواه مباشَرةً عن شيخِه، أم سَمِعَهُ بواسِطة؟
ثانيًا: عدمُ الاكتفاءِ بصحَّةِ الظاهر، والغوصُ في استخراجِ العِلَلِ الخفيَّة:
فبعدَ التأكُّدِ مِن السلامةِ الظاهرةِ للأسانيد، وإنهاءِ التصفيةِ الأوَّليَّة: ينتقِلُ المحدِّثون إلى جمعِ سائرِ أسانيدِ الحديثِ بسائرِ طرُقِه، والمقارَنةِ بينها، والنظَرِ في مدى الاتِّفاقِ والاختلافِ بين الرواة، ثم ترجيحِ روايةِ الأثبَتِ والأوثقِ حالَ الاختلاف؛ وبهذا تستبينُ العِللُ الخفيَّة.
كما قال الإمامُ عليُّ بنُ المَدِينيِّ رضيَ اللهُ عنه: «إن الحديثَ إذا لم تُجمَعْ طرُقُهْ، لم يَتبيَّنْ خطَؤُهْ»؛ رواه الخطيبُ في «الجامع» (2/212).
فصنيعُ المحدِّثين في هذه الخُطْوةِ أشبهُ بصنيعِ الصَّيْرَفيِّ الحاذقِ في اكتشافِ جيِّدِ الذهَبِ مِن رديئِه.
ثالثًا: مداومةُ رصدِ أحوالِ الرواة، وعدمُ الاكتفاءِ بالحُكْمِ السابق:
فبعد أن يحكُمَ المحدِّثون على راوٍ معيَّنٍ بأنه ثقةٌ، فهذا لا يَلزَمُ منه أنه سيَظَلُّ ثقةً طِيلةَ عُمُرِه:
فإن الرواةَ قد تعتريهم حالاتٌ طارئةٌ تؤثِّرُ في ضبطِهم؛ فترى في كُتُبِ الحديثِ عبارةَ: «فلانٌ اختلَطَ عامَ كذا، فما رُوِيَ عنه قبل هذا العام، يُقبَلُ، وما كان بعد هذا العام، فلا يُقبَلُ».
وبعضُ الرواةِ تكونُ روايتُهُ للحديثِ مجوَّدةً ومتقَنةً؛ إذا كانت كتُبُهُ معه؛ فإذا رحَلَ إلى بلدٍ آخَرَ - ولم تكن معه الكتُبُ والصحُفُ - ضَعُفَ ضبطُه؛ فتجدُ المحدِّثين في كُتُبِ الحديثِ ينُصُّون على هذا الأمرِ أيضًا؛ وهذا مِن عجيبِ دقَّةِ المحدِّثين.
رابعًا: نقدُ المتونِ، وعدمُ الاقتصارِ على نقدِ الأسانيد:
فمِن أهمِّ ما اعتمَدَ عليه المحدِّثون في اختبارِ ضبطِ الراوي ومعرفةِ إتقانِهِ: اختبارُ المتونِ والأحاديثِ التي رواها.
وهذه الطريقةُ هي العُمْدةُ في الجرحِ والتعديل، فيختبِرون أحاديثَهُ؛ ومِن ثَمَّ يَحكُمون عليه بالضبطِ والإتقانِ أو عدَمِه، وربَّما حكَموا عليه بالكذبِ، وهم لا يَعرِفون شخصَهُ؛ بناءً على اختبارِ المتونِ التي يَرْويها.
وقد ألَّف العلماءُ - مِن أهلِ الاختصاصِ - في علمِ الحديثِ مؤلَّفاتٍ كثيرةً في الموضوعاتِ مِن الأحاديث، ولهم في التأليفِ في الموضوعاتِ طريقتان:
الطريقةُ الأُولى: طريقةُ الذين ترَجموا للوضَّاعِين والكذَّابين والضعفاء، ومنهم: البخاريُّ، والجُوزَجانيُّ، وابنُ عَدِيٍّ، والنَّسائيُّ، والعُقَيليُّ، والدارَقُطْنيُّ، وغيرُهم كثيرٌ؛ وهذه طريقةُ الأقدَمين مِن المحدِّثين - في الأغلبِ - وهم إذ يترجِمون لهؤلاءِ يذكُرُون في تَرَاجِمِهم ما وضَعوه مِن الأحاديث.
الطريقةُ الثانيةُ: طريقةُ الذين خصُّوا الأحاديثَ الموضوعةَ بالتأليف؛ كابنِ الجَوْزيِّ، والسُّيوطيِّ، وعليٍّ القارِي، وأمثالِهم، وهؤلاءِ أورَدوا الضعيفَ والموضوعَ في مؤلَّفاتِهم، ومنهم مَن أفرَدَ الموضوعَ بالتأليف، وبعضُهم أفرَدَ بابًا واحدًا بالتأليف؛ وهذه طريقةُ المتأخِّرين، ونلاحُظُ أن الذين ألَّفوا في الموضوعاتِ كان تأليفُهم فيه أصيلًا، وبعضُهم كان تأليفُهم معادًا مكرَّرًا.
لقد كانت جهودُ السابِقين مِن العلماءِ تسيرُ كلُّها باتِّجاهِ إبقاءِ السنَّةِ النبويَّةِ كاملةً خاليةً مِن النقصِ والزيادة، على النحوِ الذي جاء عن رسولِ اللهِ ﷺ.
وكذلك قام المعاصِرون مِن العلماءِ بنشرِ هذه الجهودِ، وتلك الإبداعاتِ، وأحيَوْا ما كتَبهُ السلف، وكان للحديثِ النبويِّ الشريفِ نصيبٌ وافرٌ؛ فقد نُشِرَتْ كتُبُ الحديثِ، وكتُبُ علومِه، وكتُبُ الرِّجالِ، والجرحِ والتعديلِ، وما يتعلَّقُ بالضعيفِ والموضوعِ وغيرِها.
ومِن هذا التفصيلِ السابقِ: يتَّضِحُ أن الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهم، ومِن بعدِهم أهلُ العلمِ مِن هذه الأمَّةِ - قد اهتمُّوا بالحديثِ اهتمامًا كبيرًا، واتَّخَذوا الكثيرَ مِن الإجراءاتِ لحِفظِهِ وتوثيقِهِ وتنقيتِهِ مِن أيِّ دخيلٍ عليه.
مختصر الجواب
مختصَرُ الإجابة:
العملُ بالتثبُّتِ مِن الأحاديثِ ونقدِ أسانيدِها أمرٌ متقدِّمٌ؛ حتى وإن تأخَّر تدوينُهُ؛ وهذا شأنُ كثيرٍ مِن العلوم: في أنها تكونُ ممارَسةً بغيرِ علمٍ مخصوصٍ، ثم تتَّسِعُ في البناءِ العلميِّ بحسَبِ ظروفِ الزمان.
وهذا مثلُ علمِ أصولِ الفقهِ والاستدلالِ، وعلمِ أصولِ التفسيرِ؛ حيثُ كان الصحابةُ يمارِسونه، ثم حُرِّرَتْ قواعدُهُ لاحقًا، ولذلك مظاهرُ عديدة، وشواهدُ متنوِّعة:
ومِن ذلك: مراجَعةُ الصحابةِ لرسولِ اللهِ ﷺ بقصدِ التعلُّمِ والتفهُّم، والوقوفِ على مرادِ اللهِ ورسولِهِ ﷺ، وحِرصُهم على نقلِ سنَّةِ النبيِّ ﷺ وحِفظِها، وتثبُّتُهم غايةَ التثبُّتِ في الروايةِ عن رسولِ اللهِ ﷺ؛ عملًا بما حذَّرهم منه مِن الكذبِ عليه.
وبعد زمَن النبوَّةِ: تطوَّر علمُ «النقدِ الحديثيِّ» - وهو علمٌ يَبحَثُ في تمييزِ الأحاديثِ الصحيحةِ مِن الضعيفة، وبيانِ عِلَلها، والحكمِ على رُواتِها جرحًا وتعديلًا بألفاظٍ مخصوصةٍ، ذاتِ دلائلَ معلومةٍ عند أهلِ هذا الفنِّ - وهذا النقدُ إنما نشأ بسببِ وجودِ رواياتٍ أصابَتْها آفةُ الأخبارِ: (الخطأُ، والكذبُ)، ولظهورِ ذلك عواملُ متعدِّدة؛ ولذلك فقد ازدادت عنايةُ علماءِ الأمَّةِ لإيجادِ الوسائلِ التي تخلِّصُ الأخبارَ مِن هاتَيْنِ الآفتَيْنِ؛ وهذا هو التطوُّرُ الطبيعيُّ للميزانِ النَّقْديّ.
ولما كان سببُ حصولِ هاتَيْنِ الآفتَيْنِ هو الروايةَ الشفَهيَّةَ غيرَ المدوَّنةِ - فقد سارَعَ العلماءُ إلى التدوين؛ للحمايةِ مِن الكذبِ أو الخطأ.
وقد امتاز مسلكُ النُّقَّادِ في هذا بالموضوعيَّةِ التامَّة، والعُمقِ في البحث، وكان لمنهجيَّةِ المحدِّثين النَّقْديَّةِ في قَبولِ الحديثِ وردِّهِ سِماتٌ علميَّةٌ، شَهِدَ بدِقَّتِها القاصي والداني.
وبذلك يتَّضِحُ أن الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهم، ومِن بعدِهم أهلُ العلمِ مِن هذه الأمَّةِ - قد اهتمُّوا بالحديثِ اهتمامًا كبيرًا، واتَّخَذوا الكثيرَ مِن الإجراءاتِ لحِفظِهِ وتوثيقِهِ وتنقيتِهِ مِن أيِّ دخيلٍ عليه.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية:
يقولُ أحدُ أبرزِ علماءِ المنهجيَّةِ التاريخيَّةِ، وهو «أسَد رُسْتُم» الباحثُ النصرانيُّ، في كتابِهِ: «مصطلَحِ التاريخ»، بعد أن اطَّلَعَ عن كثَبٍ على تراثِ المحدِّثين: «أوَّلُ مَن نظَّم نقدَ الرواياتِ التاريخيَّة، ووضَعَ القواعدَ لذلك: علماءُ الدينِ الإسلاميِّ؛ فإنهم اضطُرُّوا اضطرارًا إلى الاعتناءِ بأقوالِ النبيِّ وأفعالِهِ؛ لفهمِ القرآنِ وتوزيعِ العدل، فقالوا:
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
[النجم: 4]
ما تُلِيَ منه، فهو القرآنُ، وما لم يُتْلَ منه، فهو السنَّةُ؛ فانبَرَوْا لجمعِ الأحاديثِ ودَرْسِها وتدقيقِها، فأَتْحَفوا علمَ الحديثِ بقواعدَ لا تزالُ في أُسُسِها وجَوهَرِها محترَمةً في الأوساطِ العلميَّةِ حتى يومِنا هذا».
فهذه شهادةُ رجلٍ نصرانيٍّ اطَّلَعَ على علمِ الحديثِ، فأُعجِبَ به أيَّما إعجابٍ، وهو القائلُ في كتابِهِ، والذي يُعَدُّ مِن أشهرِ الكُتُبِ في التعامُلِ مع النصوصِ التاريخيَّةِ: «لِيَفْخَرِ المسلِمون بعلمِ الحديث!».
وفي المقابِلِ: نَجِدُ مِن أبناءِ الإسلامِ، ومُدَّعي التنويرِ والتجديدِ مَن يَقدَحون في دقَّةِ علمِ الحديث، بلا أدنى درايةٍ عن تفاصيلِه، أو دراسةٍ لمَضامِينِه؛ ولذلك فكلُّ اعتراضاتِ هؤلاءِ تجدُها منقوصةً ومضطرِبةً. وأحدُ هذه الاعتراضاتِ الواهيةِ: دعواهم غفلةَ المحدِّثين وعلماءِ الأمَّةِ عن قواعدِ النقدِ في تعامُلِهم مع أحاديثِ النبيِّ ﷺ.
مختصر الجواب
مختصَرُ الإجابة:
العملُ بالتثبُّتِ مِن الأحاديثِ ونقدِ أسانيدِها أمرٌ متقدِّمٌ؛ حتى وإن تأخَّر تدوينُهُ؛ وهذا شأنُ كثيرٍ مِن العلوم: في أنها تكونُ ممارَسةً بغيرِ علمٍ مخصوصٍ، ثم تتَّسِعُ في البناءِ العلميِّ بحسَبِ ظروفِ الزمان.
وهذا مثلُ علمِ أصولِ الفقهِ والاستدلالِ، وعلمِ أصولِ التفسيرِ؛ حيثُ كان الصحابةُ يمارِسونه، ثم حُرِّرَتْ قواعدُهُ لاحقًا، ولذلك مظاهرُ عديدة، وشواهدُ متنوِّعة:
ومِن ذلك: مراجَعةُ الصحابةِ لرسولِ اللهِ ﷺ بقصدِ التعلُّمِ والتفهُّم، والوقوفِ على مرادِ اللهِ ورسولِهِ ﷺ، وحِرصُهم على نقلِ سنَّةِ النبيِّ ﷺ وحِفظِها، وتثبُّتُهم غايةَ التثبُّتِ في الروايةِ عن رسولِ اللهِ ﷺ؛ عملًا بما حذَّرهم منه مِن الكذبِ عليه.
وبعد زمَن النبوَّةِ: تطوَّر علمُ «النقدِ الحديثيِّ» - وهو علمٌ يَبحَثُ في تمييزِ الأحاديثِ الصحيحةِ مِن الضعيفة، وبيانِ عِلَلها، والحكمِ على رُواتِها جرحًا وتعديلًا بألفاظٍ مخصوصةٍ، ذاتِ دلائلَ معلومةٍ عند أهلِ هذا الفنِّ - وهذا النقدُ إنما نشأ بسببِ وجودِ رواياتٍ أصابَتْها آفةُ الأخبارِ: (الخطأُ، والكذبُ)، ولظهورِ ذلك عواملُ متعدِّدة؛ ولذلك فقد ازدادت عنايةُ علماءِ الأمَّةِ لإيجادِ الوسائلِ التي تخلِّصُ الأخبارَ مِن هاتَيْنِ الآفتَيْنِ؛ وهذا هو التطوُّرُ الطبيعيُّ للميزانِ النَّقْديّ.
ولما كان سببُ حصولِ هاتَيْنِ الآفتَيْنِ هو الروايةَ الشفَهيَّةَ غيرَ المدوَّنةِ - فقد سارَعَ العلماءُ إلى التدوين؛ للحمايةِ مِن الكذبِ أو الخطأ.
وقد امتاز مسلكُ النُّقَّادِ في هذا بالموضوعيَّةِ التامَّة، والعُمقِ في البحث، وكان لمنهجيَّةِ المحدِّثين النَّقْديَّةِ في قَبولِ الحديثِ وردِّهِ سِماتٌ علميَّةٌ، شَهِدَ بدِقَّتِها القاصي والداني.
وبذلك يتَّضِحُ أن الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهم، ومِن بعدِهم أهلُ العلمِ مِن هذه الأمَّةِ - قد اهتمُّوا بالحديثِ اهتمامًا كبيرًا، واتَّخَذوا الكثيرَ مِن الإجراءاتِ لحِفظِهِ وتوثيقِهِ وتنقيتِهِ مِن أيِّ دخيلٍ عليه.
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
لا شكَّ أن لَبِناتِ النقدِ وأُسُسَه، والتثبُّتَ في فهمِ الشرعِ كتابًا وسُنَّةً، قد وُضِعَتْ على يدِ الصحابةِ الأوائلِ رضيَ اللهُ عنهم منذُ زمنِ النبوَّة، فمِن ذلك:
- مراجَعتُهم لرسولِ اللهِ ﷺ بقصدِ التعلُّمِ والتفهُّم، والوقوفِ على مرادِ اللهِ ورسولِهِ ﷺ مِن الحُكمِ في بعضِ المسائلِ -: مبثوثٌ في كُتُبِ السنَّة.
- كان الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم حَرِيصين على نقلِ سنَّةِ النبيِّ ﷺ وحِفظِها، وكانوا يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في الروايةِ عن رسولِ اللهِ ﷺ؛ عملًا بما حذَّرهم منه مِن الكذبِ عليه؛ كما في الحديثِ:
«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛
رواه البخاري (3461)
- وقد استعمَلَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم مبدأَ المعارَضةِ والمقارَنةِ في توثيقِ الرواياتِ والتثبُّتِ منها، وجاء ذلك عند كثيرٍ منهم؛ نذكُرُ منهم على سبيلِ المثال: عُمَرَ بنَ الخطَّاب، وابنَهُ عبدَ اللهِ، رضيَ اللهُ عنهما:
- ما بعد زمَن النبوة:
فقد ورَدتِ السنَّةُ الصحيحةُ تَحْكي لنا مراجَعاتِ بعضِ الصحابةِ لرسولِ اللهِ ﷺ مِن بابِ التفهُّمِ والوقوفِ على المعاني المقصودةِ مِن أوامرِ اللهِ ورسولِهِ ﷺ؛ فالكلامُ حمَّالُ وجوهٍ، ولغةُ العربِ ثريَّةٌ بالمعاني والدَّلالاتِ القريبةِ والبعيدة؛ ومثالُ ذلك: حديثُ صلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وفيه:
«... فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟! قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟! قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ، فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟!»، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»؛
رواه البخاري (2731)
ففي هذا الحديثِ راجَعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رسولَ اللهِ ﷺ، ولكنْ هل هذه المناقَشةُ والمراجَعةُ خرَجتْ مَخرَجَ الاعتراض؟ أو خرَجتْ مَخرَجَ التفهُّمِ والتثبُّتِ مِن الفهمِ الذي فَهِمَهُ مِن رسولِ اللهِ ﷺ حين وعَدَهم بإتيانِ البيتِ والطوافِ به؟! لا شكَّ أنها مِن قَبيلِ ابتغاءِ الفهمِ والتثبُّت؛ مما يدُلُّ على أن بابَ مناقَشةِ رسولِ اللهِ ﷺ كان مفتوحًا لأصحابِهِ، وحَمَلةِ التشريعِ وأمَنةِ هذه الأمَّةِ مِن بعدِهِ رضيَ اللهُ عنهم؛ ليَنهَلوا مِن علمِهِ، لا ليرُدُّوا عليه حديثَهُ، أو ينتقِدوه - حاشاهم - فإن ذلك يخالِفُ طاعتَهم لأمرِ اللهِ وأمرِ رسولِهِ ﷺ، وكيف لهم ذلك وهم يَعلَمون أنه رسولُ اللهِ الذي لا يَنطِقُ عن الهوى، إنْ هو إلا وحيٌ يُوحَى؛ فكيف ينتقِدون عليه حديثَهُ ﷺ؟!
وكان الصحابةُ يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ السنَّةِ بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ،
وفيما ثبَتَ عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ له، فَرَجَعَ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ فِي إِثْرِهِ، فَقَالَ: لِمَ رَجَعْتَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُجَبْ، فَلْيَرْجِعْ»، فقال له عُمَرُ: «لَتَأْتِيَنِّي على ذلك ببيِّنةٍ، أو لَأَفْعَلَنَّ بك»؛
رواه البخاري (6245، 7353)، ومسلم (2153)
وقال أيضًا: «إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَدِيدٌ»؛
رواه أبو داود (5183)
ثم توارَثَتِ الأمَّةُ هذا الحِرْصَ الشديدَ، وتصدَّى لحفظِ السنَّةِ وجَمعِها وتحريرِها رجالٌ ما عَرَفَتْ أمَّةٌ مِن الأُمَمِ صنيعًا كصَنِيعِهم.
فقد أخرَجَ البخاري (6905، 6906)، ومسلم (1689)،
عن المِسوَرِ بنِ مَخرَمَةَ، قال
«اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ فِي مِلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: «شَهِدتُّ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ»، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمَةَ»
رواه البخاري (6905، 6906)، ومسلم (1689)
أما عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما: فقد توقَّف في قَبولِ حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه؛ تطبيقًا لمبدأ المعارَضة، وتوثيقًا للسنَّة، وليس تكذيبًا للصحابيِّ الجليلِ أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه؛ فقد أخرج البخاريُّ (1323)، ومسلمٌ (945)؛
مِن حديثِ نافِعٍ، قال
«قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً، فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الْأَجْرِ»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَبَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلَهَا، فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ»
رواه البخاريُّ (1323)، ومسلمٌ (945)
تطوَّر علمُ «النقدِ الحديثيِّ» - وهو علمٌ يَبحَثُ في تمييزِ الأحاديثِ الصحيحةِ مِن الضعيفة، وبيانِ عِلَلها، والحكمِ على رُواتِها - جرحًا وتعديلًا - بألفاظٍ مخصوصةٍ، ذاتِ دلائلَ معلومةٍ عند أهلِ هذا الفنِّ - وهذا النقدُ إنما نشأ بسببِ وجودِ رواياتٍ أصابَتْها آفةُ الأخبارِ: (الخطأُ، والكذبُ)، وحصولُ هذا للأخبارِ إنما وقَعَ بسببِ عدمِ انتشارِ التدوينِ؛ فكان الأصلُ هو الروايةَ الشَّفَهيَّة؛ فكان ذلك النقدُ في ذلك الوقتِ قادرًا على تمييزِ الصوابِ مِن غيرِه.
فلو أننا تقصَّيْنا عواملَ ظهورِ النقدِ الحديثيِّ، مع مراعاةِ المرحلةِ الزمنيَّةِ التي مَرَّ بها -: لَوَجَدْنا العواملَ متعدِّدةً:
ففي مراحِلِهِ الأُولى - وهي الفترةُ التي سبَقَتْ ظهورَ الفِتَنِ والبِدَعِ - نجدُ أن هناك عاملًا واحدًا، هو ما جُبِلَ عليه الإنسانُ مِن الوهمِ والنِّسْيان، والغفلةِ والخطأ، والناسُ يتفاوَتون في ذلك بحسَبِ ما منَحَهم اللهُ مِن نعمةِ الحفظِ واليقَظةِ، والانتباهِ والتذكُّرِ، كما تَعْتري الإنسانَ حالاتٌ مِن التغيُّرِ؛ مِن النشاطِ والضعف، والذهولِ وكِبَرِ السِّنّ، وما يصاحِبُ ذلك مِن النِّسْيان.
وفي المراحلِ التاليةِ: يقفُ إلى جانبِ العاملِ الأوَّلِ عاملٌ آخَرُ، كان مِن أهمِّ العواملِ وراءَ حرَكةِ النقدِ في هذه المرحلة؛ وهو الكذب.
وهو عاملٌ تقفُ وراءَهُ مآربُ شتَّى، وأغراضٌ مختلِفةٌ، ومقاصدُ متعدِّدةٌ أدَّت إلى ظهورِه، وأهمُّها التعصُّبُ بأنواعِه، وحُبُّ الانتصارِ لمذهبٍ أو بِدْعةٍ، أو الحَنَقُ على الإسلام، ومِن هؤلاء: الزنادقةُ، أو مَن كان يتكسَّبُ بذلك؛ كالقُصَّاصِ، والمتملِّقين للأمراء، أو ممن كانوا يَحسَبون أنهم يُحسِنون صنعًا مِن الزُّهَّادِ والصالِحين.
وما دام احتمالُ إصابةِ الأخبارِ بآفتَيْها: (الخطأِ، والكذبِ)، سيزدادُ بامتدادِ الزمنِ - فكان لا بدَّ أن تزدادَ عنايةُ علماءِ الأمَّةِ لإيجادِ الوسائلِ التي تخلِّصُ الأخبارَ مِن هاتَيْنِ الآفتَيْنِ، وهذا هو التطوُّرُ الطبيعيُّ للميزانِ النَّقْديّ.
ولما كان سببُ حصولِ هاتَيْنِ الآفتَيْنِ هو الروايةَ الشفَهيَّةَ غيرَ المدوَّنةِ - فقد سارَعَ العلماءُ إلى التدوين؛ للحمايةِ مِن الكذبِ أو الخطأ.
5- وقد امتاز مسلكُ النُّقَّادِ في هذا بالموضوعيَّةِ التامَّة، والعُمقِ في البحث، وكان مِن أبرزِ سِماتِ هذا المنهجِ النَّقْديِّ:
- الأمانةُ العلميَّة، والنزاهةُ في إصدارِ الأحكامِ على الرواة.
- الدقَّةُ العلميَّةُ في تتبُّعِ الرواةِ، وفحصِ مرويَّاتِهم قبل إصدارِ الأحكام؛ إذ يُلاحَظُ أن هذه الأحكامَ تمتازُ بالدقَّةِ البالغةِ في وصفِ الرواةِ ومرويَّاتِهم.
وهذه إضاءاتٌ مختصَرةٌ لبيانِ المنهجيَّةِ النَّقْديَّةِ عند المحدِّثين:
أوَّلًا: اشتراطُ سلامةِ أسانيدِ الرواياتِ في ظاهرِها؛ كاتِّصالِ الإسناد، وعدالةِ رجالِه، وضبطِهم:
فلكي يُقبَلَ الحديثُ ويُحكَمَ عليه بالصحَّةِ: لا بدَّ مِن عدَّةِ شروطٍ أوَّليَّةٍ متعلِّقةٍ بالإسناد، وهذه الشروطُ بمثابةِ التصفيةِ الأوَّليَّةِ للأحاديثِ؛ مثلُ:
- عدالةِ الرواةِ الناقلين لهذه الأحاديث، وأن يُعرَفوا بالصدق، والسلامةِ مِن الفِسْق، وألا يكونَ الراوي مجهولَ الحالِ لا يُعرَفُ عنه شيءٌ.
- أن يُعرَفوا بالضبطِ والإتقان، لا بالسهوِ والغلَط؛ بلا مُحاباة.
فمِن علماءِ الحديثِ مَن تكلَّم في ضعفِ ضبطِ أبيهِ أو ابنِهِ؛ حفظًا لجَنابِ السنَّةِ النبويَّة.
- أن تكونَ أسانيدُهم متَّصِلةً إلى النبيِّ ﷺ، بلا انقطاعٍ؛ فبعد التأكُّدِ مِن سلامةِ رواةِ الخبَرِ مِن جهةِ العدالةِ واستقامةِ السلوك، ومِن جهةِ الضبطِ والإتقان، وبعد اختبارِ صحَّةِ المتنِ بمعارَضتِهِ بمتونِ الثِّقاتِ، وغيرِهِ مِن الأمور، ينظُرون في أمرٍ آخَرَ، وهو: كيف روَى هذا الراوي هذا الحديثَ؟ هل رواه مباشَرةً عن شيخِه، أم سَمِعَهُ بواسِطة؟
ثانيًا: عدمُ الاكتفاءِ بصحَّةِ الظاهر، والغوصُ في استخراجِ العِلَلِ الخفيَّة:
فبعدَ التأكُّدِ مِن السلامةِ الظاهرةِ للأسانيد، وإنهاءِ التصفيةِ الأوَّليَّة: ينتقِلُ المحدِّثون إلى جمعِ سائرِ أسانيدِ الحديثِ بسائرِ طرُقِه، والمقارَنةِ بينها، والنظَرِ في مدى الاتِّفاقِ والاختلافِ بين الرواة، ثم ترجيحِ روايةِ الأثبَتِ والأوثقِ حالَ الاختلاف؛ وبهذا تستبينُ العِللُ الخفيَّة.
كما قال الإمامُ عليُّ بنُ المَدِينيِّ رضيَ اللهُ عنه: «إن الحديثَ إذا لم تُجمَعْ طرُقُهْ، لم يَتبيَّنْ خطَؤُهْ»؛ رواه الخطيبُ في «الجامع» (2/212).
فصنيعُ المحدِّثين في هذه الخُطْوةِ أشبهُ بصنيعِ الصَّيْرَفيِّ الحاذقِ في اكتشافِ جيِّدِ الذهَبِ مِن رديئِه.
ثالثًا: مداومةُ رصدِ أحوالِ الرواة، وعدمُ الاكتفاءِ بالحُكْمِ السابق:
فبعد أن يحكُمَ المحدِّثون على راوٍ معيَّنٍ بأنه ثقةٌ، فهذا لا يَلزَمُ منه أنه سيَظَلُّ ثقةً طِيلةَ عُمُرِه:
فإن الرواةَ قد تعتريهم حالاتٌ طارئةٌ تؤثِّرُ في ضبطِهم؛ فترى في كُتُبِ الحديثِ عبارةَ: «فلانٌ اختلَطَ عامَ كذا، فما رُوِيَ عنه قبل هذا العام، يُقبَلُ، وما كان بعد هذا العام، فلا يُقبَلُ».
وبعضُ الرواةِ تكونُ روايتُهُ للحديثِ مجوَّدةً ومتقَنةً؛ إذا كانت كتُبُهُ معه؛ فإذا رحَلَ إلى بلدٍ آخَرَ - ولم تكن معه الكتُبُ والصحُفُ - ضَعُفَ ضبطُه؛ فتجدُ المحدِّثين في كُتُبِ الحديثِ ينُصُّون على هذا الأمرِ أيضًا؛ وهذا مِن عجيبِ دقَّةِ المحدِّثين.
رابعًا: نقدُ المتونِ، وعدمُ الاقتصارِ على نقدِ الأسانيد:
فمِن أهمِّ ما اعتمَدَ عليه المحدِّثون في اختبارِ ضبطِ الراوي ومعرفةِ إتقانِهِ: اختبارُ المتونِ والأحاديثِ التي رواها.
وهذه الطريقةُ هي العُمْدةُ في الجرحِ والتعديل، فيختبِرون أحاديثَهُ؛ ومِن ثَمَّ يَحكُمون عليه بالضبطِ والإتقانِ أو عدَمِه، وربَّما حكَموا عليه بالكذبِ، وهم لا يَعرِفون شخصَهُ؛ بناءً على اختبارِ المتونِ التي يَرْويها.
وقد ألَّف العلماءُ - مِن أهلِ الاختصاصِ - في علمِ الحديثِ مؤلَّفاتٍ كثيرةً في الموضوعاتِ مِن الأحاديث، ولهم في التأليفِ في الموضوعاتِ طريقتان:
الطريقةُ الأُولى: طريقةُ الذين ترَجموا للوضَّاعِين والكذَّابين والضعفاء، ومنهم: البخاريُّ، والجُوزَجانيُّ، وابنُ عَدِيٍّ، والنَّسائيُّ، والعُقَيليُّ، والدارَقُطْنيُّ، وغيرُهم كثيرٌ؛ وهذه طريقةُ الأقدَمين مِن المحدِّثين - في الأغلبِ - وهم إذ يترجِمون لهؤلاءِ يذكُرُون في تَرَاجِمِهم ما وضَعوه مِن الأحاديث.
الطريقةُ الثانيةُ: طريقةُ الذين خصُّوا الأحاديثَ الموضوعةَ بالتأليف؛ كابنِ الجَوْزيِّ، والسُّيوطيِّ، وعليٍّ القارِي، وأمثالِهم، وهؤلاءِ أورَدوا الضعيفَ والموضوعَ في مؤلَّفاتِهم، ومنهم مَن أفرَدَ الموضوعَ بالتأليف، وبعضُهم أفرَدَ بابًا واحدًا بالتأليف؛ وهذه طريقةُ المتأخِّرين، ونلاحُظُ أن الذين ألَّفوا في الموضوعاتِ كان تأليفُهم فيه أصيلًا، وبعضُهم كان تأليفُهم معادًا مكرَّرًا.
لقد كانت جهودُ السابِقين مِن العلماءِ تسيرُ كلُّها باتِّجاهِ إبقاءِ السنَّةِ النبويَّةِ كاملةً خاليةً مِن النقصِ والزيادة، على النحوِ الذي جاء عن رسولِ اللهِ ﷺ.
وكذلك قام المعاصِرون مِن العلماءِ بنشرِ هذه الجهودِ، وتلك الإبداعاتِ، وأحيَوْا ما كتَبهُ السلف، وكان للحديثِ النبويِّ الشريفِ نصيبٌ وافرٌ؛ فقد نُشِرَتْ كتُبُ الحديثِ، وكتُبُ علومِه، وكتُبُ الرِّجالِ، والجرحِ والتعديلِ، وما يتعلَّقُ بالضعيفِ والموضوعِ وغيرِها.
ومِن هذا التفصيلِ السابقِ: يتَّضِحُ أن الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهم، ومِن بعدِهم أهلُ العلمِ مِن هذه الأمَّةِ - قد اهتمُّوا بالحديثِ اهتمامًا كبيرًا، واتَّخَذوا الكثيرَ مِن الإجراءاتِ لحِفظِهِ وتوثيقِهِ وتنقيتِهِ مِن أيِّ دخيلٍ عليه.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية:
يقولُ أحدُ أبرزِ علماءِ المنهجيَّةِ التاريخيَّةِ، وهو «أسَد رُسْتُم» الباحثُ النصرانيُّ، في كتابِهِ: «مصطلَحِ التاريخ»، بعد أن اطَّلَعَ عن كثَبٍ على تراثِ المحدِّثين: «أوَّلُ مَن نظَّم نقدَ الرواياتِ التاريخيَّة، ووضَعَ القواعدَ لذلك: علماءُ الدينِ الإسلاميِّ؛ فإنهم اضطُرُّوا اضطرارًا إلى الاعتناءِ بأقوالِ النبيِّ وأفعالِهِ؛ لفهمِ القرآنِ وتوزيعِ العدل، فقالوا:
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
[النجم: 4]
ما تُلِيَ منه، فهو القرآنُ، وما لم يُتْلَ منه، فهو السنَّةُ؛ فانبَرَوْا لجمعِ الأحاديثِ ودَرْسِها وتدقيقِها، فأَتْحَفوا علمَ الحديثِ بقواعدَ لا تزالُ في أُسُسِها وجَوهَرِها محترَمةً في الأوساطِ العلميَّةِ حتى يومِنا هذا».
فهذه شهادةُ رجلٍ نصرانيٍّ اطَّلَعَ على علمِ الحديثِ، فأُعجِبَ به أيَّما إعجابٍ، وهو القائلُ في كتابِهِ، والذي يُعَدُّ مِن أشهرِ الكُتُبِ في التعامُلِ مع النصوصِ التاريخيَّةِ: «لِيَفْخَرِ المسلِمون بعلمِ الحديث!».
وفي المقابِلِ: نَجِدُ مِن أبناءِ الإسلامِ، ومُدَّعي التنويرِ والتجديدِ مَن يَقدَحون في دقَّةِ علمِ الحديث، بلا أدنى درايةٍ عن تفاصيلِه، أو دراسةٍ لمَضامِينِه؛ ولذلك فكلُّ اعتراضاتِ هؤلاءِ تجدُها منقوصةً ومضطرِبةً. وأحدُ هذه الاعتراضاتِ الواهيةِ: دعواهم غفلةَ المحدِّثين وعلماءِ الأمَّةِ عن قواعدِ النقدِ في تعامُلِهم مع أحاديثِ النبيِّ ﷺ.