نص السؤال

كيف نَضمَنُ صحَّةَ السنَّةِ واتِّصالَ أسانيدِ السنَّةِ إلى النبيِّ ﷺ، وبيننا وبينه مئاتُ السنين؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

هل الحديثُ متَّصِلٌ إلى الرسولِ ﷺ؟

كيف نَضمَنُ أن الحديثَ الصحيحَ قد قاله الرسولُ ﷺ؟

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

مِن البراهينِ التي تُزِيلُ أيَّ تردُّدٍ في الثقةِ باتِّصالِ السنَّةِ: معرفةُ حالِ السنَّةِ في عهدِ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، ثم مَن جاء بعدَهم.

وكذلك: معرفةُ المعاييرِ العلميَّةِ والعقليَّةِ التي وضَعَها علماءُ المسلِمين، وتقييمُها، ثم النظَرُ في تطبيقِها، وكلُّ ذلك يَكشِفُ الضماناتِ العظيمةَ التي نقَلَتْ لنا السنَّةَ الصحيحة.

ونُشِيرُ في ذلك إلى ما يلي:

1- حرَصُ الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم على حفظِ سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، كما حرَصوا على حفظِ القرآن:

فكانوا يلازِمون النبيَّ ﷺ، ويَحفَظون كلامَه، ويراقِبون أفعالَه، ويَشهَدون أحكامَهُ وقضاياهُ وفتاوِيَه، وكان الذي لم يَشهَدْ، يأخُذُ مِن الذي شَهِدَ، وكان النبيُّ ﷺ يحُثُّ أصحابَهُ على حفظِ السنَّةِ وفهمِها وتبليغِها للناسِ؛ كما قال ﷺ:

«نَضَّرَ اللهُ امْرَأً، سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَهَا»؛

رواه التِّرمِذيُّ (2658)، والبزَّار (3416)

وقال ﷺ:

«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛

رواه البخاري (3461)

ومحبَّةُ النبيِّ ﷺ، ومعرفةُ عِظَمِ الحاجةِ إليه، دافعةٌ إلى معرفةِ كلِّ ما يصدُرُ منه ويتعلَّقُ به؛ وهذا الدافعُ ضَمَانةٌ قويَّةٌ لحفظِ السنَّةِ وتناقُلِها.

2- كان الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ السنَّةِ بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ:

فقد ثبَتَ عن أبي مُوسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ له، فَرَجَعَ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ فِي إِثْرِهِ، فَقَالَ: لِمَ رَجَعْتَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُجَبْ، فَلْيَرْجِعْ»، فقال له عُمَرُ: «لَتَأْتِيَنِّي على ذلك ببيِّنةٍ، أو لَأَفْعَلَنَّ بك»؛

رواه البخاري (6245، 7353)، ومسلم (2153)

وقال أيضًا:

«إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَدِيدٌ»؛

رواه أبو داود (5183)

وكان صغارُ الصحابةِ يجتهِدون في جمعِ الحديثِ عن كبارِ الصحابةِ، رضيَ اللهُ عن الجميع؛ كما فعَلَ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنهما: فقد سافَرَ مَسِيرةَ شَهْرٍ حتى بلَغَ عبدَ اللهِ بنَ أُنَيسٍ الأنصاريَّ رضيَ اللهُ عنه بالشامِ؛ ليأخُذَ منه حديثَ النبيِّ ﷺ:

«يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا»؛

رواه أحمد (25/ 432 رقم 16042)

وهذا كان حالَ التابِعين مع الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، وقد كانت زيارةُ الصحابيِّ لمدينةٍ مِن المُدُنِ الإسلاميَّةِ كافيةً لأن يتجمَّعَ أهلُ المدينةِ كلِّها حوله، ويشتدَّ الزحامُ عند وصولِهِ، ويُشارَ إليه بالأصابعِ: أنه صاحبُ رسولِ اللهِ ﷺ؛ ليأخُذوا عنه حديثَ رسولِ اللهِ ﷺ.

وظَلَّ هذا الفيضُ المبارَكُ مِن الروايةِ والتحديثِ صافيًا حتى آخِرِ عصرِ كبارِ الصحابة.

3- في أواخرِ عهدِ الصحابةِ: ظهَرَ الوضعُ في الحديث، وهو الكذبُ على رسولِ اللهِ؛ لأسبابٍ عِدَّةٍ؛ منها:

أ- الفتنةُ، ونشأةُ الخلافاتِ السياسيَّةِ، وظهورُ فِرَقِ الشِّيعة؛ وهذا تسبَّب في شيوعِ الوضعِ في الحديثِ، والكذبِ على النبيِّ ﷺ؛ حتى يؤيِّدَ كلُّ فريقٍ موقفَهُ ودَعْواه.

فكما رُوِيَ عن الزُّهْريِّ، أنه قال: «يخرُجُ الحديثُ مِن عندِنا شِبْرًا، فيَرجِعُ إلينا مِن العراقِ ذِراعًا»؛ كما في «الطبقاتِ الكبرى» (7/ 435 ط. الخانجي)، وروَى حمَّادُ بنُ سلَمةَ، عن أحدِ مشايخِ «الرافضةِ»؛ أنه قال: «كنا إذا اجتمَعْنا، فاستحسَنَّا شيئًا، جعَلْناهُ حديثًا»؛ رواه الخطيبُ في «الجامعْ، لأخلاقِ الراوي وآدابِ السامعْ» (1/ 138).

ب- ظهورُ الزنادقةِ، الذين يُرِيدون هَدْمَ الدِّينِ بتحليلِ الحرام، وتحريمِ الحلال.

ج- كثرةُ الوُعَّاظِ والقُصَّاصِ، الذين يَكذِبون بغرَضِ جذبِ الأتباعِ والمريدين، وعادةُ الناسِ أنهم ينجذِبون لسماعِ الغريب.

فمِن أجلِ ذلك وغيرِهِ اشتَدَّ الحرصُ والتثبُّتُ في الروايةِ عن ذي قبلُ.

4- وقد تصدَّى لهذا الخطَرِ العظيمِ رجالٌ حَفِظوا الدِّينَ للأمَّةِ غَضًّا طَرِيًّا كما أُنزِلَ:

فأخَذوا يميِّزون الصحيحَ مِن السنَّةِ عن الضعيفِ والمكذوب، مُتَّخذِين في ذلك أقومَ وسائلِ النقدِ والتمحيص.

ومِن هذه الجهودِ الجليلة:

أ- الاعتمادُ على الأسانيدِ؛ كما قال ابنُ سِيرينَ، فيما جاء في مقدِّمةِ «صحيحِ مسلِمٍ»: «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ؛ فيُنظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ»؛ «مقدِّمةُ صحيحِ مسلم» (1/ 15).

فكانوا يأخُذون الحديثَ مِن العدولِ الثقاتِ الذين عُرِفوا بالضبطِ والإتقانِ والتحرِّي، ولا يأخُذون الحديثَ ممَّن عُرِفَ بالكذبِ، وإن كان في غيرِ الحديث، أو عُرِفَ بالضعفِ في تحرِّيهِ وتثبُّتِه، أو مَن عُرِفَ بالزندقةِ والنفاق، أو مَن اشتُهِرَ عنه وقوعُهُ في خوارمِ المروءة، وكثرةِ نِسْيانِه، وسوءِ حفظِه.

ب- نشأت علومٌ لضبطِ هذه الأمور، منها: علمُ مصطلَحِ الحديث، وعلمُ الجرحِ والتعديل، وعلمُ عِلَلِ الحديث، وعلمُ طبَقاتِ الرُّواة، وغيرُها، ومنها تقسيمُهم للحديثِ إلى صحيحٍ، وحسَنٍ، وضعيفٍ، وغيرُها مِن التقسيماتِ الدقيقةِ التي ينبني عليها الكثيرُ مِن أحكامِ الاستدلالِ والاحتجاج.

ج- ومِن الشروطِ الظاهرةِ - التي وضَعها المحدِّثون للتعامُلِ مع الأحاديثِ والحكمِ عليها، ضِمنَ منهجيَّةِ النقدِ عند علماءِ الحديث، والتي هي محلُّ إعجابٍ لكلِّ مَن اطلَعَ عليها عن كَثَبٍ، سواءٌ كان مِن أهلِ الإسلامِ أو مِن غيرِهم -: «اتِّصالُ الإسناد»:

فبعد التأكُّدِ مِن سلامةِ رواةِ الخبَرِ مِن جهةِ العدالةِ واستقامةِ السلوك، ومِن جهةِ الضبطِ والإتقان، وبعد اختبارِ صحَّةِ المتنِ بمعارَضتِهِ بمتونِ الثقاتِ، وغيرِ ذلك مِن الأمور، ينظُرون في أمرٍ آخَرَ، وهو: كيف روى هذا الراوي هذا الحديثَ؟ هل رواه مباشَرةً عن شيخِه، أم سَمِعَهُ بواسطة؟:

فهناك صِيَغٌ في الحديثِ تُنبِئُ بأخذِ التلميذِ مباشَرةً عن شيخِهِ؛ كـ: «أخبَرَني» و«حدَّثني» و«سَمِعتُ».

وهناك صِيَغٌ أخرى تُنبِئُ عن عدمِ الاتصالِ؛ كـ: «نُبِّئتُ عن فلان»، أو «بلَغَني أنَّ فلانًا».

والمحدِّثون لهم تعامُلٌ خاصٌّ مع كلِّ نوعٍ مِن هذه الأنواع.

بل الأدَقُّ مِن ذلك: أنهم يُدرِكون الانقطاعَ الظاهرَ والانقطاعَ الخفيَّ:

فالانقطاعُ الظاهرُ: كأن يَروِيَ راوٍ عن شيخٍ تُوُفِّيَ قبل مولدِه، أو تكونَ الصيغةُ نفسُها تُوحِي بذلك؛ كما بيَّنَّا.

والانقطاعُ الخفيُّ: كأن يكونَ الراوي كذَّابًا، يقولُ: «قال فلانٌ كذا وكذا»؛ وفلانٌ هذا لم يقُلْ شيئًا.

وهذا النوعُ يُعرَفُ بطرُقٍ كثيرةٍ عند المحدِّثين، منها: اختبارُ المتون، والنظَرُ في حالِ الرواةِ، وغيرُه.

وعليه: فالأمرُ ليس كما يظُنُّهُ بعضُهم؛ مِن أن السنَّةَ منقطِعةُ الأسانيد، وإنما القَدْرُ الذي انقطَعَ فيه الإسنادُ معروفٌ عند المحدِّثين مِن مئاتِ السِّنين، ومبثوثٌ في كُتُبِ الحديث؛ وهذا الصِّنفُ مِن السنَّةِ له منهجيَّةٌ خاصَّةٌ في التعامُلِ معه.

فمعرفةُ الصحيحِ مِن السنَّةِ واستخراجُهُ وتمييزُهُ عن الضعيفِ والساقطِ والموضوعِ، أمرٌ تَمَّ واستقَرَّ، وكان بمعاييرَ بلَغَتْ مِن الدقَّةِ مبلغًا تَحَارُ منه العقول.

هذا كلُّه معروفٌ في مراحلِ تدوينِ الحديثِ الأُولى، وعلى وَفْقِهِ تَمَّ جمعُ أمَّهاتِ كتبِ السنَّة؛ ككُتُبِ الصِّحاحِ والمسانيد.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

السنَّةُ النبويَّةُ الصحيحةُ ثبَتَتْ بالطرُقِ العقليَّةِ والعُرْفيَّةِ التي تثبُتُ بها الأخبارُ الصحيحة.

وقد حرَّر علماءُ المسلِمين تلك الشروطَ، وفصَّلوها في علومٍ دقيقةٍ؛ كعلمِ المصطلَحِ، وعلمِ الرِّجالِ، وعلمِ العِلَلِ، وعلمِ طبَقاتِ الرُّواةِ، وغيرِها.

وقد حرَصُ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم على حفظِ سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، كما حرَصوا على حفظِ القرآن، وكانوا يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ السنَّةِ بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ، وفي أواخرِ عهدِ الصحابةِ ظهَرَ الوضعُ في الحديث، وهو الكذبُ على رسولِ اللهِ ﷺ؛ لأسبابٍ عِدَّةٍ، وقد تصدَّى لهذا الخطَرِ العظيمِ رجالٌ حَفِظوا الدِّينَ للأمَّةِ غَضًّا طَرِيًّا كما أُنزِلَ؛ فأخَذوا يميِّزون الصحيحَ مِن السنَّةِ عن الضعيفِ والمكذوب، مُتَّخذِين في ذلك أقومَ وسائلِ النقدِ والتمحيص.

فبعد التأكُّدِ مِن سلامةِ رواةِ الخبَرِ مِن جهةِ العدالةِ، واستقامةِ السلوكِ، ومِن جهةِ الضبطِ والإتقانِ، وبعد اختبارِ صحَّةِ المتنِ بمعارَضتِهِ بمتونِ الثقاتِ، وغيرِ ذلك مِن الأمورِ -: ينظُرون في أمرٍ آخَرَ، وهو: كيف روى هذا الراوي هذا الحديثَ؟ هل رواهُ مباشَرةً عن شيخِه، أم سَمِعَهُ بواسِطة؟ وهكذا؛ في أسئلةٍ دقيقةٍ ومعاييرَ عقليَّةٍ سليمةٍ، تَضمَنُ الصحَّةَ، وتفيدُ العلمَ.

ويُمكِنُ لكلِّ ناظرٍ أن يتأمَّلَ في علومِ الحديث، ويَرَى الجهودَ الدقيقةَ والأمثلةَ العجيبةَ في التثبُّتِ مِن صحَّةِ السنَّةِ، وبه يَعلَمُ أن الإسنادَ مِيزةُ هذه الأمَّةِ عن باقي الأمم، وأن الأحاديثَ - بل كثيرٌ مِن الضعيفِ منها - هي أصحُّ مِن الأناجيلِ والتوراةِ المحرَّفَيْن.

خاتمة الجواب

خاتمة: يُمكِنُ لكلِّ ناظرٍ أن يتأمَّلَ في علومِ الحديث، ويَرَى الجهودَ الدقيقةَ والأمثلةَ العجيبةَ في التثبُّتِ مِن صحَّةِ السنَّةِ، وبه يَعلَمُ أن الإسنادَ مِيزةُ هذه الأمَّةِ عن باقي الأمم، وأن الأحاديثَ - بل كثيرٌ مِن الضعيفِ منها - هي أصحُّ مِن الأناجيلِ والتوراةِ المحرَّفَيْن.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

السنَّةُ النبويَّةُ الصحيحةُ ثبَتَتْ بالطرُقِ العقليَّةِ والعُرْفيَّةِ التي تثبُتُ بها الأخبارُ الصحيحة.

وقد حرَّر علماءُ المسلِمين تلك الشروطَ، وفصَّلوها في علومٍ دقيقةٍ؛ كعلمِ المصطلَحِ، وعلمِ الرِّجالِ، وعلمِ العِلَلِ، وعلمِ طبَقاتِ الرُّواةِ، وغيرِها.

وقد حرَصُ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم على حفظِ سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، كما حرَصوا على حفظِ القرآن، وكانوا يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ السنَّةِ بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ، وفي أواخرِ عهدِ الصحابةِ ظهَرَ الوضعُ في الحديث، وهو الكذبُ على رسولِ اللهِ ﷺ؛ لأسبابٍ عِدَّةٍ، وقد تصدَّى لهذا الخطَرِ العظيمِ رجالٌ حَفِظوا الدِّينَ للأمَّةِ غَضًّا طَرِيًّا كما أُنزِلَ؛ فأخَذوا يميِّزون الصحيحَ مِن السنَّةِ عن الضعيفِ والمكذوب، مُتَّخذِين في ذلك أقومَ وسائلِ النقدِ والتمحيص.

فبعد التأكُّدِ مِن سلامةِ رواةِ الخبَرِ مِن جهةِ العدالةِ، واستقامةِ السلوكِ، ومِن جهةِ الضبطِ والإتقانِ، وبعد اختبارِ صحَّةِ المتنِ بمعارَضتِهِ بمتونِ الثقاتِ، وغيرِ ذلك مِن الأمورِ -: ينظُرون في أمرٍ آخَرَ، وهو: كيف روى هذا الراوي هذا الحديثَ؟ هل رواهُ مباشَرةً عن شيخِه، أم سَمِعَهُ بواسِطة؟ وهكذا؛ في أسئلةٍ دقيقةٍ ومعاييرَ عقليَّةٍ سليمةٍ، تَضمَنُ الصحَّةَ، وتفيدُ العلمَ.

ويُمكِنُ لكلِّ ناظرٍ أن يتأمَّلَ في علومِ الحديث، ويَرَى الجهودَ الدقيقةَ والأمثلةَ العجيبةَ في التثبُّتِ مِن صحَّةِ السنَّةِ، وبه يَعلَمُ أن الإسنادَ مِيزةُ هذه الأمَّةِ عن باقي الأمم، وأن الأحاديثَ - بل كثيرٌ مِن الضعيفِ منها - هي أصحُّ مِن الأناجيلِ والتوراةِ المحرَّفَيْن.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

مِن البراهينِ التي تُزِيلُ أيَّ تردُّدٍ في الثقةِ باتِّصالِ السنَّةِ: معرفةُ حالِ السنَّةِ في عهدِ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، ثم مَن جاء بعدَهم.

وكذلك: معرفةُ المعاييرِ العلميَّةِ والعقليَّةِ التي وضَعَها علماءُ المسلِمين، وتقييمُها، ثم النظَرُ في تطبيقِها، وكلُّ ذلك يَكشِفُ الضماناتِ العظيمةَ التي نقَلَتْ لنا السنَّةَ الصحيحة.

ونُشِيرُ في ذلك إلى ما يلي:

1- حرَصُ الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم على حفظِ سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، كما حرَصوا على حفظِ القرآن:

فكانوا يلازِمون النبيَّ ﷺ، ويَحفَظون كلامَه، ويراقِبون أفعالَه، ويَشهَدون أحكامَهُ وقضاياهُ وفتاوِيَه، وكان الذي لم يَشهَدْ، يأخُذُ مِن الذي شَهِدَ، وكان النبيُّ ﷺ يحُثُّ أصحابَهُ على حفظِ السنَّةِ وفهمِها وتبليغِها للناسِ؛ كما قال ﷺ:

«نَضَّرَ اللهُ امْرَأً، سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَهَا»؛

رواه التِّرمِذيُّ (2658)، والبزَّار (3416)

وقال ﷺ:

«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛

رواه البخاري (3461)

ومحبَّةُ النبيِّ ﷺ، ومعرفةُ عِظَمِ الحاجةِ إليه، دافعةٌ إلى معرفةِ كلِّ ما يصدُرُ منه ويتعلَّقُ به؛ وهذا الدافعُ ضَمَانةٌ قويَّةٌ لحفظِ السنَّةِ وتناقُلِها.

2- كان الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم يتثبَّتون غايةَ التثبُّتِ في روايةِ السنَّةِ بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ:

فقد ثبَتَ عن أبي مُوسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ له، فَرَجَعَ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ فِي إِثْرِهِ، فَقَالَ: لِمَ رَجَعْتَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُجَبْ، فَلْيَرْجِعْ»، فقال له عُمَرُ: «لَتَأْتِيَنِّي على ذلك ببيِّنةٍ، أو لَأَفْعَلَنَّ بك»؛

رواه البخاري (6245، 7353)، ومسلم (2153)

وقال أيضًا:

«إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَدِيدٌ»؛

رواه أبو داود (5183)

وكان صغارُ الصحابةِ يجتهِدون في جمعِ الحديثِ عن كبارِ الصحابةِ، رضيَ اللهُ عن الجميع؛ كما فعَلَ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنهما: فقد سافَرَ مَسِيرةَ شَهْرٍ حتى بلَغَ عبدَ اللهِ بنَ أُنَيسٍ الأنصاريَّ رضيَ اللهُ عنه بالشامِ؛ ليأخُذَ منه حديثَ النبيِّ ﷺ:

«يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا»؛

رواه أحمد (25/ 432 رقم 16042)

وهذا كان حالَ التابِعين مع الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، وقد كانت زيارةُ الصحابيِّ لمدينةٍ مِن المُدُنِ الإسلاميَّةِ كافيةً لأن يتجمَّعَ أهلُ المدينةِ كلِّها حوله، ويشتدَّ الزحامُ عند وصولِهِ، ويُشارَ إليه بالأصابعِ: أنه صاحبُ رسولِ اللهِ ﷺ؛ ليأخُذوا عنه حديثَ رسولِ اللهِ ﷺ.

وظَلَّ هذا الفيضُ المبارَكُ مِن الروايةِ والتحديثِ صافيًا حتى آخِرِ عصرِ كبارِ الصحابة.

3- في أواخرِ عهدِ الصحابةِ: ظهَرَ الوضعُ في الحديث، وهو الكذبُ على رسولِ اللهِ؛ لأسبابٍ عِدَّةٍ؛ منها:

أ- الفتنةُ، ونشأةُ الخلافاتِ السياسيَّةِ، وظهورُ فِرَقِ الشِّيعة؛ وهذا تسبَّب في شيوعِ الوضعِ في الحديثِ، والكذبِ على النبيِّ ﷺ؛ حتى يؤيِّدَ كلُّ فريقٍ موقفَهُ ودَعْواه.

فكما رُوِيَ عن الزُّهْريِّ، أنه قال: «يخرُجُ الحديثُ مِن عندِنا شِبْرًا، فيَرجِعُ إلينا مِن العراقِ ذِراعًا»؛ كما في «الطبقاتِ الكبرى» (7/ 435 ط. الخانجي)، وروَى حمَّادُ بنُ سلَمةَ، عن أحدِ مشايخِ «الرافضةِ»؛ أنه قال: «كنا إذا اجتمَعْنا، فاستحسَنَّا شيئًا، جعَلْناهُ حديثًا»؛ رواه الخطيبُ في «الجامعْ، لأخلاقِ الراوي وآدابِ السامعْ» (1/ 138).

ب- ظهورُ الزنادقةِ، الذين يُرِيدون هَدْمَ الدِّينِ بتحليلِ الحرام، وتحريمِ الحلال.

ج- كثرةُ الوُعَّاظِ والقُصَّاصِ، الذين يَكذِبون بغرَضِ جذبِ الأتباعِ والمريدين، وعادةُ الناسِ أنهم ينجذِبون لسماعِ الغريب.

فمِن أجلِ ذلك وغيرِهِ اشتَدَّ الحرصُ والتثبُّتُ في الروايةِ عن ذي قبلُ.

4- وقد تصدَّى لهذا الخطَرِ العظيمِ رجالٌ حَفِظوا الدِّينَ للأمَّةِ غَضًّا طَرِيًّا كما أُنزِلَ:

فأخَذوا يميِّزون الصحيحَ مِن السنَّةِ عن الضعيفِ والمكذوب، مُتَّخذِين في ذلك أقومَ وسائلِ النقدِ والتمحيص.

ومِن هذه الجهودِ الجليلة:

أ- الاعتمادُ على الأسانيدِ؛ كما قال ابنُ سِيرينَ، فيما جاء في مقدِّمةِ «صحيحِ مسلِمٍ»: «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ؛ فيُنظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ»؛ «مقدِّمةُ صحيحِ مسلم» (1/ 15).

فكانوا يأخُذون الحديثَ مِن العدولِ الثقاتِ الذين عُرِفوا بالضبطِ والإتقانِ والتحرِّي، ولا يأخُذون الحديثَ ممَّن عُرِفَ بالكذبِ، وإن كان في غيرِ الحديث، أو عُرِفَ بالضعفِ في تحرِّيهِ وتثبُّتِه، أو مَن عُرِفَ بالزندقةِ والنفاق، أو مَن اشتُهِرَ عنه وقوعُهُ في خوارمِ المروءة، وكثرةِ نِسْيانِه، وسوءِ حفظِه.

ب- نشأت علومٌ لضبطِ هذه الأمور، منها: علمُ مصطلَحِ الحديث، وعلمُ الجرحِ والتعديل، وعلمُ عِلَلِ الحديث، وعلمُ طبَقاتِ الرُّواة، وغيرُها، ومنها تقسيمُهم للحديثِ إلى صحيحٍ، وحسَنٍ، وضعيفٍ، وغيرُها مِن التقسيماتِ الدقيقةِ التي ينبني عليها الكثيرُ مِن أحكامِ الاستدلالِ والاحتجاج.

ج- ومِن الشروطِ الظاهرةِ - التي وضَعها المحدِّثون للتعامُلِ مع الأحاديثِ والحكمِ عليها، ضِمنَ منهجيَّةِ النقدِ عند علماءِ الحديث، والتي هي محلُّ إعجابٍ لكلِّ مَن اطلَعَ عليها عن كَثَبٍ، سواءٌ كان مِن أهلِ الإسلامِ أو مِن غيرِهم -: «اتِّصالُ الإسناد»:

فبعد التأكُّدِ مِن سلامةِ رواةِ الخبَرِ مِن جهةِ العدالةِ واستقامةِ السلوك، ومِن جهةِ الضبطِ والإتقان، وبعد اختبارِ صحَّةِ المتنِ بمعارَضتِهِ بمتونِ الثقاتِ، وغيرِ ذلك مِن الأمور، ينظُرون في أمرٍ آخَرَ، وهو: كيف روى هذا الراوي هذا الحديثَ؟ هل رواه مباشَرةً عن شيخِه، أم سَمِعَهُ بواسطة؟:

فهناك صِيَغٌ في الحديثِ تُنبِئُ بأخذِ التلميذِ مباشَرةً عن شيخِهِ؛ كـ: «أخبَرَني» و«حدَّثني» و«سَمِعتُ».

وهناك صِيَغٌ أخرى تُنبِئُ عن عدمِ الاتصالِ؛ كـ: «نُبِّئتُ عن فلان»، أو «بلَغَني أنَّ فلانًا».

والمحدِّثون لهم تعامُلٌ خاصٌّ مع كلِّ نوعٍ مِن هذه الأنواع.

بل الأدَقُّ مِن ذلك: أنهم يُدرِكون الانقطاعَ الظاهرَ والانقطاعَ الخفيَّ:

فالانقطاعُ الظاهرُ: كأن يَروِيَ راوٍ عن شيخٍ تُوُفِّيَ قبل مولدِه، أو تكونَ الصيغةُ نفسُها تُوحِي بذلك؛ كما بيَّنَّا.

والانقطاعُ الخفيُّ: كأن يكونَ الراوي كذَّابًا، يقولُ: «قال فلانٌ كذا وكذا»؛ وفلانٌ هذا لم يقُلْ شيئًا.

وهذا النوعُ يُعرَفُ بطرُقٍ كثيرةٍ عند المحدِّثين، منها: اختبارُ المتون، والنظَرُ في حالِ الرواةِ، وغيرُه.

وعليه: فالأمرُ ليس كما يظُنُّهُ بعضُهم؛ مِن أن السنَّةَ منقطِعةُ الأسانيد، وإنما القَدْرُ الذي انقطَعَ فيه الإسنادُ معروفٌ عند المحدِّثين مِن مئاتِ السِّنين، ومبثوثٌ في كُتُبِ الحديث؛ وهذا الصِّنفُ مِن السنَّةِ له منهجيَّةٌ خاصَّةٌ في التعامُلِ معه.

فمعرفةُ الصحيحِ مِن السنَّةِ واستخراجُهُ وتمييزُهُ عن الضعيفِ والساقطِ والموضوعِ، أمرٌ تَمَّ واستقَرَّ، وكان بمعاييرَ بلَغَتْ مِن الدقَّةِ مبلغًا تَحَارُ منه العقول.

هذا كلُّه معروفٌ في مراحلِ تدوينِ الحديثِ الأُولى، وعلى وَفْقِهِ تَمَّ جمعُ أمَّهاتِ كتبِ السنَّة؛ ككُتُبِ الصِّحاحِ والمسانيد.

خاتمة الجواب

خاتمة: يُمكِنُ لكلِّ ناظرٍ أن يتأمَّلَ في علومِ الحديث، ويَرَى الجهودَ الدقيقةَ والأمثلةَ العجيبةَ في التثبُّتِ مِن صحَّةِ السنَّةِ، وبه يَعلَمُ أن الإسنادَ مِيزةُ هذه الأمَّةِ عن باقي الأمم، وأن الأحاديثَ - بل كثيرٌ مِن الضعيفِ منها - هي أصحُّ مِن الأناجيلِ والتوراةِ المحرَّفَيْن.