نص السؤال

هل كان أحبارُ أهلِ الكتابِ الذين أسلَموا يدُسُّون الإسرائيليَّاتِ في السنَّةِ، ويَكذِبون على النبيِّ ﷺ؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

أحبارُ أهلِ الكتابِ الذين دخَلوا في الإسلام، ودَسُّ الإسرائيليَّاتِ في السنَّة

الجواب التفصيلي


الجوابُ التفصيليّ:

القولُ باتِّهامِ كعبِ الأحبارِ بدَسِّ الإسرائيليَّاتِ في السنَّةِ النبويَّة، وروايتِها على أنها مِن كلامِ رسولِ اللهِ ﷺ -: قولٌ مردودٌ، ودعوى لا دليلَ عليها؛ وذلك مِن عدَّةِ أوجُهٍ:

أوَّلًا: حالُ كعبِ الأحبارِ، وأقوالُ العلماءِ فيه:

هناك مِن الشواهدِ الكثيرةِ التي تَشهَدُ لكعبِ الأحبارِ بصدقِ إسلامِهِ وقوَّةِ إيمانِه، ومِن أبرزِ هذه الشواهدِ شهادةُ كثيرٍ مِن الصحابةِ له بذلك.

فإذا تتبَّعْنا حياةَ كعبٍ في الإسلام، ورجَعْنا إلى مقالاتِ بعضِ أعلامِ الصحابةِ فيه، وأحصَيْنا مَن تحمَّل منهم عنه، وروى له، ومَن أخرَجَ له مِن شيوخِ الحديثِ في مصنَّفاتِهم - لَوجَدْنا ما يَدحَضُ ويُبطِلُ هذه الدعوى، ويَشهَدُ له بقوَّةِ دِينِهِ وصدقِ يقينِه، وأنه قد طوى قلبَهُ على الإسلامِ المحضِ والدِّينِ الخالص.

فقد أسلَمَ - على المشهورِ - في خلافةِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، وسكَنَ المدينةَ، وصَحِبَ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، وروى عنه، وشارَكَ في غزوِ الرُّومِ في خلافتِهِ، وقد كان عُمَرُ عبقريًّا مُلهَمًا، فلا يصدِّقُ عاقلٌ أن يساكِنَ كعبًا في المدينةِ، ويصاحِبَهُ ويكتتِبَهُ في جيشِ المسلِمين لغزوِ الرُّومِ، وهو مخدوعٌ في إسلامِه، مخدوعٌ في صِدقِه، وصحَّةِ رِوايتِه.

ولقد كان كعبٌ على مَبلَغٍ عظيمٍ مِن العِلْم، وكان له بالثقافةِ اليهوديَّةِ والثقافةِ الإسلاميَّةِ معرفةٌ واسعة.

ولغزارةِ عِلمِهِ وكثرةِ معارفِهِ لَهَجَ بعضُ أعلامِ الصحابةِ بالثناءِ عليه؛ فقد قال عنه أبو الدرداءِ رضيَ اللهُ عنه: «إِنَّ عِنْدَ ابْنِ الْحِمْيَرِيَّةِ لَعِلْمًا كَثِيرًا»؛ ذكره ابنُ سعدٍ؛ كما في «فتحِ الباري» لابن حجر (13/ 335).

وهذا مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه يُثْني على كعبِ الأحبارِ في ضمنِ ثنائِهِ على نفرٍ مِن أصحابِ الرسولِ ﷺ؛ فيقولُ: «أَلَا إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ أَحَدُ الْحُكَمَاءْ، أَلَا إِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَحَدُ الْعُلَمَاءْ، إِنْ كَانَ عِنْدَهُ لَعِلْمٌ كَالْبِحَارِ، وَإِنْ كُنَّا فِيهِ لَمُفَرِّطِين»؛ رواه ابنُ سعدٍ؛ كما في «فتحِ الباري» لابن حجر (13/ 335).

وكذلك: فإن جمهورَ العلماءِ على توثيقِ كعبِ الأحبار؛ ولذا فإننا لا نَجِدُ له ذِكرًا في كُتُبِ الضعفاءِ والمتروكِين، وما يَحِقُّ لمنصِفٌ أن يَخدِشَ عدالتَه، أو يشُكَّ في كونِهِ ثقةً، بعدَما ثبَتَ مِن روايةِ أعلامِ الصحابةِ عنه؛ كأبي هُرَيرةَ، وعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وعبدِ اللهِ بنِ الزُّبَير، ولم يكن هؤلاءِ ولا غيرُهم ممَّن روَوْا عنه سُذَّجًا ولا مخدوعِين فيه، وإنما أيقَنُوا أنه صدوقٌ فيما يَرْوي، فروَوْا عنه؛ لذلك قال عنه ابنُ حجَرٍ في «التقريب»: «ثقةٌ مُخَضرَمٌ»، وأورَدهُ ابنُ سعدٍ في الطبقةِ الأولى مِن تابعِي أهلِ الشام.

وهكذا تُثبِتُ لنا الوقائعُ وتؤكِّدُ على إيمانِ كعبِ الأحبار، وحُسْنِ إسلامِه، وبراءتِهِ مِن المكيدةِ للسنَّةِ والإسلام.

ثانيًا: تبرئةُ كعبِ الأحبارِ مما نُسِبَ إليه مِن الكذبِ على رسولِ الله ﷺ:

إن الناظرَ المنصِفَ في سِيرةِ كعبِ الأحبارِ: لا يسلِّمُ أبدًا أن يكونَ كعبُ الأحبارِ وأضرابُهُ ممَّن أسلَموا وحَسُنَ إسلامُهم، كان غرَضُهم الدسَّ والاختلاقَ والإفسادَ في الدِّين.

وإن الذي نَعلَمُهُ ونُؤمِنُ به ونطمئِنُّ إليه: أن ما كان يَرْويهِ كعبٌ وغيرُهُ مِن مسلِمي أهلِ الكتابِ مِن الإسرائيليَّاتِ، لم يُسنِدوهُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، ولم يَكذِبوا فيه على أحدٍ مِن المسلِمين، وإنما كانوا يَرْوُونه على أنه مِن الإسرائيليَّاتِ الموجودةِ في كُتُبِهم، ولسنا مكلَّفين بتصديقِ شيءٍ مِن ذلك، ولا مطالَبِين بالإيمانِ به، ولا بتكذيبِهِ وردِّه، بعدَما قال رسولُ الله ﷺ:

«لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ»؛

رواه البخاري (4485)

لا نصدِّقُهم؛ خشيةَ أن يكونوا كاذِبين أو مخطِئين، ولا نكذِّبُهم؛ خشيةَ أن يكونوا صادِقين أو مصيبِين.

وعليه: فإن كانت قد وقَعَتْ في بعضِ مرويَّاتِ كعبٍ إسرائيليَّاتٌ مكذوبةٌ أو خُرافاتٌ -: فذلك إنما يَرجِعُ إلى مَن نقَلَ عنهم مِن أهلِ الكتابِ السابِقين الذين بدَّلوا وحرَّفوا، وإلى بعضِ الكُتُبِ القديمةِ التي مُلِئَتْ بالخُرافاتِ والإسرائيليَّات.

وأما عن ذِكْرِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه لكعبٍ، وقولِهِ عنه: «إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ المُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا - مَعَ ذَلِكَ - لَنَبْلُو عَلَيْهِ الكَذِبَ»؛ رواه البخاري (7361) -:

فمُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه قد شَهِدَ له بالعلمِ وغزارتِه، وحكَمَ على نفسِهِ: بأنه فرَّط في علمِ كعبٍ؛ فهل يُعقَلُ أن مُعاوِيةَ يَشهَدُ هذه الشهادةَ لرجُلٍ كذَّاب؟!

وهل يُعقَلُ أن يتحسَّرَ ويَندَمَ على ما فاته مِن علمِ رجُلٍ يدلِّسُ في كُتُبِ الله، ويحرِّفُ في وحيِ السماء؟!

وإنما مرادُ معاوِيةَ: أن كعبًا كان يُخطِئُ أحيانًا فيما يُخبِرُ به، ولم يكن مقصودُهُ أن كعبًا كان كذَّابًا، والعرَبُ قد استعمَلتِ الكذبَ في موضعِ الخطأِ؛ قال الأخطَلُ:

كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ      غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالَا

كما في «النهاية» لابن الأثير (4/ 159).

أما عن قولِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه له: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ، أَوْ لَأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ الْقِرَدَةِ»؛ رواه أبو زُرْعةَ الدِّمَشْقيُّ في «تاريخِه» (1/544):

فلقد اجتمَعتِ الأخبارُ على أن عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه كان يتشدَّدُ في الرواية، وأنه كان يَنْهى المحدِّثين عامَّةً عن كثرةِ التحديث، وقد كان لذلك عدَّةُ أسباب:

- الخوفُ على السنَّةِ مِن أن يتسرَّبَ إليها خطأٌ أو تحريفٌ غيرُ مقصودٍ؛ عن طريقِ النِّسْيانِ، أو خطأِ السماعِ أو الفهمِ، أو عدمِ الدِّقَّةِ في النقل.

- الخوفُ مِن أن يتسرَّبَ الكذبُ والتدليسُ المتعمَّدانِ إلى السنَّةِ إذا أُبيحَ الإكثارُ مِن روايتِها بين الناسِ بدونِ قيود، وعُمَرُ لم يَتَّهِمْ جمهورَ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، ولكنْ لا يخلو أيُّ مجتمَعٍ مِن المنافِقِ والفاجِرِ، الذي يَسْعى إلى أغراضٍ فرديَّةٍ، ولو عن طريقِ الكذبِ على رسولِ الله ﷺ.

لذا كان الحرصُ على السنَّةِ مِن دخولِ الخطأِ أو الكذبِ عليها، مِن الأسبابِ القويَّةِ التي دعَتْ عُمَرَ رضي الله عنه إلى توجيهِ المسلِمين للإقلالِ مِن روايتِها، والتشديدِ في ذلك.

- الحرصُ على ألا يستكثِرَ الناسُ مِن روايةِ الأحاديثِ، فينتشِرَ ذلك في مَجالسِهم؛ فيشتغِلوا به عن العكوفِ على آياتِ القرآنِ الكريم.

وهذا السببُ نفسُهُ هو الذي دعا عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه - ومِن قبلِهِ الرسولَ ﷺ، وأبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنه - إلى عدمِ تدوينِ السنَّة.

فلهذه الأسبابِ مجتمِعةً كان عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه ينهى المحدِّثين عامَّةً عن كثرةِ التحديث، وكان ذلك حرصًا منه وحفاظًا على الدِّين، وليس تُهَمةً لأحد.

لذلك: فإن ما رُوِيَ مِن أن عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه نهى كعبَ الأحبارِ عن التحديثِ، لم يكن مَوقِفًا خاصًّا مِن عُمَرَ مع كعبٍ لاتِّهامِهِ بالكذب؛ وإنما كان مخافةَ التشويشِ على عقائدِ العامَّةِ وأفكارِهم؛ لعدمِ تمييزِهم بين الحقِّ والباطل.

ثالثًا: حِرصُ الصحابةِ، وعنايتُهم بالسنَّةِ، وفِطنتُهم العاليةُ: مانعٌ لأيِّ كاذبٍ أن يَبُثَّ في السنَّةِ ما يشاء:

كان الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم أعلَمَ الناسِ بأمورِ دِينِهم، وقد خصَّهمُ اللهُ بالعلمِ والفهم، والورَعِ والتُّقى، وسبَقَ لهم مِن الفضلِ على لسانِ نبيِّهم: ما ليس لأحدٍ بعدهم.

وما ثبَتَ مِن أن بعضَ الصحابةِ - كأبي هُرَيرةَ، وابنِ عبَّاسٍ، وغيرِهما - كانوا يَرجِعون إلى بعضِ مَن أسلَمَ مِن أهلِ الكتاب -:

فهو أمرٌ لا يَعِيبُهم ولا ينقُصُ مِن قدرِهم وعِلمِهم؛ فهم لم يخرُجوا عن دائرةِ الجوازِ التي حدَّها لهم رسولُ اللهِ ﷺ، وأَذِنَ لهم فيها، بقولِهِ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛ رواه البخاري (3461).

وفي الوقتِ نفسِهِ: لم يخالِفوا النهيَ الواردَ في قولِهِ ﷺ:

«لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ، وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ...}

الآيَةَ [البقرة: 136] ؛ رواه البخاري (4485)

ولا تعارُضَ بين هذَيْنِ الحديثَيْن:

فإن الأوَّلَ: أباح لهم أن يحدِّثوا عما وقَعَ لبني إسرائيلَ مِن الأعاجيب؛ لِمَا في أخبارِهم مِن العِبْرةِ والعِظة، بشرطِ أن يَعلَموا أنه ليس مكذوبًا؛ لأنه ﷺ لا يُجيزُ التحدُّثَ بالكذب.

وأما الحديثُ الثاني: فالمرادُ منه التوقُّفُ فيما يحدِّثُ به أهلُ الكتابِ إذا كان محتمِلًا للصدقِ والكذبِ؛ لأنه ربما كان صدقًا في واقعِ الأمرِ فيكذِّبونه، أو كذبًا فيصدِّقونه؛ فيقَعُون بذلك في الحرَج.

فهذا النوعُ مِن الأخبارِ المحتمِلةِ للصدقِ والكذبِ، هو الذي نُهِينا عن تصديقِهِ أو تكذيبِه، وليس المرادُ منه ما جاء شرعُنا بموافَقتِهِ أو مخالَفتِه؛ فإن الموقفَ منه واضحٌ ومعروف.

قال ابنُ تيميَّةَ: «ولكنَّ هذه الأحاديثَ الإسرائيليَّةَ تُذكَرُ للاستشهاد، لا للاعتقاد؛ فإنها على ثلاثةِ أقسام:

أحدُها: ما عَلِمْنا صحَّتَهُ مما بأيدينا مما يُشهَدُ له بالصدقِ؛ فذاك صحيح.

والثاني: ما عَلِمْنا كذبَهُ بما عندنا مما يخالِفُه.

والثالثُ: ما هو مسكوتٌ عنه، لا مِن هذا القبيل، ولا مِن هذا القبيل؛ فلا نؤمِنُ به، ولا نكذِّبُهُ، وتجوزُ حكايتُه؛ لما تقدَّم». «مقدِّمةٌ في أصولِ التفسير» (ص 42).

ومِن هنا يتبيَّنُ لنا: أنه لا تعارُضَ بين إذنِهِ ﷺ بالتحديثِ عن بني إسرائيلَ، وبين نهيِهِ عن تصديقِهم أو تكذيبِهم؛ كما يتبيَّنُ لنا القدرُ الذي أباحه الشارعُ مِن الروايةِ عن أهلِ الكتاب.

إذَنْ: فالصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم كان لدَيْهم منهجٌ سديدٌ، ومِعْيارٌ دقيقٌ، في قَبولِ ما يُلْقى إليهم مِن الإسرائيليَّات؛ فما وافَقَ شرعَنا قَبِلوه، وما خالَفهُ كذَّبوه، وما كان مسكوتًا عنه، جازت روايتُهُ، وتوقَّفوا فيه تصديقًا وتكذيبًا.

فهم قَبِلوا ما جاء في الكُتُبِ السابقةِ مِن مبشِّراتِ النبوَّةِ، وحَدِّ الرجمِ؛ لموافَقتِها شَرْعَنا: (الثابتَ بالأدلَّة)، ورَدُّوا ما فيها مِن الطعنِ على الأنبياءِ؛ لمخالَفتِها شَرْعَنا: (الثابتَ بالأدلَّة)، وتوقَّفوا في بعضِ الأسماءِ والقِصَصِ؛ لعدَمِ تعرُّضِ شرعِنا لها بنفيٍ ولا إثبات.

ثم إنهم لم يكونوا يَرجِعون إليهم في كلِّ أمرٍ، وإنما كانوا يَرْجِعون إليهم لمعرفةِ بعضِ جزئيَّاتِ الحوادثِ والأخبارِ المتعلِّقةِ ببني إسرائيل، ولم يُعرَفْ عنهم أبدًا أنهم رجَعوا إليهم في العقائدِ ولا في الأحكام، ولو ثبَتَ أنهم سألوا أهلَ الكتابِ عن شيءٍ يتعلَّقُ بالمعتقَد؛ فلم يكن ذلك عن تهوُّكٍ منهم وارتيابٍ، وإنما كان لإقامةِ الحجَّةِ عليهم، بالاستشهادِ والتأييد لِمَا جاء في شريعتِنا، عن طريقِ الاحتجاجِ عليهم بما يعتقِدون.

ومما يدُلُّ على أن الصحابةَ لم يكونوا يتلقَّفون كلَّ ما يصدُرُ عن أهلِ الكتابِ دون نقدٍ وتمحيصٍ: تلك المراجَعاتُ العديدةُ، والردودُ العلميَّةُ على بعضِ أهلِ الكتاب، في أمورٍ أنكَروها، ورَدُّوا عليهم خطأَهم فيها.

ومِن ذلك:

عن أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه

أن رسولَ اللهِ ﷺ ذكَرَ يومَ الجُمُعةِ، فقال: «فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا؛

رواه البخاريُّ (935)

فقد اختلَفَ السلفُ في تعيينِ هذه الساعة، وهل هي باقيةٌ أم رُفِعَتْ؟ وإذا كانت باقيةً، فهل هي في جُمُعةٍ واحدةٍ مِن السَّنَة، أو في كلِّ جُمُعةٍ منها؟

وقد سأل أبو هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه كعبَ الأحبارِ عن ذلك؟ فأجابه كعبٌ بأنها في جُمُعةٍ واحدةٍ مِن السَّنَةِ؛ فرَدَّ عليه أبو هُرَيرةَ قولَهُ هذا، وبيَّن له أنها في كلِّ جُمُعةٍ، ولمَّا رجَعَ كعبٌ إلى التوراةِ، وجَدَ أن الصوابَ مع أبي هُرَيرةَ، فرجَعَ إلى قولِه؛ كما في «الموطَّأ» (16).

فهذا كلُّه وغيرُهُ يؤكِّدُ لنا: أن الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهم لم يكونوا مخدوعِين، فيصدِّقون كلَّ ما يُلْقى إليهم، بل كانوا يتحرَّوْنَ الصوابَ، ويرُدُّون على أهلِ الكتابِ أقوالَهم التي تستحِقُّ الردَّ والمراجَعة.

فلا يُعقَلُ بعد هذا الذكاءِ، وهذه الفِطْنةِ: أن يُظَنَّ بصحابةِ رسولِ اللهِ ﷺ الغفلةُ عن كيدِ كاذبٍ يريدُ تحريفَ السنَّةِ، ولو بحرفٍ واحدٍ، وقد بيَّنَّا براءةَ كعبٍ أيضًا مِن هذه التُّهْمة.

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (136).‏‏

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

أوَّلًا: الأصلُ؛ وهو سلامةُ سِيرةِ كعبِ الأحبارِ؛ كما جاءت بذلك شواهدُ تَشهَدُ لكعبِ الأحبارِ بصدقِ إسلامِهِ وقوَّةِ إيمانِه.

وثانيًا: لقد ثبَتَ تبرئةُ كعبِ الأحبارِ مما نُسِبَ إليه مِن الكذبِ على رسولِ الله ﷺ.

وثالثًا: حتى لو قيل فيه ما قيل، فإن السنَّةَ لم تتوقَّفْ عليه، ولا يُوجَدُ أصلٌ عقَديٌّ أو فقهيٌّ متوقِّفٌ على توثيقِ كعبِ الأحبار.

ورابعًا: حِرصُ الصحابةِ، وعنايتُهم بالسنَّةِ، وفِطنتُهم العاليةُ: مانعٌ لأيِّ كاذبٍ أن يَبُثَّ في السنَّةِ ما يشاء.

وبعد ذلك: فإن كعبَ الأحبارِ هو وأضرابَهُ قد روَوْا هذه الإسرائيليَّاتِ على أنها مما في كُتُبِهم، وليس على أنها مِن قولِ النبيِّ ﷺ؛ وهذا أمرٌ طبيعيٌّ ممَّن هو بهذا الحالِ قبل إسلامِه.

والمقصودُ مِن كلمةِ مُعاوِيةَ، وعُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنهما - مِن قولِ مُعاوِيةَ: «إن كعبًا كانوا يَبْلُون عليه الكَذِبَ»، وأن عُمَرَ نهاه عن الحديثِ عن أخبارِ الأوائل -: هو أن كعبًا كان يُخطِئُ أحيانًا فيما يُخبِرُ به، كما أنهما كانا يخافانِ على عقائدِ المسلِمين مِن أن يُصِيبَها التشويشُ، ولم يكن مقصودُهم أن كعبًا كان كذَّابًا.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

أوَّلًا: الأصلُ؛ وهو سلامةُ سِيرةِ كعبِ الأحبارِ؛ كما جاءت بذلك شواهدُ تَشهَدُ لكعبِ الأحبارِ بصدقِ إسلامِهِ وقوَّةِ إيمانِه.

وثانيًا: لقد ثبَتَ تبرئةُ كعبِ الأحبارِ مما نُسِبَ إليه مِن الكذبِ على رسولِ الله ﷺ.

وثالثًا: حتى لو قيل فيه ما قيل، فإن السنَّةَ لم تتوقَّفْ عليه، ولا يُوجَدُ أصلٌ عقَديٌّ أو فقهيٌّ متوقِّفٌ على توثيقِ كعبِ الأحبار.

ورابعًا: حِرصُ الصحابةِ، وعنايتُهم بالسنَّةِ، وفِطنتُهم العاليةُ: مانعٌ لأيِّ كاذبٍ أن يَبُثَّ في السنَّةِ ما يشاء.

وبعد ذلك: فإن كعبَ الأحبارِ هو وأضرابَهُ قد روَوْا هذه الإسرائيليَّاتِ على أنها مما في كُتُبِهم، وليس على أنها مِن قولِ النبيِّ ﷺ؛ وهذا أمرٌ طبيعيٌّ ممَّن هو بهذا الحالِ قبل إسلامِه.

والمقصودُ مِن كلمةِ مُعاوِيةَ، وعُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنهما - مِن قولِ مُعاوِيةَ: «إن كعبًا كانوا يَبْلُون عليه الكَذِبَ»، وأن عُمَرَ نهاه عن الحديثِ عن أخبارِ الأوائل -: هو أن كعبًا كان يُخطِئُ أحيانًا فيما يُخبِرُ به، كما أنهما كانا يخافانِ على عقائدِ المسلِمين مِن أن يُصِيبَها التشويشُ، ولم يكن مقصودُهم أن كعبًا كان كذَّابًا.

الجواب التفصيلي


الجوابُ التفصيليّ:

القولُ باتِّهامِ كعبِ الأحبارِ بدَسِّ الإسرائيليَّاتِ في السنَّةِ النبويَّة، وروايتِها على أنها مِن كلامِ رسولِ اللهِ ﷺ -: قولٌ مردودٌ، ودعوى لا دليلَ عليها؛ وذلك مِن عدَّةِ أوجُهٍ:

أوَّلًا: حالُ كعبِ الأحبارِ، وأقوالُ العلماءِ فيه:

هناك مِن الشواهدِ الكثيرةِ التي تَشهَدُ لكعبِ الأحبارِ بصدقِ إسلامِهِ وقوَّةِ إيمانِه، ومِن أبرزِ هذه الشواهدِ شهادةُ كثيرٍ مِن الصحابةِ له بذلك.

فإذا تتبَّعْنا حياةَ كعبٍ في الإسلام، ورجَعْنا إلى مقالاتِ بعضِ أعلامِ الصحابةِ فيه، وأحصَيْنا مَن تحمَّل منهم عنه، وروى له، ومَن أخرَجَ له مِن شيوخِ الحديثِ في مصنَّفاتِهم - لَوجَدْنا ما يَدحَضُ ويُبطِلُ هذه الدعوى، ويَشهَدُ له بقوَّةِ دِينِهِ وصدقِ يقينِه، وأنه قد طوى قلبَهُ على الإسلامِ المحضِ والدِّينِ الخالص.

فقد أسلَمَ - على المشهورِ - في خلافةِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، وسكَنَ المدينةَ، وصَحِبَ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، وروى عنه، وشارَكَ في غزوِ الرُّومِ في خلافتِهِ، وقد كان عُمَرُ عبقريًّا مُلهَمًا، فلا يصدِّقُ عاقلٌ أن يساكِنَ كعبًا في المدينةِ، ويصاحِبَهُ ويكتتِبَهُ في جيشِ المسلِمين لغزوِ الرُّومِ، وهو مخدوعٌ في إسلامِه، مخدوعٌ في صِدقِه، وصحَّةِ رِوايتِه.

ولقد كان كعبٌ على مَبلَغٍ عظيمٍ مِن العِلْم، وكان له بالثقافةِ اليهوديَّةِ والثقافةِ الإسلاميَّةِ معرفةٌ واسعة.

ولغزارةِ عِلمِهِ وكثرةِ معارفِهِ لَهَجَ بعضُ أعلامِ الصحابةِ بالثناءِ عليه؛ فقد قال عنه أبو الدرداءِ رضيَ اللهُ عنه: «إِنَّ عِنْدَ ابْنِ الْحِمْيَرِيَّةِ لَعِلْمًا كَثِيرًا»؛ ذكره ابنُ سعدٍ؛ كما في «فتحِ الباري» لابن حجر (13/ 335).

وهذا مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه يُثْني على كعبِ الأحبارِ في ضمنِ ثنائِهِ على نفرٍ مِن أصحابِ الرسولِ ﷺ؛ فيقولُ: «أَلَا إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ أَحَدُ الْحُكَمَاءْ، أَلَا إِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَحَدُ الْعُلَمَاءْ، إِنْ كَانَ عِنْدَهُ لَعِلْمٌ كَالْبِحَارِ، وَإِنْ كُنَّا فِيهِ لَمُفَرِّطِين»؛ رواه ابنُ سعدٍ؛ كما في «فتحِ الباري» لابن حجر (13/ 335).

وكذلك: فإن جمهورَ العلماءِ على توثيقِ كعبِ الأحبار؛ ولذا فإننا لا نَجِدُ له ذِكرًا في كُتُبِ الضعفاءِ والمتروكِين، وما يَحِقُّ لمنصِفٌ أن يَخدِشَ عدالتَه، أو يشُكَّ في كونِهِ ثقةً، بعدَما ثبَتَ مِن روايةِ أعلامِ الصحابةِ عنه؛ كأبي هُرَيرةَ، وعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وعبدِ اللهِ بنِ الزُّبَير، ولم يكن هؤلاءِ ولا غيرُهم ممَّن روَوْا عنه سُذَّجًا ولا مخدوعِين فيه، وإنما أيقَنُوا أنه صدوقٌ فيما يَرْوي، فروَوْا عنه؛ لذلك قال عنه ابنُ حجَرٍ في «التقريب»: «ثقةٌ مُخَضرَمٌ»، وأورَدهُ ابنُ سعدٍ في الطبقةِ الأولى مِن تابعِي أهلِ الشام.

وهكذا تُثبِتُ لنا الوقائعُ وتؤكِّدُ على إيمانِ كعبِ الأحبار، وحُسْنِ إسلامِه، وبراءتِهِ مِن المكيدةِ للسنَّةِ والإسلام.

ثانيًا: تبرئةُ كعبِ الأحبارِ مما نُسِبَ إليه مِن الكذبِ على رسولِ الله ﷺ:

إن الناظرَ المنصِفَ في سِيرةِ كعبِ الأحبارِ: لا يسلِّمُ أبدًا أن يكونَ كعبُ الأحبارِ وأضرابُهُ ممَّن أسلَموا وحَسُنَ إسلامُهم، كان غرَضُهم الدسَّ والاختلاقَ والإفسادَ في الدِّين.

وإن الذي نَعلَمُهُ ونُؤمِنُ به ونطمئِنُّ إليه: أن ما كان يَرْويهِ كعبٌ وغيرُهُ مِن مسلِمي أهلِ الكتابِ مِن الإسرائيليَّاتِ، لم يُسنِدوهُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، ولم يَكذِبوا فيه على أحدٍ مِن المسلِمين، وإنما كانوا يَرْوُونه على أنه مِن الإسرائيليَّاتِ الموجودةِ في كُتُبِهم، ولسنا مكلَّفين بتصديقِ شيءٍ مِن ذلك، ولا مطالَبِين بالإيمانِ به، ولا بتكذيبِهِ وردِّه، بعدَما قال رسولُ الله ﷺ:

«لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ»؛

رواه البخاري (4485)

لا نصدِّقُهم؛ خشيةَ أن يكونوا كاذِبين أو مخطِئين، ولا نكذِّبُهم؛ خشيةَ أن يكونوا صادِقين أو مصيبِين.

وعليه: فإن كانت قد وقَعَتْ في بعضِ مرويَّاتِ كعبٍ إسرائيليَّاتٌ مكذوبةٌ أو خُرافاتٌ -: فذلك إنما يَرجِعُ إلى مَن نقَلَ عنهم مِن أهلِ الكتابِ السابِقين الذين بدَّلوا وحرَّفوا، وإلى بعضِ الكُتُبِ القديمةِ التي مُلِئَتْ بالخُرافاتِ والإسرائيليَّات.

وأما عن ذِكْرِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه لكعبٍ، وقولِهِ عنه: «إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ المُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا - مَعَ ذَلِكَ - لَنَبْلُو عَلَيْهِ الكَذِبَ»؛ رواه البخاري (7361) -:

فمُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه قد شَهِدَ له بالعلمِ وغزارتِه، وحكَمَ على نفسِهِ: بأنه فرَّط في علمِ كعبٍ؛ فهل يُعقَلُ أن مُعاوِيةَ يَشهَدُ هذه الشهادةَ لرجُلٍ كذَّاب؟!

وهل يُعقَلُ أن يتحسَّرَ ويَندَمَ على ما فاته مِن علمِ رجُلٍ يدلِّسُ في كُتُبِ الله، ويحرِّفُ في وحيِ السماء؟!

وإنما مرادُ معاوِيةَ: أن كعبًا كان يُخطِئُ أحيانًا فيما يُخبِرُ به، ولم يكن مقصودُهُ أن كعبًا كان كذَّابًا، والعرَبُ قد استعمَلتِ الكذبَ في موضعِ الخطأِ؛ قال الأخطَلُ:

كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ      غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالَا

كما في «النهاية» لابن الأثير (4/ 159).

أما عن قولِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه له: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ، أَوْ لَأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ الْقِرَدَةِ»؛ رواه أبو زُرْعةَ الدِّمَشْقيُّ في «تاريخِه» (1/544):

فلقد اجتمَعتِ الأخبارُ على أن عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه كان يتشدَّدُ في الرواية، وأنه كان يَنْهى المحدِّثين عامَّةً عن كثرةِ التحديث، وقد كان لذلك عدَّةُ أسباب:

- الخوفُ على السنَّةِ مِن أن يتسرَّبَ إليها خطأٌ أو تحريفٌ غيرُ مقصودٍ؛ عن طريقِ النِّسْيانِ، أو خطأِ السماعِ أو الفهمِ، أو عدمِ الدِّقَّةِ في النقل.

- الخوفُ مِن أن يتسرَّبَ الكذبُ والتدليسُ المتعمَّدانِ إلى السنَّةِ إذا أُبيحَ الإكثارُ مِن روايتِها بين الناسِ بدونِ قيود، وعُمَرُ لم يَتَّهِمْ جمهورَ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، ولكنْ لا يخلو أيُّ مجتمَعٍ مِن المنافِقِ والفاجِرِ، الذي يَسْعى إلى أغراضٍ فرديَّةٍ، ولو عن طريقِ الكذبِ على رسولِ الله ﷺ.

لذا كان الحرصُ على السنَّةِ مِن دخولِ الخطأِ أو الكذبِ عليها، مِن الأسبابِ القويَّةِ التي دعَتْ عُمَرَ رضي الله عنه إلى توجيهِ المسلِمين للإقلالِ مِن روايتِها، والتشديدِ في ذلك.

- الحرصُ على ألا يستكثِرَ الناسُ مِن روايةِ الأحاديثِ، فينتشِرَ ذلك في مَجالسِهم؛ فيشتغِلوا به عن العكوفِ على آياتِ القرآنِ الكريم.

وهذا السببُ نفسُهُ هو الذي دعا عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه - ومِن قبلِهِ الرسولَ ﷺ، وأبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنه - إلى عدمِ تدوينِ السنَّة.

فلهذه الأسبابِ مجتمِعةً كان عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه ينهى المحدِّثين عامَّةً عن كثرةِ التحديث، وكان ذلك حرصًا منه وحفاظًا على الدِّين، وليس تُهَمةً لأحد.

لذلك: فإن ما رُوِيَ مِن أن عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه نهى كعبَ الأحبارِ عن التحديثِ، لم يكن مَوقِفًا خاصًّا مِن عُمَرَ مع كعبٍ لاتِّهامِهِ بالكذب؛ وإنما كان مخافةَ التشويشِ على عقائدِ العامَّةِ وأفكارِهم؛ لعدمِ تمييزِهم بين الحقِّ والباطل.

ثالثًا: حِرصُ الصحابةِ، وعنايتُهم بالسنَّةِ، وفِطنتُهم العاليةُ: مانعٌ لأيِّ كاذبٍ أن يَبُثَّ في السنَّةِ ما يشاء:

كان الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم أعلَمَ الناسِ بأمورِ دِينِهم، وقد خصَّهمُ اللهُ بالعلمِ والفهم، والورَعِ والتُّقى، وسبَقَ لهم مِن الفضلِ على لسانِ نبيِّهم: ما ليس لأحدٍ بعدهم.

وما ثبَتَ مِن أن بعضَ الصحابةِ - كأبي هُرَيرةَ، وابنِ عبَّاسٍ، وغيرِهما - كانوا يَرجِعون إلى بعضِ مَن أسلَمَ مِن أهلِ الكتاب -:

فهو أمرٌ لا يَعِيبُهم ولا ينقُصُ مِن قدرِهم وعِلمِهم؛ فهم لم يخرُجوا عن دائرةِ الجوازِ التي حدَّها لهم رسولُ اللهِ ﷺ، وأَذِنَ لهم فيها، بقولِهِ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛ رواه البخاري (3461).

وفي الوقتِ نفسِهِ: لم يخالِفوا النهيَ الواردَ في قولِهِ ﷺ:

«لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ، وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ...}

الآيَةَ [البقرة: 136] ؛ رواه البخاري (4485)

ولا تعارُضَ بين هذَيْنِ الحديثَيْن:

فإن الأوَّلَ: أباح لهم أن يحدِّثوا عما وقَعَ لبني إسرائيلَ مِن الأعاجيب؛ لِمَا في أخبارِهم مِن العِبْرةِ والعِظة، بشرطِ أن يَعلَموا أنه ليس مكذوبًا؛ لأنه ﷺ لا يُجيزُ التحدُّثَ بالكذب.

وأما الحديثُ الثاني: فالمرادُ منه التوقُّفُ فيما يحدِّثُ به أهلُ الكتابِ إذا كان محتمِلًا للصدقِ والكذبِ؛ لأنه ربما كان صدقًا في واقعِ الأمرِ فيكذِّبونه، أو كذبًا فيصدِّقونه؛ فيقَعُون بذلك في الحرَج.

فهذا النوعُ مِن الأخبارِ المحتمِلةِ للصدقِ والكذبِ، هو الذي نُهِينا عن تصديقِهِ أو تكذيبِه، وليس المرادُ منه ما جاء شرعُنا بموافَقتِهِ أو مخالَفتِه؛ فإن الموقفَ منه واضحٌ ومعروف.

قال ابنُ تيميَّةَ: «ولكنَّ هذه الأحاديثَ الإسرائيليَّةَ تُذكَرُ للاستشهاد، لا للاعتقاد؛ فإنها على ثلاثةِ أقسام:

أحدُها: ما عَلِمْنا صحَّتَهُ مما بأيدينا مما يُشهَدُ له بالصدقِ؛ فذاك صحيح.

والثاني: ما عَلِمْنا كذبَهُ بما عندنا مما يخالِفُه.

والثالثُ: ما هو مسكوتٌ عنه، لا مِن هذا القبيل، ولا مِن هذا القبيل؛ فلا نؤمِنُ به، ولا نكذِّبُهُ، وتجوزُ حكايتُه؛ لما تقدَّم». «مقدِّمةٌ في أصولِ التفسير» (ص 42).

ومِن هنا يتبيَّنُ لنا: أنه لا تعارُضَ بين إذنِهِ ﷺ بالتحديثِ عن بني إسرائيلَ، وبين نهيِهِ عن تصديقِهم أو تكذيبِهم؛ كما يتبيَّنُ لنا القدرُ الذي أباحه الشارعُ مِن الروايةِ عن أهلِ الكتاب.

إذَنْ: فالصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم كان لدَيْهم منهجٌ سديدٌ، ومِعْيارٌ دقيقٌ، في قَبولِ ما يُلْقى إليهم مِن الإسرائيليَّات؛ فما وافَقَ شرعَنا قَبِلوه، وما خالَفهُ كذَّبوه، وما كان مسكوتًا عنه، جازت روايتُهُ، وتوقَّفوا فيه تصديقًا وتكذيبًا.

فهم قَبِلوا ما جاء في الكُتُبِ السابقةِ مِن مبشِّراتِ النبوَّةِ، وحَدِّ الرجمِ؛ لموافَقتِها شَرْعَنا: (الثابتَ بالأدلَّة)، ورَدُّوا ما فيها مِن الطعنِ على الأنبياءِ؛ لمخالَفتِها شَرْعَنا: (الثابتَ بالأدلَّة)، وتوقَّفوا في بعضِ الأسماءِ والقِصَصِ؛ لعدَمِ تعرُّضِ شرعِنا لها بنفيٍ ولا إثبات.

ثم إنهم لم يكونوا يَرجِعون إليهم في كلِّ أمرٍ، وإنما كانوا يَرْجِعون إليهم لمعرفةِ بعضِ جزئيَّاتِ الحوادثِ والأخبارِ المتعلِّقةِ ببني إسرائيل، ولم يُعرَفْ عنهم أبدًا أنهم رجَعوا إليهم في العقائدِ ولا في الأحكام، ولو ثبَتَ أنهم سألوا أهلَ الكتابِ عن شيءٍ يتعلَّقُ بالمعتقَد؛ فلم يكن ذلك عن تهوُّكٍ منهم وارتيابٍ، وإنما كان لإقامةِ الحجَّةِ عليهم، بالاستشهادِ والتأييد لِمَا جاء في شريعتِنا، عن طريقِ الاحتجاجِ عليهم بما يعتقِدون.

ومما يدُلُّ على أن الصحابةَ لم يكونوا يتلقَّفون كلَّ ما يصدُرُ عن أهلِ الكتابِ دون نقدٍ وتمحيصٍ: تلك المراجَعاتُ العديدةُ، والردودُ العلميَّةُ على بعضِ أهلِ الكتاب، في أمورٍ أنكَروها، ورَدُّوا عليهم خطأَهم فيها.

ومِن ذلك:

عن أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه

أن رسولَ اللهِ ﷺ ذكَرَ يومَ الجُمُعةِ، فقال: «فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا؛

رواه البخاريُّ (935)

فقد اختلَفَ السلفُ في تعيينِ هذه الساعة، وهل هي باقيةٌ أم رُفِعَتْ؟ وإذا كانت باقيةً، فهل هي في جُمُعةٍ واحدةٍ مِن السَّنَة، أو في كلِّ جُمُعةٍ منها؟

وقد سأل أبو هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه كعبَ الأحبارِ عن ذلك؟ فأجابه كعبٌ بأنها في جُمُعةٍ واحدةٍ مِن السَّنَةِ؛ فرَدَّ عليه أبو هُرَيرةَ قولَهُ هذا، وبيَّن له أنها في كلِّ جُمُعةٍ، ولمَّا رجَعَ كعبٌ إلى التوراةِ، وجَدَ أن الصوابَ مع أبي هُرَيرةَ، فرجَعَ إلى قولِه؛ كما في «الموطَّأ» (16).

فهذا كلُّه وغيرُهُ يؤكِّدُ لنا: أن الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهم لم يكونوا مخدوعِين، فيصدِّقون كلَّ ما يُلْقى إليهم، بل كانوا يتحرَّوْنَ الصوابَ، ويرُدُّون على أهلِ الكتابِ أقوالَهم التي تستحِقُّ الردَّ والمراجَعة.

فلا يُعقَلُ بعد هذا الذكاءِ، وهذه الفِطْنةِ: أن يُظَنَّ بصحابةِ رسولِ اللهِ ﷺ الغفلةُ عن كيدِ كاذبٍ يريدُ تحريفَ السنَّةِ، ولو بحرفٍ واحدٍ، وقد بيَّنَّا براءةَ كعبٍ أيضًا مِن هذه التُّهْمة.

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (136).‏‏