نص السؤال

إن الدعوةَ إلى عدمِ تجاوُزِ فهمِ أصحابِ القرونِ الثلاثةِ الأُولى للقرآنِ الكريمِ: توجُّهٌ خطيرٌ؛ حيثُ إنه يحصُرُ معانيَ القرآنِ في دائرةِ فهمِ زمَنٍ محدَّدٍ، ومَن في مستوى نَسَقِهم المعرفيّ.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

دعوى أن العصرَ قد تغيَّر، ولسنا مُلزَمِينَ فيه بأقوالِ أحدٍ مِن العصورِ السابقة.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:

1- هذه الدعوى تَفتَحُ البابَ أمام العَلْمانيِّين الذين ينادُون بتاريخيَّةِ النصِّ، وهي انتهاكٌ لقُدْسيَّةِ النصِّ الشرعيِّ؛ ليتحوَّلَ مِن حاكمٍ إلى محكوم، وتكونَ المرجعيَّةُ للإنسانِ والواقع، ويكونَ النصُّ مجرَّدَ غطاءٍ للتبرير:

فمِن المعلومِ: أن العَلْمانيِّينَ اجتهَدوا في توظيفِ بعضِ علومِ القرآن؛ لتكونَ أساسًا ومبرِّرًا لقَبولِ تاريخيَّةِ النصِّ الشرعيِّ؛ كأسبابِ النزول، والناسخِ والمنسوخ، والمكِّيِّ والمدَنيّ، وحقيقةُ هذه الدعوى: أن أحكامَ الشريعةِ نسبيَّةٌ، وليست مطلَقةً، وأنها أحكامٌ تتعلَّقُ بوقائعَ وحوادثَ جزئيَّةٍ، وأنها ليست صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكان.

2- هذه الدعوى تستبطِنُ أساسًا باطلًا، وهو الفهمُ غيرُ الصحيحِ لقاعدةِ: «تغيُّرِ الفتوى بتغيُّرِ الزمانِ والمكان»:

فحقيقةُ هذه الشبهةِ مبنيَّةٌ على التهويلِ مِن شأنِ أثرِ العاملِ الزمانيِّ والمكانيِّ، والجوابُ عنها يتضمَّنُ الحاجةَ إلى كشفِ منزلةِ ذلك العامل، والإشارةِ إلى مواطنِ تأثيرِه، ومواطنِ عدمِ تأثيرِه. وليس المقامُ هنا في تحريرِ القولِ في قاعدةِ: «تغيُّرِ الفتوى بتغيُّرِ الزمانِ والمكان»، غيرَ أنه مما ينبغي أن يُعلَمَ: أن الشريعةَ ثابتةٌ، كليَّاتٍ وجزئيَّاتٍ، ما كان حُكمًا للهِ، فهو كذلك إلى يومِ القيامة؛ الواجبُ واجبٌ، والمندوبُ مندوبٌ، والحرامُ حرامٌ، وتغيُّرُ الفتوى إنما هو تحقيقُ مَناطِ اختلافِ الوقائع، لا تغيُّرٌ في أحكامِ الشريعةِ، ولا اختلافٌ.

وما مِن مسألةٍ مِن «مسائلِ الدِّينِ»، إلا وقد تكلَّم فيها السلفُ؛ وهذه المسائلُ على نوعَيْن:

الأوَّلُ: مسائلُ عِلميَّةٌ يجبُ الإيمانُ بها؛ كالصفاتِ، والقَدَرِ، واليومِ الآخِرِ، ونحوِ ذلك؛ فهذه المسائلُ لا عَلاقةَ لها بتغيُّرِ العصر.

والنوعُ الثاني: مسائلُ الأحكامِ العمَليَّةِ؛ فهذه يُحقَّقُ مناطُ الحُكمِ فيها، وَفْقًا لمنهجِ السلفِ والأئمَّةِ في ذلك، ومِن ثَمَّ تغيُّرُ الفتوى فيها متوقِّفٌ على تحقيقِ المناطِ، والمناطُ قد يتغيَّرُ في العصرِ الواحد؛ وعليه فلا عَلاقةَ بين تغيُّرِ الحُكمِ نفسِهِ، وتغيُّرِ العصر.

3- المشابَهةُ بين الناسِ في العاداتِ والأحوالِ التي تمُرُّ بها البشَريَّةُ في شتَّى أعصارِها، أمرٌ مسلَّمٌ به: وهذه العاداتُ والأحوالُ تكادُ تكونُ محصورةً مِن حيثُ إمكانيَّةُ تحديدِ أوجُهِ الشبَهِ بينها، حتى وإن لم يُمكِنْ حصرُ جزئيَّاتِها وأفرادِها؛ وذلك لأن البشَرَ يشترِكون في طبيعةِ الإنسانيَّةِ عقلًا وجسدًا ورُوحًا، فإذا كان الأمرُ كذلك، أمكَنَ جمعُ أطرافِ هذه الوقائعِ وجزئيَّاتِها، عن طريقِ ردِّ المتماثِلاتِ بعضِها إلى بعضٍ، ثم ترتبِطُ بالأصولِ الشرعيَّةِ كلٌّ حسَبَ ما يُشبِهُه، ويكونُ الاجتهادُ في «تحقيقِ المناطِ»، وهو تنزيلُ الحُكمِ الشرعيِّ المستنبَطِ مِن النصِّ على تلك الواقعةِ المعيَّنةِ المشخَّصة.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال: 

  إن الزمانَ قد تغيَّر، والعصرَ الذي نعيشُ فيه ليس عصرَ السلَف؛ وهذا مِن وجهةِ نظرِ صاحبِ السؤال؛ فهو يَجعَلُ في التسليمِ لهم في فهمِهم طعنًا في صلاحِيَةِ الوحيِ لكلِّ زمانٍ ومكان.

مختصَرُ الإجابة:

إننا نسلِّمُ بتغيُّرِ الزمانِ والمكان، وأن لذلك أثرًا في النظَرِ الفِقْهيِّ للفتوى؛ لكنْ نقولُ: إن القضايا المستجِدَّةَ والحادثةَ ليست بحاجةٍ إلى فهمٍ جديدٍ للنصِّ يختلِفُ عن فهمِ السلف، وإنما تحتاجُ إلى فقيهٍ يَفهَمُ النصَّ على حقيقتِهِ - باستخراجِ العلَّةِ أو الوصفِ المؤثِّرِ في الحُكم - كما فَهِمَهُ السلفُ (تخريج المناط)، ثم ينقِّحُ العلَّةَ مِن ذلك الحكمِ الذي دَلَّ عليه النصُّ، ويبيِّنُها، ويخلِّصُها مِن العِلَلِ غيرِ المؤثِّرةِ في الحكمِ (تنقيح المناط)، ثم يحقِّقُها على هذه القضيَّةِ المستجِدَّةِ المعيَّنةِ المشخَّصةِ التي تحتاجُ إلى بيانِ الحكمِ الشرعيِّ فيها (تحقيق المناط)؛ وهذه مُهِمَّةُ الفقيهِ في كلِّ زمانٍ ومكان.

وبذلك نُغلِقُ البابَ أمام العَلْمانيِّين الذين ينادُون بتاريخيَّةِ النصِّ، وهي دعوى تؤدِّي إلى انتهاكِ قُدْسيَّةِ النصِّ الشرعيِّ؛ ليتحوَّلَ مِن حاكمٍ إلى محكوم، وتكونَ المرجعيَّةُ للإنسانِ والواقع، ويكونَ النصُّ مجرَّدَ غطاءٍ للتبرير.

وهذه الدعوى تستبطِنُ أساسًا باطلًا، وهو الفهمُ غيرُ الصحيحِ لقاعدةِ: «تغيُّرِ الفتوى بتغيُّرِ الزمانِ والمكان»؛ فحقيقةُ هذه الدعوى: أن أحكامَ الشريعةِ نسبيَّةٌ، وليست مطلَقةً، وأنها أحكامٌ تتعلَّقُ بوقائعَ وحوادثَ جزئيَّةٍ، وأنها ليست صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكان.

والحقُّ أنه ما مِن مسألةٍ مِن «مسائلِ الدِّينِ»، إلا وقد تكلَّم فيها السلفُ؛ وهذه المسائلُ على نوعَيْنِ، هما: مسائلُ عِلميَّةٌ يجبُ الإيمانُ بها؛ كالصفاتِ، والقَدَرِ، واليومِ الآخِرِ، ونحوِ ذلك؛ فهذه لا عَلاقةَ لها بتغيُّرِ العصر، ومسائلُ الأحكامِ العمَليَّةِ؛ فهذه يُحقَّقُ مناطُ الحُكمِ فيها، وَفْقًا لمنهجِ السلفِ والأئمَّةِ في ذلك، ومِن ثَمَّ تغيُّرُ الفتوى فيها متوقِّفٌ على تحقيقِ المناطِ، والمناطُ قد يتغيَّرُ في العصرِ الواحد؛ وعليه فلا عَلاقةَ بين تغيُّرِ الحُكمِ نفسِهِ، وتغيُّرِ العصر، مع مراعاةِ المشابَهةَ بين الناسِ في العاداتِ والأحوالِ التي تمُرُّ بها البشَريَّةُ في شتَّى أعصارِها؛ وهذا أمرٌ مسلَّمٌ به.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

إن هذه الشبهةَ مما أثاره بعضُ أصحابِ الاتِّجاهاتِ التنويريَّةِ والعَلْمانيَّةِ والحَداثيَّة، وهم على درَجاتٍ في موقِفِهم مِن مبدأِ تطبيقِ الشريعة، ومما يَلفِتُ النظرَ: أنهم - مع كثرةِ طعونِهم في فقهِ السلفِ وفهمِهم - لم يُنتِجوا فقهًا مكتمِلًا يَشمَلُ جميعَ أحكامِ الشريعة؛ بحيثُ يُمكِنُ الرجوعُ إليه في إقامةِ الشريعةِ في شؤونِ الناسِ وتصرُّفاتِهم؛ وهذا يُثيرُ الشكَّ في صدقِهم في تبنِّي مسألةِ إقامةِ الشريعة. ونُريدُ أن نَختِمَ جوابَ هذه الشبهةِ: بإيرادِ نصٍّ لأحدِ الفقهاءِ، مِن غيرِ المحسوبين تاريخيًّا على مدرسةِ أهلِ الحديث، بل هو معدودٌ مِن أئمَّةِ الكلامِ، الذين لا تقفُ منهم تلك الاتِّجاهاتُ موقِفًا عدائيًّا، وهو شيخُ الإمامِ الغزَاليِّ، ونعني به: إمامَ الحرَمَيْنِ الجُوَيْنيَّ، حيثُ يبيِّنُ في هذا النصِّ المآلَ الخطيرَ لدعوى: «تغيُّرِ الأحكامِ بتغيُّرِ الزمانِ والمكان»؛ حيثُ يقولُ: «ولو كانت قضايا الشرعِ تختلِفُ باختلافِ الناس، وتناسُخِ العصور، لانحَلَّ رباطُ الشرع، ورجَعَ الأمرُ إلى ما هو المحذورُ مِن اختصاصِ كلِّ عصرٍ ودهرٍ برأي؛ وهذا يناقِضُ حِكمةَ الشريعةِ في حملِ الخَلْقِ على الدعوةِ الواحدة». «نهايةُ المَطلَب» (17/ 364).

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال: 

  إن الزمانَ قد تغيَّر، والعصرَ الذي نعيشُ فيه ليس عصرَ السلَف؛ وهذا مِن وجهةِ نظرِ صاحبِ السؤال؛ فهو يَجعَلُ في التسليمِ لهم في فهمِهم طعنًا في صلاحِيَةِ الوحيِ لكلِّ زمانٍ ومكان.

مختصَرُ الإجابة:

إننا نسلِّمُ بتغيُّرِ الزمانِ والمكان، وأن لذلك أثرًا في النظَرِ الفِقْهيِّ للفتوى؛ لكنْ نقولُ: إن القضايا المستجِدَّةَ والحادثةَ ليست بحاجةٍ إلى فهمٍ جديدٍ للنصِّ يختلِفُ عن فهمِ السلف، وإنما تحتاجُ إلى فقيهٍ يَفهَمُ النصَّ على حقيقتِهِ - باستخراجِ العلَّةِ أو الوصفِ المؤثِّرِ في الحُكم - كما فَهِمَهُ السلفُ (تخريج المناط)، ثم ينقِّحُ العلَّةَ مِن ذلك الحكمِ الذي دَلَّ عليه النصُّ، ويبيِّنُها، ويخلِّصُها مِن العِلَلِ غيرِ المؤثِّرةِ في الحكمِ (تنقيح المناط)، ثم يحقِّقُها على هذه القضيَّةِ المستجِدَّةِ المعيَّنةِ المشخَّصةِ التي تحتاجُ إلى بيانِ الحكمِ الشرعيِّ فيها (تحقيق المناط)؛ وهذه مُهِمَّةُ الفقيهِ في كلِّ زمانٍ ومكان.

وبذلك نُغلِقُ البابَ أمام العَلْمانيِّين الذين ينادُون بتاريخيَّةِ النصِّ، وهي دعوى تؤدِّي إلى انتهاكِ قُدْسيَّةِ النصِّ الشرعيِّ؛ ليتحوَّلَ مِن حاكمٍ إلى محكوم، وتكونَ المرجعيَّةُ للإنسانِ والواقع، ويكونَ النصُّ مجرَّدَ غطاءٍ للتبرير.

وهذه الدعوى تستبطِنُ أساسًا باطلًا، وهو الفهمُ غيرُ الصحيحِ لقاعدةِ: «تغيُّرِ الفتوى بتغيُّرِ الزمانِ والمكان»؛ فحقيقةُ هذه الدعوى: أن أحكامَ الشريعةِ نسبيَّةٌ، وليست مطلَقةً، وأنها أحكامٌ تتعلَّقُ بوقائعَ وحوادثَ جزئيَّةٍ، وأنها ليست صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكان.

والحقُّ أنه ما مِن مسألةٍ مِن «مسائلِ الدِّينِ»، إلا وقد تكلَّم فيها السلفُ؛ وهذه المسائلُ على نوعَيْنِ، هما: مسائلُ عِلميَّةٌ يجبُ الإيمانُ بها؛ كالصفاتِ، والقَدَرِ، واليومِ الآخِرِ، ونحوِ ذلك؛ فهذه لا عَلاقةَ لها بتغيُّرِ العصر، ومسائلُ الأحكامِ العمَليَّةِ؛ فهذه يُحقَّقُ مناطُ الحُكمِ فيها، وَفْقًا لمنهجِ السلفِ والأئمَّةِ في ذلك، ومِن ثَمَّ تغيُّرُ الفتوى فيها متوقِّفٌ على تحقيقِ المناطِ، والمناطُ قد يتغيَّرُ في العصرِ الواحد؛ وعليه فلا عَلاقةَ بين تغيُّرِ الحُكمِ نفسِهِ، وتغيُّرِ العصر، مع مراعاةِ المشابَهةَ بين الناسِ في العاداتِ والأحوالِ التي تمُرُّ بها البشَريَّةُ في شتَّى أعصارِها؛ وهذا أمرٌ مسلَّمٌ به.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:

1- هذه الدعوى تَفتَحُ البابَ أمام العَلْمانيِّين الذين ينادُون بتاريخيَّةِ النصِّ، وهي انتهاكٌ لقُدْسيَّةِ النصِّ الشرعيِّ؛ ليتحوَّلَ مِن حاكمٍ إلى محكوم، وتكونَ المرجعيَّةُ للإنسانِ والواقع، ويكونَ النصُّ مجرَّدَ غطاءٍ للتبرير:

فمِن المعلومِ: أن العَلْمانيِّينَ اجتهَدوا في توظيفِ بعضِ علومِ القرآن؛ لتكونَ أساسًا ومبرِّرًا لقَبولِ تاريخيَّةِ النصِّ الشرعيِّ؛ كأسبابِ النزول، والناسخِ والمنسوخ، والمكِّيِّ والمدَنيّ، وحقيقةُ هذه الدعوى: أن أحكامَ الشريعةِ نسبيَّةٌ، وليست مطلَقةً، وأنها أحكامٌ تتعلَّقُ بوقائعَ وحوادثَ جزئيَّةٍ، وأنها ليست صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكان.

2- هذه الدعوى تستبطِنُ أساسًا باطلًا، وهو الفهمُ غيرُ الصحيحِ لقاعدةِ: «تغيُّرِ الفتوى بتغيُّرِ الزمانِ والمكان»:

فحقيقةُ هذه الشبهةِ مبنيَّةٌ على التهويلِ مِن شأنِ أثرِ العاملِ الزمانيِّ والمكانيِّ، والجوابُ عنها يتضمَّنُ الحاجةَ إلى كشفِ منزلةِ ذلك العامل، والإشارةِ إلى مواطنِ تأثيرِه، ومواطنِ عدمِ تأثيرِه. وليس المقامُ هنا في تحريرِ القولِ في قاعدةِ: «تغيُّرِ الفتوى بتغيُّرِ الزمانِ والمكان»، غيرَ أنه مما ينبغي أن يُعلَمَ: أن الشريعةَ ثابتةٌ، كليَّاتٍ وجزئيَّاتٍ، ما كان حُكمًا للهِ، فهو كذلك إلى يومِ القيامة؛ الواجبُ واجبٌ، والمندوبُ مندوبٌ، والحرامُ حرامٌ، وتغيُّرُ الفتوى إنما هو تحقيقُ مَناطِ اختلافِ الوقائع، لا تغيُّرٌ في أحكامِ الشريعةِ، ولا اختلافٌ.

وما مِن مسألةٍ مِن «مسائلِ الدِّينِ»، إلا وقد تكلَّم فيها السلفُ؛ وهذه المسائلُ على نوعَيْن:

الأوَّلُ: مسائلُ عِلميَّةٌ يجبُ الإيمانُ بها؛ كالصفاتِ، والقَدَرِ، واليومِ الآخِرِ، ونحوِ ذلك؛ فهذه المسائلُ لا عَلاقةَ لها بتغيُّرِ العصر.

والنوعُ الثاني: مسائلُ الأحكامِ العمَليَّةِ؛ فهذه يُحقَّقُ مناطُ الحُكمِ فيها، وَفْقًا لمنهجِ السلفِ والأئمَّةِ في ذلك، ومِن ثَمَّ تغيُّرُ الفتوى فيها متوقِّفٌ على تحقيقِ المناطِ، والمناطُ قد يتغيَّرُ في العصرِ الواحد؛ وعليه فلا عَلاقةَ بين تغيُّرِ الحُكمِ نفسِهِ، وتغيُّرِ العصر.

3- المشابَهةُ بين الناسِ في العاداتِ والأحوالِ التي تمُرُّ بها البشَريَّةُ في شتَّى أعصارِها، أمرٌ مسلَّمٌ به: وهذه العاداتُ والأحوالُ تكادُ تكونُ محصورةً مِن حيثُ إمكانيَّةُ تحديدِ أوجُهِ الشبَهِ بينها، حتى وإن لم يُمكِنْ حصرُ جزئيَّاتِها وأفرادِها؛ وذلك لأن البشَرَ يشترِكون في طبيعةِ الإنسانيَّةِ عقلًا وجسدًا ورُوحًا، فإذا كان الأمرُ كذلك، أمكَنَ جمعُ أطرافِ هذه الوقائعِ وجزئيَّاتِها، عن طريقِ ردِّ المتماثِلاتِ بعضِها إلى بعضٍ، ثم ترتبِطُ بالأصولِ الشرعيَّةِ كلٌّ حسَبَ ما يُشبِهُه، ويكونُ الاجتهادُ في «تحقيقِ المناطِ»، وهو تنزيلُ الحُكمِ الشرعيِّ المستنبَطِ مِن النصِّ على تلك الواقعةِ المعيَّنةِ المشخَّصة.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

إن هذه الشبهةَ مما أثاره بعضُ أصحابِ الاتِّجاهاتِ التنويريَّةِ والعَلْمانيَّةِ والحَداثيَّة، وهم على درَجاتٍ في موقِفِهم مِن مبدأِ تطبيقِ الشريعة، ومما يَلفِتُ النظرَ: أنهم - مع كثرةِ طعونِهم في فقهِ السلفِ وفهمِهم - لم يُنتِجوا فقهًا مكتمِلًا يَشمَلُ جميعَ أحكامِ الشريعة؛ بحيثُ يُمكِنُ الرجوعُ إليه في إقامةِ الشريعةِ في شؤونِ الناسِ وتصرُّفاتِهم؛ وهذا يُثيرُ الشكَّ في صدقِهم في تبنِّي مسألةِ إقامةِ الشريعة. ونُريدُ أن نَختِمَ جوابَ هذه الشبهةِ: بإيرادِ نصٍّ لأحدِ الفقهاءِ، مِن غيرِ المحسوبين تاريخيًّا على مدرسةِ أهلِ الحديث، بل هو معدودٌ مِن أئمَّةِ الكلامِ، الذين لا تقفُ منهم تلك الاتِّجاهاتُ موقِفًا عدائيًّا، وهو شيخُ الإمامِ الغزَاليِّ، ونعني به: إمامَ الحرَمَيْنِ الجُوَيْنيَّ، حيثُ يبيِّنُ في هذا النصِّ المآلَ الخطيرَ لدعوى: «تغيُّرِ الأحكامِ بتغيُّرِ الزمانِ والمكان»؛ حيثُ يقولُ: «ولو كانت قضايا الشرعِ تختلِفُ باختلافِ الناس، وتناسُخِ العصور، لانحَلَّ رباطُ الشرع، ورجَعَ الأمرُ إلى ما هو المحذورُ مِن اختصاصِ كلِّ عصرٍ ودهرٍ برأي؛ وهذا يناقِضُ حِكمةَ الشريعةِ في حملِ الخَلْقِ على الدعوةِ الواحدة». «نهايةُ المَطلَب» (17/ 364).