نص السؤال

اختلافُ مصاحِفِ الصحابةِ؛ كمصحَفِ ابنِ مسعودٍ، ومصحَفِ عثمانَ مثلًا، أَلَا يدُلُّ على وقوعِ الاختلافِ، والتبديلِ، وعدمِ الحفظِ للقرآن؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

لماذا احتفَظَ الصحابيُّ ابنُ مسعودٍ بمصحَفِهِ، ولم يسلِّمْهُ لعثمانَ؟

الجواب التفصيلي

ونُشيرُ في ذلك إلى الوقَفاتِ التالية:

1- كان لعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه سابقةٌ في الإسلامِ، ومكانتُهُ في التلقِّي عن رسولِ اللهِ ^ التي لا يُنكِرُها أحدٌ؛ فهو أوَّلُ مَن جهَرَ بالقرآنِ بمكَّةَ، وأحدُ الأربعةِ الذين أمَرَ الرسولُ ^ بأخذِ القرآنِ عنهم.

2- مَن عرَفَ مراحلَ جمعِ القرآنِ، عَلِمَ أن القرآنَ كان محفوظًا في الصدورِ بإتقانٍ تامٍّ، وكان بعضُ الصحابةِ يكتُبُونه، ولكنْ كان لبعضِهم طرُقٌ خاصَّةٌ في كتابةِ المصحَفِ؛ فمثلًا:

بعضُهم: تلقَّاها بقراءةٍ معيَّنةٍ، وكتَبَها برسمِها.

وبعضُهم: لا يمانِعُ أن تكونَ معه آياتٌ منسوخةٌ، أو تفسيرٌ لبعضِ الكلماتِ.

وبعضُهم: كان له ترتيبٌ معيَّنٌ لسُوَرِه؛ لأن القرآنَ لم يَنزِلْ على نفسِ ترتيبِ المصحفِ الحاليِّ.

وغيرُ ذلك مِن الأحوالِ، مما أسهَمَ في تعدُّدِ المصاحفِ، وهي في حقيقتِها عن قرآنٍ واحدٍ، وحصَلَ إشكالٌ عند بعضِ الناس؛ خصوصًا حديثي العهدِ بالإسلامِ، والعوامَّ.

3- بسببِ اختلافِ شَكْلِ المصاحفِ، أراد عثمانُ جَمْعَ الناسِ على مصحَفٍ واحدٍ، وحَرْقَ ما سواه؛ فشكَّل رضيَ اللهُ عنه للقرآنِ فريقًا، وفي مقدِّمتِهم زيدُ بنُ ثابتٍ، يَجمَعون القرآنَ، (بالإضافةِ إلى الجَمْعِ الذي حدَثَ في عهدِ أبي بكرٍ؛ مِن الناسِ، ومِن المصاحِفِ المتفرِّقة)، وجمَعَهُ في مصحفٍ واحدٍ بطريقةِ كتابةٍ واحدةٍ، ونسَخَهُ في المصاحفِ، وأرسَلَ المصاحفَ إلى أهمِّ بُلْدانِ المسلِمين، وأرسَلَ نُسْخةً إلى الكوفةِ مع حُذَيفةَ بنِ اليَمَانِ رضيَ اللهُ عنه، وأمَرَهُ بجمعِ المصاحفِ التي تختلِفُ عنه هناك؛ لقطعِها وحَرْقِها.

وهذا أمرٌ تَمَّ بإشرافِ عثمانَ، وموافَقةِ عامَّةِ الصحابةِ؛ قال مُصعَبُ بنُ سعدٍ: «أدرَكْتُ أصحابَ النبيِّ ^ حين شقَّق عثمانُ المصاحفَ، فأعجَبَهم ذلك»، أو قال: «لَمْ يَعِبْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ»؛ رواه البخاري في «خلقِ أفعالِ العباد» (2/ 197 رقم 388).

4- بعضُ الصحابةِ - كابنِ مسعودٍ، وغيرِهِ - لم يُريدوا ذلك، أعني: جَمْعَ الناسِ على مصحَفٍ واحدٍ، وحَرْقَ ما سواه:

- إما لأنهم أرادوا التأكُّدَ مِن اكتمالِ المصحفِ الموحَّدِ، خصوصًا وابنُ مسعودٍ إمامٌ في القرآن، ولم يكن مشارِكًا في الفريقِ الذي باشَرَ العملَ.

- أو أنهم عَزَّ عليهم حَرْقُ مصاحفِهم، وهي مصاحفُهم التي عرَفُوها، وربَّما أضافوا عليها ملحَقاتٍ عِلْميَّةً مِن تفسيرٍ ونحوِه، أو لم تَطِبْ أنفُسُهم بحرقِ مصحَفٍ، (ولم تكن هناك مَطابِعُ مثلَ اليومِ، تسهِّلُ عليهم إيجادَ مثلِ مصحفِهم).

- ولأسبابٍ أخرى اجتمَعَت؛ مع كونِهم لم يَرَوْا أن الأمرَ أصبَحَ حتى الآنَ مشكِلةً تستدعي حَرْقَ مصاحفِهم.

5- تأخُّرُ بعضِهم - كابنِ مسعودٍ - عن موافَقةِ مصحَفِ عثمانَ؛ لأمورٍ:

مِن أهمِّها: حِرصُهُ على ألا يتطرَّقَ للجمعِ أيُّ خَلَلٍ، وهو ذو خِبْرةٍ كبيرةٍ، وزيدُ بنُ ثابتٍ - الصحابيُّ والمسؤولُ المباشِرُ عن جمعِ القرآن - كان صغيرَ السِّنِّ جِدًّا بالنسبةِ له؛ فبالتالي ليس مِن الطبَعيِّ أن يغامِرَ بتركِ مصحَفِهِ ابتداءً.

وأيضًا: حِرصُهُ على نيلِ الفضلِ، ونيلِ أجرِ مَن سيَقرَأُ بعد ذلك في ذلك المصحَف.

وكان ابنُ مسعودٍ ممن يُعْنَى بالقرآنِ والمصاحفِ؛ وهو راوي الأثرِ المشهور:

«مِنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَلْيَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ»

رواه البَيهَقيُّ في «شُعَبِ الإيمان» (2027).

وقد كان ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه يقولُ:

«أَدِيمُوا النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ»

رواه عبدُ الرزَّاقِ (5979)، وابنُ أبي شَيْبةَ (8558)، وصحَّحه ابنُ حجَر؛ كما في «الفتح» (9/ 78)، و«نتائجِ الأفكار» (3/ 207).

ولهذا كان ابنُ مسعودٍ يصرِّحُ في البدايةِ: أنه سيحتفِظُ بمصحَفِه، وهو خلافُ رأيِ أكثرِ الصحابة؛ كما سبَقَ مِن قولِ مُصعَبِ بنِ سعدٍ،

وقال الزُّهْريُّ:

«فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ^»

رواه التِّرمِذيُّ (5/ 284 رقم 3104).

6- لكنْ لماذا لم يشترِكِ ابنُ مسعودٍ في فريقِ الجمعِ الأساسيّ؟:

كان العُذْرُ لعثمانَ في ذلك: أن عمَليَّةَ الجمعِ الأساسيَّةَ كانت بالمدينةِ النبويَّة، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ كان بالكوفةِ - وقد تولَّى إمارتَها مُدَّةً - أي: أن عبدَ اللهِ كان غائبًا.

وأيضًا: فإن عثمانَ إنما أراد نسخَ الصُّحُفِ التي كانت جُمِعَتْ في عهدِ أبي بكرٍ، وأن يَجعَلَها مصحَفًا واحدًا، وكان الذي نسَخَ ذلك في عهدِ أبى بكرٍ هو زَيْدَ بنَ ثابتٍ؛ لكونِهِ كان كاتِبَ الوحيِ؛ فكانت له في ذلك أَوْلويَّةٌ ليست لغيرِه.

7- قراءةُ ابنِ مسعودٍ لا تخالِفُ مصحَفَ عثمانَ؛ بدليلِ أن قراءتَهُ قد رواها عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، بالأسانيدِ والنقلِ المتواتِرِ عن ابنِ مسعودٍ، وهي قراءةٌ موافِقةٌ للمصاحفِ العثمانيَّة.

فابنُ مسعودٍ لم يَطعَنْ في صحَّةِ مصحَفِ عثمانَ مطلَقًا، ولم يَرْوِ قرآنًا غيرَ القرآنِ المتواتِرِ المعروفِ عند الناس، وأما مصحَفُهُ المختلِفُ عن مصحَفِ عثمانَ، فقد بيَّنَّا الفرقَ بين «القرآنِ»، و«المصحَف»:

فالمصحَفُ الخاصُّ بإنسانٍ: قد يكتُبُ فيه ما يَعلَمُ أنه ليس بقرآنٍ، لكنه يُضِيفُهُ لحاجةٍ، وقد يترُك أشياءَ لا يكتُبُها فيها؛ لأنه يَعلَمُها، ويبقى القرآنُ نفسُهُ محفوظًا.

وابنُ مسعودٍ - كما ذكَرَ غيرُ واحدٍ - وافَقَ عثمانَ وتابَعَهُ فيما بعدُ - بدليلِ القراءاتِ المرويَّةِ عنه؛ كروايةِ عاصمٍ، وغيرِهِ - خصوصًا وأن ابنَ مسعودٍ كان يَكرَهُ الخلافَ، وهو نفسُهُ الذي كان يُتِمُّ الصلاةَ خلفَ عثمانَ - مع أنه مسافِرٌ - وعلَّل ذلك: أن الخلافَ شرٌّ، والاختلافُ في القرآنِ أشدُّ مِن الصلاة.

وعمومًا: فاختلافُ مصحَفِ ابنِ مسعودٍ، غايتُهُ أشياءُ شكليَّةٌ، أو أحرُفٌ منسوخةٌ، والقرآنُ يَكْفي في القطعِ بصحَّةِ مرويِّهِ: أن يُنقَلَ عن جمعٍ يُؤمَنُ تواطُؤُهم على الكذبِ بشروطِه، وليس مِن شروطِهِ: ألا يخالِفَ فيه مخالِفٌ حتى يُقدَحَ في تواتُرِ القرآنِ - سواءٌ مِن ابنِ مسعودٍ لو فرَضْنا جدَلًا، أو غيرِ ابنِ مسعودٍ - ما دام جَمٌّ غفيرٌ مِن الصحابةِ قد أقَرُّوا جمعَ القرآنِ على هذا النحوِ في عهدِ أبي بكرٍ مرَّةً، وفي عهدِ عثمانَ مرَّةً أخرى.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

نحتاجُ أوَّلًا أن نفرِّقَ بين القرآنِ والمصحَفِ؛ فـ «القرآنُ»: هو كلامُ اللهِ تعالى، وأما «المصحَفُ»: فهو الأوراقُ ونحوُها التي يُكتَبُ فيها القرآنُ، وقد يُطلِقُ بعضُ الناسِ كلَّ واحدٍ منهما على الآخَر.

وابنُ مسعودٍ كان عنده مصحَفٌ خاصٌّ به، وربما رتَّبه، أو أضاف عليه أشياءَ مِن التفسيرِ ونحوِها؛ لأنه لم يَقصِدْ أن تكونَ مصحَفًا عامًّا للناس.

وعليه: فاختلافُ مصحَفِ ابنِ مسعودٍ عن مصحَفِ عثمانَ، ليس له أيَّةُ عَلاقةٍ بكونِ هذا قرآنًا، وهذا قرآنًا آخَرَ.

فهو قرآنٌ واحدٌ، وإن تعدَّدتِ المصاحفُ التي كُتِبَ فيها، وبسببِ اختلافِ شَكْلِ المصاحفِ، أراد عثمانُ جَمْعَ الناسِ على مصحَفٍ واحدٍ، وحَرْقَ ما سواه؛ فشكَّل رضيَ اللهُ عنه للقرآنِ فريقًا، وفي مقدِّمتِهم زيدُ بنُ ثابتٍ، يَجمَعون القرآنَ، وأمَرهُ بجمعِ القرآنِ في مصحفٍ واحدٍ بطريقةِ كتابةٍ واحدةٍ، وكتَبَ منه عدَّةَ نُسَخٍ أرسَلَها إلى الأمصارِ، وأمَرَ زيدًا بجمعِ المصاحفِ التي تختلِفُ عنه هناك؛ لقطعِها وحَرْقِها.

وقد تأخر ابنُ مسعودٍ عن موافَقةِ مصحَفِ عثمانَ؛ وذلك لأمورٍ؛ مِنها: حِرصُهُ على ألا يتطرَّقَ للجمعِ أيُّ خَلَلٍ، وهو ذو خِبْرةٍ كبيرةٍ، وأيضًا: حِرصُهُ على نيلِ الفضلِ، ونيلِ أجرِ مَن سيَقرَأُ بعد ذلك في ذلك المصحَف، وكان ابنُ مسعودٍ ممن يُعْنَى بالقرآنِ والمصاحف؛ ولهذا كان ابنُ مسعودٍ يصرِّحُ في البدايةِ: أنه سيحتفِظُ بمصحَفِه، وهو خلافُ رأيِ أكثرِ الصحابة.

وإنما لم يشترِكِ ابنُ مسعودٍ في فريقِ الجمعِ الأساسيِّ؛ لأن عمَليَّةَ الجمعِ الأساسيَّةَ كانت بالمدينةِ النبويَّة، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ كان بالكوفةِ - وقد تولَّى إمارتَها مُدَّةً - أي: أن عبدَ اللهِ كان غائبًا.

وأخيرًا: فإن ابنَ مسعودٍ لم يَطعَنْ في صحَّةِ مصحَفِ عثمانَ مطلَقًا، ولم يَرْوِ قرآنًا غيرَ القرآنِ المتواتِرِ المعروفِ عند الناس، كما أن قراءةَ ابنِ مسعودٍ لا تخالِفُ مصحَفَ عثمانَ، بل إن ابنَ مسعودٍ وافَقَ عثمانَ وتابَعَهُ فيما بعدُ؛ بدليلِ أن قراءتَهُ قد رواها عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، بالأسانيدِ والنقلِ المتواتِرِ عن ابنِ مسعودٍ، وهي قراءةٌ موافِقةٌ للمصاحفِ العثمانيَّة.

وعمومًا: فاختلافُ مصحَفِ ابنِ مسعودٍ، غايتُهُ أشياءُ شكليَّةٌ، أو أحرُفٌ منسوخةٌ، والقرآنُ يَكْفي في القطعِ بصحَّةِ مرويِّهِ: أن يُنقَلَ عن جمعٍ يُؤمَنُ تواطُؤُهم على الكذبِ بشروطِه، وليس مِن شروطِهِ: ألا يخالِفَ فيه مخالِفٌ حتى يُقدَحَ في تواتُرِ القرآنِ - سواءٌ مِن ابنِ مسعودٍ لو فرَضْنا جدَلًا، أو غيرِ ابنِ مسعودٍ - ما دام جَمٌّ غفيرٌ مِن الصحابةِ قد أقَرُّوا جمعَ القرآنِ على هذا النحوِ في عهدِ أبي بكرٍ مرَّةً، وفي عهدِ عثمانَ مرَّةً أخرى.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

نحتاجُ أوَّلًا أن نفرِّقَ بين القرآنِ والمصحَفِ؛ فـ «القرآنُ»: هو كلامُ اللهِ تعالى، وأما «المصحَفُ»: فهو الأوراقُ ونحوُها التي يُكتَبُ فيها القرآنُ، وقد يُطلِقُ بعضُ الناسِ كلَّ واحدٍ منهما على الآخَر.

وابنُ مسعودٍ كان عنده مصحَفٌ خاصٌّ به، وربما رتَّبه، أو أضاف عليه أشياءَ مِن التفسيرِ ونحوِها؛ لأنه لم يَقصِدْ أن تكونَ مصحَفًا عامًّا للناس.

وعليه: فاختلافُ مصحَفِ ابنِ مسعودٍ عن مصحَفِ عثمانَ، ليس له أيَّةُ عَلاقةٍ بكونِ هذا قرآنًا، وهذا قرآنًا آخَرَ.

فهو قرآنٌ واحدٌ، وإن تعدَّدتِ المصاحفُ التي كُتِبَ فيها، وبسببِ اختلافِ شَكْلِ المصاحفِ، أراد عثمانُ جَمْعَ الناسِ على مصحَفٍ واحدٍ، وحَرْقَ ما سواه؛ فشكَّل رضيَ اللهُ عنه للقرآنِ فريقًا، وفي مقدِّمتِهم زيدُ بنُ ثابتٍ، يَجمَعون القرآنَ، وأمَرهُ بجمعِ القرآنِ في مصحفٍ واحدٍ بطريقةِ كتابةٍ واحدةٍ، وكتَبَ منه عدَّةَ نُسَخٍ أرسَلَها إلى الأمصارِ، وأمَرَ زيدًا بجمعِ المصاحفِ التي تختلِفُ عنه هناك؛ لقطعِها وحَرْقِها.

وقد تأخر ابنُ مسعودٍ عن موافَقةِ مصحَفِ عثمانَ؛ وذلك لأمورٍ؛ مِنها: حِرصُهُ على ألا يتطرَّقَ للجمعِ أيُّ خَلَلٍ، وهو ذو خِبْرةٍ كبيرةٍ، وأيضًا: حِرصُهُ على نيلِ الفضلِ، ونيلِ أجرِ مَن سيَقرَأُ بعد ذلك في ذلك المصحَف، وكان ابنُ مسعودٍ ممن يُعْنَى بالقرآنِ والمصاحف؛ ولهذا كان ابنُ مسعودٍ يصرِّحُ في البدايةِ: أنه سيحتفِظُ بمصحَفِه، وهو خلافُ رأيِ أكثرِ الصحابة.

وإنما لم يشترِكِ ابنُ مسعودٍ في فريقِ الجمعِ الأساسيِّ؛ لأن عمَليَّةَ الجمعِ الأساسيَّةَ كانت بالمدينةِ النبويَّة، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ كان بالكوفةِ - وقد تولَّى إمارتَها مُدَّةً - أي: أن عبدَ اللهِ كان غائبًا.

وأخيرًا: فإن ابنَ مسعودٍ لم يَطعَنْ في صحَّةِ مصحَفِ عثمانَ مطلَقًا، ولم يَرْوِ قرآنًا غيرَ القرآنِ المتواتِرِ المعروفِ عند الناس، كما أن قراءةَ ابنِ مسعودٍ لا تخالِفُ مصحَفَ عثمانَ، بل إن ابنَ مسعودٍ وافَقَ عثمانَ وتابَعَهُ فيما بعدُ؛ بدليلِ أن قراءتَهُ قد رواها عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، بالأسانيدِ والنقلِ المتواتِرِ عن ابنِ مسعودٍ، وهي قراءةٌ موافِقةٌ للمصاحفِ العثمانيَّة.

وعمومًا: فاختلافُ مصحَفِ ابنِ مسعودٍ، غايتُهُ أشياءُ شكليَّةٌ، أو أحرُفٌ منسوخةٌ، والقرآنُ يَكْفي في القطعِ بصحَّةِ مرويِّهِ: أن يُنقَلَ عن جمعٍ يُؤمَنُ تواطُؤُهم على الكذبِ بشروطِه، وليس مِن شروطِهِ: ألا يخالِفَ فيه مخالِفٌ حتى يُقدَحَ في تواتُرِ القرآنِ - سواءٌ مِن ابنِ مسعودٍ لو فرَضْنا جدَلًا، أو غيرِ ابنِ مسعودٍ - ما دام جَمٌّ غفيرٌ مِن الصحابةِ قد أقَرُّوا جمعَ القرآنِ على هذا النحوِ في عهدِ أبي بكرٍ مرَّةً، وفي عهدِ عثمانَ مرَّةً أخرى.

الجواب التفصيلي

ونُشيرُ في ذلك إلى الوقَفاتِ التالية:

1- كان لعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه سابقةٌ في الإسلامِ، ومكانتُهُ في التلقِّي عن رسولِ اللهِ ^ التي لا يُنكِرُها أحدٌ؛ فهو أوَّلُ مَن جهَرَ بالقرآنِ بمكَّةَ، وأحدُ الأربعةِ الذين أمَرَ الرسولُ ^ بأخذِ القرآنِ عنهم.

2- مَن عرَفَ مراحلَ جمعِ القرآنِ، عَلِمَ أن القرآنَ كان محفوظًا في الصدورِ بإتقانٍ تامٍّ، وكان بعضُ الصحابةِ يكتُبُونه، ولكنْ كان لبعضِهم طرُقٌ خاصَّةٌ في كتابةِ المصحَفِ؛ فمثلًا:

بعضُهم: تلقَّاها بقراءةٍ معيَّنةٍ، وكتَبَها برسمِها.

وبعضُهم: لا يمانِعُ أن تكونَ معه آياتٌ منسوخةٌ، أو تفسيرٌ لبعضِ الكلماتِ.

وبعضُهم: كان له ترتيبٌ معيَّنٌ لسُوَرِه؛ لأن القرآنَ لم يَنزِلْ على نفسِ ترتيبِ المصحفِ الحاليِّ.

وغيرُ ذلك مِن الأحوالِ، مما أسهَمَ في تعدُّدِ المصاحفِ، وهي في حقيقتِها عن قرآنٍ واحدٍ، وحصَلَ إشكالٌ عند بعضِ الناس؛ خصوصًا حديثي العهدِ بالإسلامِ، والعوامَّ.

3- بسببِ اختلافِ شَكْلِ المصاحفِ، أراد عثمانُ جَمْعَ الناسِ على مصحَفٍ واحدٍ، وحَرْقَ ما سواه؛ فشكَّل رضيَ اللهُ عنه للقرآنِ فريقًا، وفي مقدِّمتِهم زيدُ بنُ ثابتٍ، يَجمَعون القرآنَ، (بالإضافةِ إلى الجَمْعِ الذي حدَثَ في عهدِ أبي بكرٍ؛ مِن الناسِ، ومِن المصاحِفِ المتفرِّقة)، وجمَعَهُ في مصحفٍ واحدٍ بطريقةِ كتابةٍ واحدةٍ، ونسَخَهُ في المصاحفِ، وأرسَلَ المصاحفَ إلى أهمِّ بُلْدانِ المسلِمين، وأرسَلَ نُسْخةً إلى الكوفةِ مع حُذَيفةَ بنِ اليَمَانِ رضيَ اللهُ عنه، وأمَرَهُ بجمعِ المصاحفِ التي تختلِفُ عنه هناك؛ لقطعِها وحَرْقِها.

وهذا أمرٌ تَمَّ بإشرافِ عثمانَ، وموافَقةِ عامَّةِ الصحابةِ؛ قال مُصعَبُ بنُ سعدٍ: «أدرَكْتُ أصحابَ النبيِّ ^ حين شقَّق عثمانُ المصاحفَ، فأعجَبَهم ذلك»، أو قال: «لَمْ يَعِبْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ»؛ رواه البخاري في «خلقِ أفعالِ العباد» (2/ 197 رقم 388).

4- بعضُ الصحابةِ - كابنِ مسعودٍ، وغيرِهِ - لم يُريدوا ذلك، أعني: جَمْعَ الناسِ على مصحَفٍ واحدٍ، وحَرْقَ ما سواه:

- إما لأنهم أرادوا التأكُّدَ مِن اكتمالِ المصحفِ الموحَّدِ، خصوصًا وابنُ مسعودٍ إمامٌ في القرآن، ولم يكن مشارِكًا في الفريقِ الذي باشَرَ العملَ.

- أو أنهم عَزَّ عليهم حَرْقُ مصاحفِهم، وهي مصاحفُهم التي عرَفُوها، وربَّما أضافوا عليها ملحَقاتٍ عِلْميَّةً مِن تفسيرٍ ونحوِه، أو لم تَطِبْ أنفُسُهم بحرقِ مصحَفٍ، (ولم تكن هناك مَطابِعُ مثلَ اليومِ، تسهِّلُ عليهم إيجادَ مثلِ مصحفِهم).

- ولأسبابٍ أخرى اجتمَعَت؛ مع كونِهم لم يَرَوْا أن الأمرَ أصبَحَ حتى الآنَ مشكِلةً تستدعي حَرْقَ مصاحفِهم.

5- تأخُّرُ بعضِهم - كابنِ مسعودٍ - عن موافَقةِ مصحَفِ عثمانَ؛ لأمورٍ:

مِن أهمِّها: حِرصُهُ على ألا يتطرَّقَ للجمعِ أيُّ خَلَلٍ، وهو ذو خِبْرةٍ كبيرةٍ، وزيدُ بنُ ثابتٍ - الصحابيُّ والمسؤولُ المباشِرُ عن جمعِ القرآن - كان صغيرَ السِّنِّ جِدًّا بالنسبةِ له؛ فبالتالي ليس مِن الطبَعيِّ أن يغامِرَ بتركِ مصحَفِهِ ابتداءً.

وأيضًا: حِرصُهُ على نيلِ الفضلِ، ونيلِ أجرِ مَن سيَقرَأُ بعد ذلك في ذلك المصحَف.

وكان ابنُ مسعودٍ ممن يُعْنَى بالقرآنِ والمصاحفِ؛ وهو راوي الأثرِ المشهور:

«مِنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَلْيَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ»

رواه البَيهَقيُّ في «شُعَبِ الإيمان» (2027).

وقد كان ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه يقولُ:

«أَدِيمُوا النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ»

رواه عبدُ الرزَّاقِ (5979)، وابنُ أبي شَيْبةَ (8558)، وصحَّحه ابنُ حجَر؛ كما في «الفتح» (9/ 78)، و«نتائجِ الأفكار» (3/ 207).

ولهذا كان ابنُ مسعودٍ يصرِّحُ في البدايةِ: أنه سيحتفِظُ بمصحَفِه، وهو خلافُ رأيِ أكثرِ الصحابة؛ كما سبَقَ مِن قولِ مُصعَبِ بنِ سعدٍ،

وقال الزُّهْريُّ:

«فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ^»

رواه التِّرمِذيُّ (5/ 284 رقم 3104).

6- لكنْ لماذا لم يشترِكِ ابنُ مسعودٍ في فريقِ الجمعِ الأساسيّ؟:

كان العُذْرُ لعثمانَ في ذلك: أن عمَليَّةَ الجمعِ الأساسيَّةَ كانت بالمدينةِ النبويَّة، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ كان بالكوفةِ - وقد تولَّى إمارتَها مُدَّةً - أي: أن عبدَ اللهِ كان غائبًا.

وأيضًا: فإن عثمانَ إنما أراد نسخَ الصُّحُفِ التي كانت جُمِعَتْ في عهدِ أبي بكرٍ، وأن يَجعَلَها مصحَفًا واحدًا، وكان الذي نسَخَ ذلك في عهدِ أبى بكرٍ هو زَيْدَ بنَ ثابتٍ؛ لكونِهِ كان كاتِبَ الوحيِ؛ فكانت له في ذلك أَوْلويَّةٌ ليست لغيرِه.

7- قراءةُ ابنِ مسعودٍ لا تخالِفُ مصحَفَ عثمانَ؛ بدليلِ أن قراءتَهُ قد رواها عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، بالأسانيدِ والنقلِ المتواتِرِ عن ابنِ مسعودٍ، وهي قراءةٌ موافِقةٌ للمصاحفِ العثمانيَّة.

فابنُ مسعودٍ لم يَطعَنْ في صحَّةِ مصحَفِ عثمانَ مطلَقًا، ولم يَرْوِ قرآنًا غيرَ القرآنِ المتواتِرِ المعروفِ عند الناس، وأما مصحَفُهُ المختلِفُ عن مصحَفِ عثمانَ، فقد بيَّنَّا الفرقَ بين «القرآنِ»، و«المصحَف»:

فالمصحَفُ الخاصُّ بإنسانٍ: قد يكتُبُ فيه ما يَعلَمُ أنه ليس بقرآنٍ، لكنه يُضِيفُهُ لحاجةٍ، وقد يترُك أشياءَ لا يكتُبُها فيها؛ لأنه يَعلَمُها، ويبقى القرآنُ نفسُهُ محفوظًا.

وابنُ مسعودٍ - كما ذكَرَ غيرُ واحدٍ - وافَقَ عثمانَ وتابَعَهُ فيما بعدُ - بدليلِ القراءاتِ المرويَّةِ عنه؛ كروايةِ عاصمٍ، وغيرِهِ - خصوصًا وأن ابنَ مسعودٍ كان يَكرَهُ الخلافَ، وهو نفسُهُ الذي كان يُتِمُّ الصلاةَ خلفَ عثمانَ - مع أنه مسافِرٌ - وعلَّل ذلك: أن الخلافَ شرٌّ، والاختلافُ في القرآنِ أشدُّ مِن الصلاة.

وعمومًا: فاختلافُ مصحَفِ ابنِ مسعودٍ، غايتُهُ أشياءُ شكليَّةٌ، أو أحرُفٌ منسوخةٌ، والقرآنُ يَكْفي في القطعِ بصحَّةِ مرويِّهِ: أن يُنقَلَ عن جمعٍ يُؤمَنُ تواطُؤُهم على الكذبِ بشروطِه، وليس مِن شروطِهِ: ألا يخالِفَ فيه مخالِفٌ حتى يُقدَحَ في تواتُرِ القرآنِ - سواءٌ مِن ابنِ مسعودٍ لو فرَضْنا جدَلًا، أو غيرِ ابنِ مسعودٍ - ما دام جَمٌّ غفيرٌ مِن الصحابةِ قد أقَرُّوا جمعَ القرآنِ على هذا النحوِ في عهدِ أبي بكرٍ مرَّةً، وفي عهدِ عثمانَ مرَّةً أخرى.