نص السؤال

جاء في الحديثِ:

«تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ»

ولكنَّ هذا يعارِضُ ما تقرَّر في الشريعةِ مِن تحريمِ الظلمِ؛ وهذا قد ظهَرَ نتيجةً للعقلِ الفقهيِّ الذي يسوِّغُ لوليِّ الأمرِ الظالمِ ظُلمَهُ وجَوْرَه، ويطالِبُ الرعيَّةَ بالاستسلامِ لهذا الظلم، ويحذِّرُ مِن الثورةِ عليه.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

صحَّةُ حديثِ: «اسْمَعْ وَأَطِعْ»

أحاديثُ طاعةِ الأمراء

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:
حقيقةُ هذه الشبهةِ: الطعنُ في المنظومةِ الفقهيَّةِ لأهلِ السنَّةِ والحديثِ؛ بالتشكيكِ في موافَقةِ مقرَّراتِها لِمَا تستحسِنُهُ العقولُ والفِطَرُ وما تستقبِحُه.
ومعلومٌ أوَّلًا: أن عددًا مِن أهلِ العلمِ ذكَروا اختلافَ السلفِ رضيَ اللهُ عنهم في مسألةِ الخروجِ على وليِّ الأمرِ الجائرِ، غيرَ أن الإجماعَ استقَرَّ على عدمِ الخروجِ، وليس النقدُ متَّجِهًا لِمَن حكَى الخلافَ في ذلك، وإنما لِمَن يَطعَنُ في أهلِ الحديثِ بسببِ قولِهم بمنعِ الخروجِ، مع إهمالِهِ لمآخِذِهم.
ومِن أهلِ العلمِ مَن قال: «الخروجُ على الولاةِ كان مذهبًا لبعضِ السلفِ قديمًا، ثم لما رُئِيَ أنه ما أَتَى للأمَّةِ إلا بالشرِّ والفسادِ، أجمَعَتْ أئمَّةُ الإسلامِ على تحريمِه، وعلى الإنكارِ على مَن فعَله»؛ كما قاله الحافظُ ابنُ حجَر.
ولعلَّ العبارةَ فيها توسُّعٌ في الوصف، وأنه يُقالُ: إن بعضَ السلَفِ اجتهَدوا في هذه المسائلِ، وليست مذهبًا مطَّرِدًا بالمعنى المطلَقِ؛ كما أنه يُوجَدُ مِن التابِعين مَن ذهَبَ إلى القدَرِ، والقولِ المنافي للسنَّةِ في القدَرِ، ومَن ذهَبَ إلى الإرجاءِ، ومَن ذهَبَ إلى إثباتِ أشياءَ لم تثبُتْ في النصوص؛ فكذلك في مسألةِ طاعةِ ولاةِ الأمورِ، فربما وُجِدَ منهم الشيءُ، والدليلُ بخلافِه، والعِبرةُ بما دَلَّتْ عليه الأدلَّة؛ لا باجتهادِ مَن اجتهَدَ وأخطأ في ذلك.
والاستشكالُ الواردُ في السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ لبيانِ الحكمةِ في المنعِ مِن الخروجِ على وليِّ الأمرِ الجائرِ، والكشفِ عما التبَسَ مما جاء في «صحيحِ مسلِمٍ» (1847)، مِن حديثِ حُذَيفةَ بنِ اليَمَانِ رضيَ اللهُ عنهما مرفوعًا:

«تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ»


ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- المنعُ مِن الخروجِ على وليِّ الأمرِ الجائرِ، ورَدَ في كثيرٍ مِن الأحاديثِ، وليس في هذا الحديثِ فحَسْبُ:
فمِن ذلك: ما رواه ابنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما؛ أن النبيَّ ﷺ قال: «



«مَن رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ»؛ رواه البخاري (7053، 7054)،

ومسلم (1849)

وعن أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه، مرفوعًا

«أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»؛

رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842)

وعن عبدِ الله بن عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما، عن النبيِّ ﷺ، قال

«عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»؛

رواه البخاري (7144)، ومسلم (1839).

وعن عَوْفِ بن مالكٍ رضيَ اللهُ عنه؛ أن النبيَّ ﷺ قال

«خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»؛

رواه مسلم (1855)

وعن عُبادةَ بنِ الصامتِ رضيَ اللهُ عنه؛ أنه قال

«بَايَعَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؛ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ»؛

رواه البخاري (7056، 7199)، ومسلم (1709، 1836)


وبالجملةِ: فأحاديثُ السمعِ والطاعةِ بشروطِهما متواتِرةُ المعنى؛ كما يَعرِفُ ذلك مَن له أُنْسةٌ بعلمِ السنَّة.
2- البعدُ الأخلاقيُّ في منعِ أهلِ الحديثِ الخروجَ على أئمَّةِ الجَوْرِ متحقِّقٌ:
ويتَّضِحُ لنا ذلك بالنظَرِ في كلامِ إمامٍ مِن جِلَّةِ أئمَّةِ أهلِ الحديثِ، وهو الإمامُ أحمدُ بنُ حَنبَلٍ رضيَ اللهُ عنه:
قال أبو الحارثِ الصائغُ:

«سألتُ أبا عبدِ الله في أمرٍ كان حدَثَ ببغدادَ، وهَمَّ قومٌ بالخروجِ، فقلتُ: يا أبا عبدِ الله، ما تقولُ في الخروجِ مع هؤلاءِ القوم؟ فأنكَرَ ذلك عليهم، وجعَلَ يقولُ: سبحانَ اللهِ! الدِّماءَ الدِّماءَ! لا أرى ذلك، ولا آمُرُ به، الصبرُ على ما نحنُ فيه خيرٌ مِن الفتنةِ؛ يُسفَكُ فيها الدِّماءُ، ويُستباحُ فيها الأموالُ، ويُنتهَكُ فيها المحارِمُ، أَمَا عَلِمتَ ما كان الناسُ فيه؟ - يعني: أيامَ الفتنة - قلتُ: والناسُ اليومَ أليس هم في فتنةٍ يا أبا عبدِ الله؟ قال: وإنْ كان، فإنما هي فتنةٌ خاصَّةٌ، فإذا وَقَعَ السيفُ، عمَّتِ الفتنةُ، وانقطَعَتِ السُّبُلُ، الصَّبْرُ على هذا ويَسلَمُ لك دينُك، خيرٌ لك، ورأيتُهُ يُنكِرُ الخُروجَ على الأئمَّةِ، وقال: الدِّماءَ؛ لا أرى ذلك، ولا آمُرُ به»؛

رواه الخلَّالُ في «السُّنَّة» (89)


فالإمامُ أحمدُ رحمه الله تعالى يفرِّقُ بين الفتنةِ العامَّةِ والخاصَّةِ، ويُؤثِرُ وقوعَ الثانيةِ على الأُولى.
ولا ريبَ أن صبرَ المرءِ على ذَهَابِ مصلحتِهِ الخاصَّةِ مِن أجلِ مصلحةِ مجموعِ المسلِمين، وتقديمَ مصلحةِ المجموعِ، وإيثارَهم على نفسِهِ ومصلحتِهِ -: لا ريبَ أنه مِن الأخلاقِ الحسَنةِ الحميدة.
وهذا الموقفُ للإمامِ أحمدَ مِن أئمَّةِ الجَوْرِ، هو ما رَضِيَتْهُ الأمَّةُ عَقْدًا ودِينًا؛ لكونِهِ موافِقًا للنقلِ والعقلِ، والواقعُ يَشهَدُ له.
على أن كثيرًا مِمَّن خرَجَ على ولاةِ الأمورِ - أو أكثرَهم - إنما خرَجَ؛ لينازِعَ الولاةَ الدنيا، مع استئثارِهم عليه، ولم يَصبِرْ على الاستئثار.
ثم إنه يكونُ لوليِّ الأمرِ ذنوبٌ أخرى؛ فيَبْقى بُغضُهُ لاستئثارِهِ يعظِّمُ تلك السيِّئاتِ، ويبقى المقاتِلُ له ظانًّا أنه يقاتِلُهُ لئلا تكونَ فتنةٌ، ويكونَ الدِّينُ كلُّه لله، ومِن أعظمِ ما حرَّكه عليه طلَبُ غرَضِهِ مِن الدنيا: إما وِلايةٌ، وإما مالٌ؛ فالذي يَصبِرُ على الوِلايةِ أو المالِ الذي يستحِقُّهُ؛ مِن أجلِ ألا تَسِيلَ دماءُ المسلِمين، وتنقطِعَ سُبُلُهم، وتتوقَّفَ مصالِحُهم -: أَوْلى بالحمدِ ممن لا يُبصِرُ إلا مصلحةَ نفسِه، ويَسْعى في تحقيقِها، وإنْ جَرَّ ذلك إلى الفِتَنِ والمصائبِ والمِحَن.
ولهذا فرَّق العلماءُ بين قتالِ المحارِبينَ، أو قُطَّاعِ الطريقِ، وبين قتالِ ولاةِ الأمورِ لطلَبِ المالِ أو الوِلايةِ؛ بأمرَيْن:
الأوَّلُ: أن قُطَّاعَ الطريقِ ضرَرُهم عامٌّ على جميعِ الناس؛ فهم يعادُون جميعَ الناس، وجميعُ الناسِ يُعِينون على قتالِهم، أي: أن فِتنتَهم فتنةٌ عامَّة.
الثاني: أنهم يبتدِئون الناسَ بالقتال.
وهذا الفرقُ الثاني فرقٌ مُهِمٌّ أيضًا؛ إذْ إن أهلَ الحديثِ في قولِهم هذا، إنما عَنَوْا مبادَأةَ الولاةِ بالخروجِ بالسيف؛ إذْ مِن شأنِ ولاةِ الأمورِ: أنهم لا يبتدِئون بقتالِ الرعيَّة.
أما إذا اعتدى وليُّ الأمرِ بنفسِهِ أو بجنودِهِ ورجالِهِ على حُرُماتِ المسلِمين مِن دماءٍ وأعراضٍ -: فهذا شأنٌ آخَرُ، ليس هو مَحَلَّ النظَرِ في مسألةِ الخروجِ على وليِّ الأمر؛ إذ المقصودُ بالخروجِ الممنوعِ مبادأتُهم بالقتال.
فإذا أمَرَ وليُّ الأمرِ بقتلِ رجلٍ معصومِ الدمِ ظلمًا وعدوانًا، فإنه يُقتَلُ به؛ فالمسلِمون تتكافَأُ دماؤُهم، ولا فرقَ بين دمِ وليِّ الأمرِ ودمِ أقلِّ مسلِمٍ مِن الرعيَّة:
وفي «مصنَّفِ الإمامِ عبدِ الرزَّاقِ الصَّنْعانيِّ»: «بابٌ في القَوَدِ مِن السلطانِ» روى فيه آثارًا عن السلفِ في هذا البابِ، منها: قولُ حَبِيبِ بنِ صُهْبانَ،

عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ

«ظهورُ المسلِمينَ حِمَى اللهِ، لا تَحِلُّ لأحدٍ، إلا أن يُخرِجَها حَدٌّ»، قال حبيبٌ: «ولقد رأيتُ بياضَ إِبْطِهِ قائمًا يُقِيدُ مِن نفسِهِ»؛

رواه عبد الرزَّاق (18036)


3- لا يجبُ على المسلِمِ أن يسلِّمَ لأيِّ أحدٍ ظهرَهُ ليُضرَبَ، ومالَهُ ليُؤخَذَ بغيرِ حقٍّ، ولو كان للحاكم:
فإنه بذلك يكونُ معاوِنًا لظالِمِهِ على الإثمِ والعدوان؛ لأنه مِن المتيقَّنِ الذي لا شكَّ فيه - والذي يَدْريهِ كلُّ مسلمٍ -: أن أخذَ مالِ مسلِمٍ أو ذِمِّيٍّ بغيرِ حقٍّ، وضربَ ظهرِهِ بغيرِ حقٍّ -: إثمٌ وعدوانٌ وحرام؛ فالمعاوَنةُ على الحرامِ حرام؛ إذا كان في قدرتِهِ دفعُه.
بل أجازتِ الشريعةُ للمسلِمِ أن يدافِعَ عن نفسِهِ وأهلِهِ ومالِه، وإنْ مات في ذلك كان شهيدًا، بل أجازت له أن يقاضِيَ الإمامَ إذا وقَعَ عليه منه ظلمٌ.
وإنما تكونُ الحالةُ الوحيدةُ التي يجبُ فيها أن يسلِّمَ المسلِمُ ظهرَهُ ليُضرَبَ، ومالَهُ ليُؤخَذَ: هي الحالةَ التي يتولَّى فيها الإمامُ ذلك بالحقِّ؛ كأن يَضرِبَ الإمامُ ظهرَهُ في حدٍّ مِن حدودِ الله، أو يأخُذَ مالَهُ في حقٍّ مِن حقوقِه؛ كزكاةٍ ونحوِها.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
يرى السائلُ أن حديثَ:

«تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ»

فيه إباحةٌ للظلم، وعلى هذا: فإنه يَطالُ هذا الحديثَ - مِن وجهةِ نظَرِ السائلِ - كثيرٌ مِن الشكِّ في معقوليَّتِهِ وثبوتِه.
مختصَرُ الإجابة:
ينبغي أن يُنظَرَ أوَّلًا في ثبوتِ الأحاديث، ثم يُنظَرَ في معنى الأحاديث، ثم يُقبَلَ معناها، ولا يُلتفَتَ إلى شبهاتِ المبطِلين حول الأحاديث، ولا إلى التفسيرِ الخاطئِ لها.
على أن مِن العلماءِ مَن ضعَّف الحديثَ؛ كالدارَقُطْنيّ في «الإلزاماتِ والتتبُّع» (ص 182). وانظر: «شرحَ النوويِّ على مسلم» (12/ 237-238).
وهناك معنًى لهذا الحديثِ (وأحاديثَ صحيحةٍ أخرى بمعناه)، فعند التأمُّلِ: فهو لا يدُلُّ على إباحةِ الظلم، ولا على تركِ دفعِهِ مطلَقًا، بل هو يتكلَّمُ عن الأصلِ في هذا الباب، وهو لا يخالِفُ ما تستحسِنُهُ العقولُ، بل يوافِقُها؛ وهو بُعْدٌ أخلاقيٌّ يبيِّنُ صوابيَّةَ أهلِ السنَّةِ في منعِهم الخروجَ على أئمَّةِ الجَوْرِ؛ فإن الشرعَ والعقلَ والواقعَ يستلزِمُ - في كثيرٍ مِن الأحيانِ عند اقتضاءِ الحكمةِ - التنازُلَ عن مصلحةٍ لمصلحةٍ أعظمَ منها، والتَّرْكَ لمفسدةٍ لدرءِ مفسدةٍ أعظمَ منها، وإهدارُ المصلحةِ الشخصيَّةِ الخاصَّةِ مِن أجلِ منفعةٍ تعودُ على عمومِ المسلِمين، أمرٌ حسَنٌ عقلًا وشرعًا، وهو ما لاحَظهُ أهلُ السنَّةِ في منعِهم الخروجَ على وليِّ الأمرِ الجائر؛ ويَشهَدُ لذلك موقفُ الإمامِ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ قولًا وفعلًا مِن أئمَّةِ الجَوْر؛ وهو ما رَضِيَتْهُ الأمَّةُ عَقْدًا ودِينًا؛ لكونِهِ موافِقًا للنقلِ والعقلِ، والواقعُ يَشهَدُ له.
على أن كثيرًا مِمَّن خرَجَ على ولاةِ الأمورِ - أو أكثرَهم - إنما خرَجَ؛ لينازِعَ الولاةَ الدنيا، مع استئثارِهم عليه، ولم يَصبِرْ على الاستئثار؛ فيقاتِلُ وليَّ الأمرِ الجائرَ ظانًّا أنه يقاتِلُهُ لئلا تكونَ فتنةٌ، ويكونَ الدِّينُ كلُّه لله، ومِن أعظمِ ما حرَّكه عليه طلَبُ غرَضِهِ: إما وِلايةٌ، وإما مالٌ؛ فالذي يَصبِرُ على الوِلايةِ أو المالِ الذي يستحِقُّهُ؛ مِن أجلِ ألا تَسِيلَ دماءُ المسلِمين، وتنقطِعَ سُبُلُهم، وتتوقَّفَ مصالِحُهم -: أَوْلى بالحمدِ ممن لا يُبصِرُ إلا مصلحةَ نفسِه، ويَسْعى في تحقيقِها، وإنْ جَرَّ ذلك إلى الفِتَنِ والمصائبِ والمِحَن.
على أن الشريعةَ لا تُوجِبُ على المسلِمِ أن يسلِّمَ مالَهُ وظهرَهُ لأحدٍ - ولو كان الإمامَ - إن أراد أخذَهُ بغيرِ حقٍّ، بل تجيزُ الشريعةُ للمسلِمِ أن يدافِعَ عن نفسِهِ وأهلِهِ ومالِه، وإنْ مات في ذلك، كان شهيدًا، بل تُجيزُ له أن يقاضِيَ الإمامَ إذا وقَعَ عليه منه ظلمٌ.
وإنما تكونُ الحالةُ الوحيدةُ التي يجبُ فيها أن يسلِّمَ المسلِمُ ظهرَهُ ليُضرَبَ، ومالَهُ ليُؤخَذَ: هي الحالةَ التي يتولَّى فيها الإمامُ ذلك بالحقّ.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

لكلِّ ما سبَقَ أحكامٌ تفصيليَّةٌ تكلَّم عنها العلماءُ، وقد يختلِفون في تفاصيلِها، ولكنهم يتَّفِقون على إثباتِ كمالِ الإسلامِ في إقرارِ أصلِ تحريمِ الظلم، وفي إقرارِ أصلِ الطاعةِ لولاةِ الأمر. وإن الواجبَ على المسلِمِ أن يتحقَّقَ مقالاتِ أهلِ الحديثِ بالنظرِ في مدوَّناتِهم وأصولِهم، وأن يَعلَمَ أنهم كانوا أبعَدَ الناسِ عن الدخولِ في أهواءِ الملوك، وفي أهواءِ المعارِضين لهم.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:
يرى السائلُ أن حديثَ:

«تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ»

فيه إباحةٌ للظلم، وعلى هذا: فإنه يَطالُ هذا الحديثَ - مِن وجهةِ نظَرِ السائلِ - كثيرٌ مِن الشكِّ في معقوليَّتِهِ وثبوتِه.
مختصَرُ الإجابة:
ينبغي أن يُنظَرَ أوَّلًا في ثبوتِ الأحاديث، ثم يُنظَرَ في معنى الأحاديث، ثم يُقبَلَ معناها، ولا يُلتفَتَ إلى شبهاتِ المبطِلين حول الأحاديث، ولا إلى التفسيرِ الخاطئِ لها.
على أن مِن العلماءِ مَن ضعَّف الحديثَ؛ كالدارَقُطْنيّ في «الإلزاماتِ والتتبُّع» (ص 182). وانظر: «شرحَ النوويِّ على مسلم» (12/ 237-238).
وهناك معنًى لهذا الحديثِ (وأحاديثَ صحيحةٍ أخرى بمعناه)، فعند التأمُّلِ: فهو لا يدُلُّ على إباحةِ الظلم، ولا على تركِ دفعِهِ مطلَقًا، بل هو يتكلَّمُ عن الأصلِ في هذا الباب، وهو لا يخالِفُ ما تستحسِنُهُ العقولُ، بل يوافِقُها؛ وهو بُعْدٌ أخلاقيٌّ يبيِّنُ صوابيَّةَ أهلِ السنَّةِ في منعِهم الخروجَ على أئمَّةِ الجَوْرِ؛ فإن الشرعَ والعقلَ والواقعَ يستلزِمُ - في كثيرٍ مِن الأحيانِ عند اقتضاءِ الحكمةِ - التنازُلَ عن مصلحةٍ لمصلحةٍ أعظمَ منها، والتَّرْكَ لمفسدةٍ لدرءِ مفسدةٍ أعظمَ منها، وإهدارُ المصلحةِ الشخصيَّةِ الخاصَّةِ مِن أجلِ منفعةٍ تعودُ على عمومِ المسلِمين، أمرٌ حسَنٌ عقلًا وشرعًا، وهو ما لاحَظهُ أهلُ السنَّةِ في منعِهم الخروجَ على وليِّ الأمرِ الجائر؛ ويَشهَدُ لذلك موقفُ الإمامِ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ قولًا وفعلًا مِن أئمَّةِ الجَوْر؛ وهو ما رَضِيَتْهُ الأمَّةُ عَقْدًا ودِينًا؛ لكونِهِ موافِقًا للنقلِ والعقلِ، والواقعُ يَشهَدُ له.
على أن كثيرًا مِمَّن خرَجَ على ولاةِ الأمورِ - أو أكثرَهم - إنما خرَجَ؛ لينازِعَ الولاةَ الدنيا، مع استئثارِهم عليه، ولم يَصبِرْ على الاستئثار؛ فيقاتِلُ وليَّ الأمرِ الجائرَ ظانًّا أنه يقاتِلُهُ لئلا تكونَ فتنةٌ، ويكونَ الدِّينُ كلُّه لله، ومِن أعظمِ ما حرَّكه عليه طلَبُ غرَضِهِ: إما وِلايةٌ، وإما مالٌ؛ فالذي يَصبِرُ على الوِلايةِ أو المالِ الذي يستحِقُّهُ؛ مِن أجلِ ألا تَسِيلَ دماءُ المسلِمين، وتنقطِعَ سُبُلُهم، وتتوقَّفَ مصالِحُهم -: أَوْلى بالحمدِ ممن لا يُبصِرُ إلا مصلحةَ نفسِه، ويَسْعى في تحقيقِها، وإنْ جَرَّ ذلك إلى الفِتَنِ والمصائبِ والمِحَن.
على أن الشريعةَ لا تُوجِبُ على المسلِمِ أن يسلِّمَ مالَهُ وظهرَهُ لأحدٍ - ولو كان الإمامَ - إن أراد أخذَهُ بغيرِ حقٍّ، بل تجيزُ الشريعةُ للمسلِمِ أن يدافِعَ عن نفسِهِ وأهلِهِ ومالِه، وإنْ مات في ذلك، كان شهيدًا، بل تُجيزُ له أن يقاضِيَ الإمامَ إذا وقَعَ عليه منه ظلمٌ.
وإنما تكونُ الحالةُ الوحيدةُ التي يجبُ فيها أن يسلِّمَ المسلِمُ ظهرَهُ ليُضرَبَ، ومالَهُ ليُؤخَذَ: هي الحالةَ التي يتولَّى فيها الإمامُ ذلك بالحقّ.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:
حقيقةُ هذه الشبهةِ: الطعنُ في المنظومةِ الفقهيَّةِ لأهلِ السنَّةِ والحديثِ؛ بالتشكيكِ في موافَقةِ مقرَّراتِها لِمَا تستحسِنُهُ العقولُ والفِطَرُ وما تستقبِحُه.
ومعلومٌ أوَّلًا: أن عددًا مِن أهلِ العلمِ ذكَروا اختلافَ السلفِ رضيَ اللهُ عنهم في مسألةِ الخروجِ على وليِّ الأمرِ الجائرِ، غيرَ أن الإجماعَ استقَرَّ على عدمِ الخروجِ، وليس النقدُ متَّجِهًا لِمَن حكَى الخلافَ في ذلك، وإنما لِمَن يَطعَنُ في أهلِ الحديثِ بسببِ قولِهم بمنعِ الخروجِ، مع إهمالِهِ لمآخِذِهم.
ومِن أهلِ العلمِ مَن قال: «الخروجُ على الولاةِ كان مذهبًا لبعضِ السلفِ قديمًا، ثم لما رُئِيَ أنه ما أَتَى للأمَّةِ إلا بالشرِّ والفسادِ، أجمَعَتْ أئمَّةُ الإسلامِ على تحريمِه، وعلى الإنكارِ على مَن فعَله»؛ كما قاله الحافظُ ابنُ حجَر.
ولعلَّ العبارةَ فيها توسُّعٌ في الوصف، وأنه يُقالُ: إن بعضَ السلَفِ اجتهَدوا في هذه المسائلِ، وليست مذهبًا مطَّرِدًا بالمعنى المطلَقِ؛ كما أنه يُوجَدُ مِن التابِعين مَن ذهَبَ إلى القدَرِ، والقولِ المنافي للسنَّةِ في القدَرِ، ومَن ذهَبَ إلى الإرجاءِ، ومَن ذهَبَ إلى إثباتِ أشياءَ لم تثبُتْ في النصوص؛ فكذلك في مسألةِ طاعةِ ولاةِ الأمورِ، فربما وُجِدَ منهم الشيءُ، والدليلُ بخلافِه، والعِبرةُ بما دَلَّتْ عليه الأدلَّة؛ لا باجتهادِ مَن اجتهَدَ وأخطأ في ذلك.
والاستشكالُ الواردُ في السؤالِ يتضمَّنُ الحاجةَ لبيانِ الحكمةِ في المنعِ مِن الخروجِ على وليِّ الأمرِ الجائرِ، والكشفِ عما التبَسَ مما جاء في «صحيحِ مسلِمٍ» (1847)، مِن حديثِ حُذَيفةَ بنِ اليَمَانِ رضيَ اللهُ عنهما مرفوعًا:

«تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ»


ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- المنعُ مِن الخروجِ على وليِّ الأمرِ الجائرِ، ورَدَ في كثيرٍ مِن الأحاديثِ، وليس في هذا الحديثِ فحَسْبُ:
فمِن ذلك: ما رواه ابنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما؛ أن النبيَّ ﷺ قال: «



«مَن رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ»؛ رواه البخاري (7053، 7054)،

ومسلم (1849)

وعن أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه، مرفوعًا

«أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»؛

رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842)

وعن عبدِ الله بن عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما، عن النبيِّ ﷺ، قال

«عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»؛

رواه البخاري (7144)، ومسلم (1839).

وعن عَوْفِ بن مالكٍ رضيَ اللهُ عنه؛ أن النبيَّ ﷺ قال

«خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»؛

رواه مسلم (1855)

وعن عُبادةَ بنِ الصامتِ رضيَ اللهُ عنه؛ أنه قال

«بَايَعَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؛ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ»؛

رواه البخاري (7056، 7199)، ومسلم (1709، 1836)


وبالجملةِ: فأحاديثُ السمعِ والطاعةِ بشروطِهما متواتِرةُ المعنى؛ كما يَعرِفُ ذلك مَن له أُنْسةٌ بعلمِ السنَّة.
2- البعدُ الأخلاقيُّ في منعِ أهلِ الحديثِ الخروجَ على أئمَّةِ الجَوْرِ متحقِّقٌ:
ويتَّضِحُ لنا ذلك بالنظَرِ في كلامِ إمامٍ مِن جِلَّةِ أئمَّةِ أهلِ الحديثِ، وهو الإمامُ أحمدُ بنُ حَنبَلٍ رضيَ اللهُ عنه:
قال أبو الحارثِ الصائغُ:

«سألتُ أبا عبدِ الله في أمرٍ كان حدَثَ ببغدادَ، وهَمَّ قومٌ بالخروجِ، فقلتُ: يا أبا عبدِ الله، ما تقولُ في الخروجِ مع هؤلاءِ القوم؟ فأنكَرَ ذلك عليهم، وجعَلَ يقولُ: سبحانَ اللهِ! الدِّماءَ الدِّماءَ! لا أرى ذلك، ولا آمُرُ به، الصبرُ على ما نحنُ فيه خيرٌ مِن الفتنةِ؛ يُسفَكُ فيها الدِّماءُ، ويُستباحُ فيها الأموالُ، ويُنتهَكُ فيها المحارِمُ، أَمَا عَلِمتَ ما كان الناسُ فيه؟ - يعني: أيامَ الفتنة - قلتُ: والناسُ اليومَ أليس هم في فتنةٍ يا أبا عبدِ الله؟ قال: وإنْ كان، فإنما هي فتنةٌ خاصَّةٌ، فإذا وَقَعَ السيفُ، عمَّتِ الفتنةُ، وانقطَعَتِ السُّبُلُ، الصَّبْرُ على هذا ويَسلَمُ لك دينُك، خيرٌ لك، ورأيتُهُ يُنكِرُ الخُروجَ على الأئمَّةِ، وقال: الدِّماءَ؛ لا أرى ذلك، ولا آمُرُ به»؛

رواه الخلَّالُ في «السُّنَّة» (89)


فالإمامُ أحمدُ رحمه الله تعالى يفرِّقُ بين الفتنةِ العامَّةِ والخاصَّةِ، ويُؤثِرُ وقوعَ الثانيةِ على الأُولى.
ولا ريبَ أن صبرَ المرءِ على ذَهَابِ مصلحتِهِ الخاصَّةِ مِن أجلِ مصلحةِ مجموعِ المسلِمين، وتقديمَ مصلحةِ المجموعِ، وإيثارَهم على نفسِهِ ومصلحتِهِ -: لا ريبَ أنه مِن الأخلاقِ الحسَنةِ الحميدة.
وهذا الموقفُ للإمامِ أحمدَ مِن أئمَّةِ الجَوْرِ، هو ما رَضِيَتْهُ الأمَّةُ عَقْدًا ودِينًا؛ لكونِهِ موافِقًا للنقلِ والعقلِ، والواقعُ يَشهَدُ له.
على أن كثيرًا مِمَّن خرَجَ على ولاةِ الأمورِ - أو أكثرَهم - إنما خرَجَ؛ لينازِعَ الولاةَ الدنيا، مع استئثارِهم عليه، ولم يَصبِرْ على الاستئثار.
ثم إنه يكونُ لوليِّ الأمرِ ذنوبٌ أخرى؛ فيَبْقى بُغضُهُ لاستئثارِهِ يعظِّمُ تلك السيِّئاتِ، ويبقى المقاتِلُ له ظانًّا أنه يقاتِلُهُ لئلا تكونَ فتنةٌ، ويكونَ الدِّينُ كلُّه لله، ومِن أعظمِ ما حرَّكه عليه طلَبُ غرَضِهِ مِن الدنيا: إما وِلايةٌ، وإما مالٌ؛ فالذي يَصبِرُ على الوِلايةِ أو المالِ الذي يستحِقُّهُ؛ مِن أجلِ ألا تَسِيلَ دماءُ المسلِمين، وتنقطِعَ سُبُلُهم، وتتوقَّفَ مصالِحُهم -: أَوْلى بالحمدِ ممن لا يُبصِرُ إلا مصلحةَ نفسِه، ويَسْعى في تحقيقِها، وإنْ جَرَّ ذلك إلى الفِتَنِ والمصائبِ والمِحَن.
ولهذا فرَّق العلماءُ بين قتالِ المحارِبينَ، أو قُطَّاعِ الطريقِ، وبين قتالِ ولاةِ الأمورِ لطلَبِ المالِ أو الوِلايةِ؛ بأمرَيْن:
الأوَّلُ: أن قُطَّاعَ الطريقِ ضرَرُهم عامٌّ على جميعِ الناس؛ فهم يعادُون جميعَ الناس، وجميعُ الناسِ يُعِينون على قتالِهم، أي: أن فِتنتَهم فتنةٌ عامَّة.
الثاني: أنهم يبتدِئون الناسَ بالقتال.
وهذا الفرقُ الثاني فرقٌ مُهِمٌّ أيضًا؛ إذْ إن أهلَ الحديثِ في قولِهم هذا، إنما عَنَوْا مبادَأةَ الولاةِ بالخروجِ بالسيف؛ إذْ مِن شأنِ ولاةِ الأمورِ: أنهم لا يبتدِئون بقتالِ الرعيَّة.
أما إذا اعتدى وليُّ الأمرِ بنفسِهِ أو بجنودِهِ ورجالِهِ على حُرُماتِ المسلِمين مِن دماءٍ وأعراضٍ -: فهذا شأنٌ آخَرُ، ليس هو مَحَلَّ النظَرِ في مسألةِ الخروجِ على وليِّ الأمر؛ إذ المقصودُ بالخروجِ الممنوعِ مبادأتُهم بالقتال.
فإذا أمَرَ وليُّ الأمرِ بقتلِ رجلٍ معصومِ الدمِ ظلمًا وعدوانًا، فإنه يُقتَلُ به؛ فالمسلِمون تتكافَأُ دماؤُهم، ولا فرقَ بين دمِ وليِّ الأمرِ ودمِ أقلِّ مسلِمٍ مِن الرعيَّة:
وفي «مصنَّفِ الإمامِ عبدِ الرزَّاقِ الصَّنْعانيِّ»: «بابٌ في القَوَدِ مِن السلطانِ» روى فيه آثارًا عن السلفِ في هذا البابِ، منها: قولُ حَبِيبِ بنِ صُهْبانَ،

عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ

«ظهورُ المسلِمينَ حِمَى اللهِ، لا تَحِلُّ لأحدٍ، إلا أن يُخرِجَها حَدٌّ»، قال حبيبٌ: «ولقد رأيتُ بياضَ إِبْطِهِ قائمًا يُقِيدُ مِن نفسِهِ»؛

رواه عبد الرزَّاق (18036)


3- لا يجبُ على المسلِمِ أن يسلِّمَ لأيِّ أحدٍ ظهرَهُ ليُضرَبَ، ومالَهُ ليُؤخَذَ بغيرِ حقٍّ، ولو كان للحاكم:
فإنه بذلك يكونُ معاوِنًا لظالِمِهِ على الإثمِ والعدوان؛ لأنه مِن المتيقَّنِ الذي لا شكَّ فيه - والذي يَدْريهِ كلُّ مسلمٍ -: أن أخذَ مالِ مسلِمٍ أو ذِمِّيٍّ بغيرِ حقٍّ، وضربَ ظهرِهِ بغيرِ حقٍّ -: إثمٌ وعدوانٌ وحرام؛ فالمعاوَنةُ على الحرامِ حرام؛ إذا كان في قدرتِهِ دفعُه.
بل أجازتِ الشريعةُ للمسلِمِ أن يدافِعَ عن نفسِهِ وأهلِهِ ومالِه، وإنْ مات في ذلك كان شهيدًا، بل أجازت له أن يقاضِيَ الإمامَ إذا وقَعَ عليه منه ظلمٌ.
وإنما تكونُ الحالةُ الوحيدةُ التي يجبُ فيها أن يسلِّمَ المسلِمُ ظهرَهُ ليُضرَبَ، ومالَهُ ليُؤخَذَ: هي الحالةَ التي يتولَّى فيها الإمامُ ذلك بالحقِّ؛ كأن يَضرِبَ الإمامُ ظهرَهُ في حدٍّ مِن حدودِ الله، أو يأخُذَ مالَهُ في حقٍّ مِن حقوقِه؛ كزكاةٍ ونحوِها.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

لكلِّ ما سبَقَ أحكامٌ تفصيليَّةٌ تكلَّم عنها العلماءُ، وقد يختلِفون في تفاصيلِها، ولكنهم يتَّفِقون على إثباتِ كمالِ الإسلامِ في إقرارِ أصلِ تحريمِ الظلم، وفي إقرارِ أصلِ الطاعةِ لولاةِ الأمر. وإن الواجبَ على المسلِمِ أن يتحقَّقَ مقالاتِ أهلِ الحديثِ بالنظرِ في مدوَّناتِهم وأصولِهم، وأن يَعلَمَ أنهم كانوا أبعَدَ الناسِ عن الدخولِ في أهواءِ الملوك، وفي أهواءِ المعارِضين لهم.