نص السؤال

كيف يدخُلُ كلُّ هذا العددِ النارَ، ولا ينجو مِن كلِّ ألفٍ إلا واحدٌ؟! وأين رحمةُ اللهِ الواسعة؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

أَلَا يَكْفي أن يعذِّبَ اللهُ عددًا قليلًا مِن الناس؟

أليس هذا يتعارَضُ مع رحمةِ الله؟ 

ألم يقل اللهُ: «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»؟

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

أوَّلًا: المقصودُ هو مطلَقُ دخولِ النارِ، ولا يَلزَمُ مِن ذلك التخليدُ فيها:

فهناك فرقٌ بين دخولِ النار، وبين الخلودِ فيها، وكثيرٌ مِن النصوص - خصوصًا في الأحاديثِ - هي حكايةٌ عمَّن يدخُلُ النارَ، وليس عن المخلَّدينَ فيها خلودًا لا خروجَ منه.

ثانيًا: رحمةُ اللهِ الواسعةُ مع خلقِهِ في الآخِرة، واتِّساعُ مسالِكِ الخروجِ مِن النارِ يوم القيامة:

 دلَّتِ النصوصُ الشرعيَّةُ على أن اللهَ تعالى يعفو عن كثيرٍ، وأنه سبحانه يُخرِجُ مِن النارِ خلقًا كثيرًا، ودلَّت على أن الملائكةَ يَشفَعون في عدَدٍ مِن أهلِ النار، وأن الأنبياءَ يَشفَعون، وكذلك المؤمِنون، ويُخرِجُ اللهُ مِن النارِ كلَّ مَن كان في قلبِهِ مثقالُ ذرَّةٍ مِن إيمان، وفي الحديث:

«إِنَّ لِلهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ؛ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً؛ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

رواه مسلم (2752).

ودخولُ العصاةِ إلى النارِ إنما هو مِن بابِ التهذيبِ والتصفيةِ والتنقيةِ مما فعَلوهُ في الدنيا، فإن رحمةَ اللهِ واسعةٌ مع خلقِهِ في الآخِرة، ويومَ القيامةِ تتَّسِعُ مسالِكُ الخروجِ مِن النارِ، وبعد خروجِهم مِن النارِ، ودخولِهم الجنَّةَ يَنسَوْنَ كلَّ ما كانوا فيه مِن العذابِ والبؤس، وكأنهم لم يدخُلوا النارَ، ولم يَمَسَّهُمُ العذابُ مِن قبلُ.

ثالثًا: مظاهِرُ رحمةِ اللهِ كثيرةٌ، وتجلِّياتُها واضحةٌ لأُولي الأبصار:

لا يَصِحُّ فهمُ صفةٍ مِن صفاتِ اللهِ مِن زاويةٍ واحدةٍ فقطْ، وبمَعزِلٍ عن باقي الصفاتِ الأخرى؛ فمِن كمالِ اللهِ سبحانه أن صفاتِهِ كلَّها في ترابُطٍ؛ فليست رحمتُهُ بمَعزِلٍ عن حكمتِهِ، أو عن باقي صفاتِه؛ فتركيزُ النظرِ في مشهدٍ واحدٍ فقطْ، وهو مشهدُ أهلِ النار، ومحاكَمةُ رحمةِ اللهِ إلى ذلك المشهدِ خلَلٌ عميقٌ في النظرِ إلى أفعالِ الله، وتدبيرِهِ للكون.

إذْ إن مظاهرَ رحمتِهِ عمَّت الوجودَ، وشَمِلَتْ خلقَهُ جميعًا، فأوجَدَهم سبحانه بعد العَدَمِ، ورزَقَهم وأعطاهمُ القدرةَ على اختيارِ أفعالِهم، وأرسَلَ إليهم الرسُلَ، وأنزَلَ لهمُ الكتُبَ، وأبان لهم سبيلَ النجاة، وحذَّرهم مِن الغَوايةِ والانحراف، ومنَحَهمُ العقلَ والفطرةَ التي تَقُودُهم إلى مرضاتِهِ وعبادتِه.

فالمستحضِرُ لكلِّ هذه التجلِّيات، يُدرِكُ أن رحمةَ اللهِ تعالى واسعةٌ، وأنها سبَقَت غضَبَهُ؛ فقد فعَلَ سبحانه كلَّ ما يؤدِّي إلى النجاةِ مِن العذاب، وفي الحديثِ عن النبيِّ ﷺ:

«كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي، دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي، فَقَدْ أَبَى»

رواه البخاري (7280).

رابعًا: قلَّةُ الفوزِ والنجاةِ في الحياةِ الدنيا واقعٌ محسوسٌ، وهو مُدرَكٌ مِن بابِ أَوْلى في الآخِرة:

الفوزُ والتفوُّقُ في الدنيا لا يُحسِنُهُ كلُّ أحدٍ؛ لِمَا يحتاجُهُ مِن الهمَّةِ العالية، وتركِ الكسَلِ والخمول، والمجاهَدةِ وإكراهِ النفسِ على غيرِ ما تَميلُ إليه؛ وهذا غيرُ مستنكَرٍ في الدنيا؛ فرجالُ الصفِّ الأوَّلِ في كلِّ مجالٍ قلَّةٌ، وهم نسبةٌ صغيرةٌ جدًّا إذا ما قُورِنوا بأقرانِهم في المجالِ نفسِه، فكذا الحالُ في الآخِرة: الناجُون برضوانِ اللهِ قلَّةٌ؛ لِمَا في ذلك مِن مجاهَدةِ الشيطانِ وفِتَنِه، والتمسُّكِ بحبلِ اللهِ العظيم، والاجتهادِ في طاعتِه، وامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نواهيه؛ وهذا لا يَقدِرُ عليه كلُّ أحدٍ، فضلًا عن تفاوُتِ أهلِ الجنَّةِ أنفُسِهم في النعيم.

فكثيرٌ مِن الناسِ فُتِنَ بالشهَواتِ المحرَّمةِ المتوعَّدِ عليها بالنار، ولم يستحِقَّ الجنَّةَ مِن هذه الأمَّةِ إلا القليلُ، وهم الذين امتثَلوا لِمَا كان عليه النبيُّ ^ وأصحابُهُ ظاهرًا وباطنًا، وسَلِموا مِن فتنةِ الشهَواتِ والشُّبُهات، وهؤلاءِ قليلٌ جِدًّا، لا سيَّما في الأزمانِ المتأخِّرة، ولعلَّ السببَ الأعظمَ هو اتِّباعُ الشهَوات؛ ذلك أن حُبَّ الشهَواتِ مغروسٌ في أعماقِ النفسِ الإنسانيَّة؛ قال تعالى:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}

[آل عمران: 14].

وهذا موضِعُ الاختبارِ في الدنيا، وكثيرٌ مِن الناسِ يريدُ الوصولَ إلى هذه الشهَواتِ بالطريقةِ التي تَهْواها نفسُه، ويُحِبُّها قلبُه، ولا يُراعي في ذلك شرعَ اللهِ تعالى.

وعليه: فليس السببُ في كثرةِ أهلِ النارِ هو عدمَ بلوغِ الحقِّ إلى البشَرِ على اختلافِ أزمانِهم وأمكنتِهم؛ فإن اللهَ لا يؤاخِذُ العبادَ إذا لم تبلُغْهم دعوتُهُ؛

{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}

[الإسراء: 15]

؛ ولذلك فإن اللهَ أرسَلَ في كلِّ أمَّةٍ نذيرًا؛

{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}

[فاطر: 24].

وإنما السببُ وراء ذلك يعودُ إلى قلَّةِ الذين استجابوا للرسُل، وكثرةِ الذين كفَروا بهم، وكثيرٌ مِن الذين استجابوا، لم يكن إيمانُهم خالصًا نقيًّا؛ قال تعالى:

{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}

[سبأ: 13].

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

لا نَعلَمُ كم النِّسبةُ المحدَّدةُ لأهلِ الجنَّةِ مِن أهلِ النار، ولا لأهلِ النارِ الذين يدخُلُونها مؤقَّتًا ثم يخرُجون منها، مِن أهلِها الخالِدين فيها.

وليس السببُ في كثرةِ أهلِ النارِ هو عدمَ بلوغِ الحقِّ إلى البشَرِ على اختلافِ أزمانِهم وأمكنتِهم؛ فإن اللهَ لا يؤاخِذُ العبادَ إذا لم تبلُغْهم دعوتُهُ؛

{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}

[الإسراء: 15]

؛ ولذلك فإن اللهَ أرسَلَ في كلِّ أمَّةٍ نذيرًا؛

{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}

[فاطر: 24].

وإنما السببُ وراء ذلك: يعودُ إلى قلَّةِ الذين استجابوا للرسُلِ، وكثرةِ الذين كفَروا بهم، وكثيرٌ مِن الذين استجابوا، لم يكن إيمانُهم خالصًا نقيًّا.

على أن دخولَ العصاةِ إلى النارِ إنما هو مِن بابِ التهذيبِ والتصفيةِ والتنقيةِ مما فعَلوهُ في الدنيا؛ فإن رحمةَ اللهِ واسعةٌ مع خلقِهِ في الآخِرة، ويومَ القيامةِ تتَّسِعُ مسالِكُ الخروجِ مِن النارِ، وبعد خروجِهم مِن النارِ، ودخولِهم الجنَّةَ يَنسَوْنَ كلَّ ما كانوا فيه مِن العذابِ والبؤس، وكأنهم لم يدخُلوا النارَ، ولم يَمَسَّهُمُ العذابُ مِن قبلُ.

وهناك أمورٌ كثيرةٌ جِدًّا تَخْفى على الإنسان، وإذا عَلِمَ الإنسانُ كمالَ رحمةِ ربِّه وحكمتِهِ وعدلِهِ، لم يضُرَّهُ ألا يَعرِفَ الحكمةَ الجزئيَّةَ، ولا الجوابَ عما أشكَلَ على الناسِ منها؛ فالخالقُ سبحانه لا يُسْألُ عن قضائِهِ في خلقِه، وهو يَسْألُ الخَلْقَ عن عمَلِهم، ولا يعني ذلك أن قضاءَهُ سبحانه خالٍ مِن الحكمة، تعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، ولكننا قد نَعلَمُ الحكمةَ، وقد نَجهَلُها.

فإن لكلِّ أمرٍ حكمةً؛ فغلَبةُ أهلِ الباطلِ على أهلِ الحقِّ فيها حكمةٌ لرفعةِ منزلةِ أهلِ الحقِّ الذين تمسَّكوا به رغمَ قلَّةِ أهلِه، ولو كان أهلُ الإيمانِ والخيرِ هم الأكثرِين الغالِبين، لفاتَتْ مصلحةُ التفاوُتِ بين الناس، ومصلحةُ الجهادِ والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ، ونحوِها، والتي هي مِن أجَلِّ أنواعِ العبوديَّة، وفات الكمالُ المترتِّبُ على ذلك.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب:

هناك أمورٌ كثيرةٌ جِدًّا تَخْفى على الإنسان، وإذا عَلِمَ الإنسانُ كمالَ رحمةِ ربِّه وحكمتِهِ وعدلِهِ، لم يضُرَّهُ ألا يَعرِفَ الحكمةَ الجزئيَّة، ولا الجوابَ عما أشكَلَ على الناسِ منها؛ فالخالقُ سبحانه لا يُسْألُ عن قضائِهِ في خلقِه، وهو يَسْألُ الخَلْقَ عن عمَلِهم، ولا يعني ذلك أن قضاءَهُ سبحانه خالٍ مِن الحكمة، تعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، ولكننا قد نَعلَمُ الحكمةَ، وقد نَجهَلُها.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

لا نَعلَمُ كم النِّسبةُ المحدَّدةُ لأهلِ الجنَّةِ مِن أهلِ النار، ولا لأهلِ النارِ الذين يدخُلُونها مؤقَّتًا ثم يخرُجون منها، مِن أهلِها الخالِدين فيها.

وليس السببُ في كثرةِ أهلِ النارِ هو عدمَ بلوغِ الحقِّ إلى البشَرِ على اختلافِ أزمانِهم وأمكنتِهم؛ فإن اللهَ لا يؤاخِذُ العبادَ إذا لم تبلُغْهم دعوتُهُ؛

{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}

[الإسراء: 15]

؛ ولذلك فإن اللهَ أرسَلَ في كلِّ أمَّةٍ نذيرًا؛

{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}

[فاطر: 24].

وإنما السببُ وراء ذلك: يعودُ إلى قلَّةِ الذين استجابوا للرسُلِ، وكثرةِ الذين كفَروا بهم، وكثيرٌ مِن الذين استجابوا، لم يكن إيمانُهم خالصًا نقيًّا.

على أن دخولَ العصاةِ إلى النارِ إنما هو مِن بابِ التهذيبِ والتصفيةِ والتنقيةِ مما فعَلوهُ في الدنيا؛ فإن رحمةَ اللهِ واسعةٌ مع خلقِهِ في الآخِرة، ويومَ القيامةِ تتَّسِعُ مسالِكُ الخروجِ مِن النارِ، وبعد خروجِهم مِن النارِ، ودخولِهم الجنَّةَ يَنسَوْنَ كلَّ ما كانوا فيه مِن العذابِ والبؤس، وكأنهم لم يدخُلوا النارَ، ولم يَمَسَّهُمُ العذابُ مِن قبلُ.

وهناك أمورٌ كثيرةٌ جِدًّا تَخْفى على الإنسان، وإذا عَلِمَ الإنسانُ كمالَ رحمةِ ربِّه وحكمتِهِ وعدلِهِ، لم يضُرَّهُ ألا يَعرِفَ الحكمةَ الجزئيَّةَ، ولا الجوابَ عما أشكَلَ على الناسِ منها؛ فالخالقُ سبحانه لا يُسْألُ عن قضائِهِ في خلقِه، وهو يَسْألُ الخَلْقَ عن عمَلِهم، ولا يعني ذلك أن قضاءَهُ سبحانه خالٍ مِن الحكمة، تعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، ولكننا قد نَعلَمُ الحكمةَ، وقد نَجهَلُها.

فإن لكلِّ أمرٍ حكمةً؛ فغلَبةُ أهلِ الباطلِ على أهلِ الحقِّ فيها حكمةٌ لرفعةِ منزلةِ أهلِ الحقِّ الذين تمسَّكوا به رغمَ قلَّةِ أهلِه، ولو كان أهلُ الإيمانِ والخيرِ هم الأكثرِين الغالِبين، لفاتَتْ مصلحةُ التفاوُتِ بين الناس، ومصلحةُ الجهادِ والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ، ونحوِها، والتي هي مِن أجَلِّ أنواعِ العبوديَّة، وفات الكمالُ المترتِّبُ على ذلك.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

أوَّلًا: المقصودُ هو مطلَقُ دخولِ النارِ، ولا يَلزَمُ مِن ذلك التخليدُ فيها:

فهناك فرقٌ بين دخولِ النار، وبين الخلودِ فيها، وكثيرٌ مِن النصوص - خصوصًا في الأحاديثِ - هي حكايةٌ عمَّن يدخُلُ النارَ، وليس عن المخلَّدينَ فيها خلودًا لا خروجَ منه.

ثانيًا: رحمةُ اللهِ الواسعةُ مع خلقِهِ في الآخِرة، واتِّساعُ مسالِكِ الخروجِ مِن النارِ يوم القيامة:

 دلَّتِ النصوصُ الشرعيَّةُ على أن اللهَ تعالى يعفو عن كثيرٍ، وأنه سبحانه يُخرِجُ مِن النارِ خلقًا كثيرًا، ودلَّت على أن الملائكةَ يَشفَعون في عدَدٍ مِن أهلِ النار، وأن الأنبياءَ يَشفَعون، وكذلك المؤمِنون، ويُخرِجُ اللهُ مِن النارِ كلَّ مَن كان في قلبِهِ مثقالُ ذرَّةٍ مِن إيمان، وفي الحديث:

«إِنَّ لِلهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ؛ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً؛ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

رواه مسلم (2752).

ودخولُ العصاةِ إلى النارِ إنما هو مِن بابِ التهذيبِ والتصفيةِ والتنقيةِ مما فعَلوهُ في الدنيا، فإن رحمةَ اللهِ واسعةٌ مع خلقِهِ في الآخِرة، ويومَ القيامةِ تتَّسِعُ مسالِكُ الخروجِ مِن النارِ، وبعد خروجِهم مِن النارِ، ودخولِهم الجنَّةَ يَنسَوْنَ كلَّ ما كانوا فيه مِن العذابِ والبؤس، وكأنهم لم يدخُلوا النارَ، ولم يَمَسَّهُمُ العذابُ مِن قبلُ.

ثالثًا: مظاهِرُ رحمةِ اللهِ كثيرةٌ، وتجلِّياتُها واضحةٌ لأُولي الأبصار:

لا يَصِحُّ فهمُ صفةٍ مِن صفاتِ اللهِ مِن زاويةٍ واحدةٍ فقطْ، وبمَعزِلٍ عن باقي الصفاتِ الأخرى؛ فمِن كمالِ اللهِ سبحانه أن صفاتِهِ كلَّها في ترابُطٍ؛ فليست رحمتُهُ بمَعزِلٍ عن حكمتِهِ، أو عن باقي صفاتِه؛ فتركيزُ النظرِ في مشهدٍ واحدٍ فقطْ، وهو مشهدُ أهلِ النار، ومحاكَمةُ رحمةِ اللهِ إلى ذلك المشهدِ خلَلٌ عميقٌ في النظرِ إلى أفعالِ الله، وتدبيرِهِ للكون.

إذْ إن مظاهرَ رحمتِهِ عمَّت الوجودَ، وشَمِلَتْ خلقَهُ جميعًا، فأوجَدَهم سبحانه بعد العَدَمِ، ورزَقَهم وأعطاهمُ القدرةَ على اختيارِ أفعالِهم، وأرسَلَ إليهم الرسُلَ، وأنزَلَ لهمُ الكتُبَ، وأبان لهم سبيلَ النجاة، وحذَّرهم مِن الغَوايةِ والانحراف، ومنَحَهمُ العقلَ والفطرةَ التي تَقُودُهم إلى مرضاتِهِ وعبادتِه.

فالمستحضِرُ لكلِّ هذه التجلِّيات، يُدرِكُ أن رحمةَ اللهِ تعالى واسعةٌ، وأنها سبَقَت غضَبَهُ؛ فقد فعَلَ سبحانه كلَّ ما يؤدِّي إلى النجاةِ مِن العذاب، وفي الحديثِ عن النبيِّ ﷺ:

«كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي، دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي، فَقَدْ أَبَى»

رواه البخاري (7280).

رابعًا: قلَّةُ الفوزِ والنجاةِ في الحياةِ الدنيا واقعٌ محسوسٌ، وهو مُدرَكٌ مِن بابِ أَوْلى في الآخِرة:

الفوزُ والتفوُّقُ في الدنيا لا يُحسِنُهُ كلُّ أحدٍ؛ لِمَا يحتاجُهُ مِن الهمَّةِ العالية، وتركِ الكسَلِ والخمول، والمجاهَدةِ وإكراهِ النفسِ على غيرِ ما تَميلُ إليه؛ وهذا غيرُ مستنكَرٍ في الدنيا؛ فرجالُ الصفِّ الأوَّلِ في كلِّ مجالٍ قلَّةٌ، وهم نسبةٌ صغيرةٌ جدًّا إذا ما قُورِنوا بأقرانِهم في المجالِ نفسِه، فكذا الحالُ في الآخِرة: الناجُون برضوانِ اللهِ قلَّةٌ؛ لِمَا في ذلك مِن مجاهَدةِ الشيطانِ وفِتَنِه، والتمسُّكِ بحبلِ اللهِ العظيم، والاجتهادِ في طاعتِه، وامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نواهيه؛ وهذا لا يَقدِرُ عليه كلُّ أحدٍ، فضلًا عن تفاوُتِ أهلِ الجنَّةِ أنفُسِهم في النعيم.

فكثيرٌ مِن الناسِ فُتِنَ بالشهَواتِ المحرَّمةِ المتوعَّدِ عليها بالنار، ولم يستحِقَّ الجنَّةَ مِن هذه الأمَّةِ إلا القليلُ، وهم الذين امتثَلوا لِمَا كان عليه النبيُّ ^ وأصحابُهُ ظاهرًا وباطنًا، وسَلِموا مِن فتنةِ الشهَواتِ والشُّبُهات، وهؤلاءِ قليلٌ جِدًّا، لا سيَّما في الأزمانِ المتأخِّرة، ولعلَّ السببَ الأعظمَ هو اتِّباعُ الشهَوات؛ ذلك أن حُبَّ الشهَواتِ مغروسٌ في أعماقِ النفسِ الإنسانيَّة؛ قال تعالى:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}

[آل عمران: 14].

وهذا موضِعُ الاختبارِ في الدنيا، وكثيرٌ مِن الناسِ يريدُ الوصولَ إلى هذه الشهَواتِ بالطريقةِ التي تَهْواها نفسُه، ويُحِبُّها قلبُه، ولا يُراعي في ذلك شرعَ اللهِ تعالى.

وعليه: فليس السببُ في كثرةِ أهلِ النارِ هو عدمَ بلوغِ الحقِّ إلى البشَرِ على اختلافِ أزمانِهم وأمكنتِهم؛ فإن اللهَ لا يؤاخِذُ العبادَ إذا لم تبلُغْهم دعوتُهُ؛

{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}

[الإسراء: 15]

؛ ولذلك فإن اللهَ أرسَلَ في كلِّ أمَّةٍ نذيرًا؛

{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}

[فاطر: 24].

وإنما السببُ وراء ذلك يعودُ إلى قلَّةِ الذين استجابوا للرسُل، وكثرةِ الذين كفَروا بهم، وكثيرٌ مِن الذين استجابوا، لم يكن إيمانُهم خالصًا نقيًّا؛ قال تعالى:

{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}

[سبأ: 13].

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب:

هناك أمورٌ كثيرةٌ جِدًّا تَخْفى على الإنسان، وإذا عَلِمَ الإنسانُ كمالَ رحمةِ ربِّه وحكمتِهِ وعدلِهِ، لم يضُرَّهُ ألا يَعرِفَ الحكمةَ الجزئيَّة، ولا الجوابَ عما أشكَلَ على الناسِ منها؛ فالخالقُ سبحانه لا يُسْألُ عن قضائِهِ في خلقِه، وهو يَسْألُ الخَلْقَ عن عمَلِهم، ولا يعني ذلك أن قضاءَهُ سبحانه خالٍ مِن الحكمة، تعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، ولكننا قد نَعلَمُ الحكمةَ، وقد نَجهَلُها.