نص السؤال

يذكُرُ بعضُ العلماءِ المسلِمينَ: أن النسخَ في آياتِ القرآنِ يَصِلُ لأكثرَ مِن (500 آيةٍ)؛ وهذا يدُلُّ على عدمِ استقرارِ الأحكام

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

ما هو حجمُ النَّسْخِ في القرآنِ الكريم؟

الجواب التفصيلي

معنى «النَّسْخِ» يدورُ حولَ التغييرِ والنقلِ والتأثيرِ في الشيء، وهذا التغييرُ قد يكونُ جزئيًّا، وقد يكونُ كلِّيًّا.

وعليه: فإن الأمرَ ليس كما ورَدَ في السؤال، ويتَّضِحُ ما فيه مِن غَلَطٍ مِن خلالِ ما يلي:

أوَّلًا: وقوعُ النَّسْخِ في القرآنِ الكريمِ ثابتٌ عند جمهورِ العلماء:

وذلك بأدلَّةٍ شرعيَّةٍ؛ منها: قولُهُ تعالى:

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}

[النحل: 101]


وقولُهُ تعالى:

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: 106].

وقد أوصَلَ بعضُ العلماءِ عدَدَ الآياتِ المنسوخةِ في القرآنِ إلى عشرينَ آيةً، وهو كما نَرَى عدَدٌ قليلٌ جِدًّا، ليس كما ورَدَ في السؤال، ومع هذا: ففي كثيرٍ منها خلافٌ في كونِها منسوخةً أو لا؟

وقام بعضُ العلماءِ بتتبُّعِ الآياتِ التي يُمكِنُ أن يقالَ: «إنها منسوخةٌ»، فوجَّهها توجيهًا سديدًا، وبَقِيَ عنده قُرابةُ إحدى عَشْرةَ آيةً فقطْ، هي منسوخةُ الحُكْمِ؛ لتغيُّرِ الحكمِ اللاحقِ عن الحكمِ السابقِ بنصٍّ؛ وهي معروفةٌ عند أهلِ الاختصاصِ في علومِ القرآن.

ثانيًا: المعنى العامُّ للنسخِ عند الصحابة: هو: ما يَطرَأُ على النصِّ؛ مِن تقييدٍ، أو تخصيصٍ، أو بيانٍ، أو تخفيفٍ، أو تفصيلٍ، أو تدرُّجٍ في الأحكامِ الشرعيَّة، أو غيرِها:

وقد خلَطَ بعضُ الناسِ بين هذا «المعنى العامِّ»، وبين «المعنى الخاصِّ» للنسخِ عند المتأخِّرين، وهو: «رَفْعُ الحُكْمِ الشرعيِّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّرٍ عنه»، وخَلْطُهم هذا أدخَلَ في النسخِ ما ليس منه.

إن مرادَ عامَّةِ السلَفِ بالناسخِ والمنسوخِ: رَفْعُ الحكمِ بجملتِهِ تارَةً - وهو اصطلاحُ المتأخِّرين - ورَفْعُ دَلالةِ العامِّ والمطلَقِ والظاهرِ وغيرِها تارَةً؛ إما بتخصيصٍ، أو تقييدٍ، أو حَمْلِ مُطلَقٍ على مُقيَّدٍ، وتفسيرِهِ وتبيينِه؛ حتى إنهم يسمُّون الاستثناءَ والشرطَ والصفةَ: نسخًا؛ لتضمُّنِ ذلك رفعَ دَلالةِ الظاهرِ، وبيانِ المراد.

فالنسخُ عندهم، وفي لسانِهم، هو: بيانُ المرادِ بغيرِ ذلك اللفظِ، بل بأمرٍ خارجٍ عنه، ومَن تأمَّل كلامَهم، رأى مِن ذلك فيه ما لا يُحْصى، وزال عنه به إشكالاتٌ أوجَبَها حملُ كلامِهم على الاصطلاحِ الحادثِ المتأخِّر.

والأمثلةُ كثيرةٌ على الآياتِ التي ليس فيها نسخٌ بالمعنى الخاصِّ، ولكنَّهم عَدُّوها منه، أي: بالمعنى العامِّ، ونذكُرُ منها ما يلي:

1- ظَنَّ بعضُهم: أن النَّسْخَ وقَعَ بين قولِهِ تعالى:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}

[البقرة: 219]

وقولِهِ تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}

[المائدة: 90]

والصوابُ: أنه ليس في ذلك نَسْخٌ تامٌّ، وإنما هو تدرُّجٌ في التحريم.

2- ظَنُّوا أن قولَ اللهِ تعالى:

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

[التوبة: 29]

أنه قد نسَخَ قولَهُ تعالى:

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا}

[البقرة: 190]

والحقيقةُ: أنه لا نَسْخَ للحكمِ هناك؛ لأن الآيةَ الأُولى تتكلَّمُ عن مشروعيَّةِ إعلاءِ كلمةِ اللهِ تعالى لمن يَمنَعُ منها، أما آيةُ البقَرةِ، فتأمُرُنا بقتالِ مَن يقاتِلُنا، بشرطِ عدمِ الاعتداءِ حتى على الذي يقاتِلُنا.

3- ظَنُّوا كذلك: أن آيةَ السيفِ في قولِهِ تعالى:

{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}

[التوبة: 36]

أنها ناسخةٌ للآيةِ:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}

[الأحزاب: 45- 46]

وفي هذا تشويهٌ لصورةِ النبيِّ ﷺ، وهو مَن كان يتحلَّى بكلِّ مكارمِ الأخلاق:

وإنما آيةُ التوبةِ: أمَرتْ بالقتالِ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ تعالى لمن يَمنَعُ منها مِن كافَّةِ المعتدِين عليها، وبأن يكونَ القتالُ والمسلِمون كافَّةٌ مع بعضِهم البعضَ.

والآيةُ الثانيةُ: تبيِّنُ أنه حتى في دفاعِهِ عن كلمةِ اللهِ تعالى، فهو سراجٌ منيرٌ؛ ففي دينِهِ آدابُ الحَرْبِ والسِّلْم، وإن غُلِّبَ جانبُ السِّلْم؛ كما أوضَحَ القرآنُ في قولِهِ تعالى:

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

[الأنفال: 61]

وأما القولُ بأن المنسوخَ: خمسُ مِئَةِ آيةٍ مِن القرآن:

- فهذا إن كان يُقصَدُ به: وجودُ معنًى لآيةٍ تفسِّرُهُ آيةٌ أخرى، مع بقاءِ كلتا الآيتَيْنِ بلفظٍ صحيح، ومعنًى صحيحٍ -:

فهذا مقبولٌ، وليس فيه أيُّ مطعنٍ؛ فإن كلَّ كلامٍ تكونُ له آفاقٌ مِن المعنى، فلا يضُرُّ أن يقولَ القائلُ ما يبيِّنُهُ في موضعٍ آخَرَ.

- وأما إن كان يُقصَدُ به: أن هذه الآياتِ رُفِعَتْ تمامًا -:

فهذا القولُ يحتاجُ إلى إثباتٍ، ولا يثبُتُ.

فظهَرَ مما سبَقَ: أن سببَ الاختلافِ في عددِ آياتِ النسخِ: هو التعبيرُ عن المصطلَحاتِ بين الأئمَّة؛ حيثُ يقَعُ بعضُهم في الخَلْطِ بين «النسخِ بمعناهُ العامِّ» عند الصحابةِ الكرام، والشاملِ لكلِّ ما يَطرَأُ على ظاهرِ النصِّ؛ مِن تخصيصٍ، أو تقييدٍ، أو تخفيفٍ، أو تفصيلٍ، أو تدرُّجٍ، وبين «النسخِ بمعناهُ الخاصِّ» عند المتأخِّرينَ، الذي يعني: رَفْعَ الحُكْمِ الشرعيِّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّرٍ عنه؛ وهذا النوعُ قليلٌ في القرآن، كما لا يثبُتُ النسخُ إلا بدليل؛ كما اتفَقَ على ذلك علماءُ الأصول. ونعودُ فنؤكِّدُ أننا نُؤمِنُ بوقوعِ النسخِ في القرآنِ الكريم، ولكنْ في الحدودِ التي اتفَقَ عليها علماءُ الإسلام

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

وقوعُ «النَّسْخِ» في القرآنِ الكريمِ ثابتٌ عند جمهورِ العلماء:

ومعنى «النَّسْخِ» عند الصحابةِ ومتقدِّمي العلماءِ، هو «معناه العامُّ»، وهو: ما يَطرَأُ على النصِّ؛ مِن تقييدٍ، أو تخصيصٍ، أو بيانٍ، أو تدرُّجٍ، أو تخفيفٍ، أو تفصيلٍ، أو غيرِها؛ وعلى هذا فالنسخُ يكونُ كثيرًا في القرآن.

و«النَّسْخُ» بالمعنى الاصطلاحيِّ عند المتأخِّرينَ، هو «معناه الخاصُّ»، وهو بمعنى الرفعِ التامِّ (أي: رَفْعِ الحكمِ الشرعيِّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّرٍ عنه ...).

مع أن الآياتِ التي وقَعَ فيها «النسخُ» بمعناهُ الخاصِّ عند المتأخِّرين، قليلةٌ جِدًّا؛ وهذا خلافُ ما يزعُمُ هؤلاءِ المشكِّكون.

فبعضُ الناسِ (ومنهم هؤلاءِ المشكِّكون) لمَّا سَمِعَ أن هناك مئاتِ الآياتِ المنسوخةِ، ظنَّها بالمعنى الثاني (المعنى الخاصّ)، وهي بالمعنى الأوَّلِ (المعنى العامّ)؛ وهذا الخَلْطُ هو الذي أدخَلَ في النسخِ ما ليس منه؛ فظنوا أن المنسوخَ: خمسُ مِئَةِ آيةٍ مِن القرآن؛ وهو ظنٌّ خاطئٌ؛ ولذلك أمثلةٌ كثيرة.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

وقوعُ «النَّسْخِ» في القرآنِ الكريمِ ثابتٌ عند جمهورِ العلماء:

ومعنى «النَّسْخِ» عند الصحابةِ ومتقدِّمي العلماءِ، هو «معناه العامُّ»، وهو: ما يَطرَأُ على النصِّ؛ مِن تقييدٍ، أو تخصيصٍ، أو بيانٍ، أو تدرُّجٍ، أو تخفيفٍ، أو تفصيلٍ، أو غيرِها؛ وعلى هذا فالنسخُ يكونُ كثيرًا في القرآن.

و«النَّسْخُ» بالمعنى الاصطلاحيِّ عند المتأخِّرينَ، هو «معناه الخاصُّ»، وهو بمعنى الرفعِ التامِّ (أي: رَفْعِ الحكمِ الشرعيِّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّرٍ عنه ...).

مع أن الآياتِ التي وقَعَ فيها «النسخُ» بمعناهُ الخاصِّ عند المتأخِّرين، قليلةٌ جِدًّا؛ وهذا خلافُ ما يزعُمُ هؤلاءِ المشكِّكون.

فبعضُ الناسِ (ومنهم هؤلاءِ المشكِّكون) لمَّا سَمِعَ أن هناك مئاتِ الآياتِ المنسوخةِ، ظنَّها بالمعنى الثاني (المعنى الخاصّ)، وهي بالمعنى الأوَّلِ (المعنى العامّ)؛ وهذا الخَلْطُ هو الذي أدخَلَ في النسخِ ما ليس منه؛ فظنوا أن المنسوخَ: خمسُ مِئَةِ آيةٍ مِن القرآن؛ وهو ظنٌّ خاطئٌ؛ ولذلك أمثلةٌ كثيرة.

الجواب التفصيلي

معنى «النَّسْخِ» يدورُ حولَ التغييرِ والنقلِ والتأثيرِ في الشيء، وهذا التغييرُ قد يكونُ جزئيًّا، وقد يكونُ كلِّيًّا.

وعليه: فإن الأمرَ ليس كما ورَدَ في السؤال، ويتَّضِحُ ما فيه مِن غَلَطٍ مِن خلالِ ما يلي:

أوَّلًا: وقوعُ النَّسْخِ في القرآنِ الكريمِ ثابتٌ عند جمهورِ العلماء:

وذلك بأدلَّةٍ شرعيَّةٍ؛ منها: قولُهُ تعالى:

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}

[النحل: 101]


وقولُهُ تعالى:

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: 106].

وقد أوصَلَ بعضُ العلماءِ عدَدَ الآياتِ المنسوخةِ في القرآنِ إلى عشرينَ آيةً، وهو كما نَرَى عدَدٌ قليلٌ جِدًّا، ليس كما ورَدَ في السؤال، ومع هذا: ففي كثيرٍ منها خلافٌ في كونِها منسوخةً أو لا؟

وقام بعضُ العلماءِ بتتبُّعِ الآياتِ التي يُمكِنُ أن يقالَ: «إنها منسوخةٌ»، فوجَّهها توجيهًا سديدًا، وبَقِيَ عنده قُرابةُ إحدى عَشْرةَ آيةً فقطْ، هي منسوخةُ الحُكْمِ؛ لتغيُّرِ الحكمِ اللاحقِ عن الحكمِ السابقِ بنصٍّ؛ وهي معروفةٌ عند أهلِ الاختصاصِ في علومِ القرآن.

ثانيًا: المعنى العامُّ للنسخِ عند الصحابة: هو: ما يَطرَأُ على النصِّ؛ مِن تقييدٍ، أو تخصيصٍ، أو بيانٍ، أو تخفيفٍ، أو تفصيلٍ، أو تدرُّجٍ في الأحكامِ الشرعيَّة، أو غيرِها:

وقد خلَطَ بعضُ الناسِ بين هذا «المعنى العامِّ»، وبين «المعنى الخاصِّ» للنسخِ عند المتأخِّرين، وهو: «رَفْعُ الحُكْمِ الشرعيِّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّرٍ عنه»، وخَلْطُهم هذا أدخَلَ في النسخِ ما ليس منه.

إن مرادَ عامَّةِ السلَفِ بالناسخِ والمنسوخِ: رَفْعُ الحكمِ بجملتِهِ تارَةً - وهو اصطلاحُ المتأخِّرين - ورَفْعُ دَلالةِ العامِّ والمطلَقِ والظاهرِ وغيرِها تارَةً؛ إما بتخصيصٍ، أو تقييدٍ، أو حَمْلِ مُطلَقٍ على مُقيَّدٍ، وتفسيرِهِ وتبيينِه؛ حتى إنهم يسمُّون الاستثناءَ والشرطَ والصفةَ: نسخًا؛ لتضمُّنِ ذلك رفعَ دَلالةِ الظاهرِ، وبيانِ المراد.

فالنسخُ عندهم، وفي لسانِهم، هو: بيانُ المرادِ بغيرِ ذلك اللفظِ، بل بأمرٍ خارجٍ عنه، ومَن تأمَّل كلامَهم، رأى مِن ذلك فيه ما لا يُحْصى، وزال عنه به إشكالاتٌ أوجَبَها حملُ كلامِهم على الاصطلاحِ الحادثِ المتأخِّر.

والأمثلةُ كثيرةٌ على الآياتِ التي ليس فيها نسخٌ بالمعنى الخاصِّ، ولكنَّهم عَدُّوها منه، أي: بالمعنى العامِّ، ونذكُرُ منها ما يلي:

1- ظَنَّ بعضُهم: أن النَّسْخَ وقَعَ بين قولِهِ تعالى:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}

[البقرة: 219]

وقولِهِ تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}

[المائدة: 90]

والصوابُ: أنه ليس في ذلك نَسْخٌ تامٌّ، وإنما هو تدرُّجٌ في التحريم.

2- ظَنُّوا أن قولَ اللهِ تعالى:

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

[التوبة: 29]

أنه قد نسَخَ قولَهُ تعالى:

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا}

[البقرة: 190]

والحقيقةُ: أنه لا نَسْخَ للحكمِ هناك؛ لأن الآيةَ الأُولى تتكلَّمُ عن مشروعيَّةِ إعلاءِ كلمةِ اللهِ تعالى لمن يَمنَعُ منها، أما آيةُ البقَرةِ، فتأمُرُنا بقتالِ مَن يقاتِلُنا، بشرطِ عدمِ الاعتداءِ حتى على الذي يقاتِلُنا.

3- ظَنُّوا كذلك: أن آيةَ السيفِ في قولِهِ تعالى:

{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}

[التوبة: 36]

أنها ناسخةٌ للآيةِ:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}

[الأحزاب: 45- 46]

وفي هذا تشويهٌ لصورةِ النبيِّ ﷺ، وهو مَن كان يتحلَّى بكلِّ مكارمِ الأخلاق:

وإنما آيةُ التوبةِ: أمَرتْ بالقتالِ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ تعالى لمن يَمنَعُ منها مِن كافَّةِ المعتدِين عليها، وبأن يكونَ القتالُ والمسلِمون كافَّةٌ مع بعضِهم البعضَ.

والآيةُ الثانيةُ: تبيِّنُ أنه حتى في دفاعِهِ عن كلمةِ اللهِ تعالى، فهو سراجٌ منيرٌ؛ ففي دينِهِ آدابُ الحَرْبِ والسِّلْم، وإن غُلِّبَ جانبُ السِّلْم؛ كما أوضَحَ القرآنُ في قولِهِ تعالى:

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

[الأنفال: 61]

وأما القولُ بأن المنسوخَ: خمسُ مِئَةِ آيةٍ مِن القرآن:

- فهذا إن كان يُقصَدُ به: وجودُ معنًى لآيةٍ تفسِّرُهُ آيةٌ أخرى، مع بقاءِ كلتا الآيتَيْنِ بلفظٍ صحيح، ومعنًى صحيحٍ -:

فهذا مقبولٌ، وليس فيه أيُّ مطعنٍ؛ فإن كلَّ كلامٍ تكونُ له آفاقٌ مِن المعنى، فلا يضُرُّ أن يقولَ القائلُ ما يبيِّنُهُ في موضعٍ آخَرَ.

- وأما إن كان يُقصَدُ به: أن هذه الآياتِ رُفِعَتْ تمامًا -:

فهذا القولُ يحتاجُ إلى إثباتٍ، ولا يثبُتُ.

فظهَرَ مما سبَقَ: أن سببَ الاختلافِ في عددِ آياتِ النسخِ: هو التعبيرُ عن المصطلَحاتِ بين الأئمَّة؛ حيثُ يقَعُ بعضُهم في الخَلْطِ بين «النسخِ بمعناهُ العامِّ» عند الصحابةِ الكرام، والشاملِ لكلِّ ما يَطرَأُ على ظاهرِ النصِّ؛ مِن تخصيصٍ، أو تقييدٍ، أو تخفيفٍ، أو تفصيلٍ، أو تدرُّجٍ، وبين «النسخِ بمعناهُ الخاصِّ» عند المتأخِّرينَ، الذي يعني: رَفْعَ الحُكْمِ الشرعيِّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّرٍ عنه؛ وهذا النوعُ قليلٌ في القرآن، كما لا يثبُتُ النسخُ إلا بدليل؛ كما اتفَقَ على ذلك علماءُ الأصول. ونعودُ فنؤكِّدُ أننا نُؤمِنُ بوقوعِ النسخِ في القرآنِ الكريم، ولكنْ في الحدودِ التي اتفَقَ عليها علماءُ الإسلام