نص السؤال

وجودُ التشريعِ في السُّوَرِ المدنيَّةِ، وعدمُ وجودِهِ في السُّوَرِ المكِّيَّةِ -: دليلٌ على تأثُّرِ القرآنِ بالحياةِ في المدينةِ، وطبيعةِ الناسِ فيها، ووجودِ اليهود.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

هل تأثَّر أسلوبُ القرآنِ بمجاوَرةِ النبيِّ ^ لليهودِ في المدينة؟

الجواب التفصيلي

دعوى تأثُّرِ القرآنِ وأحكامِهِ بمجاوَرةِ النبيِّ ^ لليهودِ في المدينةِ، دعوى ضعيفةٌ؛ ويتبيَّنُ ذلك مِن خلالِ ما يلي:

الوجهُ الأوَّلُ: أن الأدلَّةَ الصحيحةَ الصريحةَ على صدقِ القرآنِ الكريمِ وكمالِهِ، وكونِهِ مِن عندِ اللهِ تعالى -: أكثرُ مِن أن تُحصَرَ:

ولهذا فالعاقلُ لا يشكِّكُ في هذه الأصولِ بشبهةٍ تحتاجُ لإثباتِ وقوعٍ أوَّلًا، ثم تحتاجُ لإثباتِ كونِها مؤثِّرةً ثانيًا.

فالقرآنُ الكريمُ مليءٌ بمخالَفةِ اليهودِ، في اللغةِ والأسلوب، والأصولِ والفروع، ثم لو شابَههُم في شيءٍ، فأين لازِمُ أن يكونَ متأثِّرًا بهم؟! ثم أين أدلَّةُ صحَّةِ القرآنِ الكريم، ومِن أوَّلِها التحدِّي القائمُ منذُ مئاتِ السِّنِينَ على الإتيانِ بمِثلِهِ، ولم يستطِعِ العربُ واليهودُ والبشَرُ مجتمِعِينَ على ذلك؟!

الوجهُ الثاني: أن هذا السؤالَ مبنيٌّ على مقدِّمةٍ خاطئةٍ في أن مكَّةَ لم يكن بها تشريعٌ، وهذا السؤالُ خطأٌ في نفسِهِ؛ فالتشريعُ في السُّوَرِ المكِّيَّةِ واردٌ كثيرًا:

وإن مَن يقولُ بخُلُوِّ القسمِ المكِّيِّ مِن التشريعاتِ بالجملةِ قبل الهجرة، وكلُّ مَن يَبحَثُ عن الحقيقةِ في ذلك، عليهم قراءةُ قولِهِ تعالى:

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}

[الأنعام: ١٥١].

فهذه الآيةُ - مع ثلاثِ آياتٍ بعدها - جمَعَتِ المقاصدَ الخمسةَ للدين، وهي: حفظُ الدِّين، والنَّفْسِ، والعقلِ، والنسلِ، والمالِ، وكذلك قولُهُ تعالى:

{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}

[النجم: ٣٢].

ولا يضُرُّ في ذلك أن آياتِ بيانِ التوحيدِ في القسمِ المكِّيِّ أكثرُ منها في القسمِ المدَنيِّ، مع استمرارِ بيانِ التوحيدِ في المدينةِ أيضًا، وكذلك لا يضُرُّ كثرةُ الأحكامِ العمليَّةِ في المدينةِ، مع وجودِها في مكَّة.

الوجهُ الثالثُ: أن الحكمةَ تقتضي التدرُّجَ مِن الأهمِّ إلى المُهِمِّ:

وهذا عَيْنُ ما انتهَجَهُ القرآنُ الكريمُ في بدايةِ الدعوةِ في مكَّةَ؛ فكان لإصلاحِ القلوبِ بغَرْسِ عقيدةِ التوحيدِ فيها، وتطهيرِها مِن رِجْسِ الوثنيَّةِ: السبقُ والأَوْلويَّةُ في منهجِ القرآنِ المنزَّلِ مِن ربِّ العالَمين، ثم جاءت بعد ذلك مرحلةُ تطهيرِهم مِن أراذلِ الأخلاق، وتزيينِهم بمَكارِمِها، وبعد هجرتِهم إلى المدينةِ، حامِلين مشاعلَ عقيدةِ التوحيدِ؛ لبناءِ مجتمَعٍ ترتكِزُ أساساتُهُ على مكارمِ الأخلاق، جاء دَوْرُ بيانِ أحكامِ وتشريعاتِ الإسلام؛ لتكونَ بذلك مِسْكَ الختام.

وقد أشارت إلى تلك الحِكْمةِ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها؛ فقد أخرَجَ الإمامُ البخاريُّ في «صحيحِهِ» (4993)؛ أنها قالت:

«إِنَّمَا نَزَلَ [أَيْ: مِنَ القُرْآنِ] أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ: سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ، نَزَلَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَى أَبَدًا».

وذلك التدرُّجُ ما هو إلا دليلٌ قويٌّ على أن اللهَ هو مَن أنزَلَ هذا القرآنَ على نبيِّهِ ^؛ لأن ما مِن بشَرٍ يستطيعُ وَضْعَ تلك السياسةِ الحكيمةِ لإصلاحِ النفوسِ، مهما كان يمتلِكُ مِن مهاراتٍ أو قُدُراتٍ.

الوجهُ الرابعُ: لقد تسلَّل الخلَلُ إلى عقائدِ أهلِ الكتاب؛ فأدَّى بهم إلى الخطأِ في التشريعِ، وأحكامِ الحلالِ والحرام؛ فجاء القرآنُ لإصلاحِ تلك العقائدِ الباطلة، والأخطاءِ التشريعيَّةِ الفادحة:

ويتَّضِحُ ذلك بشكلٍ جَلِيٍّ في مثلِ قولِهِ تعالى:

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}

[المائدة: ٤٥]،

وقولِهِ عزَّ وجلَّ:

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}

[آل عمران: ٦٤]

وقولِهِ سبحانه:

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ}

[آل عمران: ٦٥]

فليس مِن المَنطِقيِّ، أو المعقولِ: أن صاحبَ الحقِّ والصوابِ يتأثَّرُ أو يأخُذُ ممَّن هو غارقٌ في أوحالِ الخطأِ والضلال.

لقد كان القرآنُ الكريمُ أساسًا للحكمةِ الرشيدةِ لرسولِ اللهِ ^ في سياستِهِ للأمَّة؛ فكان ذلك سببًا لتفصيلِ التشريعِ في المدينة؛ إذْ كان لا بدَّ مِن التمهيدِ قبل إعطاءِ التوجيهات، والتدرُّجُ لا ينتُجُ عنه سوى التوفيق؛ كما أن تقديمَ الأهمِّ على المُهِمِّ هو مِن مقتضى الحكمة. الوجهُ الخامسُ: لقد اختلَطَ الكثيرُ مِن التجَّارِ وفصحاءِ العربِ بأهلِ الكتابِ في الشامِ، على نحوٍ وثيقٍ على مدى سِنِينَ كثيرةٍ، فلو كان صحيحًا ما جاء في السؤال، لتأثَّر بهم مَن حولَهم مِن عرَبِ أهلِ المدينة، وامتَدَّ تأثيرُهم إلى مَن حولَهم مِن أهلِ مكَّةَ وما حولَها، ولكان مَن تأثَّر بهم أجدَرَ بحملِ الرسالةِ، واستحقاقِ شرَفِ النبوَّةِ، قبل محمَّدٍ ^؛ وهذا ما لم يحدُثْ، ولعلَّ مِن أبرزِ الأدلَّةِ على ذلك: أن القرآنَ تحدَّى العالَمين - ليس المكِّيِّين والمدنيِّين فحَسْبُ - فلماذا لم يستطيعوا أن يُجارُوه؛ ولو بسورةٍ واحدة؟!

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

هذا السؤالُ خطأٌ في نفسِهِ؛ فالتشريعُ موجودٌ في مكَّةَ أيضًا، ولا يضُرُّ في ذلك أن آياتِ بيانِ التوحيدِ في القسمِ المكِّيِّ أكثرُ منها في القسمِ المدَنيِّ، مع استمرارِ بيانِ التوحيدِ في المدينةِ أيضًا، وكذلك لا يضُرُّ كثرةُ الأحكامِ العمليَّةِ التشريعيَّةِ في المدينةِ، مع وجودِها في مكَّة؛ وهذا واضحٌ بتتبُّعِ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ في مكَّةَ والمدينة.

والقرآنُ الكريمُ جاء نزولُهُ بما يناسِبُ الحكمةَ، وفرَّقه اللهُ تعالى لِيُقرَأَ على مُكْثٍ، وفي ذلك حِكَمٌ يَظهَرُ لنا بعضُها، وحكمةُ اللهِ تعالى أعظمُ:

فالانتقالُ مِن العقائدِ والأصولِ في المرحلةِ المكِّيَّةِ إلى الفروعِ والأحكامِ الكثيرةِ في المدينةِ النبويَّةِ -: هو الأقربُ للتسلسُلِ الذي يُدرِكُهُ العقل.

وقلَّةُ التشريعاتِ في القسمِ المكِّيِّ مِن القرآنِ مناسِبةٌ للاهتمامِ ابتداءً بترسيخِ العقائدِ والأصول؛ كمُنطلَقٍ لبناءِ المجتمَعِ، ووضعِ أنظِمَتِه، ومع ذلك لم تَخْلُ مِن التشريعاتِ العظيمةِ الحكيمة.

كما أن الأدلَّةَ الصحيحةَ الصريحةَ على صدقِ القرآنِ الكريمِ وكمالِهِ، وكونِهِ مِن عندِ اللهِ تعالى -: أكثرُ مِن أن تُحصَرَ؛ فالعاقلُ لا يشكِّكُ في هذه الأصولِ بشبهةٍ تحتاجُ لإثباتِ وقوعٍ أوَّلًا، ثم تحتاجُ لإثباتِ كونِها مؤثِّرةً ثانيًا. فالقرآنُ الكريمُ مليءٌ بمخالَفةِ اليهودِ، في اللغةِ والأسلوب، والأصولِ والفروع، ومخالَفةُ القرآنِ لأحكامِ أهلِ الكتابِ المحرَّفةِ في المدينةِ، واضحةٌ؛ مما يُثبِتُ عدمَ تأثُّرِ أحكامِهِ بمعارِفِهم، كما أن اليهودَ والنصارى لم تكن أخبارُهم منقطِعةً عن المدينة، كما أن أهلَ مكَّةَ لم يكونوا منقطِعين عن السياسةِ المدَنيَّةِ بحسَبِ زمانِهم.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

هذا السؤالُ خطأٌ في نفسِهِ؛ فالتشريعُ موجودٌ في مكَّةَ أيضًا، ولا يضُرُّ في ذلك أن آياتِ بيانِ التوحيدِ في القسمِ المكِّيِّ أكثرُ منها في القسمِ المدَنيِّ، مع استمرارِ بيانِ التوحيدِ في المدينةِ أيضًا، وكذلك لا يضُرُّ كثرةُ الأحكامِ العمليَّةِ التشريعيَّةِ في المدينةِ، مع وجودِها في مكَّة؛ وهذا واضحٌ بتتبُّعِ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ في مكَّةَ والمدينة.

والقرآنُ الكريمُ جاء نزولُهُ بما يناسِبُ الحكمةَ، وفرَّقه اللهُ تعالى لِيُقرَأَ على مُكْثٍ، وفي ذلك حِكَمٌ يَظهَرُ لنا بعضُها، وحكمةُ اللهِ تعالى أعظمُ:

فالانتقالُ مِن العقائدِ والأصولِ في المرحلةِ المكِّيَّةِ إلى الفروعِ والأحكامِ الكثيرةِ في المدينةِ النبويَّةِ -: هو الأقربُ للتسلسُلِ الذي يُدرِكُهُ العقل.

وقلَّةُ التشريعاتِ في القسمِ المكِّيِّ مِن القرآنِ مناسِبةٌ للاهتمامِ ابتداءً بترسيخِ العقائدِ والأصول؛ كمُنطلَقٍ لبناءِ المجتمَعِ، ووضعِ أنظِمَتِه، ومع ذلك لم تَخْلُ مِن التشريعاتِ العظيمةِ الحكيمة.

كما أن الأدلَّةَ الصحيحةَ الصريحةَ على صدقِ القرآنِ الكريمِ وكمالِهِ، وكونِهِ مِن عندِ اللهِ تعالى -: أكثرُ مِن أن تُحصَرَ؛ فالعاقلُ لا يشكِّكُ في هذه الأصولِ بشبهةٍ تحتاجُ لإثباتِ وقوعٍ أوَّلًا، ثم تحتاجُ لإثباتِ كونِها مؤثِّرةً ثانيًا. فالقرآنُ الكريمُ مليءٌ بمخالَفةِ اليهودِ، في اللغةِ والأسلوب، والأصولِ والفروع، ومخالَفةُ القرآنِ لأحكامِ أهلِ الكتابِ المحرَّفةِ في المدينةِ، واضحةٌ؛ مما يُثبِتُ عدمَ تأثُّرِ أحكامِهِ بمعارِفِهم، كما أن اليهودَ والنصارى لم تكن أخبارُهم منقطِعةً عن المدينة، كما أن أهلَ مكَّةَ لم يكونوا منقطِعين عن السياسةِ المدَنيَّةِ بحسَبِ زمانِهم.

الجواب التفصيلي

دعوى تأثُّرِ القرآنِ وأحكامِهِ بمجاوَرةِ النبيِّ ^ لليهودِ في المدينةِ، دعوى ضعيفةٌ؛ ويتبيَّنُ ذلك مِن خلالِ ما يلي:

الوجهُ الأوَّلُ: أن الأدلَّةَ الصحيحةَ الصريحةَ على صدقِ القرآنِ الكريمِ وكمالِهِ، وكونِهِ مِن عندِ اللهِ تعالى -: أكثرُ مِن أن تُحصَرَ:

ولهذا فالعاقلُ لا يشكِّكُ في هذه الأصولِ بشبهةٍ تحتاجُ لإثباتِ وقوعٍ أوَّلًا، ثم تحتاجُ لإثباتِ كونِها مؤثِّرةً ثانيًا.

فالقرآنُ الكريمُ مليءٌ بمخالَفةِ اليهودِ، في اللغةِ والأسلوب، والأصولِ والفروع، ثم لو شابَههُم في شيءٍ، فأين لازِمُ أن يكونَ متأثِّرًا بهم؟! ثم أين أدلَّةُ صحَّةِ القرآنِ الكريم، ومِن أوَّلِها التحدِّي القائمُ منذُ مئاتِ السِّنِينَ على الإتيانِ بمِثلِهِ، ولم يستطِعِ العربُ واليهودُ والبشَرُ مجتمِعِينَ على ذلك؟!

الوجهُ الثاني: أن هذا السؤالَ مبنيٌّ على مقدِّمةٍ خاطئةٍ في أن مكَّةَ لم يكن بها تشريعٌ، وهذا السؤالُ خطأٌ في نفسِهِ؛ فالتشريعُ في السُّوَرِ المكِّيَّةِ واردٌ كثيرًا:

وإن مَن يقولُ بخُلُوِّ القسمِ المكِّيِّ مِن التشريعاتِ بالجملةِ قبل الهجرة، وكلُّ مَن يَبحَثُ عن الحقيقةِ في ذلك، عليهم قراءةُ قولِهِ تعالى:

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}

[الأنعام: ١٥١].

فهذه الآيةُ - مع ثلاثِ آياتٍ بعدها - جمَعَتِ المقاصدَ الخمسةَ للدين، وهي: حفظُ الدِّين، والنَّفْسِ، والعقلِ، والنسلِ، والمالِ، وكذلك قولُهُ تعالى:

{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}

[النجم: ٣٢].

ولا يضُرُّ في ذلك أن آياتِ بيانِ التوحيدِ في القسمِ المكِّيِّ أكثرُ منها في القسمِ المدَنيِّ، مع استمرارِ بيانِ التوحيدِ في المدينةِ أيضًا، وكذلك لا يضُرُّ كثرةُ الأحكامِ العمليَّةِ في المدينةِ، مع وجودِها في مكَّة.

الوجهُ الثالثُ: أن الحكمةَ تقتضي التدرُّجَ مِن الأهمِّ إلى المُهِمِّ:

وهذا عَيْنُ ما انتهَجَهُ القرآنُ الكريمُ في بدايةِ الدعوةِ في مكَّةَ؛ فكان لإصلاحِ القلوبِ بغَرْسِ عقيدةِ التوحيدِ فيها، وتطهيرِها مِن رِجْسِ الوثنيَّةِ: السبقُ والأَوْلويَّةُ في منهجِ القرآنِ المنزَّلِ مِن ربِّ العالَمين، ثم جاءت بعد ذلك مرحلةُ تطهيرِهم مِن أراذلِ الأخلاق، وتزيينِهم بمَكارِمِها، وبعد هجرتِهم إلى المدينةِ، حامِلين مشاعلَ عقيدةِ التوحيدِ؛ لبناءِ مجتمَعٍ ترتكِزُ أساساتُهُ على مكارمِ الأخلاق، جاء دَوْرُ بيانِ أحكامِ وتشريعاتِ الإسلام؛ لتكونَ بذلك مِسْكَ الختام.

وقد أشارت إلى تلك الحِكْمةِ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها؛ فقد أخرَجَ الإمامُ البخاريُّ في «صحيحِهِ» (4993)؛ أنها قالت:

«إِنَّمَا نَزَلَ [أَيْ: مِنَ القُرْآنِ] أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ: سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ، نَزَلَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَى أَبَدًا».

وذلك التدرُّجُ ما هو إلا دليلٌ قويٌّ على أن اللهَ هو مَن أنزَلَ هذا القرآنَ على نبيِّهِ ^؛ لأن ما مِن بشَرٍ يستطيعُ وَضْعَ تلك السياسةِ الحكيمةِ لإصلاحِ النفوسِ، مهما كان يمتلِكُ مِن مهاراتٍ أو قُدُراتٍ.

الوجهُ الرابعُ: لقد تسلَّل الخلَلُ إلى عقائدِ أهلِ الكتاب؛ فأدَّى بهم إلى الخطأِ في التشريعِ، وأحكامِ الحلالِ والحرام؛ فجاء القرآنُ لإصلاحِ تلك العقائدِ الباطلة، والأخطاءِ التشريعيَّةِ الفادحة:

ويتَّضِحُ ذلك بشكلٍ جَلِيٍّ في مثلِ قولِهِ تعالى:

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}

[المائدة: ٤٥]،

وقولِهِ عزَّ وجلَّ:

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}

[آل عمران: ٦٤]

وقولِهِ سبحانه:

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ}

[آل عمران: ٦٥]

فليس مِن المَنطِقيِّ، أو المعقولِ: أن صاحبَ الحقِّ والصوابِ يتأثَّرُ أو يأخُذُ ممَّن هو غارقٌ في أوحالِ الخطأِ والضلال.

لقد كان القرآنُ الكريمُ أساسًا للحكمةِ الرشيدةِ لرسولِ اللهِ ^ في سياستِهِ للأمَّة؛ فكان ذلك سببًا لتفصيلِ التشريعِ في المدينة؛ إذْ كان لا بدَّ مِن التمهيدِ قبل إعطاءِ التوجيهات، والتدرُّجُ لا ينتُجُ عنه سوى التوفيق؛ كما أن تقديمَ الأهمِّ على المُهِمِّ هو مِن مقتضى الحكمة. الوجهُ الخامسُ: لقد اختلَطَ الكثيرُ مِن التجَّارِ وفصحاءِ العربِ بأهلِ الكتابِ في الشامِ، على نحوٍ وثيقٍ على مدى سِنِينَ كثيرةٍ، فلو كان صحيحًا ما جاء في السؤال، لتأثَّر بهم مَن حولَهم مِن عرَبِ أهلِ المدينة، وامتَدَّ تأثيرُهم إلى مَن حولَهم مِن أهلِ مكَّةَ وما حولَها، ولكان مَن تأثَّر بهم أجدَرَ بحملِ الرسالةِ، واستحقاقِ شرَفِ النبوَّةِ، قبل محمَّدٍ ^؛ وهذا ما لم يحدُثْ، ولعلَّ مِن أبرزِ الأدلَّةِ على ذلك: أن القرآنَ تحدَّى العالَمين - ليس المكِّيِّين والمدنيِّين فحَسْبُ - فلماذا لم يستطيعوا أن يُجارُوه؛ ولو بسورةٍ واحدة؟!