نص السؤال
هل يَصِحُّ القولُ بأن ما في القرآنِ مِن علومٍ ومعارفَ ما هي إلا آثارٌ لمواهبِ بعضِ النابِغين مِن الناس، وهذه المواهبُ وآثارُها وُجِدَتْ، ويُمكِنُ أن تُوجَدَ في كلِّ أُمَّة؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
هل يُمكِنُ للنابِغين والموهوبين الإتيانُ بمِثلِ ما في القرآنِ مِن علومٍ ومعارفَ؟
الجواب التفصيلي
إن علومَ القرآنِ المعجِزةَ في سائرِ المجالاتِ لَتُثبِتُ لكلِّ عاقلٍ أن هذا القرآنَ لا يُمكِنُ أن يكونَ مِن عندِ بشَرٍ، مهما كَثُروا، ومهما كان ذكاؤُهم، ومهما وصَلَتْ إليه علومُهم، ومِن المستحيلِ الإتيانُ بمِثلِ أسلوبِ القرآنِ وطريقتِهِ، فضلًا عن علومِهِ ومعارفِه.
والدعوى الموجودةُ في السؤالِ يَكْفي في ردِّها الوجهان التاليان:
الوجهُ الأوَّل: أن بيِّناتِ القرآنِ الكريمِ هي مِن القوَّةِ والتعدُّدِ والكثرةِ والظهورِ والاطِّرادِ؛ بحيثُ لا تُشبِهُها أيَّةُ قدرةٍ بشَريَّةٍ، ولا تقارِبُها:
فلا يُمكِنُ القولُ: إن المعجِزاتِ العلميَّةَ والمعرفيَّةَ الواردةَ في القرآنِ الكريمِ، تُشبِهُ - بأيِّ وجهٍ مِن الوجوهِ - ما يُبدِعُهُ الموهوبون مِن الناس؛ إذْ لا يُمكِنُ أبدًا التوصُّلُ إلى أشباهٍ لها في عالَمِنا المعروف، وليس لتلك المعجِزاتِ مِن وسائلَ ولا عواملَ يُمكِنُ للبشَرِ اتِّخاذُها واستعمالُها لصنعِ ما يناظِرُها في الإعجازِ الخارقِ للحدودِ البشَريَّة.
فمِن أجلِ أن يُبرِزَ أصحابُ المواهبِ والنبوغِ قُدْرتَهم على ابتكارِ معارفَ وعلومٍ جديدةٍ، لا بدَّ لهم مِن وجودِ أُسُسٍ، وقواعدَ سابقةٍ، كانت نِتاجَ أُناسٍ سابِقين؛ فهي عبارةٌ عن عمَلٍ تراكُميٍّ، جاء نتيجةَ تَجارِبَ وخِبْراتٍ متراكِمةٍ، بالإضافةِ إلى احتمالِ وجودِ ما يناظِرُها عبرَ مرورِ الزمن، وتغيُّرِ الأماكن.
وهذا ما لا نَجِدُهُ في معجِزاتِ القرآنِ العِلميَّةِ والمعرفيَّة، التي مِن أهمِّ خصائصِها: أنها خارجةٌ عن حدودِ البشَرِ جميعًا.
الوجهُ الثاني: اشتمَلَ القرآنُ على علومٍ ومعارفَ تَهْدي البشَرَ إلى طريقِ الحقِّ والصواب، والسعادةِ في جميعِ شؤونِهم في حياتِهم الدنيا والآخرة، وتجنِّبُهم الشرَّ بحذافيرِه، في كلِّ زمانٍ ومكان:
وقد بلَغَتْ هذه العلومُ مِن دقَّةِ المعلوماتِ، وصحَّةِ الأخبارِ، ونبالةِ القصدِ، ونصاعةِ الحُجَّةِ، وحُسْنِ الأَثَرِ، وعمومِ النفعِ -: مَبلَغًا يستحيلُ على محمَّدٍ ^ - وهو رجُلٌ أُمِّيٌّ نشأ بين أُمِّيِّين - أن يأتِيَ بها مِن تِلْقاءِ نفسِه، بل يستحيلُ على أهلِ الأرضِ جميعًا مِن علماءَ، وأُدباءَ وفلاسفةٍ، وأخلاقيِّينَ: أن يأتوا بمِثلِها مِن تِلْقاءِ أنفُسِهم ولو تظاهَرُوا على ذلك.
فالعلومُ التي في القرآنِ تدُلُّ كلَّ عاقلٍ ومُنصِفٍ على أنه مِن عندِ الله، ولا يُمكِنُ أن تكونَ مِن عندِ غيرِه.
ونُجمِلُ في نُبْذةٍ مختصَرةٍ ما جاء في القرآنِ الكريم، ثم نَضرِبُ لذلك أمثالًا:
لو ذهَبْنا نعدِّدُ حديثَ القرآنِ الكريمِ عمَّا في الكونِ؛ سواءٌ عن دقَّةِ وصفِهِ وجمالِ بيانِه، أو شمولِهِ وثراءِ الاستدلالِ به على أمورٍ أخرى، أو عن علومٍ كانت محجوبةً عن أكثرِ البشَرِ آنَذَاكَ، ثم عرَفُوها -: لاحتَجْنا لمئاتِ الصفَحات:
فقد تحدَّث القرآنُ عن النجومِ والكواكبِ، والمشارقِ والمغاربِ، والقمَرِ المنيرِ والشمسِ المضيئةِ، ومنازلِ القمَرِ، وأصلِ الكونِ والنجوم.
كما تحدَّث القرآنُ عن السحابِ والمطَرِ وتشكُّلِ الغيومِ، والرَّعْدِ والبَرْقِ، وآليَّةِ تشكُّلِ البَرَد.
وتناوَلَ كذلك أشياءَ هي اليومَ مِن عِلمِ البِيئةِ، والتوازُنِ البيئيِّ والنباتيِّ على الأرضِ، وتحدَّث عن مراحلِ تشكُّلِ النباتِ، واهتزازِ الأرضِ بعد اختلاطِ ترابِها بالماء.
وتحدَّث القرآنُ عن البَرزَخِ بين البحرَيْنِ، وعن البراكينِ في أعماقِ المحيطات.
وتحدَّث عن أشياءَ تُصنَّفُ اليومَ في علمِ الذرَّة، أو علمِ الهندسةِ الوراثيَّةِ، أو علمِ الأجنَّة.
وتناوَلَ القرآنُ الكثيرَ مِن الحقائقِ العلميَّةِ في علومِ الطبِّ والفضاءِ، والجبالِ والبحارِ، وعلمِ الغذاءِ، والهندسةِ الزراعيَّةِ، والتوازُنِ العَدَديِّ.
كما تحدَّث عن الكثيرِ مِن الحقائقِ الغيبيَّةِ والتشريعيَّة، وتحدَّث عن علمِ الاقتصادِ، وعلمِ النَّفْسِ والتربية.
ونبَّأنا القرآنُ عن السابِقين، وعن المستقبَلِ، وتحدَّث عن يومِ القيامةِ بالتفصيلِ وكأننا نراهُ أمامَنا.
وتحدَّث عن أصحابِ الجنَّةِ وأصحابِ النار.
وتحدَّث عن صفاتِ اللهِ تعالى وقُدرتِهِ، وعِلمِهِ، ورحمتِهِ، وحكمتِه.
وجاء القرآنُ بحقائقَ لا يُمكِنُ إحصاؤُها في كلِّ المجالاتِ، وفي كلِّ ما يتعلَّقُ بالدنيا والآخِرة.
كلُّ هذه الحقائقِ حدَّثنا عنها القرآنُ الكريمُ بأحسَنِ بيانٍ، ولا يُمكِنُ لبشَرٍ أن يُثبِتَ تناقُضًا أو خطأً واحدًا فيها، بل تحدَّى أن يأتيَ بمثلِ بيانِهِ أحدٌ؛ فمَن يقولُ ذلك: أهو بشَرٌ، أم هو رَبُّ البشَرِ جميعًا؟!
ونَضرِبُ ثلاثةَ أمثلةٍ مما احتوى عليه القرآنُ مِن العلوم:
1- إخبارُهُ بالغيبِ الماضي والحاضرِ والمستقبَل:
أ- فمِن إخبارِهِ بالغيبِ الماضي: «قصَّةُ هامَانَ»:
وقد ورَدَ ذكرُ «هامَانَ» سِتَّ مرَّاتٍ في «القرآنِ الكريمِ»؛ كما ورَدَ اسمُهُ متَّصِلًا باسمِ فِرْعَوْنَ؛ كشخصٍ مِن المقرَّبين إليه، ويُسنِدُ فِرْعَوْنُ إليه أعمالَ البناءِ.
بينما لم يَرِدْ ذكرٌ لـ «هامَانَ» في «التوراةِ»، ولم يَرِدْ ذكرُهُ في أيٍّ مِن المقاطعِ «الرِّواياتِ» التي تَحْكي حياةَ نبيِّ اللهِ موسى عليه السلامُ، لكنْ ورَدَ اسمُ «هامَانَ» في «أحدِ كُتُبِ العهدِ القديمِ» على أن «هامَانَ»: شخصٌ مساعِدٌ لمَلِكِ بابِلَ، وبابِلُ في العراقِ، وأنه أوقَعَ الكثيرَ مِن الضرَرِ بالإسرائيليِّين، ولكنَّ هذه الأحداثَ كانت بعد نبيِّ اللهِ موسى بمُدَّةٍ طويلةٍ، تبلُغُ: (1100 عامٍ).
وجاءت الكشوفُ الحديثةُ في علمِ الآثارِ لِتُظهِرَ صدقَ ما جاء في القرآنِ الكريمِ، وبُطْلانَ تلك الدَّعاوى المزعومةِ؛ وذلك بعد أن حُلَّتْ رموزُ وحروفُ «الكتابةِ الهِيرُوغْلِيفيَّةِ المصريَّةِ القديمةِ»، التي ورَدَ فيها ذِكرُ شخصيَّةِ «هامَانَ»، وطبيعةِ عمَلِه.
وتُوجَدُ الإشارةُ إلى هذا الاسمِ في نُصُبٍ في مُتحَفِ «هُوفَ» في «فِييِنَّا»، كما ظهَرَ في كتابٍ بعنوانِ: «in the new Kingdom people) (في شعبِ المملكةِ الجديدة)، الذي تَمَّ إعدادُهُ استنادًا إلى مجموعةٍ مِن النقوش؛ كما ظهَرتْ في هذه النقوشِ وظيفةُ وطبيعةُ عمَلِ «هامَانَ»، وهو أنه كان: «رئيسَ عُمَّالِ الحجارة»، وورَدَ الاسمُ مذكَّرًا مِن المملكةِ الجديدة، وتُرجِمَتِ المِهْنةُ إلى اللغةِ الألمانيَّةِ، بمعنى رئيسِ أو مراقِبِ العُمَّالِ في مقالعِ الحَجَر.
وهذا كلُّه يُثبِتُ حقيقةَ ما جاء في القرآنِ مِن أن «هامَانَ»: كان في مِصْرَ، وأنه كان مسؤولًا عن أعمالِ البناء.
وهذه المعلوماتُ لم تكن متوفِّرةً في عهدِ نبوَّةِ محمَّدٍ ^؛ لأن «الكتابةَ الهِيرُوغْلِيفيَّةَ» قد تُرِكتْ منذُ زمَنٍ قديم؛ حيثُ يَرجِعُ آخِرُ مثالٍ معروفٍ لاستخدامِها إلى عامِ (394 بعد الميلادِ)، ثم نُسِيَتْ هذه اللغةُ، ولم يكن هناك أحدٌ يستطيعُ أن يَحُلَّ رموزَها، أو يَفهَمَها إلى عصرٍ قريب.
وفي عامِ (1799م): تَمَّ اكتشافُ «حَجَرِ رشيدٍ - Rosetta Stone»، الذي يَرجِعُ تاريخُهُ إلى (196 قبل الميلاد)، وبواسطتِهِ تَمَّ حَلُّ «شَفْرةِ الكتابةِ المصريَّةِ القديمة»، ومِن خلالِها توافَرتِ المعلوماتُ عن الحضارةِ المصريَّةِ القديمة، وجوانبِها الدينيَّةِ والاقتصاديَّةِ والتاريخيَّةِ وغيرِها، ومِن ذلك معرفةُ شخصيَّةِ «هامَانَ»، وطبيعةِ عمَلِه؛ كما ذُكِرَ ذلك في القرآنِ الكريم.
فمِن أين لمحمَّدٍ ^ هذا العِلْمُ الذي خَفِيَ على البشَريَّةِ في وقتِه، وإلى عصرِنا الحاضرِ حتى قبل (200 سنةٍ) تقريبًا؟!
إن القرآنَ الكريمَ أخبَرَ باسمِ شخصٍ كان يَعيشُ مع فِرْعَوْنَ، وأخبَرَ عن وظيفتِهِ عند فِرْعَوْنَ، مع أن هذا الاسمَ قد سقَطَ عند أهلِ الكُتُبِ المقدَّسةِ، ونُسِيَ مِن ذاكرةِ التاريخ، ولم يُعثَرْ على هذا الاسمِ إلا بعد نزولِ القرآنِ باثنَيْ عشَرَ قرنًا، بعد أن تمَّ اكتشافُ «حَجَرِ رَشِيدٍ»، الذي تمكَّن به علماءُ الآثارِ مِن فكِّ رموزِ لغةِ الفراعنةِ «الهِيرُوغْلِيفِيَّةِ»؛ فوَجَدوا اسمَ «هامَانَ» يُذكَرُ في النقوشِ الفِرْعَوْنيَّة، وأنه وزيرُ فِرْعَوْنَ للبناءِ؛ تمامًا كما أخبَرَ القرآنُ الكريم.
وهذه الحادثةُ تداوَلَتْها مصادرُ معروفةٌ، ولو عَسُرَ إثباتُ بعضِ معلوماتِها تاريخيًّا: فالثابتُ أن القرآنَ الكريمَ أثبَتَ أنه المصدرُ الوحيدُ الذي يُخبِرُ بالغيبِ، ولم يأتِ الواقعُ إلا بما يُثبِتُهُ، أو على الأقلِّ: لا يَقدِرُ أن يَنفِيَهُ؛ فقد تبيَّن أن القرآنَ إنما هو مِن اللهِ العليمِ بكلِّ شيءِ، وأنه الحقُّ.
ب- إخبارُهُ بالغَيْبِ الحاضرِ، أي: في زمَنِ النبيِّ ^:
فكم مِن مرَّةٍ أخبَرَ القرآنُ ببعضِ الحوادثِ التي لم يَشهَدْها رسولُ اللهِ ^، وهي في زمَنِهِ؛ فكانت غَيْبًا بالنسبةِ له؛ فأطْلَعَهُ اللهُ عليها؛ كإخبارِهِ عن بعضِ مكرِ الكافِرينَ والمنافِقين.
ج- إخبارُهُ بالغيبِ المستقبَل:
وهناك نوعٌ آخَرُ مِن الغَيْبِ، كشَفَهُ الوحيُ لرسولِ اللهِ ^، وهو الغَيْبُ المكنونُ في المستقبَلِ الذي لا سبيلَ لأحدٍ مِن البَشَرِ أن يَعرِفَه:
ومِن أمثلةِ إخبارِهِ بالغيبِ المستقبَلِ: «ما وعَدَ اللهُ به المؤمِنين مِن الاستخلافِ في الأرضِ»، مع أنهم كانوا قلَّةً مستضعَفةً؛ قال تعالى:
{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}
[النور: 55]
وقد تحقَّق ذلك الوعدُ؛ فخلالَ قَرْنٍ مِن الزمانِ: انتصَرَ المؤمِنون على الدولتَيْنِ العظيمتَيْنِ في ذلك الوقتِ، وفتَحوا الأرضَ شرقًا وغربًا، ودانت لهم شعوبُها بالإسلام، ودخَلوا في دِينِ اللهِ أفواجًا.
ومِن أمثلتِهِ: «تعيينُ القرآنِ أشخاصًا بأسمائِهم لن يُسلِموا، وأنهم سيموتون على الكفر»، وكان بإمكانِهم أن يكذِّبوا القرآنَ لو تظاهَروا بالإسلامِ تظاهُرًا فقطْ، ولكنَّهم لم يَخرُجوا عمَّا قرَّره القرآنُ في حقِّهم، بالرغمِ مِن إسلامِ الأعدادِ الكثيرةِ ممَّن كانوا أشدَّ الناسِ عداوةً له؛ ومِن هؤلاءِ: «أبو لَهَبٍ»؛ فقد ذكَرَ اللهُ سبحانه عنه: أنه مِن أهلِ النارِ، وكان الأمرُ كذلك؛ فمات أبو لَهَبٍ كافرًا، وكذلك «الوليدُ بنُ المُغيرةِ»، ومات الوليدُ كافرًا، إلى غيرِ ذلك مِن الأمثلةِ على إخبارِ القرآنِ بالغَيْبِ المستقبَل.
2- الشريعةُ العظيمةُ التي احتوى عليها القرآن:
فإلى جانبِ ما احتوى عليه القرآنُ مِن الهُدى والنُّورِ في جانبِ الاعتقادِ والإيمانِ، الذي نزَلَ مِن أجلِهِ؛ فقد اشتمَلَ على أفضلِ وأرقى التشريعاتِ التي تكفُلُ سعادةَ الفردِ والمجتمَعِ، بل العالَمِ بأكملِهِ في جميعِ شؤونِ حياتِهم:
- في جوانبِ السياسةِ، والقضاءِ، والحُكمِ، وإقامةِ العدل.
- وفي جوانبِ الاقتصادِ، والمالِ، والمعامَلات.
- وفي جوانبِ الاجتماعِ، والتكافُلِ، والأخلاقِ، والآدابِ، والفضائل.
- وفي جوانبِ الفكرِ، والبحثِ، والعِلم.
- وفي جوانبِ الصحَّةِ، وحمايةِ الأعراضِ، واستتبابِ الأمن.
- وفي جوانبِ العقلِ، والبدَنِ، والأسرةِ، والمرأةِ، والمجتمَع.
- وفي جوانبِ الحربِ، والسِّلْمِ، والعَلاقاتِ بين سائرِ بني الإنسانِ، وبيانِ الحقوقِ والواجبات.
فلم يُبْقِ جانبًا مِن جوانبِ الحياةِ إلا وقد بيَّن القرآنُ فيه سبيلَ الحقِّ والهدى والصوابِ؛ كما قال تعالى لرسولِهِ:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
[النحل: 89]
ومِن الأدلَّةِ على ذلك: أن الأُمَّةَ الإسلاميَّةَ قد عاشت أكثرَ مِن ألفٍ وأربعِ مِئةِ عامٍ غنيَّةً بما لدَيْها مِن التشريعات، وما تزال بعضُ الدُّوَلِ الإسلاميَّةِ تتحاكَمُ إليها في مَحاكِمِها، ولم تَحتَجْ في يومٍ مِن الأيَّامِ إلى قوانينَ مستورَدةٍ مِن خارجِ الشريعةِ الإسلاميَّة؛ لأن الجِهازَ التشريعيَّ الإسلاميَّ الضخمَ قد أغناها عن الحاجةِ لغيرِها.
3- الإعجازُ العِلْميُّ الذي احتوى عليه القرآن:
القرآنُ الكريمُ لا تنقضي عجائبُهُ؛ فكلَّما مَرَّ الزمَنُ، اكتشَفتِ البشَريَّةُ وجهًا جديدًا مِن وجوهِ إعجازِهِ العديدة؛ فما إنْ دخَلَ الناسُ في عصرِ العلومِ الكونيَّةِ، حتى وجَدوا في كتابِ اللهِ نبَأَ صِدقِ ما وعَدَهم اللهُ في قولِهِ تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
[فصلت: 53]
والكلامُ فيه يطُول.
والحاصلُ: أن العلاماتِ التي تدُلُّ المنصِفَ العاقلَ على أن القرآنَ ليس مِن عندِ محمَّدٍ ^، ولا مِن عندِ غيرِهِ مِن البشَرِ أو الخلقِ: كثيرةٌ وواضحةٌ وقويَّةٌ، والمتجرِّدُ المنصِفُ يَكْفيهِ دليلٌ واحدٌ، والواقعُ شاهدٌ على ذلك؛ فلم يأتِ أحدٌ بمثلِ ما جاء به القرآنُ، ولا عُرِفَتْ أيُّ محاوَلاتٍ مقارِبةٍ لتحقيقِ ذلك.
مختصر الجواب
مختصَرُ الإجابة:
ينقُضُ هذا الادِّعاءَ: وجودُ الإعجازِ التاريخيِّ، والتشريعيِّ، والبلاغيِّ، والعِلْميِّ، وغيرِ ذلك مِن الأمورِ التي لا يُمكِنُ أن يأتيَ بها بشَرٌ في ذلك الزمانِ، وفي الأزمنةِ بعدَه.
وإن ذكاءَ البشَرِ مهما وصَلَ، ومواهبَ النابِغينَ مهما بلَغَتَ، تختلِفُ تمامَ الاختلافِ عن المعجِزات، التي هي مِن خصائصِ الربوبيَّة، وليست في قدرةِ أحَدٍ مِن البشَرِ أو الخَلْق.
كما اشتمَلَ القرآنُ على علومٍ ومعارفَ تَهْدي البشَرَ إلى طريقِ الحقِّ والصواب، والسعادةِ في جميعِ شؤونِهم في حياتِهم الدنيا والآخرة، وتجنِّبُهم الشرَّ بحذافيرِهِ، في كلِّ زمانٍ ومكان؛ وهذه العلومُ والمعارفُ ليست في مقدورِ الخلق.
ومما احتوى عليه القرآنُ مِن تلك العلومِ:
- إخبارُهُ بالغيبِ الماضي والحاضرِ والمستقبَل:
فمِن الغيبِ الماضي: إخبارُهُ بما في «قصَّةِ هامَانَ».
ومِن الغَيْبِ الحاضرِ الذي كان في زمَنِ النبيِّ ^: إخبارُهُ عن بعضِ مكرِ الكافِرينَ والمنافِقين.
ومِن الغيبِ المستقبَلِ: إخبارُهُ تعالى بـ «ما وعَدَ اللهُ به المؤمِنين مِن الاستخلافِ في الأرضِ، مع أنهم كانوا قلَّةً مستضعَفةً»، وقد تحقَّق ذلك الوعدُ، ومنه: «تعيينُ القرآنِ أشخاصًا بأسمائِهم لن يُسلِموا، وأنهم سيموتون على الكفر»، وكان بإمكانِهم أن يكذِّبوا القرآنَ لو تظاهَروا بالإسلامِ تظاهُرًا فقطْ، ومِن هؤلاءِ: «أبو لَهَبٍ»، والوليدُ بنُ المُغيرةِ، وقد ماتا كافرَيْنِ كما أخبَرَ اللهُ تعالى.
- وكذلك الشريعةُ العظيمةُ التي احتوى القرآنُ عليها في جميعِ الجوانبِ؛ كجوانبِ السياسةِ والقضاءِ والحُكمِ وإقامةِ العدل، وجوانبِ الاقتصادِ والمعامَلات، وجوانبِ الاجتماعِ والتكافُلِ، والأخلاقِ والفضائل، وجوانبِ الصحَّةِ وحمايةِ الأعراضِ واستتبابِ الأمن، وجوانبِ العقلِ والبدَنِ، والأسرةِ والمرأةِ، والمجتمَع، وجوانبِ الحربِ والسِّلْمِ، والعَلاقاتِ بين سائرِ بني الإنسانِ، وبيانِ الحقوقِ والواجبات، وغيرِ ذلك.
- وكذلك الإعجازُ العِلْميُّ الذي احتوى عليه القرآنُ؛ فالقرآنُ الكريمُ لا تنقضي عجائبُهُ؛ فكلَّما مَرَّ الزمَنُ، وتقدَّمتِ العلومُ الكونيَّة، اكتشَفتِ البشَريَّةُ وجهًا جديدًا مِن وجوهِ إعجازِهِ وصدقِهِ العديدةِ؛ مِصداقًا لقولِهِ تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
[فصلت: 53].
مختصر الجواب
مختصَرُ الإجابة:
ينقُضُ هذا الادِّعاءَ: وجودُ الإعجازِ التاريخيِّ، والتشريعيِّ، والبلاغيِّ، والعِلْميِّ، وغيرِ ذلك مِن الأمورِ التي لا يُمكِنُ أن يأتيَ بها بشَرٌ في ذلك الزمانِ، وفي الأزمنةِ بعدَه.
وإن ذكاءَ البشَرِ مهما وصَلَ، ومواهبَ النابِغينَ مهما بلَغَتَ، تختلِفُ تمامَ الاختلافِ عن المعجِزات، التي هي مِن خصائصِ الربوبيَّة، وليست في قدرةِ أحَدٍ مِن البشَرِ أو الخَلْق.
كما اشتمَلَ القرآنُ على علومٍ ومعارفَ تَهْدي البشَرَ إلى طريقِ الحقِّ والصواب، والسعادةِ في جميعِ شؤونِهم في حياتِهم الدنيا والآخرة، وتجنِّبُهم الشرَّ بحذافيرِهِ، في كلِّ زمانٍ ومكان؛ وهذه العلومُ والمعارفُ ليست في مقدورِ الخلق.
ومما احتوى عليه القرآنُ مِن تلك العلومِ:
- إخبارُهُ بالغيبِ الماضي والحاضرِ والمستقبَل:
فمِن الغيبِ الماضي: إخبارُهُ بما في «قصَّةِ هامَانَ».
ومِن الغَيْبِ الحاضرِ الذي كان في زمَنِ النبيِّ ^: إخبارُهُ عن بعضِ مكرِ الكافِرينَ والمنافِقين.
ومِن الغيبِ المستقبَلِ: إخبارُهُ تعالى بـ «ما وعَدَ اللهُ به المؤمِنين مِن الاستخلافِ في الأرضِ، مع أنهم كانوا قلَّةً مستضعَفةً»، وقد تحقَّق ذلك الوعدُ، ومنه: «تعيينُ القرآنِ أشخاصًا بأسمائِهم لن يُسلِموا، وأنهم سيموتون على الكفر»، وكان بإمكانِهم أن يكذِّبوا القرآنَ لو تظاهَروا بالإسلامِ تظاهُرًا فقطْ، ومِن هؤلاءِ: «أبو لَهَبٍ»، والوليدُ بنُ المُغيرةِ، وقد ماتا كافرَيْنِ كما أخبَرَ اللهُ تعالى.
- وكذلك الشريعةُ العظيمةُ التي احتوى القرآنُ عليها في جميعِ الجوانبِ؛ كجوانبِ السياسةِ والقضاءِ والحُكمِ وإقامةِ العدل، وجوانبِ الاقتصادِ والمعامَلات، وجوانبِ الاجتماعِ والتكافُلِ، والأخلاقِ والفضائل، وجوانبِ الصحَّةِ وحمايةِ الأعراضِ واستتبابِ الأمن، وجوانبِ العقلِ والبدَنِ، والأسرةِ والمرأةِ، والمجتمَع، وجوانبِ الحربِ والسِّلْمِ، والعَلاقاتِ بين سائرِ بني الإنسانِ، وبيانِ الحقوقِ والواجبات، وغيرِ ذلك.
- وكذلك الإعجازُ العِلْميُّ الذي احتوى عليه القرآنُ؛ فالقرآنُ الكريمُ لا تنقضي عجائبُهُ؛ فكلَّما مَرَّ الزمَنُ، وتقدَّمتِ العلومُ الكونيَّة، اكتشَفتِ البشَريَّةُ وجهًا جديدًا مِن وجوهِ إعجازِهِ وصدقِهِ العديدةِ؛ مِصداقًا لقولِهِ تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
[فصلت: 53].
الجواب التفصيلي
إن علومَ القرآنِ المعجِزةَ في سائرِ المجالاتِ لَتُثبِتُ لكلِّ عاقلٍ أن هذا القرآنَ لا يُمكِنُ أن يكونَ مِن عندِ بشَرٍ، مهما كَثُروا، ومهما كان ذكاؤُهم، ومهما وصَلَتْ إليه علومُهم، ومِن المستحيلِ الإتيانُ بمِثلِ أسلوبِ القرآنِ وطريقتِهِ، فضلًا عن علومِهِ ومعارفِه.
والدعوى الموجودةُ في السؤالِ يَكْفي في ردِّها الوجهان التاليان:
الوجهُ الأوَّل: أن بيِّناتِ القرآنِ الكريمِ هي مِن القوَّةِ والتعدُّدِ والكثرةِ والظهورِ والاطِّرادِ؛ بحيثُ لا تُشبِهُها أيَّةُ قدرةٍ بشَريَّةٍ، ولا تقارِبُها:
فلا يُمكِنُ القولُ: إن المعجِزاتِ العلميَّةَ والمعرفيَّةَ الواردةَ في القرآنِ الكريمِ، تُشبِهُ - بأيِّ وجهٍ مِن الوجوهِ - ما يُبدِعُهُ الموهوبون مِن الناس؛ إذْ لا يُمكِنُ أبدًا التوصُّلُ إلى أشباهٍ لها في عالَمِنا المعروف، وليس لتلك المعجِزاتِ مِن وسائلَ ولا عواملَ يُمكِنُ للبشَرِ اتِّخاذُها واستعمالُها لصنعِ ما يناظِرُها في الإعجازِ الخارقِ للحدودِ البشَريَّة.
فمِن أجلِ أن يُبرِزَ أصحابُ المواهبِ والنبوغِ قُدْرتَهم على ابتكارِ معارفَ وعلومٍ جديدةٍ، لا بدَّ لهم مِن وجودِ أُسُسٍ، وقواعدَ سابقةٍ، كانت نِتاجَ أُناسٍ سابِقين؛ فهي عبارةٌ عن عمَلٍ تراكُميٍّ، جاء نتيجةَ تَجارِبَ وخِبْراتٍ متراكِمةٍ، بالإضافةِ إلى احتمالِ وجودِ ما يناظِرُها عبرَ مرورِ الزمن، وتغيُّرِ الأماكن.
وهذا ما لا نَجِدُهُ في معجِزاتِ القرآنِ العِلميَّةِ والمعرفيَّة، التي مِن أهمِّ خصائصِها: أنها خارجةٌ عن حدودِ البشَرِ جميعًا.
الوجهُ الثاني: اشتمَلَ القرآنُ على علومٍ ومعارفَ تَهْدي البشَرَ إلى طريقِ الحقِّ والصواب، والسعادةِ في جميعِ شؤونِهم في حياتِهم الدنيا والآخرة، وتجنِّبُهم الشرَّ بحذافيرِه، في كلِّ زمانٍ ومكان:
وقد بلَغَتْ هذه العلومُ مِن دقَّةِ المعلوماتِ، وصحَّةِ الأخبارِ، ونبالةِ القصدِ، ونصاعةِ الحُجَّةِ، وحُسْنِ الأَثَرِ، وعمومِ النفعِ -: مَبلَغًا يستحيلُ على محمَّدٍ ^ - وهو رجُلٌ أُمِّيٌّ نشأ بين أُمِّيِّين - أن يأتِيَ بها مِن تِلْقاءِ نفسِه، بل يستحيلُ على أهلِ الأرضِ جميعًا مِن علماءَ، وأُدباءَ وفلاسفةٍ، وأخلاقيِّينَ: أن يأتوا بمِثلِها مِن تِلْقاءِ أنفُسِهم ولو تظاهَرُوا على ذلك.
فالعلومُ التي في القرآنِ تدُلُّ كلَّ عاقلٍ ومُنصِفٍ على أنه مِن عندِ الله، ولا يُمكِنُ أن تكونَ مِن عندِ غيرِه.
ونُجمِلُ في نُبْذةٍ مختصَرةٍ ما جاء في القرآنِ الكريم، ثم نَضرِبُ لذلك أمثالًا:
لو ذهَبْنا نعدِّدُ حديثَ القرآنِ الكريمِ عمَّا في الكونِ؛ سواءٌ عن دقَّةِ وصفِهِ وجمالِ بيانِه، أو شمولِهِ وثراءِ الاستدلالِ به على أمورٍ أخرى، أو عن علومٍ كانت محجوبةً عن أكثرِ البشَرِ آنَذَاكَ، ثم عرَفُوها -: لاحتَجْنا لمئاتِ الصفَحات:
فقد تحدَّث القرآنُ عن النجومِ والكواكبِ، والمشارقِ والمغاربِ، والقمَرِ المنيرِ والشمسِ المضيئةِ، ومنازلِ القمَرِ، وأصلِ الكونِ والنجوم.
كما تحدَّث القرآنُ عن السحابِ والمطَرِ وتشكُّلِ الغيومِ، والرَّعْدِ والبَرْقِ، وآليَّةِ تشكُّلِ البَرَد.
وتناوَلَ كذلك أشياءَ هي اليومَ مِن عِلمِ البِيئةِ، والتوازُنِ البيئيِّ والنباتيِّ على الأرضِ، وتحدَّث عن مراحلِ تشكُّلِ النباتِ، واهتزازِ الأرضِ بعد اختلاطِ ترابِها بالماء.
وتحدَّث القرآنُ عن البَرزَخِ بين البحرَيْنِ، وعن البراكينِ في أعماقِ المحيطات.
وتحدَّث عن أشياءَ تُصنَّفُ اليومَ في علمِ الذرَّة، أو علمِ الهندسةِ الوراثيَّةِ، أو علمِ الأجنَّة.
وتناوَلَ القرآنُ الكثيرَ مِن الحقائقِ العلميَّةِ في علومِ الطبِّ والفضاءِ، والجبالِ والبحارِ، وعلمِ الغذاءِ، والهندسةِ الزراعيَّةِ، والتوازُنِ العَدَديِّ.
كما تحدَّث عن الكثيرِ مِن الحقائقِ الغيبيَّةِ والتشريعيَّة، وتحدَّث عن علمِ الاقتصادِ، وعلمِ النَّفْسِ والتربية.
ونبَّأنا القرآنُ عن السابِقين، وعن المستقبَلِ، وتحدَّث عن يومِ القيامةِ بالتفصيلِ وكأننا نراهُ أمامَنا.
وتحدَّث عن أصحابِ الجنَّةِ وأصحابِ النار.
وتحدَّث عن صفاتِ اللهِ تعالى وقُدرتِهِ، وعِلمِهِ، ورحمتِهِ، وحكمتِه.
وجاء القرآنُ بحقائقَ لا يُمكِنُ إحصاؤُها في كلِّ المجالاتِ، وفي كلِّ ما يتعلَّقُ بالدنيا والآخِرة.
كلُّ هذه الحقائقِ حدَّثنا عنها القرآنُ الكريمُ بأحسَنِ بيانٍ، ولا يُمكِنُ لبشَرٍ أن يُثبِتَ تناقُضًا أو خطأً واحدًا فيها، بل تحدَّى أن يأتيَ بمثلِ بيانِهِ أحدٌ؛ فمَن يقولُ ذلك: أهو بشَرٌ، أم هو رَبُّ البشَرِ جميعًا؟!
ونَضرِبُ ثلاثةَ أمثلةٍ مما احتوى عليه القرآنُ مِن العلوم:
1- إخبارُهُ بالغيبِ الماضي والحاضرِ والمستقبَل:
أ- فمِن إخبارِهِ بالغيبِ الماضي: «قصَّةُ هامَانَ»:
وقد ورَدَ ذكرُ «هامَانَ» سِتَّ مرَّاتٍ في «القرآنِ الكريمِ»؛ كما ورَدَ اسمُهُ متَّصِلًا باسمِ فِرْعَوْنَ؛ كشخصٍ مِن المقرَّبين إليه، ويُسنِدُ فِرْعَوْنُ إليه أعمالَ البناءِ.
بينما لم يَرِدْ ذكرٌ لـ «هامَانَ» في «التوراةِ»، ولم يَرِدْ ذكرُهُ في أيٍّ مِن المقاطعِ «الرِّواياتِ» التي تَحْكي حياةَ نبيِّ اللهِ موسى عليه السلامُ، لكنْ ورَدَ اسمُ «هامَانَ» في «أحدِ كُتُبِ العهدِ القديمِ» على أن «هامَانَ»: شخصٌ مساعِدٌ لمَلِكِ بابِلَ، وبابِلُ في العراقِ، وأنه أوقَعَ الكثيرَ مِن الضرَرِ بالإسرائيليِّين، ولكنَّ هذه الأحداثَ كانت بعد نبيِّ اللهِ موسى بمُدَّةٍ طويلةٍ، تبلُغُ: (1100 عامٍ).
وجاءت الكشوفُ الحديثةُ في علمِ الآثارِ لِتُظهِرَ صدقَ ما جاء في القرآنِ الكريمِ، وبُطْلانَ تلك الدَّعاوى المزعومةِ؛ وذلك بعد أن حُلَّتْ رموزُ وحروفُ «الكتابةِ الهِيرُوغْلِيفيَّةِ المصريَّةِ القديمةِ»، التي ورَدَ فيها ذِكرُ شخصيَّةِ «هامَانَ»، وطبيعةِ عمَلِه.
وتُوجَدُ الإشارةُ إلى هذا الاسمِ في نُصُبٍ في مُتحَفِ «هُوفَ» في «فِييِنَّا»، كما ظهَرَ في كتابٍ بعنوانِ: «in the new Kingdom people) (في شعبِ المملكةِ الجديدة)، الذي تَمَّ إعدادُهُ استنادًا إلى مجموعةٍ مِن النقوش؛ كما ظهَرتْ في هذه النقوشِ وظيفةُ وطبيعةُ عمَلِ «هامَانَ»، وهو أنه كان: «رئيسَ عُمَّالِ الحجارة»، وورَدَ الاسمُ مذكَّرًا مِن المملكةِ الجديدة، وتُرجِمَتِ المِهْنةُ إلى اللغةِ الألمانيَّةِ، بمعنى رئيسِ أو مراقِبِ العُمَّالِ في مقالعِ الحَجَر.
وهذا كلُّه يُثبِتُ حقيقةَ ما جاء في القرآنِ مِن أن «هامَانَ»: كان في مِصْرَ، وأنه كان مسؤولًا عن أعمالِ البناء.
وهذه المعلوماتُ لم تكن متوفِّرةً في عهدِ نبوَّةِ محمَّدٍ ^؛ لأن «الكتابةَ الهِيرُوغْلِيفيَّةَ» قد تُرِكتْ منذُ زمَنٍ قديم؛ حيثُ يَرجِعُ آخِرُ مثالٍ معروفٍ لاستخدامِها إلى عامِ (394 بعد الميلادِ)، ثم نُسِيَتْ هذه اللغةُ، ولم يكن هناك أحدٌ يستطيعُ أن يَحُلَّ رموزَها، أو يَفهَمَها إلى عصرٍ قريب.
وفي عامِ (1799م): تَمَّ اكتشافُ «حَجَرِ رشيدٍ - Rosetta Stone»، الذي يَرجِعُ تاريخُهُ إلى (196 قبل الميلاد)، وبواسطتِهِ تَمَّ حَلُّ «شَفْرةِ الكتابةِ المصريَّةِ القديمة»، ومِن خلالِها توافَرتِ المعلوماتُ عن الحضارةِ المصريَّةِ القديمة، وجوانبِها الدينيَّةِ والاقتصاديَّةِ والتاريخيَّةِ وغيرِها، ومِن ذلك معرفةُ شخصيَّةِ «هامَانَ»، وطبيعةِ عمَلِه؛ كما ذُكِرَ ذلك في القرآنِ الكريم.
فمِن أين لمحمَّدٍ ^ هذا العِلْمُ الذي خَفِيَ على البشَريَّةِ في وقتِه، وإلى عصرِنا الحاضرِ حتى قبل (200 سنةٍ) تقريبًا؟!
إن القرآنَ الكريمَ أخبَرَ باسمِ شخصٍ كان يَعيشُ مع فِرْعَوْنَ، وأخبَرَ عن وظيفتِهِ عند فِرْعَوْنَ، مع أن هذا الاسمَ قد سقَطَ عند أهلِ الكُتُبِ المقدَّسةِ، ونُسِيَ مِن ذاكرةِ التاريخ، ولم يُعثَرْ على هذا الاسمِ إلا بعد نزولِ القرآنِ باثنَيْ عشَرَ قرنًا، بعد أن تمَّ اكتشافُ «حَجَرِ رَشِيدٍ»، الذي تمكَّن به علماءُ الآثارِ مِن فكِّ رموزِ لغةِ الفراعنةِ «الهِيرُوغْلِيفِيَّةِ»؛ فوَجَدوا اسمَ «هامَانَ» يُذكَرُ في النقوشِ الفِرْعَوْنيَّة، وأنه وزيرُ فِرْعَوْنَ للبناءِ؛ تمامًا كما أخبَرَ القرآنُ الكريم.
وهذه الحادثةُ تداوَلَتْها مصادرُ معروفةٌ، ولو عَسُرَ إثباتُ بعضِ معلوماتِها تاريخيًّا: فالثابتُ أن القرآنَ الكريمَ أثبَتَ أنه المصدرُ الوحيدُ الذي يُخبِرُ بالغيبِ، ولم يأتِ الواقعُ إلا بما يُثبِتُهُ، أو على الأقلِّ: لا يَقدِرُ أن يَنفِيَهُ؛ فقد تبيَّن أن القرآنَ إنما هو مِن اللهِ العليمِ بكلِّ شيءِ، وأنه الحقُّ.
ب- إخبارُهُ بالغَيْبِ الحاضرِ، أي: في زمَنِ النبيِّ ^:
فكم مِن مرَّةٍ أخبَرَ القرآنُ ببعضِ الحوادثِ التي لم يَشهَدْها رسولُ اللهِ ^، وهي في زمَنِهِ؛ فكانت غَيْبًا بالنسبةِ له؛ فأطْلَعَهُ اللهُ عليها؛ كإخبارِهِ عن بعضِ مكرِ الكافِرينَ والمنافِقين.
ج- إخبارُهُ بالغيبِ المستقبَل:
وهناك نوعٌ آخَرُ مِن الغَيْبِ، كشَفَهُ الوحيُ لرسولِ اللهِ ^، وهو الغَيْبُ المكنونُ في المستقبَلِ الذي لا سبيلَ لأحدٍ مِن البَشَرِ أن يَعرِفَه:
ومِن أمثلةِ إخبارِهِ بالغيبِ المستقبَلِ: «ما وعَدَ اللهُ به المؤمِنين مِن الاستخلافِ في الأرضِ»، مع أنهم كانوا قلَّةً مستضعَفةً؛ قال تعالى:
{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}
[النور: 55]
وقد تحقَّق ذلك الوعدُ؛ فخلالَ قَرْنٍ مِن الزمانِ: انتصَرَ المؤمِنون على الدولتَيْنِ العظيمتَيْنِ في ذلك الوقتِ، وفتَحوا الأرضَ شرقًا وغربًا، ودانت لهم شعوبُها بالإسلام، ودخَلوا في دِينِ اللهِ أفواجًا.
ومِن أمثلتِهِ: «تعيينُ القرآنِ أشخاصًا بأسمائِهم لن يُسلِموا، وأنهم سيموتون على الكفر»، وكان بإمكانِهم أن يكذِّبوا القرآنَ لو تظاهَروا بالإسلامِ تظاهُرًا فقطْ، ولكنَّهم لم يَخرُجوا عمَّا قرَّره القرآنُ في حقِّهم، بالرغمِ مِن إسلامِ الأعدادِ الكثيرةِ ممَّن كانوا أشدَّ الناسِ عداوةً له؛ ومِن هؤلاءِ: «أبو لَهَبٍ»؛ فقد ذكَرَ اللهُ سبحانه عنه: أنه مِن أهلِ النارِ، وكان الأمرُ كذلك؛ فمات أبو لَهَبٍ كافرًا، وكذلك «الوليدُ بنُ المُغيرةِ»، ومات الوليدُ كافرًا، إلى غيرِ ذلك مِن الأمثلةِ على إخبارِ القرآنِ بالغَيْبِ المستقبَل.
2- الشريعةُ العظيمةُ التي احتوى عليها القرآن:
فإلى جانبِ ما احتوى عليه القرآنُ مِن الهُدى والنُّورِ في جانبِ الاعتقادِ والإيمانِ، الذي نزَلَ مِن أجلِهِ؛ فقد اشتمَلَ على أفضلِ وأرقى التشريعاتِ التي تكفُلُ سعادةَ الفردِ والمجتمَعِ، بل العالَمِ بأكملِهِ في جميعِ شؤونِ حياتِهم:
- في جوانبِ السياسةِ، والقضاءِ، والحُكمِ، وإقامةِ العدل.
- وفي جوانبِ الاقتصادِ، والمالِ، والمعامَلات.
- وفي جوانبِ الاجتماعِ، والتكافُلِ، والأخلاقِ، والآدابِ، والفضائل.
- وفي جوانبِ الفكرِ، والبحثِ، والعِلم.
- وفي جوانبِ الصحَّةِ، وحمايةِ الأعراضِ، واستتبابِ الأمن.
- وفي جوانبِ العقلِ، والبدَنِ، والأسرةِ، والمرأةِ، والمجتمَع.
- وفي جوانبِ الحربِ، والسِّلْمِ، والعَلاقاتِ بين سائرِ بني الإنسانِ، وبيانِ الحقوقِ والواجبات.
فلم يُبْقِ جانبًا مِن جوانبِ الحياةِ إلا وقد بيَّن القرآنُ فيه سبيلَ الحقِّ والهدى والصوابِ؛ كما قال تعالى لرسولِهِ:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
[النحل: 89]
ومِن الأدلَّةِ على ذلك: أن الأُمَّةَ الإسلاميَّةَ قد عاشت أكثرَ مِن ألفٍ وأربعِ مِئةِ عامٍ غنيَّةً بما لدَيْها مِن التشريعات، وما تزال بعضُ الدُّوَلِ الإسلاميَّةِ تتحاكَمُ إليها في مَحاكِمِها، ولم تَحتَجْ في يومٍ مِن الأيَّامِ إلى قوانينَ مستورَدةٍ مِن خارجِ الشريعةِ الإسلاميَّة؛ لأن الجِهازَ التشريعيَّ الإسلاميَّ الضخمَ قد أغناها عن الحاجةِ لغيرِها.
3- الإعجازُ العِلْميُّ الذي احتوى عليه القرآن:
القرآنُ الكريمُ لا تنقضي عجائبُهُ؛ فكلَّما مَرَّ الزمَنُ، اكتشَفتِ البشَريَّةُ وجهًا جديدًا مِن وجوهِ إعجازِهِ العديدة؛ فما إنْ دخَلَ الناسُ في عصرِ العلومِ الكونيَّةِ، حتى وجَدوا في كتابِ اللهِ نبَأَ صِدقِ ما وعَدَهم اللهُ في قولِهِ تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
[فصلت: 53]
والكلامُ فيه يطُول.
والحاصلُ: أن العلاماتِ التي تدُلُّ المنصِفَ العاقلَ على أن القرآنَ ليس مِن عندِ محمَّدٍ ^، ولا مِن عندِ غيرِهِ مِن البشَرِ أو الخلقِ: كثيرةٌ وواضحةٌ وقويَّةٌ، والمتجرِّدُ المنصِفُ يَكْفيهِ دليلٌ واحدٌ، والواقعُ شاهدٌ على ذلك؛ فلم يأتِ أحدٌ بمثلِ ما جاء به القرآنُ، ولا عُرِفَتْ أيُّ محاوَلاتٍ مقارِبةٍ لتحقيقِ ذلك.