نص السؤال

{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الأنعام: 80]

ورَدَتْ في القرآنِ هذه الآيةُ:

{الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}

[الأنفال: 56]

وهذا معناهُ يناقِضُ كلامَ القرآنِ عن عِلمِ اللهِ المحيطِ والكُلِّيّ.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

هل تناقَضَ القرآنُ في معنى عِلمِ اللهِ السابقِ لكلِّ شيء؟

الجواب التفصيلي

عِلمُ اللهِ تعالى المذكورُ في الآيةِ هو عِلمُ مشاهَدةٍ وظهورٍ، وهو علمٌ لاحقٌ موافقٌ للواقع، وقد سبَقَهُ العِلمُ الغيبيُّ، والعِلْمانِ متوافِقانِ غيرُ مختلِفَيْن؛ كما لو كنتُ مسبَقًا أَعلَمُ أن فلانًا سيرسُبُ في الاختبارِ، ثم ظهَرَتْ نتيجتُهُ راسبًا؛ فعَلِمْتُهُ قبل رسوبِهِ بأنه سيرسُبُ، وعَلِمْتُهُ بعد رسوبِهِ بأنه قد رسَبَ؛ فعِلْمي صار سابقًا ولاحقًا، وللهِ المثَلُ الأَعْلى.

وعمومًا: فإن بالإمكانِ تجليةَ الإشكالِ الواردِ في النقاطِ التالية:

أوَّلًا: عِلمُ اللهِ جلَّ وعلا على نوعَيْن:

الأوَّلُ: هو «العِلمُ القديمُ الأزَليُّ»؛ وهو عِلمُهُ سبحانه بأن الشيءَ سيكونُ؛ وهذا العِلمُ لا يَعلَمُهُ أحدٌ غيرُهُ سبحانه؛ فهو عِلمُ اللهِ سبحانه وتعالى مِن قبلِ خَلْقِ الخَلْق؛ ودليلُ ذلك

قولُ اللهِ تعالى:

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}

[الحديد: 22]

وثبَتَ في «صحيحِ مسلمٍ» (4797)، عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ، قال: «سَمِعتُ

رسولَ الله  يقولُ:

«كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»

قَالَ:

«وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ».

والثاني: هو «عِلمُ المشاهَدةِ والظهورِ»؛ وهو عِلمُهُ سبحانه بأن الشيءَ قد وقَعَ وكان؛ فهو عِلمُهُ بالأشياءِ بعد حدوثِها، وهو العِلمُ الذي يُظهِرُهُ اللهُ لعبادِهِ، وهو عِلمُهُ سبحانه بحدوثِ أفعالِنا التي سبَقَ في عِلمِهِ أنها ستكون، ثم أظهَرَها لنا؛ فهو علمٌ حادثٌ يقومُ به يليقُ بجلالِهِ وكمالِه، سبَقَهُ العِلمُ المُحيطُ بكلِّ شيءٍ؛ فكلُّ حادثٍ عَلِمَهُ اللهُ بعِلمِهِ الأزَليِّ السابقِ أنه سيكون، وعَلِمَهُ بعِلمِهِ الحادثِ اللاحقِ أنه كان.

ولتوضيحِ المقصودِ بعِلمِ الظهور، دَعُونا نتأمَّلْ

قولَهُ تعالى:

{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ}

[الجن: 28]

قد يَفهَمُ بعضُهم أن الآيةَ تنُصُّ على أن عِلمَهُ سبحانه المذكورَ في الآيةِ جاء بعد جهلٍ، بينما الفهمُ الصحيحُ، والمعنى السليمُ: هو لِيَعلَمَ اللهُ ذلك عِلمَ مشاهَدةٍ كما عَلِمَهُ غيبًا، أي: أنه عَلِمَ أنه كان، بعد علمِهِ أنه سيكونُ؛ وهذا يبيِّنُ عِلمَ اللهِ بكلِّ شيءٍ في كلِّ وقت.

وهذا واضحٌ لكلِّ متأمِّلٍ

لقولِهِ سبحانه:

{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}

[العنكبوت: 3]

وكذلك

قولُهُ عزَّ وجلَّ:

{وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}

[آل عمران: 140]

وهذا ينطبِقُ على الآياتِ التي ورَدَتْ في السؤالِ، وهي

قولُهُ تعالى:

{الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}

[الأنفال: 66]

فقد عَلِمَ سبحانه بعِلمِهِ القديمِ: أن فيهم ضعفًا ؛ فلا يَقدِرُ عشرون منهم أن يَغلِبوا مِئتَيْن، ولا يَقدِرُ مِئةٌ أن يَغلِبوا ألفًا؛ فأظهَرَ لهم سبحانه عِلمَهُ في هذه الآياتِ، وهو أن مِئةً منهم يستطيعون أن يَغلِبوا مِئتَيْن، وأن ألفًا منهم في استطاعتِهم أن يَغلِبوا ألفَيْن.

فثبَتَ الحُكْمُ الأوَّلُ بتشديدِ العزيمةِ على المتقدِّمين مِن المسلِمين الذين يمتلِكون القدرةَ والقوَّةَ، والحكمُ الثاني ثبَتَ تخفيفًا لهم.

والمرادُ مِن لفظِ {الْآنَ} في الآيةِ: تعيينُ انتهاءِ العزيمة، وبدايةُ مشروعيَّةِ الرُّخْصة، والتي يَعلَمُ اللهُ سبحانه أن المسلِمين يحتاجون إليها حالًا ومستقبَلًا.

ألسنا نَرَى أن بعضَ التشريعاتِ في الإسلامِ قد مرَّت بمراحلَ عِدَّةٍ لتستقِرَّ؛ كتحريمِ الخمرِ مثلًا، وإيجابِ الصومِ، وكذلك الزكاة؟! وهذا ليس علمًا حادثًا مخالِفًا لعلمِهِ القديم، وليس علمًا بعد جهلٍ؛ تعالى الله علُوًّا كبيرًا، بل هو عِلمٌ له حادثٌ يقومُ به بأن الشيءَ وقَعَ بعد أن لم يكن واقعًا؛ فهو علمٌ لاحقٌ موافقٌ للواقع، وموافقٌ لعلمِهِ السابقِ.

ثانيًا: بقراءةِ يسيرةٍ لآياتِ القرآنِ الكريمِ: يلاحِظُ أيُّ إنسانٍ الآياتِ الكثيرةَ التي تُثبِتُ أن اللهَ سبحانه يَعلَمُ مِن عبادِهِ ما يُعلِنون وما يُخْفون، مِن أفعالِهم وأقوالِهم، ولا تَخْفى عليه سرائرُهم، وأنه العليمُ بكلِّ شيءٍ الذي لا تَخْفى عليه خافيةٌ في الأرضِ، أو في السماء، وعلمُهُ بكلِّ شيءٍ موافقٌ لما في الخارجِ في كلِّ وقت؛

قال تعالى:

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

[المائدة: 76]

وقال سبحانه:

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

[الأنفال: 61]

وقال عزَّ وجلَّ:

{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}

[البقرة: 32]

وغيرَ ذلك مِن الآيات.

فهل مِن المعقولِ أن يغُضَّ الإنسانُ طَرْفَهُ عن كلِّ هذه الآياتِ الواضحةِ والصريحةِ الدالَّةِ على عِلمِ اللهِ الشاملِ، ويصدِّقَ خلافَ ذلك؟!

والمقصودُ: أن عِلمَ اللهِ سبحانه محيطٌ بكلِّ شيءٍ، وعِلمُهُ بكلِّ شيءٍ محيطٌ:

- فيَعلَمُ ما سيكونُ: على أنه سيكونُ، وكيف سيكونُ.

- ويَعلَمُ ما كان: على أنه كان، وكيف كان.

- ويَعلَمُ ما هو كائنٌ: على أنه كائنٌ، وكيف هو كائنٌ. - ويَعلَمُ ما لم يكنْ ولن يكونَ: على أنه لم يكنْ ولن يكونَ؛ وهذا يَشمَلُ المستحيلاتِ لذاتِها ولغيرِها، أعني: الممتنِعاتِ العقليَّةَ، والممكِناتِ العقليَّةَ التي قضى اللهُ أنها لن تكونَ أبدًا؛ لمنافاتِها للحكمةِ الإلهيَّة.

- وأما ما لم يكنْ وسيكونُ: فيَعلَمُهُ قبل أن يكونَ: أنه لم يكنْ، وسيكونُ، وكيف سيكونُ، ويَعلَمُهُ بعد أن يكونَ: أنه كان، وكيف كان.

فلا يخلو موجودٌ مِن الموجودات، ولا معدومٌ مِن المعدومات: عن عِلمِ اللهِ المحيطِ به في كلِّ وقتٍ مِن الأوقاتِ، وفي كلِّ حالٍ مِن الأحوال:

{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الأنعام: 80]

{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الأعراف: 89]

،

{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[طه: 98]

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}

[غافر: 7]

{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}.

[الطلاق: 12]

 وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (46).

مختصر الجواب

اللهُ سبحانه وتعالى يَعلَمُ غيبَ الزمانِ والمكان، ويَعلَمُ الأشياءَ على ما هي عليه؛ وعِلمُهُ الأزَليُّ بالأحداثِ لا يَعلَمُهُ إلا هو، أما إظهارُهُ سبحانه لعِلمِهِ في مَوطِنٍ مَّا، فالمرادُ به نوعٌ آخَرُ مِن عِلمِهِ سبحانه وتعالى، وهو علمُ المشاهَدةِ والظهورِ، وهو علمُهُ بالأشياءِ بعد خلقِها ووجودِها ووقوعِها ومشاهَدتِها، وهو علمٌ حادثٌ يقومُ به يليقُ بجلالِهِ وكمالِه، سبَقَهُ العِلمُ المُحيطُ بكلِّ شيءٍ؛ فكلُّ حادثٍ عَلِمَهُ اللهُ بعِلمِهِ الأزَليِّ أنه سيكون، وعَلِمَهُ بعِلمِهِ الحادثِ أنه كان؛ فعِلمُهُ سبحانه محيطٌ بكلِّ شيءٍ، وعِلمُهُ بكلِّ شيءٍ محيطٌ:

- فيَعلَمُ ما سيكونُ: على أنه سيكونُ، وكيف سيكونُ.

- ويَعلَمُ ما كان: على أنه كان، وكيف كان.

- ويَعلَمُ ما هو كائنٌ: على أنه كائنٌ، وكيف هو كائنٌ.

- ويَعلَمُ ما لم يكنْ ولن يكونَ: على أنه لم يكنْ ولن يكونَ؛ وهذا يَشمَلُ المستحيلاتِ لذاتِها ولغيرِها، أعني: الممتنِعاتِ العقليَّةَ، والممكِناتِ العقليَّةَ التي قضى اللهُ أنها لن تكونَ أبدًا؛ لمنافاتِها للحكمةِ الإلهيَّة.

- وأما ما لم يكنْ وسيكونُ: فيَعلَمُهُ قبل أن يكونَ: أنه لم يكنْ، وسيكونُ، وكيف سيكونُ، ويَعلَمُهُ بعد أن يكونَ: أنه كان، وكيف كان.

فلا يخلو موجودٌ مِن الموجودات، ولا معدومٌ مِن المعدومات: عن عِلمِ اللهِ المحيطِ به في كلِّ وقتٍ مِن الأوقاتِ، وفي كلِّ حالٍ مِن الأحوال:

{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الأنعام: 80]

{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الأعراف: 89]

{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[طه: 98]

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}

[غافر: 7]

{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الطلاق: 12]

مختصر الجواب

اللهُ سبحانه وتعالى يَعلَمُ غيبَ الزمانِ والمكان، ويَعلَمُ الأشياءَ على ما هي عليه؛ وعِلمُهُ الأزَليُّ بالأحداثِ لا يَعلَمُهُ إلا هو، أما إظهارُهُ سبحانه لعِلمِهِ في مَوطِنٍ مَّا، فالمرادُ به نوعٌ آخَرُ مِن عِلمِهِ سبحانه وتعالى، وهو علمُ المشاهَدةِ والظهورِ، وهو علمُهُ بالأشياءِ بعد خلقِها ووجودِها ووقوعِها ومشاهَدتِها، وهو علمٌ حادثٌ يقومُ به يليقُ بجلالِهِ وكمالِه، سبَقَهُ العِلمُ المُحيطُ بكلِّ شيءٍ؛ فكلُّ حادثٍ عَلِمَهُ اللهُ بعِلمِهِ الأزَليِّ أنه سيكون، وعَلِمَهُ بعِلمِهِ الحادثِ أنه كان؛ فعِلمُهُ سبحانه محيطٌ بكلِّ شيءٍ، وعِلمُهُ بكلِّ شيءٍ محيطٌ:

- فيَعلَمُ ما سيكونُ: على أنه سيكونُ، وكيف سيكونُ.

- ويَعلَمُ ما كان: على أنه كان، وكيف كان.

- ويَعلَمُ ما هو كائنٌ: على أنه كائنٌ، وكيف هو كائنٌ.

- ويَعلَمُ ما لم يكنْ ولن يكونَ: على أنه لم يكنْ ولن يكونَ؛ وهذا يَشمَلُ المستحيلاتِ لذاتِها ولغيرِها، أعني: الممتنِعاتِ العقليَّةَ، والممكِناتِ العقليَّةَ التي قضى اللهُ أنها لن تكونَ أبدًا؛ لمنافاتِها للحكمةِ الإلهيَّة.

- وأما ما لم يكنْ وسيكونُ: فيَعلَمُهُ قبل أن يكونَ: أنه لم يكنْ، وسيكونُ، وكيف سيكونُ، ويَعلَمُهُ بعد أن يكونَ: أنه كان، وكيف كان.

فلا يخلو موجودٌ مِن الموجودات، ولا معدومٌ مِن المعدومات: عن عِلمِ اللهِ المحيطِ به في كلِّ وقتٍ مِن الأوقاتِ، وفي كلِّ حالٍ مِن الأحوال:

{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الأنعام: 80]

{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الأعراف: 89]

{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[طه: 98]

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}

[غافر: 7]

{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الطلاق: 12]

الجواب التفصيلي

عِلمُ اللهِ تعالى المذكورُ في الآيةِ هو عِلمُ مشاهَدةٍ وظهورٍ، وهو علمٌ لاحقٌ موافقٌ للواقع، وقد سبَقَهُ العِلمُ الغيبيُّ، والعِلْمانِ متوافِقانِ غيرُ مختلِفَيْن؛ كما لو كنتُ مسبَقًا أَعلَمُ أن فلانًا سيرسُبُ في الاختبارِ، ثم ظهَرَتْ نتيجتُهُ راسبًا؛ فعَلِمْتُهُ قبل رسوبِهِ بأنه سيرسُبُ، وعَلِمْتُهُ بعد رسوبِهِ بأنه قد رسَبَ؛ فعِلْمي صار سابقًا ولاحقًا، وللهِ المثَلُ الأَعْلى.

وعمومًا: فإن بالإمكانِ تجليةَ الإشكالِ الواردِ في النقاطِ التالية:

أوَّلًا: عِلمُ اللهِ جلَّ وعلا على نوعَيْن:

الأوَّلُ: هو «العِلمُ القديمُ الأزَليُّ»؛ وهو عِلمُهُ سبحانه بأن الشيءَ سيكونُ؛ وهذا العِلمُ لا يَعلَمُهُ أحدٌ غيرُهُ سبحانه؛ فهو عِلمُ اللهِ سبحانه وتعالى مِن قبلِ خَلْقِ الخَلْق؛ ودليلُ ذلك

قولُ اللهِ تعالى:

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}

[الحديد: 22]

وثبَتَ في «صحيحِ مسلمٍ» (4797)، عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ، قال: «سَمِعتُ

رسولَ الله  يقولُ:

«كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»

قَالَ:

«وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ».

والثاني: هو «عِلمُ المشاهَدةِ والظهورِ»؛ وهو عِلمُهُ سبحانه بأن الشيءَ قد وقَعَ وكان؛ فهو عِلمُهُ بالأشياءِ بعد حدوثِها، وهو العِلمُ الذي يُظهِرُهُ اللهُ لعبادِهِ، وهو عِلمُهُ سبحانه بحدوثِ أفعالِنا التي سبَقَ في عِلمِهِ أنها ستكون، ثم أظهَرَها لنا؛ فهو علمٌ حادثٌ يقومُ به يليقُ بجلالِهِ وكمالِه، سبَقَهُ العِلمُ المُحيطُ بكلِّ شيءٍ؛ فكلُّ حادثٍ عَلِمَهُ اللهُ بعِلمِهِ الأزَليِّ السابقِ أنه سيكون، وعَلِمَهُ بعِلمِهِ الحادثِ اللاحقِ أنه كان.

ولتوضيحِ المقصودِ بعِلمِ الظهور، دَعُونا نتأمَّلْ

قولَهُ تعالى:

{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ}

[الجن: 28]

قد يَفهَمُ بعضُهم أن الآيةَ تنُصُّ على أن عِلمَهُ سبحانه المذكورَ في الآيةِ جاء بعد جهلٍ، بينما الفهمُ الصحيحُ، والمعنى السليمُ: هو لِيَعلَمَ اللهُ ذلك عِلمَ مشاهَدةٍ كما عَلِمَهُ غيبًا، أي: أنه عَلِمَ أنه كان، بعد علمِهِ أنه سيكونُ؛ وهذا يبيِّنُ عِلمَ اللهِ بكلِّ شيءٍ في كلِّ وقت.

وهذا واضحٌ لكلِّ متأمِّلٍ

لقولِهِ سبحانه:

{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}

[العنكبوت: 3]

وكذلك

قولُهُ عزَّ وجلَّ:

{وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}

[آل عمران: 140]

وهذا ينطبِقُ على الآياتِ التي ورَدَتْ في السؤالِ، وهي

قولُهُ تعالى:

{الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}

[الأنفال: 66]

فقد عَلِمَ سبحانه بعِلمِهِ القديمِ: أن فيهم ضعفًا ؛ فلا يَقدِرُ عشرون منهم أن يَغلِبوا مِئتَيْن، ولا يَقدِرُ مِئةٌ أن يَغلِبوا ألفًا؛ فأظهَرَ لهم سبحانه عِلمَهُ في هذه الآياتِ، وهو أن مِئةً منهم يستطيعون أن يَغلِبوا مِئتَيْن، وأن ألفًا منهم في استطاعتِهم أن يَغلِبوا ألفَيْن.

فثبَتَ الحُكْمُ الأوَّلُ بتشديدِ العزيمةِ على المتقدِّمين مِن المسلِمين الذين يمتلِكون القدرةَ والقوَّةَ، والحكمُ الثاني ثبَتَ تخفيفًا لهم.

والمرادُ مِن لفظِ {الْآنَ} في الآيةِ: تعيينُ انتهاءِ العزيمة، وبدايةُ مشروعيَّةِ الرُّخْصة، والتي يَعلَمُ اللهُ سبحانه أن المسلِمين يحتاجون إليها حالًا ومستقبَلًا.

ألسنا نَرَى أن بعضَ التشريعاتِ في الإسلامِ قد مرَّت بمراحلَ عِدَّةٍ لتستقِرَّ؛ كتحريمِ الخمرِ مثلًا، وإيجابِ الصومِ، وكذلك الزكاة؟! وهذا ليس علمًا حادثًا مخالِفًا لعلمِهِ القديم، وليس علمًا بعد جهلٍ؛ تعالى الله علُوًّا كبيرًا، بل هو عِلمٌ له حادثٌ يقومُ به بأن الشيءَ وقَعَ بعد أن لم يكن واقعًا؛ فهو علمٌ لاحقٌ موافقٌ للواقع، وموافقٌ لعلمِهِ السابقِ.

ثانيًا: بقراءةِ يسيرةٍ لآياتِ القرآنِ الكريمِ: يلاحِظُ أيُّ إنسانٍ الآياتِ الكثيرةَ التي تُثبِتُ أن اللهَ سبحانه يَعلَمُ مِن عبادِهِ ما يُعلِنون وما يُخْفون، مِن أفعالِهم وأقوالِهم، ولا تَخْفى عليه سرائرُهم، وأنه العليمُ بكلِّ شيءٍ الذي لا تَخْفى عليه خافيةٌ في الأرضِ، أو في السماء، وعلمُهُ بكلِّ شيءٍ موافقٌ لما في الخارجِ في كلِّ وقت؛

قال تعالى:

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

[المائدة: 76]

وقال سبحانه:

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

[الأنفال: 61]

وقال عزَّ وجلَّ:

{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}

[البقرة: 32]

وغيرَ ذلك مِن الآيات.

فهل مِن المعقولِ أن يغُضَّ الإنسانُ طَرْفَهُ عن كلِّ هذه الآياتِ الواضحةِ والصريحةِ الدالَّةِ على عِلمِ اللهِ الشاملِ، ويصدِّقَ خلافَ ذلك؟!

والمقصودُ: أن عِلمَ اللهِ سبحانه محيطٌ بكلِّ شيءٍ، وعِلمُهُ بكلِّ شيءٍ محيطٌ:

- فيَعلَمُ ما سيكونُ: على أنه سيكونُ، وكيف سيكونُ.

- ويَعلَمُ ما كان: على أنه كان، وكيف كان.

- ويَعلَمُ ما هو كائنٌ: على أنه كائنٌ، وكيف هو كائنٌ. - ويَعلَمُ ما لم يكنْ ولن يكونَ: على أنه لم يكنْ ولن يكونَ؛ وهذا يَشمَلُ المستحيلاتِ لذاتِها ولغيرِها، أعني: الممتنِعاتِ العقليَّةَ، والممكِناتِ العقليَّةَ التي قضى اللهُ أنها لن تكونَ أبدًا؛ لمنافاتِها للحكمةِ الإلهيَّة.

- وأما ما لم يكنْ وسيكونُ: فيَعلَمُهُ قبل أن يكونَ: أنه لم يكنْ، وسيكونُ، وكيف سيكونُ، ويَعلَمُهُ بعد أن يكونَ: أنه كان، وكيف كان.

فلا يخلو موجودٌ مِن الموجودات، ولا معدومٌ مِن المعدومات: عن عِلمِ اللهِ المحيطِ به في كلِّ وقتٍ مِن الأوقاتِ، وفي كلِّ حالٍ مِن الأحوال:

{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الأنعام: 80]

{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[الأعراف: 89]

،

{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

[طه: 98]

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}

[غافر: 7]

{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}.

[الطلاق: 12]

 وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (46).