نص السؤال

تحدَّى القرآنُ البشَرَ أن يأتوا بمِثلِهِ، وقد رأَيْنا في كلامِ كثيرٍ مِن الناسِ والشعراءِ غايةَ البلاغةِ؛ أفلا يستطيعُ هؤلاءِ أن يأتوا بمِثلِ القرآن؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

إعجازُ القرآن.

القولُ بالصَّرْفة. 

  القرآنُ تحدَّى بُلَغاءَ العرَب.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

يُمكِنُ إزالةُ الإشكالِ الواردِ في السؤالِ مِن خلالِ النِّقاطِ التالية:

أوَّلًا: كلامُ البلغاءِ مهما بلَغَ مِن بلاغةٍ، فلا يَخْلو مِن نقدٍ ونقضٍ:

كلامُ البلغاءِ والشعراءِ فيه كثيرٌ مِن أوجُهِ البلاغةِ، ولكنه مهما بلَغَ في البلاغةِ مَبلَغًا بعيدًا، إلا أنه ورَدَ عليه الكثيرُ مِن «النقدِ والنقض»؛ فمثلًا: المتنبِّي - وهو مَن هو بلاغةً وفصاحةً - قد صُنِّفَتِ المصنَّفاتُ في نقدِ شِعرِه، ومِن ذلك: «الرسالةُ الموضِّحة، في سرقاتِ أبي الطيِّبِ وساقطِ شِعْرِه» للحاتِميِّ، و«الكشفُ عن مساوئِ شعرِ المتنبِّي» للصاحبِ بنِ عبَّاد، وغيرُ ذلك كثيرٌ؛ بل هناك بابٌ كبيرٌ متخصِّصٌ يُعرَفُ بـ «النقدِ الأدَبيِّ»، وله أقسامٌ في الجامعات، وتُقدَّمُ له الأُطرُوحاتُ (الماجستيرُ، والدكتوراه).

وهذه مسألةٌ مستقِرَّةٌ عن المشتغِلين بالأدَبِ والبلاغةِ؛ فقد قال المَرزُوقيُّ: «واعلَمْ: أنه قد يَعرِفُ الجَيِّدَ مَن يَجهَلُ الرديءَ، والواجبُ أن تَعرِفَ المقابحَ المتسخَّطةَ؛ كما عرَفْتَ المحاسنَ المرتضاةَ». «شرحُ المقدِّمةِ الأدبيَّة، لشرحِ المَرزُوقيِّ على ديوانِ الحَمَاسة» (ص160).

ثانيًا: القرآنُ لم يستطِعْ أحدٌ معارَضتَه:

أما القرآنُ، فهو كلامٌ معجِزٌ إلى قيامِ الساعةِ، وقد تحدَّى اللهُ به الثَّقَلَيْنِ «الإنسَ والجنَّ»، فتحدَّاهم أن يأتوا بمِثلِ هذا القرآنِ؛

فقال تعالى:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}

[الإسراء: 88]،

بل تحدَّاهم أن يأتوا بسورةٍ مِن مِثلِه، وجزَمَ بعجزِهم في الحاضرِ والمستقبَلِ؛

فقال تعالى:

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ}

[البقرة: 23- 24].

وقد بيَّن النبيُّ ^ أن القرآنَ أعظَمُ معجزاتِه؛

فقال: 

«مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ»

؛ رواه البخاري (4981)، ومسلم (152).

وقد كان العرَبُ أهلَ بلاغةٍ وبيانٍ، ومع هذا لم يستطيعوا معارَضتَه، أو الإتيانَ بمِثلِهِ، مع قوَّةِ المقتضي «العداوةِ والتحدِّي»؛ فهم أهلُ البلاغةِ والبيان، والقرآنُ يتحدَّاهم في الليلِ والنهار، بل في الحاضرِ والمستقبَل؛

قال تعالى:

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}

[البقرة: 23- 24]،

فإذا كان القرآنُ كذلك، فلا مقارَنةَ بينه وبين كلامِ البشَرِ؛

قال تعالى:

{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}

[فصِّلت: 42].

ثالثًا: إعجازُ القرآنِ ليس قاصرًا على بلاغتِه:

ثم إن إعجازَ القرآنِ ليس قاصرًا على بلاغتِهِ وبيانِه، بل له أوجُهٌ كثيرةٌ مِن الإعجازِ؛ فهو معجِزٌ في لفظِهِ ونظمِه، وتراكيبِهِ وبلاغتِه، معجِزٌ في معانيه، معجِزٌ في إخبارِهِ بالمغيَّباتِ، سواءٌ فيما مضى، أو فيما يُستقبَلُ؛ فما أخبَرَ به، فإنه يقَعُ على وجهِهِ دون اختلافٍ، معجِزٌ في تشريعِه، معجِزٌ في تأثيرِهِ على النفوس، وغيرُ ذلك الكثيرُ مِن وجوهِ إعجازِه؛ فهل في كلامِ البلغاءِ ما يَجمَعُ كلَّ هذا؟! والجوابُ: أنه ليس في كلامِ أبلغِ البلغاء، وأفصحِ الفصحاء: ما يُساوي القرآنَ، أو يُدانيه:

قال شيخُ الإسلامِ: «وكونُ القرآنِ أنه معجِزةٌ ليس هو مِن جهةِ فصاحتِهِ وبلاغتِهِ فقطْ، أو نظمِهِ وأسلوبِهِ فقطْ، ولا مِن جهةِ إخبارِهِ بالغيبِ فقطْ، ولا مِن جهةِ صرفِ الدواعي عن معارَضتِهِ فقطْ، ولا مِن جهةِ سلبِ قدرتِهم على معارَضتِهِ فقطْ، بل هو آيةٌ بيِّنةٌ معجِزةٌ مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ:

مِن جهةِ اللفظ.

ومِن جهةِ النظم.

ومِن جهةِ البلاغةِ؛ في دَلالةِ اللفظِ على المعنى.

ومِن جهةِ معانيهِ؛ التي أخبَرَ بها عن اللهِ تعالى وأسمائِهِ وصفاتِهِ وملائكتِهِ، وغيرِ ذلك.

ومِن جهةِ معانيهِ؛ التي أخبَرَ بها عن الغيبِ الماضي، وعن الغيبِ المستقبَل.

ومِن جهةِ ما أخبَرَ به عن المعاد.

ومِن جهةِ ما بيَّن فيه مِن الدلائلِ اليقينيَّةِ، والأقيسةِ العقليَّةِ، التي هي الأمثالُ المضروبةُ؛

كما قال تعالى:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}

[الإسراء: 89]،

وقال تعالى:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}

[الكهف: 54]،

وقال:

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

[الزُّمَر: 28].

وكلُّ ما ذكَرهُ الناسُ مِن الوجوهِ في إعجازِ القرآنِ هو حجَّةٌ على إعجازِه، ولا تناقُضَ في ذلك، بل كلُّ قومٍ تنبَّهوا لما تنبَّهوا له». اهـ. «الجوابُ الصحيح» (5/ 428-429).

رابعًا: إقرارُ مشرِكي العرَبِ بأن القرآنَ لا يُشبِهُ كلامَ البشَر:

ولهذا أقَرَّ العرَبُ أنفُسُهم بأن القرآنَ لا يُشبِهُ كلامَ البشَر:

فهذا جُبَيرُ بنُ مُطعِمٍ كاد قلبُهُ أن يَطِيرَ عند سماعِهِ سورةَ الطُّورِ، وهذا قبل أن يُسلِمَ:

فعن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ،

فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ:

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ}

[الطور: 35- 37]،

قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ»؛ رواه البخاري (4854).

وهذه أيضًا شهادةُ الوليدِ بنِ المُغيرةِ؛

فعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ^، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ:

يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ؛ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ، «فَوَاللهِ، مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ، مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ»

؛ رواه الحاكم (2/ 506 رقم 3872)، وصحَّحه، والبيهقيُّ في «شُعَبِ الإيمان» (1/ 287 رقم 133)، و«دلائلِ النبوَّة» (2/ 198).

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (72).

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

صاحبُ هذا السؤالِ يَرَى أن القرآنَ قد تحدَّى البشَرَ أن يأتوا بمِثلِهِ، والبلغاءُ والشعراءُ لهم كلامٌ غايةٌ في البلاغةِ؛ فهم يستطيعون أن يأتوا بمِثلِه.

مختصَرُ الإجابة:

إن كلامَ البلغاءِ والشعراءِ فيه كثيرٌ مِن أوجُهِ البلاغةِ، ولكنه مهما بلَغَ في البلاغةِ مَبلَغًا بعيدًا، إلا أنه ورَدَ عليه الكثيرُ مِن «النقدِ والنقضِ»؛ فمثلًا: المتنبِّي - وهو مَن هو بلاغةً وفصاحةً - قد صُنِّفَتِ المصنَّفاتُ في نقدِ شِعرِه؛ بل هناك بابٌ كبيرٌ متخصِّصٌ يُعرَفُ بـ «النقدِ الأدَبيِّ»، وله أقسامٌ في الجامعات.

أما القرآنُ، فهو كلامٌ معجِزٌ إلى قيامِ الساعةِ، وقد تحدَّى اللهُ به الثقَلَيْنِ «الإنسَ والجنَّ»، وكان العرَبُ أهلَ بلاغةٍ وبيانٍ، ومع هذا لم يستطيعوا معارَضتَهُ، أو الإتيانَ بمِثلِهِ، مع قوَّةِ المقتضي «العداوةِ والتحدِّي»؛ فهم أهلُ البلاغةِ والبيان، والقرآنُ يتحدَّاهم في الليلِ والنهار، بل في الحاضِرِ والمستقبَل؛

فقال تعالى:

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}

[البقرة: 24]،

فإذا كان القرآنُ كذلك، فلا مقارَنةَ بينه وبين كلامِ البشَرِ؛

قال تعالى:

{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}

[فصلت: 42].

ثم إن إعجازَ القرآنِ ليس قاصرًا على بلاغتِهِ وبيانِه، بل له أوجُهٌ كثيرةٌ مِن الإعجازِ؛ فهو معجِزٌ في لفظِهِ ونظمِه، وتراكيبِهِ وبلاغتِه، معجِزٌ في معانيه، معجِزٌ في إخبارِهِ بالمغيَّباتِ، سواءٌ فيما مضى، أو فيما يُستقبَلُ؛ فما أخبَرَ به، فإنه يقَعُ على وجهِهِ دون اختلافٍ، معجِزٌ في تشريعِه، معجِزٌ في تأثيرِهِ على النفوس، وغيرُ ذلك الكثيرُ مِن وجوهِ إعجازِه؛ فهل في كلامِ البلغاءِ ما يَجمَعُ كلَّ هذا؟! والجوابُ: أنه ليس في كلامِ أبلغِ البلغاء، وأفصحِ الفصحاء: ما يُساوي القرآنَ، أو يُدانيه؛ ولهذا أقَرَّ العرَبُ أنفُسُهم بأن القرآنَ لا يُشبِهُ كلامَ البشَر.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

صاحبُ هذا السؤالِ يَرَى أن القرآنَ قد تحدَّى البشَرَ أن يأتوا بمِثلِهِ، والبلغاءُ والشعراءُ لهم كلامٌ غايةٌ في البلاغةِ؛ فهم يستطيعون أن يأتوا بمِثلِه.

مختصَرُ الإجابة:

إن كلامَ البلغاءِ والشعراءِ فيه كثيرٌ مِن أوجُهِ البلاغةِ، ولكنه مهما بلَغَ في البلاغةِ مَبلَغًا بعيدًا، إلا أنه ورَدَ عليه الكثيرُ مِن «النقدِ والنقضِ»؛ فمثلًا: المتنبِّي - وهو مَن هو بلاغةً وفصاحةً - قد صُنِّفَتِ المصنَّفاتُ في نقدِ شِعرِه؛ بل هناك بابٌ كبيرٌ متخصِّصٌ يُعرَفُ بـ «النقدِ الأدَبيِّ»، وله أقسامٌ في الجامعات.

أما القرآنُ، فهو كلامٌ معجِزٌ إلى قيامِ الساعةِ، وقد تحدَّى اللهُ به الثقَلَيْنِ «الإنسَ والجنَّ»، وكان العرَبُ أهلَ بلاغةٍ وبيانٍ، ومع هذا لم يستطيعوا معارَضتَهُ، أو الإتيانَ بمِثلِهِ، مع قوَّةِ المقتضي «العداوةِ والتحدِّي»؛ فهم أهلُ البلاغةِ والبيان، والقرآنُ يتحدَّاهم في الليلِ والنهار، بل في الحاضِرِ والمستقبَل؛

فقال تعالى:

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}

[البقرة: 24]،

فإذا كان القرآنُ كذلك، فلا مقارَنةَ بينه وبين كلامِ البشَرِ؛

قال تعالى:

{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}

[فصلت: 42].

ثم إن إعجازَ القرآنِ ليس قاصرًا على بلاغتِهِ وبيانِه، بل له أوجُهٌ كثيرةٌ مِن الإعجازِ؛ فهو معجِزٌ في لفظِهِ ونظمِه، وتراكيبِهِ وبلاغتِه، معجِزٌ في معانيه، معجِزٌ في إخبارِهِ بالمغيَّباتِ، سواءٌ فيما مضى، أو فيما يُستقبَلُ؛ فما أخبَرَ به، فإنه يقَعُ على وجهِهِ دون اختلافٍ، معجِزٌ في تشريعِه، معجِزٌ في تأثيرِهِ على النفوس، وغيرُ ذلك الكثيرُ مِن وجوهِ إعجازِه؛ فهل في كلامِ البلغاءِ ما يَجمَعُ كلَّ هذا؟! والجوابُ: أنه ليس في كلامِ أبلغِ البلغاء، وأفصحِ الفصحاء: ما يُساوي القرآنَ، أو يُدانيه؛ ولهذا أقَرَّ العرَبُ أنفُسُهم بأن القرآنَ لا يُشبِهُ كلامَ البشَر.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

يُمكِنُ إزالةُ الإشكالِ الواردِ في السؤالِ مِن خلالِ النِّقاطِ التالية:

أوَّلًا: كلامُ البلغاءِ مهما بلَغَ مِن بلاغةٍ، فلا يَخْلو مِن نقدٍ ونقضٍ:

كلامُ البلغاءِ والشعراءِ فيه كثيرٌ مِن أوجُهِ البلاغةِ، ولكنه مهما بلَغَ في البلاغةِ مَبلَغًا بعيدًا، إلا أنه ورَدَ عليه الكثيرُ مِن «النقدِ والنقض»؛ فمثلًا: المتنبِّي - وهو مَن هو بلاغةً وفصاحةً - قد صُنِّفَتِ المصنَّفاتُ في نقدِ شِعرِه، ومِن ذلك: «الرسالةُ الموضِّحة، في سرقاتِ أبي الطيِّبِ وساقطِ شِعْرِه» للحاتِميِّ، و«الكشفُ عن مساوئِ شعرِ المتنبِّي» للصاحبِ بنِ عبَّاد، وغيرُ ذلك كثيرٌ؛ بل هناك بابٌ كبيرٌ متخصِّصٌ يُعرَفُ بـ «النقدِ الأدَبيِّ»، وله أقسامٌ في الجامعات، وتُقدَّمُ له الأُطرُوحاتُ (الماجستيرُ، والدكتوراه).

وهذه مسألةٌ مستقِرَّةٌ عن المشتغِلين بالأدَبِ والبلاغةِ؛ فقد قال المَرزُوقيُّ: «واعلَمْ: أنه قد يَعرِفُ الجَيِّدَ مَن يَجهَلُ الرديءَ، والواجبُ أن تَعرِفَ المقابحَ المتسخَّطةَ؛ كما عرَفْتَ المحاسنَ المرتضاةَ». «شرحُ المقدِّمةِ الأدبيَّة، لشرحِ المَرزُوقيِّ على ديوانِ الحَمَاسة» (ص160).

ثانيًا: القرآنُ لم يستطِعْ أحدٌ معارَضتَه:

أما القرآنُ، فهو كلامٌ معجِزٌ إلى قيامِ الساعةِ، وقد تحدَّى اللهُ به الثَّقَلَيْنِ «الإنسَ والجنَّ»، فتحدَّاهم أن يأتوا بمِثلِ هذا القرآنِ؛

فقال تعالى:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}

[الإسراء: 88]،

بل تحدَّاهم أن يأتوا بسورةٍ مِن مِثلِه، وجزَمَ بعجزِهم في الحاضرِ والمستقبَلِ؛

فقال تعالى:

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ}

[البقرة: 23- 24].

وقد بيَّن النبيُّ ^ أن القرآنَ أعظَمُ معجزاتِه؛

فقال: 

«مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ»

؛ رواه البخاري (4981)، ومسلم (152).

وقد كان العرَبُ أهلَ بلاغةٍ وبيانٍ، ومع هذا لم يستطيعوا معارَضتَه، أو الإتيانَ بمِثلِهِ، مع قوَّةِ المقتضي «العداوةِ والتحدِّي»؛ فهم أهلُ البلاغةِ والبيان، والقرآنُ يتحدَّاهم في الليلِ والنهار، بل في الحاضرِ والمستقبَل؛

قال تعالى:

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}

[البقرة: 23- 24]،

فإذا كان القرآنُ كذلك، فلا مقارَنةَ بينه وبين كلامِ البشَرِ؛

قال تعالى:

{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}

[فصِّلت: 42].

ثالثًا: إعجازُ القرآنِ ليس قاصرًا على بلاغتِه:

ثم إن إعجازَ القرآنِ ليس قاصرًا على بلاغتِهِ وبيانِه، بل له أوجُهٌ كثيرةٌ مِن الإعجازِ؛ فهو معجِزٌ في لفظِهِ ونظمِه، وتراكيبِهِ وبلاغتِه، معجِزٌ في معانيه، معجِزٌ في إخبارِهِ بالمغيَّباتِ، سواءٌ فيما مضى، أو فيما يُستقبَلُ؛ فما أخبَرَ به، فإنه يقَعُ على وجهِهِ دون اختلافٍ، معجِزٌ في تشريعِه، معجِزٌ في تأثيرِهِ على النفوس، وغيرُ ذلك الكثيرُ مِن وجوهِ إعجازِه؛ فهل في كلامِ البلغاءِ ما يَجمَعُ كلَّ هذا؟! والجوابُ: أنه ليس في كلامِ أبلغِ البلغاء، وأفصحِ الفصحاء: ما يُساوي القرآنَ، أو يُدانيه:

قال شيخُ الإسلامِ: «وكونُ القرآنِ أنه معجِزةٌ ليس هو مِن جهةِ فصاحتِهِ وبلاغتِهِ فقطْ، أو نظمِهِ وأسلوبِهِ فقطْ، ولا مِن جهةِ إخبارِهِ بالغيبِ فقطْ، ولا مِن جهةِ صرفِ الدواعي عن معارَضتِهِ فقطْ، ولا مِن جهةِ سلبِ قدرتِهم على معارَضتِهِ فقطْ، بل هو آيةٌ بيِّنةٌ معجِزةٌ مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ:

مِن جهةِ اللفظ.

ومِن جهةِ النظم.

ومِن جهةِ البلاغةِ؛ في دَلالةِ اللفظِ على المعنى.

ومِن جهةِ معانيهِ؛ التي أخبَرَ بها عن اللهِ تعالى وأسمائِهِ وصفاتِهِ وملائكتِهِ، وغيرِ ذلك.

ومِن جهةِ معانيهِ؛ التي أخبَرَ بها عن الغيبِ الماضي، وعن الغيبِ المستقبَل.

ومِن جهةِ ما أخبَرَ به عن المعاد.

ومِن جهةِ ما بيَّن فيه مِن الدلائلِ اليقينيَّةِ، والأقيسةِ العقليَّةِ، التي هي الأمثالُ المضروبةُ؛

كما قال تعالى:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}

[الإسراء: 89]،

وقال تعالى:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}

[الكهف: 54]،

وقال:

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

[الزُّمَر: 28].

وكلُّ ما ذكَرهُ الناسُ مِن الوجوهِ في إعجازِ القرآنِ هو حجَّةٌ على إعجازِه، ولا تناقُضَ في ذلك، بل كلُّ قومٍ تنبَّهوا لما تنبَّهوا له». اهـ. «الجوابُ الصحيح» (5/ 428-429).

رابعًا: إقرارُ مشرِكي العرَبِ بأن القرآنَ لا يُشبِهُ كلامَ البشَر:

ولهذا أقَرَّ العرَبُ أنفُسُهم بأن القرآنَ لا يُشبِهُ كلامَ البشَر:

فهذا جُبَيرُ بنُ مُطعِمٍ كاد قلبُهُ أن يَطِيرَ عند سماعِهِ سورةَ الطُّورِ، وهذا قبل أن يُسلِمَ:

فعن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ،

فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ:

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ}

[الطور: 35- 37]،

قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ»؛ رواه البخاري (4854).

وهذه أيضًا شهادةُ الوليدِ بنِ المُغيرةِ؛

فعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ^، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ:

يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ؛ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ، «فَوَاللهِ، مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ، مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ»

؛ رواه الحاكم (2/ 506 رقم 3872)، وصحَّحه، والبيهقيُّ في «شُعَبِ الإيمان» (1/ 287 رقم 133)، و«دلائلِ النبوَّة» (2/ 198).

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (72).