نص السؤال
إذا كان اللهُ تعالى قدَّر كلَّ شيءٍ، فكيف نَفهَمُ أمرَ اللهِ تعالى للناسِ بالعبادة؟ وكيف نَفهَمُ محاسَبتَهُ لهم على أخطائِهم التي قدَّرها؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
كيف يكونُ التوفيقُ بين التقديرِ السابقِ لأفعالِ العباد، وبين تكليفِهم بالأعمالِ التعبُّديَّة؟
فائدةُ التكليفِ إذا كان اللهُ يَعلَمُ المؤمِنَ مِن الكافرِ بعِلمِهِ السابق.
جدَليَّةُ: الإنسانُ مخيَّرٌ أم مسيَّرٌ؟
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
بدايةً: فهنا مقدِّماتٌ مهمَّةٌ للحوارِ قبل الشروعِ في الجواب:
1- أن اللهَ تعالى ثبَتَتْ ربوبيَّتُهُ وألوهيَّتُهُ بأدلَّةٍ كثيرةٍ، وهي أدلَّةٌ شرعيَّةٌ، وعقليَّةٌ وفطريَّةُ، تُثبِتُ وجودَ الخالقِ وربوبيَّتَهُ واستحقاقَهُ للعبادة، وهناك مصادرُ معرفيَّةٌ كثيرةٌ عُنِيَتْ ببيانِ هذا الأصل.
2- مما يدخُلُ في الإيمانِ باللهِ تعالى: الإيمانُ بكمالِ علمِهِ وإرادتِه، وقدرتِهِ وحكمتِه، وكذلك الإيمانُ بكمالِ رحمتِه، والشواهدُ على ذلك في الشريعةِ، وفي خلقِ السمواتِ والأرضِ، والإنسانِ والحيوانِ، كثيرةٌ جِدًّا.
3- هذه الأصولُ مِن الإيمانِ باللهِ تعالى وصفاتِهِ، لا ينبغي أن تُهمَلَ لأجلِ مسألةٍ محدَّدةٍ قد يَفهَمُها بعضُ الناسِ، ولا يَفهَمُها بعضُهم؛ لأن المسائلَ الجزئيَّةَ تُفهَمُ في ضوءِ الأصول، ولا تُهدَمُ الأصولُ بها.
4- الإشكالُ في فهمِ حقيقةِ قَدَرِ الله، وكيفيَّةِ التوفيقِ بين أمرِهِ وقدرِهِ: قد وقَعَ فيه الناسُ مِن قديم، بل إبليسُ وقَعَ فيه قبل ذلك، وهو أمرٌ قديمٌ عند أهلِ الإسلامِ أيضًا، ودار حوله حوارٌ كثيرٌ، وقُدِّمَتْ فيه أفكارٌ متنوِّعة؛ فالأمرُ ليس حادثًا مبتكَرًا في أيامِنا هذه.
وأحدُ أسبابِ الخطأِ هو إرادةُ استيعابِ كاملِ الحكمةِ في كلِّ مسألة، وهذا أمرٌ غيرُ ممكِنٍ؛ لأن حكمةَ اللهِ تعالى لا يُحيطُ بها إلا اللهُ تعالى، بل الإنسانُ يَعجِزُ عن استيعابِ كاملِ مقاصدِ أهلِ العلوم؛ كفهمِ ما يَفعَلُهُ الأطبَّاءُ والمهندِسون والمربُّون وغيرُهم، بل غايتُهُ أن يَفهَمَ مقاصدَ بعضِهم، مع محدوديَّةِ عِلمِهم وحِكمتِهم، فكيف تُفهَمُ حكمةُ اللهِ تعالى في كلِّ شيء؟!
5- وعليه: فمحاوَلةُ معرفةِ الإنسانِ فَهْمَ القدَرِ، ما هو إلا مجرَّدُ محاوَلةٍ لتحصيلِ القَدْرِ الذي يتناسَبُ مع محدوديَّةِ عقلِه، وأن العقولَ لا تُدرِكُ الغيبيَّات، كما تُدرِكُ الحسِّيَّات، لا أن ينطلِقَ مِن إمكانيَّةِ الإحاطةِ بأسرارِ شيءٍ مِن خصائصِ الربوبيَّةِ والكمال، والذي منه ما يتعلَّقُ بالتقديرِ السابق، وبإدراكِ هذا الأمرِ يزولُ كثيرٌ مِن الغموض.
فكما أنه مِن المعلومِ أن الحسَّ، والسمعَ، والبصَرَ، وباقيَ الحواسِّ، لها حَدٌّ تستطيعُ أن تستقبِلَ في إطارِه، ودونه لا تُدرِكُ شيئًا، فكذلك العقلُ لا يستطيعُ أن يُحيطَ بكلِّ شيء.
والثابتُ بيقينٍ: أن الإنسانَ بطبعِهِ عاجزٌ عن الإحاطةِ بكمالِ الخالقِ وعظمتِهِ؛ فكيف سيُحيطُ بخصائصِه؟!
فعَلاقةُ العقلِ بعالَمِ الشهادةِ مؤسَّسةٌ على إدراكٍ كاملٍ بطاقةِ العقل، وإمكاناتِهِ والعلمِ بوظيفتِه، والإنسانُ لو فقَدَ حاسَّةً مِن حواسِّهِ الخمسِ، فاته العلمُ بالعالَمِ الحسِّيِّ المقابِلُ لها، ولو تخيَّلنا إنسانًا خُلِقَ دون هذه الحواسِّ، فإنه لا يَعلَمُ شيئًا عن هذا العالَمِ على سبيلِ اليقين.
أما في عالَمِ الغيبِ: فإن الأمرَ يختلِفُ تمامًا عن ذلك؛ لأن الحواسَّ لا تنالُهُ أصلًا في الدنيا، ولا سبيلَ لها إليه - إلا ما حدَثَ لبعضِ أنبيائِهِ مِن سماعِ كلامِهِ سبحانه بصوتِه - وبالتالي: فإن روافدَ العقلِ - التي هي الحواسُّ - والتي تزوِّدُهُ بالمعرفةِ بعالَمِ الغيبِ: مفقودةٌ، والتخيُّلُ العقليُّ هنا ليس مطلوبًا؛ لأن مطلوبَ المعرفةِ هنا هو اليقينُ الجازمُ الذي لا مجالَ فيه للتخيُّل.
فليس مِن العقلِ في شيءٍ أن يُعرِضَ الإنسانُ عما يشعُرُ به ويَعلَمُهُ علمًا ضروريًّا، ويتعلَّقُ بأمرٍ لا يَعلَمُ عنه شيئًا، ولا يُمكِنُ العِلمُ به البتَّةَ، وإنما العقلُ هنا يُوجِبُ أن يَعمَلَ الإنسانُ بما في يَدَيْه، ولا ينصرِفَ عن ذلك بالاشتغالِ بأمرٍ غائبٍ عنه.
فلا بدَّ للإنسانِ أن يتعلَّقَ وينشغِلَ بما بين يَدَيْهِ مِن القدرةِ على العمَلِ، ويَترُكَ التعلُّقَ بتقديرِ اللهِ السابق؛ فهو غائبٌ عنه، وأعظمُ بكثيرٍ مِن أن يُحيطَ به عقلُهُ القاصرُ.
وإنْ عجَزَ عن تصوُّرِ ذلك وإدراكِه، وقَصُرَ عقلُهُ عن فهمِه، فيجبُ التسليمُ والخضوعُ للكمالِ الإلهيّ، والعظَمةِ الربَّانيَّة.
وبناءً عليه: فإن الجوابَ على هذه الشبهةِ يكونُ على الترتيبِ المَنطِقيِّ التالي:
أوَّلًا: أن اللهَ عزَّ وجلَّ ثبَتَ أنه لم يزَلْ عالِمًا بكلِّ حادثٍ في هذا الكون، ومقدِّرًا ومدبِّرًا له، وهذه ضرورةٌ عقليَّةٌ؛ لأنه سبحانه الخالِقُ لأصلِ الكونِ ومادَّتِهِ وأحداثِهِ؛ فكيف لا يكونُ عالِمًا بها؟!
وأفعالُ العبادِ لا شَكَّ أنها حادثةٌ، بل العبادُ أنفُسُهم مِن الحوادث؛ فثبَتَتْ إحاطةُ اللهِ تعالى الكلِّيَّةُ بها بالعلمِ والإرادةِ والقدرة.
ثانيًا: أن تقديرَ اللهِ غيبٌ مَحْضٌ بالنسبةِ للإنسان، ولا يُمكِنُ معرفةُ عِلمِ اللهِ وقدرتِهِ وما شاءه في خلقِهِ وأراده في كونِهِ قبل أن يخلُقَه.
ولذا فإن الحكمةَ تقتضي ألا ينشغِلَ الإنسانُ بسِرٍّ بعيدِ الأغوارِ، يستحيلُ معرفتُهُ، وهو عاجزٌ عنه، بل أن يَصرِفَ جُهْدَهُ فيما يُدرِكُهُ، ويَقدِرُ عليه، ويختارُه.
ثالثًا: أن سُنَّةَ اللهِ في الكونِ أن الأمورَ بأسبابِها، وكلُّ حادثٍ لا بدَّ له مِن سببٍ أحدَثه.
وهذا مشاهَدٌ في حوادثِ الدنيا؛ فإنه لا يحصُلُ خيرٌ أو شرٌّ إلا بأسبابٍ معلومةٍ؛ فكذلك الحالُ مع أحداثِ الآخِرةِ، فهي - وإن كانت معلومةً ومكتوبةً ومقدِّرةً - إلا أنها مربوطةٌ بأسبابِها؛ فلا تكونُ بدونِها.
وإن كان الثوابُ والعقابُ سيقَعُ على الإنسان، وعَلِمْنا كمالَ اللهِ تعالى، فلا بدَّ إذَنْ أن تكونَ هذه الأسبابُ راجعةً إلى الإنسان، فإذا عاقَبَ اللهُ تعالى عبدًا على شيءٍ، فهو على سببٍ استحَقَّ به ذلك يقينًا، ويَبْقى تفاوُتُ العقولِ في إدراكِ حكمةِ اللهِ في ذلك.
رابعًا: أن اللهَ خلَقَ الإنسانَ خِلْقةً مختلِفةً عن سائرِ المخلوقات، وجعَلَ له قدرةً على الاختيار، يستطيعُ بها التأثيرَ في الأحداث.
وهذا أمرٌ ثابتٌ لا يُنكِرُهُ عاقلٌ؛ فإن الإنسانَ يَلمَسُ في داخلِ نفسِهِ قدرتَهُ على اختياراتِهِ في الأفعالِ العاديَّة.
وكذلك سائرُ الناسِ يفرِّقون بين أفعالِهم التي هي مِن اختيارِهم؛ كالأكلِ، والشربِ، والقتلِ، وبين أفعالِهم التي تقَعُ بغيرِ إرادةٍ منهم؛ كنَبَضاتِ قلبِهم، وارتعاشِهم في البَرْد.
ويرتِّبون على النوعِ الأوَّلِ الآثارَ القانونيَّة، ولا يعامِلونه كالثاني؛ وإلا لَفسَدتْ جميعُ التعامُلاتِ الإنسانيَّة.
فإذا عُلِمَتْ قدرةُ الإنسانِ على الاختيارِ، لم يكن الاحتجاجُ بالقَدَرِ على الذنبِ مقبولًا، بل لا يُمكِنُ للناسِ أن يَعِيشوا بذلك؛ إذْ يكونُ بذلك اعتداءُ الناسِ بعضِهم على بعض.
وكذلك الحالُ في الأفعالِ العِباديَّةِ، فهي مُتَّفِقةٌ مع باقي الأفعالِ في جِنسِها وطبيعتِها؛ فقدرةُ الإنسانِ على فعلِها ظاهرةٌ، واحتجاجُ الإنسانِ على تركِها بالقَدَرِ باطلٌ، وفي الآيةِ:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
[الجاثية: 15].
خامسًا: إذا ثبَتَ أن الإنسانَ له إرادةٌ وقُدْرةٌ يحدِّدُ بها أفعالَهُ الإنسانيَّة، وأن العباداتِ هي مِن جنسِ أفعالِ الإنسانِ العاديَّةِ التي يَقدِرُ عليها -: فإن إلزامَ اللهِ الناسَ بالعبادةِ لا ظلمَ فيه، وكذلك عقوبتُهم على تركِ شيءٍ منها لا ظلمَ فيه؛ فإن الثابتَ بالقطعِ: أن الإنسانَ لا يُحاسَبُ إلا على أفعالِهِ الواقعةِ قصدًا منه وعمدًا، أما ما صدَرَ منه مِن قبيلِ السَّهْوِ، أو النِّسْيانِ، أو ما قهَرَهُ غيرُهُ على فِعلِه، فلا يُحاسَبُ عليه.
سادسًا: أن اللهَ بمقتضَى كمالِ عدلِه، وكمالِ رحمتِه، لم يترُكْ عبادَهُ همَلًا، بل أرسَلَ إليهم الرسُلُ، وبصَّرهم بالحقِّ والباطل، وبيَّن لهم سبيلَ الهِداية، وحذَّرهم مِن طريقِ الغَواية، بل فطَرَهم على التوحيدِ له، والخضوعِ لعَظَمتِه، والإقرارِ بوجودِه.
وعَفَا عمَّن لم تبلُغْهُ الرِّسالة، ولم يَصِلْ إليه البيانُ الإلهيُّ؛ كما قال تعالى:
{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
[الإسراء: 15].
ويسَّر لهم الأسبابَ والقُوَى، وعذَرَهم فيما لا يَقدِرون عليه فِعلًا؛ فلم يَبْقَ هناك سببٌ لتركِ طاعةِ الله تعالى، أوِ الاحتجاجِ بالقدَرِ على ذلك.
سابعًا: ثبَتَ مما سبَقَ: أن اللهَ تعالى يَعلَمُ كلَّ شيءٍ، وقدَّره بمشيئتِهِ وقدرتِهِ وحكمتِه، وثبَتَ أيضًا: أن العبدَ له إرادةٌ وقدرةٌ على فعلِ الطاعاتِ والمعاصي، يُحاسَبُ عليها، وأما ما لا يَقدِرُ عليه، فلا يُحاسَبُ عليه؛ فلم يَبْقَ إلا فهمُ دخولِ مقدورِ العبدِ في مقدورِ اللهِ تعالى، وهو أمرٌ غيرُ مطلوبٍ مِن الإنسان، ولا ضروريٍّ لفهمِ الأمر؛ فمتى ثبَتتْ عند الإنسانِ ربوبيَّةُ اللهِ، وكمالُ صفاتِهِ، ووجوبُ طاعتِهِ، وجَبَ عليه فعلُ ما أُمِرَ به، والصبرُ عليه؛ سواءٌ فَهِمَ آفاقَ الحكمةِ أو لا.
وعليه: فهذه الأصولُ تدُلُّ على أنه لا تعارُضَ بين تقديرِ اللهِ السابق، وبين تكليفِ اللهِ للإنسانِ بالعبادات، وأنه سبحانه لن يحاسِبَهُ على ما عَلِمَهُ في تقديرِهِ السابق، ولا ما كتَبَهُ في اللَّوْحِ المحفوظ، وإنما يحاسِبُهُ على ما صدَر منه مِن أفعالٍ بإرادتِهِ واختيارِهِ وقدرتِه، والعبدُ لا يُمكِنهُ أن يَحتَجَّ بالتقديرِ السابق؛ لأنه بالنسبةِ له غيبٌ محضٌ؛ فكيف ينسُبُ إلى الغيبِ أمرًا، وهو لا يَعلَمُ عنه شيئًا؟! والعبدُ يشعُرُ شعورًا حقيقيًّا بأن له إرادةً واختيارًا وقدرةً؛ فهو محصورٌ بين أمرٍ يَجهَلُهُ، وهو التقديرُ السابقُ، وبين أمرٍ يَعلَمُهُ عِلمًا ضروريًّا، وهو أن له إرادةً وحرِّيَّةً وقدرةً يستطيعُ بها تحديدَ مَسارِه؛ وقد قال تعالى:
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}
[الإنسان: 3].
مختصر الجواب
مختصَرُ الإجابة:
جعَلَ اللهُ تعالى للإنسانِ قدرةً واختيارًا لأفعالِه، كما يُدرِكُ ذلك الإنسانُ ببديهتِه، وهداه عن طريقِ الفطرة، وعن طريقِ الرِّسالاتِ التي أنزَلها؛ فدلَّه إلى الهِداية، وحذَّره مِن الغَواية، ولن يحاسِبَهُ بعلمِهِ السابق، وإنما يحاسِبُهُ ويجازيهِ بعملِه؛ قال تعالى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
[الزلزلة: 7- 8].
وإذا كان مدارُ النجاةِ على العملِ، والإنسانُ يَفعَلُهُ بقدرتِهِ واختيارِه، والمكتوبُ في القدرِ السابقِ غيرُ معلومٍ له -: فالحكمةُ تقتضي أن يجتهِدَ ويأخُذَ بأسبابِ النجاة، ويَسْألَ ربَّه أن يكونَ مِن أهلِ السعادة، ولا يترُكَ المعلومَ إلى المجهول.
ولا عجَبَ في أن يكونَ الربُّ الخالقُ عالمًا بأفعالِ العبادِ كاتبًا لها، مريدًا قادرًا خالقًا لها؛ فهذا مقتضى كونِهِ ربًّا خالقًا عالمًا حكيمًا.
واللهُ سبحانه غنيٌّ عن خلقِهِ، لا يَظلِمُهم، بل هو أرحمُ بهم مِن أنفُسِهم؛ فكيف يوسوِسُ العبدُ في هذا، ويظُنُّ بربِّه ظَنَّ السوء؟! قال تعالى:
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}
[النجم: 32].
والمقصودُ: أنه لا تعارُضَ بين تقديرِ اللهِ السابق، وبين تكليفِ اللهِ للإنسانِ بالعبادات، وأنه سبحانه لن يحاسِبَهُ على ما عَلِمَهُ في تقديرِهِ السابق، ولا ما كتَبَهُ في اللَّوْحِ المحفوظ، وإنما يحاسِبُهُ على ما صدَرَ منه مِن أفعالٍ بإرادتِهِ واختيارِهِ وقدرتِه، والعبدُ لا يُمكِنهُ أن يَحتَجَّ بالتقديرِ السابق؛ لأنه بالنسبةِ له غيبٌ محضٌ؛ فكيف ينسُبُ إلى الغيبِ أمرًا، وهو لا يَعلَمُ عنه شيئًا؟!
مختصر الجواب
مختصَرُ الإجابة:
جعَلَ اللهُ تعالى للإنسانِ قدرةً واختيارًا لأفعالِه، كما يُدرِكُ ذلك الإنسانُ ببديهتِه، وهداه عن طريقِ الفطرة، وعن طريقِ الرِّسالاتِ التي أنزَلها؛ فدلَّه إلى الهِداية، وحذَّره مِن الغَواية، ولن يحاسِبَهُ بعلمِهِ السابق، وإنما يحاسِبُهُ ويجازيهِ بعملِه؛ قال تعالى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
[الزلزلة: 7- 8].
وإذا كان مدارُ النجاةِ على العملِ، والإنسانُ يَفعَلُهُ بقدرتِهِ واختيارِه، والمكتوبُ في القدرِ السابقِ غيرُ معلومٍ له -: فالحكمةُ تقتضي أن يجتهِدَ ويأخُذَ بأسبابِ النجاة، ويَسْألَ ربَّه أن يكونَ مِن أهلِ السعادة، ولا يترُكَ المعلومَ إلى المجهول.
ولا عجَبَ في أن يكونَ الربُّ الخالقُ عالمًا بأفعالِ العبادِ كاتبًا لها، مريدًا قادرًا خالقًا لها؛ فهذا مقتضى كونِهِ ربًّا خالقًا عالمًا حكيمًا.
واللهُ سبحانه غنيٌّ عن خلقِهِ، لا يَظلِمُهم، بل هو أرحمُ بهم مِن أنفُسِهم؛ فكيف يوسوِسُ العبدُ في هذا، ويظُنُّ بربِّه ظَنَّ السوء؟! قال تعالى:
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}
[النجم: 32].
والمقصودُ: أنه لا تعارُضَ بين تقديرِ اللهِ السابق، وبين تكليفِ اللهِ للإنسانِ بالعبادات، وأنه سبحانه لن يحاسِبَهُ على ما عَلِمَهُ في تقديرِهِ السابق، ولا ما كتَبَهُ في اللَّوْحِ المحفوظ، وإنما يحاسِبُهُ على ما صدَرَ منه مِن أفعالٍ بإرادتِهِ واختيارِهِ وقدرتِه، والعبدُ لا يُمكِنهُ أن يَحتَجَّ بالتقديرِ السابق؛ لأنه بالنسبةِ له غيبٌ محضٌ؛ فكيف ينسُبُ إلى الغيبِ أمرًا، وهو لا يَعلَمُ عنه شيئًا؟!
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
بدايةً: فهنا مقدِّماتٌ مهمَّةٌ للحوارِ قبل الشروعِ في الجواب:
1- أن اللهَ تعالى ثبَتَتْ ربوبيَّتُهُ وألوهيَّتُهُ بأدلَّةٍ كثيرةٍ، وهي أدلَّةٌ شرعيَّةٌ، وعقليَّةٌ وفطريَّةُ، تُثبِتُ وجودَ الخالقِ وربوبيَّتَهُ واستحقاقَهُ للعبادة، وهناك مصادرُ معرفيَّةٌ كثيرةٌ عُنِيَتْ ببيانِ هذا الأصل.
2- مما يدخُلُ في الإيمانِ باللهِ تعالى: الإيمانُ بكمالِ علمِهِ وإرادتِه، وقدرتِهِ وحكمتِه، وكذلك الإيمانُ بكمالِ رحمتِه، والشواهدُ على ذلك في الشريعةِ، وفي خلقِ السمواتِ والأرضِ، والإنسانِ والحيوانِ، كثيرةٌ جِدًّا.
3- هذه الأصولُ مِن الإيمانِ باللهِ تعالى وصفاتِهِ، لا ينبغي أن تُهمَلَ لأجلِ مسألةٍ محدَّدةٍ قد يَفهَمُها بعضُ الناسِ، ولا يَفهَمُها بعضُهم؛ لأن المسائلَ الجزئيَّةَ تُفهَمُ في ضوءِ الأصول، ولا تُهدَمُ الأصولُ بها.
4- الإشكالُ في فهمِ حقيقةِ قَدَرِ الله، وكيفيَّةِ التوفيقِ بين أمرِهِ وقدرِهِ: قد وقَعَ فيه الناسُ مِن قديم، بل إبليسُ وقَعَ فيه قبل ذلك، وهو أمرٌ قديمٌ عند أهلِ الإسلامِ أيضًا، ودار حوله حوارٌ كثيرٌ، وقُدِّمَتْ فيه أفكارٌ متنوِّعة؛ فالأمرُ ليس حادثًا مبتكَرًا في أيامِنا هذه.
وأحدُ أسبابِ الخطأِ هو إرادةُ استيعابِ كاملِ الحكمةِ في كلِّ مسألة، وهذا أمرٌ غيرُ ممكِنٍ؛ لأن حكمةَ اللهِ تعالى لا يُحيطُ بها إلا اللهُ تعالى، بل الإنسانُ يَعجِزُ عن استيعابِ كاملِ مقاصدِ أهلِ العلوم؛ كفهمِ ما يَفعَلُهُ الأطبَّاءُ والمهندِسون والمربُّون وغيرُهم، بل غايتُهُ أن يَفهَمَ مقاصدَ بعضِهم، مع محدوديَّةِ عِلمِهم وحِكمتِهم، فكيف تُفهَمُ حكمةُ اللهِ تعالى في كلِّ شيء؟!
5- وعليه: فمحاوَلةُ معرفةِ الإنسانِ فَهْمَ القدَرِ، ما هو إلا مجرَّدُ محاوَلةٍ لتحصيلِ القَدْرِ الذي يتناسَبُ مع محدوديَّةِ عقلِه، وأن العقولَ لا تُدرِكُ الغيبيَّات، كما تُدرِكُ الحسِّيَّات، لا أن ينطلِقَ مِن إمكانيَّةِ الإحاطةِ بأسرارِ شيءٍ مِن خصائصِ الربوبيَّةِ والكمال، والذي منه ما يتعلَّقُ بالتقديرِ السابق، وبإدراكِ هذا الأمرِ يزولُ كثيرٌ مِن الغموض.
فكما أنه مِن المعلومِ أن الحسَّ، والسمعَ، والبصَرَ، وباقيَ الحواسِّ، لها حَدٌّ تستطيعُ أن تستقبِلَ في إطارِه، ودونه لا تُدرِكُ شيئًا، فكذلك العقلُ لا يستطيعُ أن يُحيطَ بكلِّ شيء.
والثابتُ بيقينٍ: أن الإنسانَ بطبعِهِ عاجزٌ عن الإحاطةِ بكمالِ الخالقِ وعظمتِهِ؛ فكيف سيُحيطُ بخصائصِه؟!
فعَلاقةُ العقلِ بعالَمِ الشهادةِ مؤسَّسةٌ على إدراكٍ كاملٍ بطاقةِ العقل، وإمكاناتِهِ والعلمِ بوظيفتِه، والإنسانُ لو فقَدَ حاسَّةً مِن حواسِّهِ الخمسِ، فاته العلمُ بالعالَمِ الحسِّيِّ المقابِلُ لها، ولو تخيَّلنا إنسانًا خُلِقَ دون هذه الحواسِّ، فإنه لا يَعلَمُ شيئًا عن هذا العالَمِ على سبيلِ اليقين.
أما في عالَمِ الغيبِ: فإن الأمرَ يختلِفُ تمامًا عن ذلك؛ لأن الحواسَّ لا تنالُهُ أصلًا في الدنيا، ولا سبيلَ لها إليه - إلا ما حدَثَ لبعضِ أنبيائِهِ مِن سماعِ كلامِهِ سبحانه بصوتِه - وبالتالي: فإن روافدَ العقلِ - التي هي الحواسُّ - والتي تزوِّدُهُ بالمعرفةِ بعالَمِ الغيبِ: مفقودةٌ، والتخيُّلُ العقليُّ هنا ليس مطلوبًا؛ لأن مطلوبَ المعرفةِ هنا هو اليقينُ الجازمُ الذي لا مجالَ فيه للتخيُّل.
فليس مِن العقلِ في شيءٍ أن يُعرِضَ الإنسانُ عما يشعُرُ به ويَعلَمُهُ علمًا ضروريًّا، ويتعلَّقُ بأمرٍ لا يَعلَمُ عنه شيئًا، ولا يُمكِنُ العِلمُ به البتَّةَ، وإنما العقلُ هنا يُوجِبُ أن يَعمَلَ الإنسانُ بما في يَدَيْه، ولا ينصرِفَ عن ذلك بالاشتغالِ بأمرٍ غائبٍ عنه.
فلا بدَّ للإنسانِ أن يتعلَّقَ وينشغِلَ بما بين يَدَيْهِ مِن القدرةِ على العمَلِ، ويَترُكَ التعلُّقَ بتقديرِ اللهِ السابق؛ فهو غائبٌ عنه، وأعظمُ بكثيرٍ مِن أن يُحيطَ به عقلُهُ القاصرُ.
وإنْ عجَزَ عن تصوُّرِ ذلك وإدراكِه، وقَصُرَ عقلُهُ عن فهمِه، فيجبُ التسليمُ والخضوعُ للكمالِ الإلهيّ، والعظَمةِ الربَّانيَّة.
وبناءً عليه: فإن الجوابَ على هذه الشبهةِ يكونُ على الترتيبِ المَنطِقيِّ التالي:
أوَّلًا: أن اللهَ عزَّ وجلَّ ثبَتَ أنه لم يزَلْ عالِمًا بكلِّ حادثٍ في هذا الكون، ومقدِّرًا ومدبِّرًا له، وهذه ضرورةٌ عقليَّةٌ؛ لأنه سبحانه الخالِقُ لأصلِ الكونِ ومادَّتِهِ وأحداثِهِ؛ فكيف لا يكونُ عالِمًا بها؟!
وأفعالُ العبادِ لا شَكَّ أنها حادثةٌ، بل العبادُ أنفُسُهم مِن الحوادث؛ فثبَتَتْ إحاطةُ اللهِ تعالى الكلِّيَّةُ بها بالعلمِ والإرادةِ والقدرة.
ثانيًا: أن تقديرَ اللهِ غيبٌ مَحْضٌ بالنسبةِ للإنسان، ولا يُمكِنُ معرفةُ عِلمِ اللهِ وقدرتِهِ وما شاءه في خلقِهِ وأراده في كونِهِ قبل أن يخلُقَه.
ولذا فإن الحكمةَ تقتضي ألا ينشغِلَ الإنسانُ بسِرٍّ بعيدِ الأغوارِ، يستحيلُ معرفتُهُ، وهو عاجزٌ عنه، بل أن يَصرِفَ جُهْدَهُ فيما يُدرِكُهُ، ويَقدِرُ عليه، ويختارُه.
ثالثًا: أن سُنَّةَ اللهِ في الكونِ أن الأمورَ بأسبابِها، وكلُّ حادثٍ لا بدَّ له مِن سببٍ أحدَثه.
وهذا مشاهَدٌ في حوادثِ الدنيا؛ فإنه لا يحصُلُ خيرٌ أو شرٌّ إلا بأسبابٍ معلومةٍ؛ فكذلك الحالُ مع أحداثِ الآخِرةِ، فهي - وإن كانت معلومةً ومكتوبةً ومقدِّرةً - إلا أنها مربوطةٌ بأسبابِها؛ فلا تكونُ بدونِها.
وإن كان الثوابُ والعقابُ سيقَعُ على الإنسان، وعَلِمْنا كمالَ اللهِ تعالى، فلا بدَّ إذَنْ أن تكونَ هذه الأسبابُ راجعةً إلى الإنسان، فإذا عاقَبَ اللهُ تعالى عبدًا على شيءٍ، فهو على سببٍ استحَقَّ به ذلك يقينًا، ويَبْقى تفاوُتُ العقولِ في إدراكِ حكمةِ اللهِ في ذلك.
رابعًا: أن اللهَ خلَقَ الإنسانَ خِلْقةً مختلِفةً عن سائرِ المخلوقات، وجعَلَ له قدرةً على الاختيار، يستطيعُ بها التأثيرَ في الأحداث.
وهذا أمرٌ ثابتٌ لا يُنكِرُهُ عاقلٌ؛ فإن الإنسانَ يَلمَسُ في داخلِ نفسِهِ قدرتَهُ على اختياراتِهِ في الأفعالِ العاديَّة.
وكذلك سائرُ الناسِ يفرِّقون بين أفعالِهم التي هي مِن اختيارِهم؛ كالأكلِ، والشربِ، والقتلِ، وبين أفعالِهم التي تقَعُ بغيرِ إرادةٍ منهم؛ كنَبَضاتِ قلبِهم، وارتعاشِهم في البَرْد.
ويرتِّبون على النوعِ الأوَّلِ الآثارَ القانونيَّة، ولا يعامِلونه كالثاني؛ وإلا لَفسَدتْ جميعُ التعامُلاتِ الإنسانيَّة.
فإذا عُلِمَتْ قدرةُ الإنسانِ على الاختيارِ، لم يكن الاحتجاجُ بالقَدَرِ على الذنبِ مقبولًا، بل لا يُمكِنُ للناسِ أن يَعِيشوا بذلك؛ إذْ يكونُ بذلك اعتداءُ الناسِ بعضِهم على بعض.
وكذلك الحالُ في الأفعالِ العِباديَّةِ، فهي مُتَّفِقةٌ مع باقي الأفعالِ في جِنسِها وطبيعتِها؛ فقدرةُ الإنسانِ على فعلِها ظاهرةٌ، واحتجاجُ الإنسانِ على تركِها بالقَدَرِ باطلٌ، وفي الآيةِ:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
[الجاثية: 15].
خامسًا: إذا ثبَتَ أن الإنسانَ له إرادةٌ وقُدْرةٌ يحدِّدُ بها أفعالَهُ الإنسانيَّة، وأن العباداتِ هي مِن جنسِ أفعالِ الإنسانِ العاديَّةِ التي يَقدِرُ عليها -: فإن إلزامَ اللهِ الناسَ بالعبادةِ لا ظلمَ فيه، وكذلك عقوبتُهم على تركِ شيءٍ منها لا ظلمَ فيه؛ فإن الثابتَ بالقطعِ: أن الإنسانَ لا يُحاسَبُ إلا على أفعالِهِ الواقعةِ قصدًا منه وعمدًا، أما ما صدَرَ منه مِن قبيلِ السَّهْوِ، أو النِّسْيانِ، أو ما قهَرَهُ غيرُهُ على فِعلِه، فلا يُحاسَبُ عليه.
سادسًا: أن اللهَ بمقتضَى كمالِ عدلِه، وكمالِ رحمتِه، لم يترُكْ عبادَهُ همَلًا، بل أرسَلَ إليهم الرسُلُ، وبصَّرهم بالحقِّ والباطل، وبيَّن لهم سبيلَ الهِداية، وحذَّرهم مِن طريقِ الغَواية، بل فطَرَهم على التوحيدِ له، والخضوعِ لعَظَمتِه، والإقرارِ بوجودِه.
وعَفَا عمَّن لم تبلُغْهُ الرِّسالة، ولم يَصِلْ إليه البيانُ الإلهيُّ؛ كما قال تعالى:
{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
[الإسراء: 15].
ويسَّر لهم الأسبابَ والقُوَى، وعذَرَهم فيما لا يَقدِرون عليه فِعلًا؛ فلم يَبْقَ هناك سببٌ لتركِ طاعةِ الله تعالى، أوِ الاحتجاجِ بالقدَرِ على ذلك.
سابعًا: ثبَتَ مما سبَقَ: أن اللهَ تعالى يَعلَمُ كلَّ شيءٍ، وقدَّره بمشيئتِهِ وقدرتِهِ وحكمتِه، وثبَتَ أيضًا: أن العبدَ له إرادةٌ وقدرةٌ على فعلِ الطاعاتِ والمعاصي، يُحاسَبُ عليها، وأما ما لا يَقدِرُ عليه، فلا يُحاسَبُ عليه؛ فلم يَبْقَ إلا فهمُ دخولِ مقدورِ العبدِ في مقدورِ اللهِ تعالى، وهو أمرٌ غيرُ مطلوبٍ مِن الإنسان، ولا ضروريٍّ لفهمِ الأمر؛ فمتى ثبَتتْ عند الإنسانِ ربوبيَّةُ اللهِ، وكمالُ صفاتِهِ، ووجوبُ طاعتِهِ، وجَبَ عليه فعلُ ما أُمِرَ به، والصبرُ عليه؛ سواءٌ فَهِمَ آفاقَ الحكمةِ أو لا.
وعليه: فهذه الأصولُ تدُلُّ على أنه لا تعارُضَ بين تقديرِ اللهِ السابق، وبين تكليفِ اللهِ للإنسانِ بالعبادات، وأنه سبحانه لن يحاسِبَهُ على ما عَلِمَهُ في تقديرِهِ السابق، ولا ما كتَبَهُ في اللَّوْحِ المحفوظ، وإنما يحاسِبُهُ على ما صدَر منه مِن أفعالٍ بإرادتِهِ واختيارِهِ وقدرتِه، والعبدُ لا يُمكِنهُ أن يَحتَجَّ بالتقديرِ السابق؛ لأنه بالنسبةِ له غيبٌ محضٌ؛ فكيف ينسُبُ إلى الغيبِ أمرًا، وهو لا يَعلَمُ عنه شيئًا؟! والعبدُ يشعُرُ شعورًا حقيقيًّا بأن له إرادةً واختيارًا وقدرةً؛ فهو محصورٌ بين أمرٍ يَجهَلُهُ، وهو التقديرُ السابقُ، وبين أمرٍ يَعلَمُهُ عِلمًا ضروريًّا، وهو أن له إرادةً وحرِّيَّةً وقدرةً يستطيعُ بها تحديدَ مَسارِه؛ وقد قال تعالى:
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}
[الإنسان: 3].