نص السؤال
إذا كان الله رحيمًا، فلماذا يُوجِدُ كلَّ هذه الصُّوَرِ مِن الشرِّ؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
لماذا يُوجِدُ اللهُ هذا الكَمَّ مِن الزلازلِ والبراكين، والحروبِ والمَجاعاتِ والإباداتِ في العالَم؟ لماذا طُولُ استضعافِ كثيرٍ مِن البشَرِ في العالَم، وتجبُّرِ الظالِمين عليهم؟
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
لا شكَّ أن الكلامَ في مسألةِ الشرِّ خصوصًا، أمرٌ قديمٌ في الفكرِ الإنسانيِّ، بل الكلامُ في مسائلِ القدَرِ بشكلٍ عامٍّ، مِن أشدِّ ما اضطرَبَ فيه العقلُ الإنسانيّ.
ابتداءً مِن أتباعِ مدرسةِ أرسطو، مرورًا بأَبِيقُورَ ومدرستِه، الذين أنكَروا العنايةَ الإلهيَّةَ، ومَوْجاتِ الملاحِدةِ الغربيِّين؛ كهُولْباخَ، ونِيتْشَه، ودارْوِين، واعتمادِهم القويِّ على هذه القضيَّةِ في إنكارِ وجودِ الله، والتشكيكِ فيه، وصولًا إلى الملاحِدةِ المعاصِرين.
وعلى النقيضِ مِن ذلك: أتباعُ المدرسةِ الإسلاميَّة، وعلماؤُها الذين قدَّموا لهذه المسألةِ ردودًا عميقةً شافيةً:
أوَّلًا: صفةُ الرحمةِ مرتبِطةٌ بباقي الصفاتِ الإلهيَّة، والتي منها صفةُ الحكمة:
لا ينبغي للناظرِ إلى صفاتِ اللهِ أن ينظُرَ إلى تجلِّي كلِّ صفةٍ بمفرَدِها، وإنما ينظُرُ إلى صفاتِ اللهِ وآثارِها في الكونِ باعتبارِها متضافِرةً مرتبِطةً فيما بينها، فكما أن اللهَ رحيمٌ، فهو حكيمٌ، وعادلٌ، وقهَّارٌ، وجبَّارٌ، ومَلِكٌ، ومدبِّرٌ، ومتَّصِفٌ بالجلالِ والجَبَروتِ؛ كلُّ هذه الصفاتِ لا بدَّ أن يكونَ لها تَجَلٍّ وأثرٌ، وإلا أضحَتْ ناقصةً غيرَ مكتمِلةٍ.
فالأبُ الذي يُحِبُّ ابنَهُ بفطرَتِهِ، قد يَفعَلُ به بعضَ الأفعالِ التي يَعجِزُ الابنُ عن تفسيرِها، ويَرَاها شرًّا مِن وجهةِ نظَرِه، ولكنَّ الأبَ يَفعَلُ هذا لمصلحةِ ابنِه.
فإذا كان هذا وارِدَ الحدوثِ بين البشَرِ، ولا يَلزَمُ منه نفيُ الرحمةِ أو القدرةِ أو الحكمةِ عن صاحبِه، بل قد يكونُ مِن مقتضى الرحمةِ والحكمةِ والقدرة؛ كما لو قام الطبيبُ ببَتْرِ أحدِ أعضاءِ المريضِ حِفاظًا على حياتِه - فهو مِن بابِ أَوْلى أمرٌ سهلُ التصوُّرِ حدوثُهُ مِن قِبَلِ الخالقِ سبحانه.
فكما أن الأبَ ليست رحمتُهُ لأبنائِهِ بالحُبِّ فقطْ، فالخالقُ - مِن بابِ أَوْلى - ليست حكمتُهُ ورحمتُهُ أن يخلُقَ الدنيا لا كَدَرَ فيها ولا نَصَبَ، بل لا بدَّ مِن أمورٍ لا يَرَى فيها البشَرَ وجهًا مِن وجوهِ الخير، ويَعجِزون عن فهمِها، ومع ذلك فلا يُنْفى عنه الرحمةُ والحكمةُ سبحانه وبحمدِه.
فصِفةُ الرحمةِ إذنْ مرتبِطةٌ بباقي الصفاتِ الإلهيَّة، والتي منها صفةُ الحكمة.
ثانيًا: يستحيلُ للبشَرِ أن يُدرِكوا كيفيَّةَ صفاتِ اللهِ تعالى، والإحاطةَ بها:
مِن المعلومِ أن صفاتِ اللهِ لا مثيلَ لها، كما أن ذاتَ اللهِ لا مثيلَ لها؛ فالكلامُ في الصفاتِ كالكلامِ في الذات.
فإذا كان البشَرُ عاجِزينَ عن إدراكِ كيفيَّةِ ذاتِ اللهِ، والإحاطةِ بها، فهم عاجِزون عن إدراكِ كيفيَّةِ صفاتِهِ، والإحاطةِ بها.
وعليه: فمِن الخطأِ السعيُ في الإحاطةِ بحكمةِ اللهِ مِن خَلْقِه، وأحداثِ الكون، وقد كان هذا المعنى حاضرًا عند علماءِ الإسلامِ أثناءَ مناقَشتِهم لقضيَّةِ الشرِّ، وأنهم لا يعترِضون على الخالقِ كأنه مخلوقٌ محدودُ القدرةِ والحكمةِ والعِلم، بل كأنه بشَرٌ مثلُهم؛ فغايةُ ما في شبهةِ الشرِّ عدمُ إيجادِ سببٍ مقنِعٍ للعبدِ في فهمِ حكمةِ اللهِ فيها، وعدمُ فهمِ الحِكَمِ لا يَعْني انتفاءَها إلا إذا أحاط العبدُ علمًا بحكمةِ الله، وهو قاصرٌ عنها.
ثالثًا: القصورُ في فهمِ الحكمةِ مِن خَلْقِ الحياةِ الدنيا:
المستنكِرُ لوجودِ الشرِّ في الدنيا ينطلِقُ مِن تصوُّرٍ خاطئٍ عن الحياةِ الدنيا ابتداءً، واللهُ سبحانه أخبَرَ أن الدنيا دارُ بلاءٍ وكَبَدٍ، لا دارُ لذَّةٍ ونعيم؛ لأن حياةَ الإنسانِ ليست منحصِرةً في الحياةِ الدنيويَّةِ فقطْ، وإنما الحياةُ الدنيا ما هي إلا مَمَرٌّ إلى الحياةِ الحقيقيَّة؛ كما قال تعالى:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}
[الملك: 2]
وقال سبحانه:
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}
[الإنسان: 2].
وعليه: فالاعتراضُ على عدمِ فهمِ الحكمةِ مِن وجودِ الشرِّ، ومحاوَلةُ تفسيرِهِ بالظلمِ الإلهيّ، لا يستقيمُ؛ فالرحلةُ لم تنتهِ بعدُ! ولا بدَّ فيها مِن الابتلاءِ والتمحيص؛ ليَمِيزَ اللهُ الخبيثَ مِن الطيِّب، ويكافئَ العبادَ بحسَبِ أعمالِهم.
وفي الآخِرةِ يقولُ الفائزون برضوانِ اللهِ تعالى:
{الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}
[فاطر: 34].
ويقولُ العَدْلُ سبحانَهُ وبحمدِهِ:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}
[الأنبياء: 47].
رابعًا: ضرورةُ ردِّ المتشابِهِ إلى المحكَم:
فإن المنهجَ العقليَّ الصحيحَ يُوجِبُ على مَن رأى في مشاهدِ الكونِ أمورًا لم يَفهَمْ حِكمتَها، ولم تَظهَرْ له غايتُها، يُوجِبُ عليه إرجاعَ ذلك إلى ما يراهُ مِن مشاهدِ الإحكامِ الأخرى، التي هي أكثرُ في العدَد، وعلى مَن رأى في مشاهدِ الكونِ أمورًا لا يَرَى فيها الرحمةَ بمنظورِهِ هو، فيجبُ عليه أن يتأمَّلَ في هذا العالَمِ المشحونِ بالأفعالِ والصنائعِ الدالَّةِ على رحمةِ اللهِ الواسعة، وفضلِهِ العميم؛ فلا يَصِحُّ أن أن نغُضَّ النظرَ عن كلِّ تلك المشاهدِ والدلائلِ التي هي أكثرُ في العددِ، وأظهَرُ في الدَّلالةِ، ونركِّزَ أنظارَنا إلى بعضِ المشاهدِ التي لم تَظهَرْ فيها الحكمةُ والرحمةُ بصورةٍ واضحة.
فالمنهجُ العلميُّ الصحيحُ يستلزِمُ أن يُقاسَ المجهولُ على المعلوم، وأن يُحمَلَ المتشابِهُ على المحكَمِ، فكما أن في الكلامِ محكَمًا ومتشابِهًا، والعقلاءُ يَفهَمون المتشابِهَ بناءً على المحكَم، ويَحمِلونه عليه؛ فكذلك الأفعالُ الواقعيَّةُ فيها المحكَمُ والمتشابِه.
فالعقلاءُ قاطِبةً متَّفِقون على أن الفاعلَ إذا فعَلَ أفعالًا، ظهَرَت فيها حكمتُه، ووقَعَت على أتمِّ الوجوه، وأوفَقِها للمصالحِ المقصودةِ بها، ثم إذا رأَوْا أفعالَهُ قد تكرَّرت كذلك، ثم جاءهم مِن أفعالِهِ ما لا يَعلَمون وجهَ حكمتِهِ فيه، لم يَسَعْهم غيرُ التسليمِ لِما عرَفوا مِن حكمتِه، واستقَرَّ في عقولِهم منها، ورَدُّوا منها ما جَهِلوه إلى محكَمِ ما عَلِموه؛ هكذا نجدُ أربابَ كلِّ صناعةٍ مع أستاذِهم.
فالذي ينبغي أن يكونَ عليه العبدُ مع خالِقِهِ: أن يتعرَّفَ عليه سبحانه بقدرِ ما يمكِّنُهُ عقلُهُ مِن ذلك، ويجتهِدَ في طاعتِه، وأن يَفهَمَ مرادَ اللهِ مِن خلقِهِ وإيجادِهِ بعد أن كان عدمًا، ويُقبِلَ على كتابِه، ويتدبَّرَ معانيَه؛ يقولُ الحقُّ تبارَكَ وتعالى:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}
[المؤمنون: 115].
ولذا: فإن كثرةَ ذِكرِ ركنِ الإيمانِ باليومِ الآخِرِ في خطابِ الوحي، وكثرةَ التنبيهِ على مَرَدِّ العبادِ إلى ربِّهم في نهايةِ المطاف -: فإنما هو لضرورةِ استحضارِ مركزيَّةِ الدارِ الآخِرة؛ فاليومُ الآخِرُ تدُلُّ عليه العقولُ السليمة.
وتأمَّلْ قولَ العدلِ سبحانه:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}
[الأنبياء: 47]
؛ ففي الآيةِ تسليةٌ للمظلومِ بأن الدنيا ليست نهايةَ المطاف، وأنه ما زال هناك مَحكَمةُ العدلِ الأخرويَّة.
وعليه: فإن اللهَ تعالى لا يَفعَلُ شيئًا في هذا الكونِ إلا لحكمةٍ حميدة؛ فمِن المستحيلِ: أن يكونَ هذا الكونُ المُذهِلُ بكلِّ ما فيه مِن دلائلِ العظَمةِ والقدرةِ خُلِقَ لمجرَّدِ عبَثٍ؛ فإذا اعتقَدَ الإنسانُ أن اللهَ لا يَفعَلُ شيئًا إلا لحكمةٍ، فإنه كذلك يجبُ أن يعتقِدَ أن البشَرَ يستحيلُ عليهم أن يُحيطوا بحكمةِ الله، ويستحيلُ عليهم أن يَعلَموا بكلِّ مقاصدِ اللهِ في خلقِ الكونِ وإحداثِه.
ولو أطلَعَ الواحدُ منا غيرَهُ على جميعِ شأنِه، فإنه يُعَدُّ ناقصًا، فكيف باللهِ العظيمِ مع خلقِه؟! فإن شأنَهُ وكمالَهُ أعظَمُ مِن أن يُطلِعَ كلَّ واحدٍ مِن خلقِهِ على تفاصيلِ حكمتِه.
ومع ذلك: فالكونُ مليءٌ أيضًا بما يستطيعُ البشَرُ أن يتبيَّنوا منه حكمةَ اللهِ ورحمتَه، وبديعَ صنعِهِ ورعايتَه؛ فالعاقلُ يستدِلُّ بما تبيَّن له على ما خَفِيَ عليه، وأن صفاتِ هذا الإلهِ العظيمِ لا بدَّ أن يكونَ لها أثرٌ في الكون؛ فمقتضى كمالِ عدلِ اللهِ: أن يُوجَدَ في الكونِ ظالِمون ومظلومون، ومقتضى جلالِهِ وجبَروتِهِ وهَيْمَنتِهِ: يستوجِبُ ظهورَ هذه المعاني في الكون.
فمثلًا: مقتضى تخييرِ اللهِ لعبادِه، وجعلِهم قادِرينَ على اختيارِ أفعالِهم: أن يَظهَرَ فيهم مَن يختارُ الخيرَ، ومَن يختارُ الشرَّ والظلمَ والقتلَ؛ فنرى الحروبَ والمجاعاتِ، وغيرَ ذلك.
خامسًا: لا يستقيمُ عقلًا الاعتمادُ على قضيَّةِ الشرِّ في إنكارِ وجودِ الله، أو الشكِّ في كمالِه:
فهذا يُعَدُّ قفزًا على أدلَّةٍ هي أقوى في الدَّلالةِ والثبوتِ، تدُلُّ على ضرورةِ وجودِ الله؛ فهذا الكونُ مليءٌ بالصنائعِ الدالَّةِ على قدرةِ الخالق، والإتقانِ الذي يقتضي وجودَهُ وكمالَه.
بل الشرُّ نفسُهُ أمرٌ ذوقيٌّ لا مِعْيارَ له في إطارِ مركزيَّةِ الإنسان؛ فلا نستطيعُ أن نَجزِمَ أن شيئًا مَّا شرٌّ محضٌ؛ فما يراه فلانٌ شرًّا يراه غيرُهُ خيرًا، ولن نَجزِمَ بحقيقةِ الشرِّ إلا بالرجوعِ إلى اللهِ تعالى، ومِعْياريَّةُ الوحيِ الذي هو مرجعيَّةٌ مطلَقةٌ متجاوِزةٌ للبشَرِ، وإلا فسنَظَلُّ في حالةٍ مِن السيولةِ القِيميَّةِ، والنِّسْبيَّةِ الدائمة.
ولذلك يعبِّرُ المُلحِدُ جُون بُول سارْتَر؛ فيقولُ: «يجدُ الوجوديُّ حَرَجًا بالغًا في ألا يكونَ اللهُ موجودًا؛ لأنه بعدمِ وجودِهِ تنعدِمُ كلُّ إمكانيَّةٍ للعثورِ على قِيَمٍ في عالَمٍ واضح».
ومثَلُ المعتمِدِ على قضيَّةِ الشرِّ لإنكارِ وجودِ الله: كمثَلِ طفلٍ رأى مِن أبيهِ ما لا يسُرُّهُ مِن القسوةِ والضرَر؛ فاتخَذَ ذلك دليلًا على إنكارِ فكرةِ الأُبُوَّة.
فإن غايةَ ما تدُلُّ عليه قضيَّةُ الشرِّ عند المُلحِدِ - إن كان متَّسِقًا مع العقلِ الصحيح - أن تَقدَحَ في صفةٍ مِن صفاتِ الله، لا أن تدُلَّ على عدمِ وجودِه.
وهو ما اعترَفَ به الملاحِدةُ أنفُسُهم، كـ (أنتوني فُلُو)؛ فقد صرَّح أن عدمَ فهمِهِ لمشكِلةِ الشرِّ، لا ينبغي أن يُلْغِيَ القناعةَ بوجودِ الإله.
هذا الأمرُ لا بدَّ أن نقرِّرَهُ قبل أيِّ حديثٍ لنا في بيانِ هذه القضيَّة، وأنها ليست قادحةً في صفاتِ اللهِ العليِّ القديرِ، بل هي مِن كمالِ حكمتِهِ وعدلِهِ ورحمتِه، وأننا لا نسلِّمُ ابتداءً للمُلحِدِ إنْ عجَزَ عن فهمِ قضيَّةِ الشرِّ: أن يُنكِرَ وجودَ الله.
وهنا: السؤالُ للمُلحِدِ نفسِهِ: هل عندما أنكَرْتَ وجودَ اللهِ، انتهى الشرُّ مِن العالَم؟!
فعلى الأقلِّ: فإن المسلِمَ عنده منظومةٌ مُتَّسِقةٌ مِن وجودِ حياةٍ أخرويَّةٍ؛ يُحاسَبُ فيها العبادُ، وتُرَدُّ فيها الحقوقُ، ويُثابُ فيها العبادُ على ما لاقَوْهُ مِن العناءِ في الدنيا، ويُنتقَمُ فيها مِن الظالم.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال: التحيُّرُ أو التذمُّرُ مِن وجودِ الشرِّ، وأن اللهَ تعالى لو كان موجودًا، لكان - على زعمِهم - لا يَفعَلُ هذه الأشياءَ، أو لا ينبغي له فِعلُها.
مختصَرُ الإجابة:
لا يَصِحُّ تقييمُ الشرِّ أو الخيرِ بمعياريَّةِ عقولِنا القاصِرةِ التي لا تُدرِكُ الجزئيَّاتِ، ثم نَقيسُ بها التقديرَ الإلهيَّ للأمور، ونَصِفُ اللهَ عزَّ وجلَّ بعد ذلك بالقسوةِ والشرِّ، أو بالعَجْز.
والأصلُ: أنه ما مِن شيءٍ إلا وخلَقهُ اللهُ لحكمةٍ ومصلحةٍ، سواءٌ عَلِمها الإنسانُ، أو غابَت عنه؛ فإن صفةَ الرحمةِ مرتبِطةٌ بباقي الصفاتِ الإلهيَّة، والتي منها صفةُ الحكمة، ويستحيلُ للبشَرِ أن يُدرِكوا كيفيَّةَ صفاتِ اللهِ تعالى، والإحاطةَ بها.
فإنْ غاب عن الإنسانِ شيءٌ مِن حكمةِ الله، فإنه يرُدُّهُ إلى ما تبيَّن له مِن دلائلِ حكمتِهِ ورحمتِهِ في هذا الكونِ العظيم؛ ضرورةَ ردِّ المتشابِهِ إلى المحكَم، وعدمُ عِلمِنا بالحكمةِ في بعضِ الجزئيَّاتِ، لا يَقدَحُ في أصلِ الحكمةِ وكمالِها.
ولو عَلِمَ الإنسانُ كلَّ حكمةٍ وراءَ كلِّ شيءٍ في هذا الكونِ، فأين يكونُ الاختبارُ الدنيويُّ؟! وكيف سيختبِرُ اللهُ عبادَهُ في إيمانِهم بالقدَرِ وحِكمتِه؟! فإن الكلَّ لو كان ظاهرًا جليًّا، لبطَلَ معنى الامتحان؛ وهذا قصورٌ في فهمِ الحكمةِ مِن خَلْقِ الحياةِ الدنيا.
وعلى ذلك: فلا يستقيمُ عقلًا الاعتمادُ على قضيَّةِ الشرِّ في إنكارِ وجودِ الله، أو الشكِّ في كمالِه.
والمقصودُ: أن الشرَّ النِّسْبيَّ في الكونِ أمرٌ ضروريٌّ؛ لإظهارِ كمالِ اللهِ في قدرتِهِ على خلقِ المتضادَّات، وأن يجدَ العبادُ في أنفُسِهم أنه لا مَلجَأَ إلا إلى الله، وأنهم مفتقِرون إلى رعايتِهِ وعدلِهِ وجزائِه، كما أن الدنيا دارُ عبورٍ واختبار، لا دارُ تنعُّمٍ واستقرار؛ فلا يُستنكَرُ ما يقَعُ فيها مِن الشرورِ والآلام.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية:
نُجمِلُ ما سبَقَ: بأن الشرَّ النِّسْبيَّ في الكونِ أمرٌ ضروريٌّ؛ لإظهارِ كمالِ اللهِ في قدرتِهِ على خلقِ المتضادَّات، وأن يجدَ العبادُ في أنفُسِهم أنه لا مَلجَأَ إلا إلى الله، وأنهم مفتقِرون إلى رعايتِهِ وعدلِهِ وجزائِه، كما أن الدنيا دارُ عبورٍ واختبار، لا دارُ تنعُّمٍ واستقرار؛ فلا يُستنكَرُ ما يقَعُ فيها مِن الشرورِ والآلام.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال: التحيُّرُ أو التذمُّرُ مِن وجودِ الشرِّ، وأن اللهَ تعالى لو كان موجودًا، لكان - على زعمِهم - لا يَفعَلُ هذه الأشياءَ، أو لا ينبغي له فِعلُها.
مختصَرُ الإجابة:
لا يَصِحُّ تقييمُ الشرِّ أو الخيرِ بمعياريَّةِ عقولِنا القاصِرةِ التي لا تُدرِكُ الجزئيَّاتِ، ثم نَقيسُ بها التقديرَ الإلهيَّ للأمور، ونَصِفُ اللهَ عزَّ وجلَّ بعد ذلك بالقسوةِ والشرِّ، أو بالعَجْز.
والأصلُ: أنه ما مِن شيءٍ إلا وخلَقهُ اللهُ لحكمةٍ ومصلحةٍ، سواءٌ عَلِمها الإنسانُ، أو غابَت عنه؛ فإن صفةَ الرحمةِ مرتبِطةٌ بباقي الصفاتِ الإلهيَّة، والتي منها صفةُ الحكمة، ويستحيلُ للبشَرِ أن يُدرِكوا كيفيَّةَ صفاتِ اللهِ تعالى، والإحاطةَ بها.
فإنْ غاب عن الإنسانِ شيءٌ مِن حكمةِ الله، فإنه يرُدُّهُ إلى ما تبيَّن له مِن دلائلِ حكمتِهِ ورحمتِهِ في هذا الكونِ العظيم؛ ضرورةَ ردِّ المتشابِهِ إلى المحكَم، وعدمُ عِلمِنا بالحكمةِ في بعضِ الجزئيَّاتِ، لا يَقدَحُ في أصلِ الحكمةِ وكمالِها.
ولو عَلِمَ الإنسانُ كلَّ حكمةٍ وراءَ كلِّ شيءٍ في هذا الكونِ، فأين يكونُ الاختبارُ الدنيويُّ؟! وكيف سيختبِرُ اللهُ عبادَهُ في إيمانِهم بالقدَرِ وحِكمتِه؟! فإن الكلَّ لو كان ظاهرًا جليًّا، لبطَلَ معنى الامتحان؛ وهذا قصورٌ في فهمِ الحكمةِ مِن خَلْقِ الحياةِ الدنيا.
وعلى ذلك: فلا يستقيمُ عقلًا الاعتمادُ على قضيَّةِ الشرِّ في إنكارِ وجودِ الله، أو الشكِّ في كمالِه.
والمقصودُ: أن الشرَّ النِّسْبيَّ في الكونِ أمرٌ ضروريٌّ؛ لإظهارِ كمالِ اللهِ في قدرتِهِ على خلقِ المتضادَّات، وأن يجدَ العبادُ في أنفُسِهم أنه لا مَلجَأَ إلا إلى الله، وأنهم مفتقِرون إلى رعايتِهِ وعدلِهِ وجزائِه، كما أن الدنيا دارُ عبورٍ واختبار، لا دارُ تنعُّمٍ واستقرار؛ فلا يُستنكَرُ ما يقَعُ فيها مِن الشرورِ والآلام.
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
لا شكَّ أن الكلامَ في مسألةِ الشرِّ خصوصًا، أمرٌ قديمٌ في الفكرِ الإنسانيِّ، بل الكلامُ في مسائلِ القدَرِ بشكلٍ عامٍّ، مِن أشدِّ ما اضطرَبَ فيه العقلُ الإنسانيّ.
ابتداءً مِن أتباعِ مدرسةِ أرسطو، مرورًا بأَبِيقُورَ ومدرستِه، الذين أنكَروا العنايةَ الإلهيَّةَ، ومَوْجاتِ الملاحِدةِ الغربيِّين؛ كهُولْباخَ، ونِيتْشَه، ودارْوِين، واعتمادِهم القويِّ على هذه القضيَّةِ في إنكارِ وجودِ الله، والتشكيكِ فيه، وصولًا إلى الملاحِدةِ المعاصِرين.
وعلى النقيضِ مِن ذلك: أتباعُ المدرسةِ الإسلاميَّة، وعلماؤُها الذين قدَّموا لهذه المسألةِ ردودًا عميقةً شافيةً:
أوَّلًا: صفةُ الرحمةِ مرتبِطةٌ بباقي الصفاتِ الإلهيَّة، والتي منها صفةُ الحكمة:
لا ينبغي للناظرِ إلى صفاتِ اللهِ أن ينظُرَ إلى تجلِّي كلِّ صفةٍ بمفرَدِها، وإنما ينظُرُ إلى صفاتِ اللهِ وآثارِها في الكونِ باعتبارِها متضافِرةً مرتبِطةً فيما بينها، فكما أن اللهَ رحيمٌ، فهو حكيمٌ، وعادلٌ، وقهَّارٌ، وجبَّارٌ، ومَلِكٌ، ومدبِّرٌ، ومتَّصِفٌ بالجلالِ والجَبَروتِ؛ كلُّ هذه الصفاتِ لا بدَّ أن يكونَ لها تَجَلٍّ وأثرٌ، وإلا أضحَتْ ناقصةً غيرَ مكتمِلةٍ.
فالأبُ الذي يُحِبُّ ابنَهُ بفطرَتِهِ، قد يَفعَلُ به بعضَ الأفعالِ التي يَعجِزُ الابنُ عن تفسيرِها، ويَرَاها شرًّا مِن وجهةِ نظَرِه، ولكنَّ الأبَ يَفعَلُ هذا لمصلحةِ ابنِه.
فإذا كان هذا وارِدَ الحدوثِ بين البشَرِ، ولا يَلزَمُ منه نفيُ الرحمةِ أو القدرةِ أو الحكمةِ عن صاحبِه، بل قد يكونُ مِن مقتضى الرحمةِ والحكمةِ والقدرة؛ كما لو قام الطبيبُ ببَتْرِ أحدِ أعضاءِ المريضِ حِفاظًا على حياتِه - فهو مِن بابِ أَوْلى أمرٌ سهلُ التصوُّرِ حدوثُهُ مِن قِبَلِ الخالقِ سبحانه.
فكما أن الأبَ ليست رحمتُهُ لأبنائِهِ بالحُبِّ فقطْ، فالخالقُ - مِن بابِ أَوْلى - ليست حكمتُهُ ورحمتُهُ أن يخلُقَ الدنيا لا كَدَرَ فيها ولا نَصَبَ، بل لا بدَّ مِن أمورٍ لا يَرَى فيها البشَرَ وجهًا مِن وجوهِ الخير، ويَعجِزون عن فهمِها، ومع ذلك فلا يُنْفى عنه الرحمةُ والحكمةُ سبحانه وبحمدِه.
فصِفةُ الرحمةِ إذنْ مرتبِطةٌ بباقي الصفاتِ الإلهيَّة، والتي منها صفةُ الحكمة.
ثانيًا: يستحيلُ للبشَرِ أن يُدرِكوا كيفيَّةَ صفاتِ اللهِ تعالى، والإحاطةَ بها:
مِن المعلومِ أن صفاتِ اللهِ لا مثيلَ لها، كما أن ذاتَ اللهِ لا مثيلَ لها؛ فالكلامُ في الصفاتِ كالكلامِ في الذات.
فإذا كان البشَرُ عاجِزينَ عن إدراكِ كيفيَّةِ ذاتِ اللهِ، والإحاطةِ بها، فهم عاجِزون عن إدراكِ كيفيَّةِ صفاتِهِ، والإحاطةِ بها.
وعليه: فمِن الخطأِ السعيُ في الإحاطةِ بحكمةِ اللهِ مِن خَلْقِه، وأحداثِ الكون، وقد كان هذا المعنى حاضرًا عند علماءِ الإسلامِ أثناءَ مناقَشتِهم لقضيَّةِ الشرِّ، وأنهم لا يعترِضون على الخالقِ كأنه مخلوقٌ محدودُ القدرةِ والحكمةِ والعِلم، بل كأنه بشَرٌ مثلُهم؛ فغايةُ ما في شبهةِ الشرِّ عدمُ إيجادِ سببٍ مقنِعٍ للعبدِ في فهمِ حكمةِ اللهِ فيها، وعدمُ فهمِ الحِكَمِ لا يَعْني انتفاءَها إلا إذا أحاط العبدُ علمًا بحكمةِ الله، وهو قاصرٌ عنها.
ثالثًا: القصورُ في فهمِ الحكمةِ مِن خَلْقِ الحياةِ الدنيا:
المستنكِرُ لوجودِ الشرِّ في الدنيا ينطلِقُ مِن تصوُّرٍ خاطئٍ عن الحياةِ الدنيا ابتداءً، واللهُ سبحانه أخبَرَ أن الدنيا دارُ بلاءٍ وكَبَدٍ، لا دارُ لذَّةٍ ونعيم؛ لأن حياةَ الإنسانِ ليست منحصِرةً في الحياةِ الدنيويَّةِ فقطْ، وإنما الحياةُ الدنيا ما هي إلا مَمَرٌّ إلى الحياةِ الحقيقيَّة؛ كما قال تعالى:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}
[الملك: 2]
وقال سبحانه:
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}
[الإنسان: 2].
وعليه: فالاعتراضُ على عدمِ فهمِ الحكمةِ مِن وجودِ الشرِّ، ومحاوَلةُ تفسيرِهِ بالظلمِ الإلهيّ، لا يستقيمُ؛ فالرحلةُ لم تنتهِ بعدُ! ولا بدَّ فيها مِن الابتلاءِ والتمحيص؛ ليَمِيزَ اللهُ الخبيثَ مِن الطيِّب، ويكافئَ العبادَ بحسَبِ أعمالِهم.
وفي الآخِرةِ يقولُ الفائزون برضوانِ اللهِ تعالى:
{الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}
[فاطر: 34].
ويقولُ العَدْلُ سبحانَهُ وبحمدِهِ:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}
[الأنبياء: 47].
رابعًا: ضرورةُ ردِّ المتشابِهِ إلى المحكَم:
فإن المنهجَ العقليَّ الصحيحَ يُوجِبُ على مَن رأى في مشاهدِ الكونِ أمورًا لم يَفهَمْ حِكمتَها، ولم تَظهَرْ له غايتُها، يُوجِبُ عليه إرجاعَ ذلك إلى ما يراهُ مِن مشاهدِ الإحكامِ الأخرى، التي هي أكثرُ في العدَد، وعلى مَن رأى في مشاهدِ الكونِ أمورًا لا يَرَى فيها الرحمةَ بمنظورِهِ هو، فيجبُ عليه أن يتأمَّلَ في هذا العالَمِ المشحونِ بالأفعالِ والصنائعِ الدالَّةِ على رحمةِ اللهِ الواسعة، وفضلِهِ العميم؛ فلا يَصِحُّ أن أن نغُضَّ النظرَ عن كلِّ تلك المشاهدِ والدلائلِ التي هي أكثرُ في العددِ، وأظهَرُ في الدَّلالةِ، ونركِّزَ أنظارَنا إلى بعضِ المشاهدِ التي لم تَظهَرْ فيها الحكمةُ والرحمةُ بصورةٍ واضحة.
فالمنهجُ العلميُّ الصحيحُ يستلزِمُ أن يُقاسَ المجهولُ على المعلوم، وأن يُحمَلَ المتشابِهُ على المحكَمِ، فكما أن في الكلامِ محكَمًا ومتشابِهًا، والعقلاءُ يَفهَمون المتشابِهَ بناءً على المحكَم، ويَحمِلونه عليه؛ فكذلك الأفعالُ الواقعيَّةُ فيها المحكَمُ والمتشابِه.
فالعقلاءُ قاطِبةً متَّفِقون على أن الفاعلَ إذا فعَلَ أفعالًا، ظهَرَت فيها حكمتُه، ووقَعَت على أتمِّ الوجوه، وأوفَقِها للمصالحِ المقصودةِ بها، ثم إذا رأَوْا أفعالَهُ قد تكرَّرت كذلك، ثم جاءهم مِن أفعالِهِ ما لا يَعلَمون وجهَ حكمتِهِ فيه، لم يَسَعْهم غيرُ التسليمِ لِما عرَفوا مِن حكمتِه، واستقَرَّ في عقولِهم منها، ورَدُّوا منها ما جَهِلوه إلى محكَمِ ما عَلِموه؛ هكذا نجدُ أربابَ كلِّ صناعةٍ مع أستاذِهم.
فالذي ينبغي أن يكونَ عليه العبدُ مع خالِقِهِ: أن يتعرَّفَ عليه سبحانه بقدرِ ما يمكِّنُهُ عقلُهُ مِن ذلك، ويجتهِدَ في طاعتِه، وأن يَفهَمَ مرادَ اللهِ مِن خلقِهِ وإيجادِهِ بعد أن كان عدمًا، ويُقبِلَ على كتابِه، ويتدبَّرَ معانيَه؛ يقولُ الحقُّ تبارَكَ وتعالى:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}
[المؤمنون: 115].
ولذا: فإن كثرةَ ذِكرِ ركنِ الإيمانِ باليومِ الآخِرِ في خطابِ الوحي، وكثرةَ التنبيهِ على مَرَدِّ العبادِ إلى ربِّهم في نهايةِ المطاف -: فإنما هو لضرورةِ استحضارِ مركزيَّةِ الدارِ الآخِرة؛ فاليومُ الآخِرُ تدُلُّ عليه العقولُ السليمة.
وتأمَّلْ قولَ العدلِ سبحانه:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}
[الأنبياء: 47]
؛ ففي الآيةِ تسليةٌ للمظلومِ بأن الدنيا ليست نهايةَ المطاف، وأنه ما زال هناك مَحكَمةُ العدلِ الأخرويَّة.
وعليه: فإن اللهَ تعالى لا يَفعَلُ شيئًا في هذا الكونِ إلا لحكمةٍ حميدة؛ فمِن المستحيلِ: أن يكونَ هذا الكونُ المُذهِلُ بكلِّ ما فيه مِن دلائلِ العظَمةِ والقدرةِ خُلِقَ لمجرَّدِ عبَثٍ؛ فإذا اعتقَدَ الإنسانُ أن اللهَ لا يَفعَلُ شيئًا إلا لحكمةٍ، فإنه كذلك يجبُ أن يعتقِدَ أن البشَرَ يستحيلُ عليهم أن يُحيطوا بحكمةِ الله، ويستحيلُ عليهم أن يَعلَموا بكلِّ مقاصدِ اللهِ في خلقِ الكونِ وإحداثِه.
ولو أطلَعَ الواحدُ منا غيرَهُ على جميعِ شأنِه، فإنه يُعَدُّ ناقصًا، فكيف باللهِ العظيمِ مع خلقِه؟! فإن شأنَهُ وكمالَهُ أعظَمُ مِن أن يُطلِعَ كلَّ واحدٍ مِن خلقِهِ على تفاصيلِ حكمتِه.
ومع ذلك: فالكونُ مليءٌ أيضًا بما يستطيعُ البشَرُ أن يتبيَّنوا منه حكمةَ اللهِ ورحمتَه، وبديعَ صنعِهِ ورعايتَه؛ فالعاقلُ يستدِلُّ بما تبيَّن له على ما خَفِيَ عليه، وأن صفاتِ هذا الإلهِ العظيمِ لا بدَّ أن يكونَ لها أثرٌ في الكون؛ فمقتضى كمالِ عدلِ اللهِ: أن يُوجَدَ في الكونِ ظالِمون ومظلومون، ومقتضى جلالِهِ وجبَروتِهِ وهَيْمَنتِهِ: يستوجِبُ ظهورَ هذه المعاني في الكون.
فمثلًا: مقتضى تخييرِ اللهِ لعبادِه، وجعلِهم قادِرينَ على اختيارِ أفعالِهم: أن يَظهَرَ فيهم مَن يختارُ الخيرَ، ومَن يختارُ الشرَّ والظلمَ والقتلَ؛ فنرى الحروبَ والمجاعاتِ، وغيرَ ذلك.
خامسًا: لا يستقيمُ عقلًا الاعتمادُ على قضيَّةِ الشرِّ في إنكارِ وجودِ الله، أو الشكِّ في كمالِه:
فهذا يُعَدُّ قفزًا على أدلَّةٍ هي أقوى في الدَّلالةِ والثبوتِ، تدُلُّ على ضرورةِ وجودِ الله؛ فهذا الكونُ مليءٌ بالصنائعِ الدالَّةِ على قدرةِ الخالق، والإتقانِ الذي يقتضي وجودَهُ وكمالَه.
بل الشرُّ نفسُهُ أمرٌ ذوقيٌّ لا مِعْيارَ له في إطارِ مركزيَّةِ الإنسان؛ فلا نستطيعُ أن نَجزِمَ أن شيئًا مَّا شرٌّ محضٌ؛ فما يراه فلانٌ شرًّا يراه غيرُهُ خيرًا، ولن نَجزِمَ بحقيقةِ الشرِّ إلا بالرجوعِ إلى اللهِ تعالى، ومِعْياريَّةُ الوحيِ الذي هو مرجعيَّةٌ مطلَقةٌ متجاوِزةٌ للبشَرِ، وإلا فسنَظَلُّ في حالةٍ مِن السيولةِ القِيميَّةِ، والنِّسْبيَّةِ الدائمة.
ولذلك يعبِّرُ المُلحِدُ جُون بُول سارْتَر؛ فيقولُ: «يجدُ الوجوديُّ حَرَجًا بالغًا في ألا يكونَ اللهُ موجودًا؛ لأنه بعدمِ وجودِهِ تنعدِمُ كلُّ إمكانيَّةٍ للعثورِ على قِيَمٍ في عالَمٍ واضح».
ومثَلُ المعتمِدِ على قضيَّةِ الشرِّ لإنكارِ وجودِ الله: كمثَلِ طفلٍ رأى مِن أبيهِ ما لا يسُرُّهُ مِن القسوةِ والضرَر؛ فاتخَذَ ذلك دليلًا على إنكارِ فكرةِ الأُبُوَّة.
فإن غايةَ ما تدُلُّ عليه قضيَّةُ الشرِّ عند المُلحِدِ - إن كان متَّسِقًا مع العقلِ الصحيح - أن تَقدَحَ في صفةٍ مِن صفاتِ الله، لا أن تدُلَّ على عدمِ وجودِه.
وهو ما اعترَفَ به الملاحِدةُ أنفُسُهم، كـ (أنتوني فُلُو)؛ فقد صرَّح أن عدمَ فهمِهِ لمشكِلةِ الشرِّ، لا ينبغي أن يُلْغِيَ القناعةَ بوجودِ الإله.
هذا الأمرُ لا بدَّ أن نقرِّرَهُ قبل أيِّ حديثٍ لنا في بيانِ هذه القضيَّة، وأنها ليست قادحةً في صفاتِ اللهِ العليِّ القديرِ، بل هي مِن كمالِ حكمتِهِ وعدلِهِ ورحمتِه، وأننا لا نسلِّمُ ابتداءً للمُلحِدِ إنْ عجَزَ عن فهمِ قضيَّةِ الشرِّ: أن يُنكِرَ وجودَ الله.
وهنا: السؤالُ للمُلحِدِ نفسِهِ: هل عندما أنكَرْتَ وجودَ اللهِ، انتهى الشرُّ مِن العالَم؟!
فعلى الأقلِّ: فإن المسلِمَ عنده منظومةٌ مُتَّسِقةٌ مِن وجودِ حياةٍ أخرويَّةٍ؛ يُحاسَبُ فيها العبادُ، وتُرَدُّ فيها الحقوقُ، ويُثابُ فيها العبادُ على ما لاقَوْهُ مِن العناءِ في الدنيا، ويُنتقَمُ فيها مِن الظالم.
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية:
نُجمِلُ ما سبَقَ: بأن الشرَّ النِّسْبيَّ في الكونِ أمرٌ ضروريٌّ؛ لإظهارِ كمالِ اللهِ في قدرتِهِ على خلقِ المتضادَّات، وأن يجدَ العبادُ في أنفُسِهم أنه لا مَلجَأَ إلا إلى الله، وأنهم مفتقِرون إلى رعايتِهِ وعدلِهِ وجزائِه، كما أن الدنيا دارُ عبورٍ واختبار، لا دارُ تنعُّمٍ واستقرار؛ فلا يُستنكَرُ ما يقَعُ فيها مِن الشرورِ والآلام.